الموت الروحي:
“فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانا…” (تك3: 7).
فسّر الآباء هذه العري كنتيجة لضياع البراءة التي كانت عند الجدين الأولين “ولفقدان لباس القداسة” بحسب تعبير القديس ايريناوس، لأن النعمة التي كانت تغطي الجدين الأولين وتواكبهما في سيرهما نحو الكمال والخلود ابتعدت. وعدم الهوى الذي كان يجعلهما لا يخجلان من العري فُقِد، كما خسرا الدّالة التي كانت ترافق عيشها مع الله: “وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله” (تك3: 8). بعد أن كانا قبل السقوط يكلمانه بلغة بنوّية وثقة. وبالطبع فهذا الاختباء يعكس بالإضافة إلى تأنيب الضمير والخوف حالة إظلام صورة الله في الإنسان والتي تشمله، كما قلنا سابقاً، ككل نفساً وجسداً. فمثلاً أظلم عقله لدرجة الظن أنه يستطيع أن يهرب من عين الخالق الفاحصة، وظهرت أنانيته بصورة واضحة من خلال التبريرات التي ألقى كل واحد فيها مسؤولية المخالفة على الآخر: “فقال آدم المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت” (تك3: 12). “فقال المرأة: الحية أغرتني فأكلت” (تك3: 13). لا بل وضع الإنسان المسؤولية بطريقة غير مباشرة وحتى على الله نفسه: “المرأة التي جعلتها معي”… إظلام صورة الله في الإنسان عند الآباء تعني بصورة رئيسة إظلام الذهن (NOUS) وفقدان نقاوة القلب وبالتالي عجز الإنسان عن الرؤية الإلهية، وهذا هو المعزى الأول لطرد الإنسان خارج الفردوس (تك3: 24). وهكذا لم يعد الطريق إلى شجرة الحياة ممكناً لأن الإرادة إلى الوصول إلى الكمال ضعفت وصار الإنسان ميّالاً للشر أكثر من الخير بعد تعوده عليه، وغيّر محبته لله وللآخر بمحبته لنفسه وللمادة وصار مفككاً، لأن انفصاله عن الله قاد إلى تفكك وحدته مع الله ومع نفسه ومع الآخر ومع الخليقة.
النتيجة المريعة للخطيئة إذن هي قطع الشركة الشخصية مع الله، وهذا معناه فقدان النفس لعنصر حياتها الحقيقية فقدانها لقوى الروح القدس المحيية أي موتها الروحي وعبوديتها للشيطان والأهواء والذي يعقبه حتماً الموت الجسدي (فساد الجسد وانفصاله عن النفس) ومن ثم الموت الأبدي. وهكذا تحقق في الحال بعد السقوط التحذير الذي كان الله قد أنبأ به آدم: “لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت” (تك2: 17) وكما يعبر المزمور “لأنه هوذا البعداء عنك يبيدون” (مز72: 27) سبعينية.
لعنة الأرض:
“ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك وشوكاً وحسكاً تنبت لك..” (تك3: 17).
الخطيئة لم تؤدِ فقط إلى خروج آدم وحواء من الفردوس السماوي أي فقدانهما الشركة الإلهية بل ومنَ الفردوس الأرضي أيضاً، أي إلى تغيير في كل ظروف حياتهما الخارجية أيضاً وذلك كي تتلائم مع الوضع الجديد الذي وجدا به.
لعنة الأرض إذن والتي حدثت بسبب خطيئة آدم (تك3: 1) تعني تمرد الخليقة كلها واضطراب نواميسها الطبيعية بسبب تشوه صورة الله في الإنسان، وهكذا صارت الأرض تنتج حسكاً وشوكاً وبطلت صداقة الحيوانات للإنسان وحلّ مكانها العداء والخوف المتبادل وأصبح اضطراب نواميس الطبيعة يسبب له كوارث وآلام ونكبات كالفيضانات والزلازل والجراثيم (الأمراض). والعمل الذي كان في الفردوس يتم سابقاً بطريقة سهلة وممتعة صار شاقاً ومرهقاً لكي يتطور وعي الإنسان بالسقوط والذنب وبالتالي يتجه نحو التوبة.
كل ذلك لأن سيادة الإنسان على الخليقة مرتبطة بصورة السيد المطلق فيه، ولأن مصير الخليقة مرتبط بصورة وثيقة مع الإنسان كونها وجدت في الأساس من أجله ولهذا كما سقطت معه فهي أيضاً مدعوة للخلاص معه: “إذ أخضعت الخليقة للبطل ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء. لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله، فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن” (رو8: 20-22).
الموت الجسدي:
“وقال للمرأة تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك” (تك3: 16).
“بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها. لأنك تراب وإلى التراب تعود” (تك3: 19).
“وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما” (تك3: 20).
نتيجة لموت الإنسان الروحي أي انفصاله عن الله ولفاعلية من له سلطان الموت أي إبليس (عبر2: 14) اضطربت نواميس الطبيعة وأولها النواميس التي تسيّر قوى الإنسان النفسية والجسدية فتشوهت هذه القوى وأصبحت معرضة للنواقص والضعفات والفساد. وفي الحقيقة فإن موت النفس بسبب المعصية، كما يقول القديس غريغوريوس بالماس “ليس فقط يفسد النفس ويجعل الإنسان ملعوناً بل يعرض الجسد نفسه للأهواء والشقاء والفساد وأخيراً يسلمه إلى الموت”. أو كما يعبر القديس يوحنا الدمشقي: “لأنه بسبب إغراء رئيس الشر الشيطان خدع الإنسان ولم يحفظ وصية الخالق وتعرى من النعمة وخلع عنه لباس الدالة نحو الله مغطياً عريه بخشونة الحياة الشاقة لأن هذا هو معنى أوراق التين، كما له نفسه بالإماتة (νέκρωεις) أو (الموتية) أي كثافة وفناء الجسد وهذا هو معنى الألبسة الجلدية” (كتاب عرض دقيق للإيمان الأرثوذكسي).
وإذا تأملنا أكثر في هذه الألبسة الجلدية والتي وضعها الرب الإله له بنفسه لآدم وحواء (تك3: 20) وتمثل في نظر الآباء كثافة جسدانية الإنسان بعد الخطيئة لوجدنا بعض أوضاعها المميزة كالألم والجوع والشهوة والتعب والعرق إلخ…. رغم مظاهرها السلبية تظهر بوضوح عناية الله ومحبته الفائقة للإنسان والتي لم تتغير وحتى بعد السقوط لأنها بالضبط أفضل ما يمكن أن يساعد الإنسان في تأقلمه مع الأوضاع الجديدة التي نشأت بعد الخطيئة وحتى بالنسبة للموت الجسدي والذي يبدو وكأنه ذروة نتائج الفساد المتولد عن الخطيئة، فقد حدث، بحسب الآباء الشرقيين عامة، بسماح من الله وبداعي رحمته لكي يضع حداً للخطيئة والشر: “لقد أظهر الله رحمة للإنسان المخدوع، لأجل هذا طرده من الفردوس وأبعده عن شجرة الحياة… لأنه أشفق عليه ولم يرد أن تستمر حياته في الخطيئة أبدياً، ولا أن تصير الخطيئة التي تحاصره خالدة والشر بلا نهاية وغير قابل للشفاء” (ايريناوس).
إذن فكما أشرنا في مطلع هذا الفصل كان الموت الذي حذر الله منه آدم هو الموت الروحي، الموت الحقيقي، أي انفصال النفس عن الله والذي جلب الشقاء واللعنة وآخر المطاف الموت الجسدي، لأن آدم لم يمت جسدياً يوم سقوطه في الخطيئة (تك2: 17) بل عاش حتى بلغ تسع مائة وثلاثين سنة (930) كما يخبرنا الكتاب.
عند بعض الآباء إن آدم وحواء خلصا من الموت الأبدي الذي يؤدي إليه الموت الروحي بسبب استيقاظ حس التوبة فيهما (تك3: 7-10)، ولذلك أعلنت لهما بشارة الخلاص (تك3: 15)، وكانا أول من خلص عند نزول المخلص إلى الجحيم (اثناثيوس، كبريانوس، أوريجنوس إلخ….).