Site icon شبكة أرثوذكس أونلاين

خدمة مدائح السيدة العذراء

هي خدمة تقريظ لوالدة الإله، مرتبطة بعيد البشارة الذي يقع في الصوم الكبير. في ممارستنا الحالية نقيم جزءا منها مساء كل جمعة من اسابيع الصوم الاربعة الاولى، ثم نعيدها كاملة في الاسبوع الخامس، وهي، في الأساس، عبارة عن نوعين من التسابيح هما “القنداق” و”القانون” نتلوهما ضمن خدمة صلاة النوم الصغرى.

القنداق نمط شعري كُتبت فيه التسابيح والاناشيد الكنسية باليونانية في القرنين السادس والسابع. يعتمد على السرد القصصي، وذكر الحوادث المهمة المرتبطة بالمناسبة المعيّد لها. ويتألف القنداق عامة من مقدمة قصيرة توجز مضمونه، تليها مقاطع تسمى “ابياتاً”، يتراوح عددها بين 20 و30 بيتاً، ينتهي كل منها بعبارة لازمة هي العبارة الاخيرة من المقدمة، وقد كان القنداق يتلى في صلاة السَحَر.

خدمة المديح منظومة على هذا النوع من الكتابة الشعرية. انها قنداق في تجسد الكلمة، وبشارة العذراء. تتألف من مقدمة اساسية هي “ان غير المتجسد لما أَخذ في معرفته ما أُمر به سرياً”، ومن اربعة وعشرين بيتاً، تشكل الحروف الاولى من الابيات الابجدية اليونانية بحروفها الاربعة والعشرين. يتميز قنداق المديح بلازمتين: الاولى “افرحي يا عروساً لا عروس لها”، تنهي الابيات المفردة العدد. والثانية، وهي عبارة “هللويا”، تنهي الابيات المزدوجة العدد.لعدد.

من حيث الاسلوب نجد في صياغة قنداق المديح استعمالا لنوعين ادبيين، الاول هو ما يسمى بالنشائد الشعرية، وقد صيغت فيه الابيات المزدوجة، وفاتحات الابيات المفردة. والملاحظ ان كل بيت مزدوج يتألف من ست جمل شعرية حسب التقسيم في اللغة اليونانية الأصلية، كذلك كل فاتحة من فاتحات الابيات المفردة. بذلك يصبح لدينا اثنتا عشرة جملة شعرية في كل بيتين.

النوع الثاني هو اسلوب النشائد الابتهالية، وقد صيغت فيه الجمل الشعرية التي تأتي بعد فاتحات الابيات المفردة، والتي تبتدئ بعبارة “افرحي”، منظومة على نمط الموازاة الذي يكثر استعماله في المزامير الكتابية، وهو ان تُردّد معنى واحداً في جملتين مختلفتي التعابير. هنا ايضا نجد اعتماداً على العدد 12 في التقسيم.

دخل العدد 12 في التركيب الشعري للمديح بسبب اهميته، اذ يرمز الى والدة الإله، “المرأة التي على رأسها اكليل من اثني عشر كوكباً”، كما اشير اليها في رؤيا 12: 1.

اما من حيث المضمون، فيقسم قنداق المديح الى قسمين: تاريخي ولاهوتي. يشمل القسم التاريخي الابيات الـ 12 الاولى، وفيه سرد لاحداث البشارة، والميلاد، والدخول الى الهيكل كما وردت في الاصحاحين الاولين من انجيلي متى ولوقا. اما القسم اللاهوتي فيشمل الابيات الـ 12 الاخيرة، وفيه اعلان لعقيدة التجسد، وتأمل في دور والدة الاله.

وكما رأينا اعلاه، كُتب قنداق المديح اصلا لكي يُتلى في سَحَر عيد البشارة، وقد كان يُحتفل به في السادس والعشرين من كانون الاول كتقدمة لعيد الميلاد الذي كان مقروناً بعيد الظهور الإلهي في السادس من كانون الثاني. في عهد الامبراطور يوستينيانوس (527-567) نُقل عيد البشارة الى الخامس والعشرين من آذار، واحتفظت الخدمة بالقنداق، فيما اصبح السادس والعشرون من كانون الاول عيداً جامعاً لوالدة الإله. حتى ذلك التاريخ كان قنداق المديح يُتلى مرة في السنة في سَحَر عيد البشارة.

في السابع من آب 626، إثر نجاة القسطنطينية من ايدي الفرس والافاريين الذين كانوا يحاصرونها، اجتمع الشعب في كنيسة الحكمة الإلهية، ورتلوا قنداق المديح وقوفاً بعد ان اضاف اليه البطريرك سرجيوس مقدمة اخرى هي “اني انا مدينتك”. منذ ذلك الوقت صار القنداق يرتل مرة ثانية في عيد نجاة القسطنطينية في السابع من آب. في وقت لاحق اندمج هذا العيد بعيد البشارة.

بعد القرن التاسع صار هناك انحسار في استعمال القنداق بشكل عام. واحتُفظ منه بالمقدمة، وصارت تسمى قنداقاً، وببيت من ابياته المتعددة، هذا ما نجده في كتبنا الطقسية في “القنداق” و”البيت” اللذين نتلوهما قبل البدء بالكاطافاسيات مباشرة. ونجد هذا الاختصار في سَحَر عيد البشارة حيث ان القنداق هو “اني انا مدينتك”، والبيت هو البيت الاول من القنداق الكامل، يردان بعد الاودية السادسة من القانون.

مؤلف قنداق المديح هو القديس رومانس المرنم، الحمصي الاصل (عاش في القرن السادس)، وقد كان رائداً في كتابة هذا النوع من الشعر.

اما القانون فهو نمط شعري جديد برز مع انحسار استعمال القنداق. كُتبت فيه الاناشيد الكنسية بين القرنين الثامن والحادي عشر. يتألف القانون عادة من تسعة اجزاء تسمى “اوديات” (مفردها اودية) وتتألف كل اودية من مقاطع متعددة ترتل على نغم المقطع الاول منها، المسمى ارمس، ووزنه.

قانون المديح هو من نظم القديس يوسف المنشئ (القرن التاسع)، الذي نظم معظم القوانين الموجودة في الكتب الطقسية. وقد استوحى لتأليفه معاني القنداق. اما المقاطع التسعة الرئيسية، او الاراميس، اي “أَفتح فمي..” وما يتلوها، فهي من نظم القديس  يوحنا الدمشقي (القرن الثامن)، وقد بنى على اساسها يوسف المنشئ قانونه. الاحرف الاولى من مقاطع قانون المديح في اليونانية تؤلف العبارة الآتية: “يا مستودع الفرح، بكِ وحدكِ تليق التحية بالسلام. ليوسف”.

نقل البطريرك القسطنطيني فوتيوس قنداق المديح من سحر البشارة الى السبت الخامس من الصوم، بسبب امكانية وقوع عيد البشارة بين الاسبوع العظيم ونهار الاربعاء بعد الفصح، واضاف اليه قانون يوسف المنشئ. ومنذ ذلك الوقت صار يُعيَّد لعيد المديح في السبت الخامس من الصوم. لهذا السبب، في ممارستنا الحالية، نتلوه كاملا في ذلك الوقت.

اما تقسيمه الى ادوار، وتوزيعه على اربعة اسابيع، وارتباطه بصلاة النوم الصغرى، فهو تقليد متأخر.

لماذا مديح السيّدة؟

بعد أن وُضع نشيد المديح، تبنّته خصوصاً كنيسة القسطنطينية ابتهالاً جماعياً ترفعه إلى والدة الإله بعدما أنقذت “الجنديُة المحامية” “مدينتَها” مراتٍ عدّة “من صنوف الشدائد”. اشتُهر إذاً المديح باشتهار انتصار القسطنطينية، وقد عُمّمت خبرة كنيسة القسطنطينية على الكنائس شرقاً وغرباً (تُرجم المديح إلى اللاتينية حوإلى العام 800). ثم دخل المديح حيّز العبادة الجماعية الثابتة (تقيمه الرعايا في أُمسيات أيام الجمعة الخمسة الأولى من الصوم الكبير، ويتلو الرهبان أبياته في الأديار يومياً ضمن صلاة النوم الصغرى)، والظرفيّة (يقام في الكنائس او البيوت ظرفياً أثناء ضيقٍ أو خطرٍ أو شدّة او وباء او حربٍ او حزنٍ او اضطهاد).

توالى إنشاد المديح إلى أن حلّت الصدمة: سقطت “المدينة” ليل الثلاثاء 29 أيار 1453. زال مجد القسطنطينية، والمفارقة كانت أن نشيد المدينة لم يبطل. فما هي الأسباب التي جعلت الارثوذكسيين يتلون حتى يومنا ابتهالاً فشل في إنقاذ “مدينتهم”؟

لقد أدركَتِ الارثوذكسية أن أولئك الذين وقفوا في كنيسة “الحكمة المقدسة” في القسطنطينية، في تلك الليلة الأخيرة، أدّى بهم تمسّكهم بالمديح إلى أن “يجعلوا قلوبهم فوق”، و”يحسبوا انهم في السماء واقفون” قبل أن يخطفهم الاستشهاد اليها. كما أدركَتْ أن “ليس لنا هنا مدينة باقيةٌ، بل نطلب الآتية” (عبرانيين 13: 14). وأيقنَتْ أن السيدة ستبقى حتى اليوم الأخير “جندية محامية” عن “مدينتها”، وأن مدينتها هي كل مدينةٍ، او بالأحرى هي عاصمةُ المُدُن، هي “القلب كلّه”؛ وفهمَتْ أن “مصارعتنا ليست ضد دمٍ ولحمٍ، بل ضد… ظلمة هذا الدهر، ضد أجناد الشرّ الروحية” (أفسس 6 :12)، وأن “جميع الشرور” التي تهدّد الناس “تخرج من الداخل من قلوب الناس” (مرقس 7: 21-23).

ثم إن الصلوات التي قدَّسَت “مثل هذه السحابة من الشهود” جيلاً بعد جيل، قادرة هي إياها، إذا أُدّيتْ بفهمٍ، أن تقدّس كل جيلٍ في أيامنا، وإلى اليوم الأخير.

وبما أن الكنيسة الأرثوذكسية، خلال الصوم الكبير (أي من الاثنين إلى الجمعة من كل أسبوع)، تنقطع عن تلاوة نصوص العهد الجديد، لتُعدّ مؤمنيها للفصح بكلام العهد القديم في صلوات هذا الموسم، فإن خدمة “المديح الذي لا يُجلس فيه”، التي هي خدمة كتابيةٌ بامتياز، تزخر خصوصاً بصوَرِ العهد القديم التي تصف العذراء مريم واختيارها الإلهي، وولادتها الرب يسوع المسيح، وبتوليّتها، وقداستها.

نورد في ما يلي شذراتٍ من خدمة المديح مع الاشارة إلى المراجع الكتابية التي استلهمها الناظم ليصف والدة الاله:

يبقى أن نضيف أن سَرد صفات الكلية القداسة في كل مديحٍ بأفواه مريديها وعلى مسامعهم مساءَ كل جمعةٍ من هذا الموسم المبارك يؤدّي بنفوس المصلّين إلى التشبّه بوالدة الإله، وهكذا تتصاعد المدائح لتطال عذراءين اثنتين: مريم العذراء، والكنيسة العذراء المجاهدة في صحراء الصوم إلى أن يطلّ العريس المرفوع على الصليب.

عن نشرة رعيتي 2005
تجميع عن عددين صدرا في نفس السنة

Exit mobile version