السائح: كما وعدتك أمس، طلبت من رفيق سفري الموقر الذي تفضل علي بأحاديثه الروحية، والذي كنت تريد رؤيته، أن يصحبني إلى هنا.
Départs: سيكون من دواعي سروري، وسرور زائري الأكارم أيضاً، على ما آمله، أن نراكما أنتما الاثنين، وأن ننعم بسماع رواية اختباراتكما. معي ههنا راهب محترم، هذا هو، وكاهن كبير الورع، هذا هو. وحيث يجتمع اثنان أو ثلاثة باسم يسوع المسيح، فقد وعد أنه سيكون هو فيما بينهم. ونحن الآن خمسة باسمه، فلا شك، لذا، إنه سيتكرم بمباركتنا بغزارة أكبر. إن القصة التي رواها لي رفيق سفرك أمس مساء، يا أخي العزيز، بشأن تعلقك الحار بالإنجيل المقدس تلفت النظر، وفيها الكثير من العبر، ومن المثير جداً للاهتمام أن نعرف كيف كشف لك عن هذا السر المبارك.
الأستاذ: إن الله المنعم محبة، الذي يرغب لكل الناس أن يخلصوا ويتوصلوا إلى معرفة الحق قد كشف لي ذلك، بصلاحه، بصورة رائعة ومن غير أي تدخل إنساني. كنت أستاذاً لمدة خمس سنين، وكانت حياتي كئيبة مشتتة، وقد سحرتني فلسفة العالم الباطلة، لا المسيح. ولربما كنت هلكت تماماً لو لم يساعدني، إلى حد، كوني كنت أعيش مع أمي الشديدة التقوى وأختي، وهي فتاة ناضجة الذهن.
في ذات يوم، وقد كنت أتمشى في منتزه عام، تعرفت إلى شاب ممتاز قال لي أنه فرنسي، وطالب، وقد وصل منذ قليل من باريس، وأنه يبحث عن عمل كمرب. فتنني ما كان عليه من ثقافة عالية. ولما كان غريباً في هذا البلد، دعوته إلى بيتي، وصرنا صديقين. وطوال شهرين، كان يأتي لزيارتي مراراً. وكنا نقوم معاً بنزهة، أحياناً، وكنا نتلهى، ونذهب معاً إلى معاشرة أناس، أترك لكم تصور مدى انعدام أخلاقهم. وفي ذات يوم، أتى يراني ويدعوني دعوة من هذا القبيل. لكيما يقنعني بصورة أسرع، جعل يمتدح المرح الخاص والمتعة المنتظرة في صحبة القوم الذين يدعوني إليهم. وبعد أن تحدث في هذا فترة قصيرة، طلب مني فجأة أن أخرج معه من مكتبي، حيث كنا، لنجلس في غرفة الاستقبال.
بدا لي الأمر في غاية الغرابة، وقلت له إنه لم يسبق لي قط أن لاحظت لديه أي مانع من البقاء في مكتبي، وسألته ماذا جد الآن. وأضفت أن غرفة الاستقبال بجانب الغرفة التي تشغلها أمي وأختي، وأنه من غير اللائق أن نتابع فيها حديثاً من هذا النوع. فأصر، متذرعاً بذرائع مختلفة، واعترف – آخر الأمر – بهذا:
(بين كتبك، على الرفوف هنا، نسخة من الأناجيل. وأنا أكن لهذا الكتاب من الاحترام ما يجعلني أشعر بشيء من الانزعاج إن تحدثت في قضايانا الطائشة في حضرته. ارفعه من هنا حتى نستطيع الكلام بحرية).
فتبسمت، لخفتي، لدى سماعي هذه الكلمات. وأخرجت الإنجيل من الرف قائلاً: (كان ينبغي أن تقول لي هذا من زمان). وناولته الكتاب قائلاً: (إليك هو، خذه بنفسك، وضعه حيثما تريد، في الغرفة). وما إن لمسته بالإنجيل حتى أخذته الرعدة، وللحال اختفى.
فأذهلني هذا ذهولاً شديداً، بحيث سقطت، من الرعب، فاقد الوعي. عند سماع صوت سقوطي، تراكض من في البيت، واستحال عليهم إنعاشي طوال نصف ساعة. وعندما عدت أخيراً إلى الوعي، كنت مذعوراً مرتعداً، وكنت أشعر باضطراب كبير، لا تحس يداي ورجلاي بشيء، كما كنت عاجزاً عن تحريكها. واستدعي الطبيب فشخص شللاً حصل على أثر صدمة أو خوف شديد.
وظللت طريح الفراش عاماً كاملاً بعد هذه الحادثة، ورغم العناية الفائقة التي قدمها أطباء كثيرون لم يحصل لي أدنى تحسن، بحيث اضطررت، بسبب مرضي، إلى التخلي عن وظيفتي. وطعنت أمي في السن وماتت في تلك الحقبة. وكانت أختي تستعد لدخول الدير. فكان من شأن هذا كله أن يزيد في خطورة مرضي. ولم يكن لي في تلك الفترة إلا تعزية واحدة هي قراءة الإنجيل الذي لم يفارق يدي لحظة منذ بداية مرضي. كان وكأنه نوع من الدليل على الحدث الهائل الذي وقع لي. وفي ذات يوم أتى يزورني ناسك مجهول، كان يقوم بجمع التبرعات لديره. وخاطبني بلهجة قوية الإقناع وقال إنه يجب عدم الاتكال على الأدوية وحدها، وهي لا يمكنها التخفيف عني من غير عون الله، وأنه يجب علي أن أصلي إلى الله، وأن أصلي بجد من أجل هذا الذي حصل بعينه، إذ إن الصلاة هي أقدر الوسائل على شفاء العلل كلها، جسدية كانت أم روحية.
أجبته في حيرتي: كيف تريدني أن أصلي في هذه الحال، وأنا لا أقوى على القيام بأدنى حركة للعبادة، بل لا أستطيع حتى رفع يدي لرسم إشارة الصليب؟
فكان رده: صل مهما كلفك الأمر، صل بأية طريقة. ولم يذهب أبعد من هذا في تفسيره، ولا هو شرح لي حقاً كيف أصلي. وبعد أن تركني زائري، بدأت أفكر بالصلاة بصورة تكاد تكون لا إرادية، وفي سلطانها وفي آثارها متذكراً التعليم الديني الذي تلقنته منذ أمد طويل، إذ كنت لم أزل طالباً. فشغلني هذا انشغالاً رقيقاً، وجدد معلوماتي حول الموضوعات الدينية، وبث في القلب دفئاً.
وفي الوقت ذاته بدأت أحس بشيء من التحسن في صحتي. ولما كان الإنجيل معي دائماً، بسبب عظم إيماني فيه على أثر الأعجوبة، وإذ تذكرت أيضاً أن كامل الشرح عن الصلاة الذي سمعته في الدروس يقوم أساساً على نص الأناجيل، فكرت أن أحسن ما أفعله سيكون دراسة الصلاة والروحانية المسيحية تبعاً لتعليم الإنجيل وحسب. وإذ كنت أدأب لاجتناء المعنى، كنت أنهل منه وكأنه نبع غزير. ووجدت فيه نهجاً كاملاً للحياة الروحية وللصلاة الداخلية الحقيقية. وعلمت بحرارة المقاطع المتصلة بهذا الموضوع، وقد حاولت بحمية منذ ذلك الحين تلقن هذا التعليم الإلهي، بكل ما أوتيت من قوة – ولم يكن ذاك بلا عناء – وأن أضعه موضع العمل والممارسة.
وفيما كنت منشغلاً بهذه الصورة، تحسنت صحتي شيئاً فشيئاً، وانتهى بي الأمر إلى البرء تماماً، كما يمكنكم أن تروا. وكنت ما أزال أعيش وحيداً. فقررت، شكراً لله على عطفه الأبوي الذي أدين له بعودتي إلى العافية وباستنارة ذهني، أن أحذوا حذو أختي، وأتبع ميل قلبي، فأكرس ذاتي لحياة متوحدة، لكيما أتمكن أن أتلقى من غير مانع، وأن أجعل خاصتي، كلمات الحياة الأبدية هذه التي كان كلمة الله يعطيني.
وهاأنذا الآن، أمضي نحو المنسك المنعزل المسمى (آنزرسكي) بالقرب من دير (سولوفتسكي) في البحر الأبيض. ولقد سمعت من مصدر ثقة أنه مكان مناسب جداً لحياة التأمل. يجب أن أضيف هذا أيضاً: إن الإنجيل المقدس يوفر لي أكثر من تعزية في رحلتي هذه، وينشر نوراً غزيراً في عقلي الجاهل ويدفئ قلبي الفاتر. ولكن الواقع هو أني، رغم كل هذا، أقر بصراحة بضعفي، وأعترف تلقائياً أن الشروط المطلوبة للقيام بالعمل الروحي ولبلوغ الخلاص: ضرورة التخلي الكلي عن الذات، والتجرد والتواضع اللذين يعرفهما الإنجيل، تخيفني بعظمتها وبسبب ضعف قلبي. بحيث أني بت الآن ما بين الأمل واليأس. ولا أدري ما سيحل بي في المستقبل.
الراهب: مع دليل بهذا الوضوح على رحمة الله، وبسبب ثقافتك، سيكون أمراً لا يغتفر لا أن تدع مجالاً للتخاذل وحسب، بل حتى أن تسمح بالتسرب إلى نفسك لظل من الشك حول رعاية الله وعونه. أتعرف ما يقول الذهبي الفم المستنير بالله بهذا الصدد؟ إنه يعلم أن (ليس لأي كان أن يفقد الشجاعة، ويترك الانطباع الخاطئ بأن تعاليم الإنجيل مستحيلة التطبيق أو الممارسة. فإن الله الذي سبق فقدر الخلاص للإنسان، لم يفرض – وهذا أمر بديهي – وصايا على الإنسان مخالفتها بسبب عدم التمكن من العمل بها. كلا! وإنما فعل لكيما تكون، بقداستها وضرورتها في حياة حقيقية، بركة لنا في هذه الحياة كما في الحياة الأبدية). وواضح جداً أن التطبيق المنتظم والمتشدد لوصايا الله أمر بالغ الصعوبة لطبيعتنا الساقطة، ولهذا لم يكن من السهل بلوغ الخلاص، لكن كلمة الله ذاته الذي يفرض الوصايا ييسر سبل العمل بها بسهولة، بل أكثر: يجعلنا نجد فيها الرضى. ولكن بدا لنا هذا الأمر، للوهلة الأولى، مختفياً وراء حجاب من السرية، فإنما كان ذلك بالطبع لنكون أكثر تواضعاً، ولكي يقودنا بسهولة أكبر إلى الاتحاد بالله بإرشادنا إلى اللجوء المباشر إليه في الصلاة وإلى طلب عونه الأبوي. هنا، هنا سر الخلاص، لا في الاستعانة بجهودنا الخاصة.
السائح: كم كنت أحب، أنا الضعيف العاجز، أن يتسنى لي معرفة هذا السر حتى أتمكن – ولو إلى حد، بالأقل – أن أقوِّم حياتي الخاملة لما فيه مجد الله وخلاصي.
الراهب: هذا السر تعرفه، أيها الأخ العزيز، من كتابك، الفيلوكاليا. وهو موجود في هذه الصلاة الدائمة التي درستها دراسة راسخة والتي وضعت فيها الكثير من الحماس ووجدت الغزير من الرضى.
السائح: إني أرتمي على قدميك، يا أبت، كرمى لله! أسمعني من شفتيك شيئاً فيه الخير لي، عن هذا السر المخلص للصلاة المقدسة التي أشتاق إلى سماع الحديث عنها أكثر من شوقي إلى أي شيء آخر، والتي أحب كثيراً أن أقرأ الشروح لها، حتى أعطي نفسي الخاطئة القوة والعزاء.
الراهب: لا يمكنني أن أروي رغبتك بأفكاري الخاصة حول هذا الموضوع الخطير، لأن خبرتي الشخصية فيه قليلة محدودة. لكن لدي حواشي واضحة الإنشاء كتبها كاتب ديني، وتتصل، تحديداً، بهذا الموضوع. إن وافق أصحابنا، سآتي بها للحال، وبإذنكم، سأقرأها على مسمعكم أجمعين.
الكل: تكرم، بهذا، أيها الأب، لا تخف عنا علماً جم الفائدة للخلاص.
سر الخلاص المعلن بالصلاة الدائمة
(كيف أنال الخلاص؟ إن هذا السؤال الورع يطرح بصورة طبيعية في ذهن كل مسيحي يعي جراح الطبيعة البشرية وسقوطها، كما يعي ما بقي لها من ميلها الأصلي إلى الحق والفضيلة. وكل من كان له أدنى إيمان في الحياة الأبدية وفيما سيحصل في الدهر الآتي، يفكر بصورة لا إرادية هكذا: (كيف يمكنني أن أنال الخلاص؟). وعندما يحاول وجدان جواب لهذه المسألة، يتوجه إلى الحكماء وإلى العلماء. ثم يقرأ، بإرشادهم، مؤلفات كتبت في هذا الموضوع، كتبها مؤلفون دينيون، ويأخذ بالتطبيق الصارم للقواعد التي سمعها وقرأها. وفي هذه التعاليم كلها، يجد على الدوام أن ما يفرض من شروط ضرورية للخلاص هي الحياة في الإيمان، وحروب بطولية ضد ذاته تنتهي بالضرورة، إلى انقلاب حاسم. من شأن كل هذا أن يقوده إلى ممارسة أعمال الإيمان، وإلى العمل باستمرار بوصايا المسيح، وأن يدل، بهذا، على إيمان راسخ لا يتزعزع. ويعلمونه، فوق هذا، أن شروط الخلاص هذه كلها ينبغي، بالضرورة، أن تنفذ بأعمق التواضع، وأن يعمل بها مجموعة معاً. إذ إن الفضائل كلها تتعلق ببعضها بعض، وبالتالي: يجب أن تقوي بعضها بعضاً، وأن تتكامل، فتشجع إحداها الأخرى، كما أن أشعة الشمس لا تبرز قوتها ولا توقد شعلة، ما لم تكن مركزة على نقطة واحدة، بواسطة العدسة. وأن (الذي يكون أميناً في القليل يقام على الكثير).
يضاف أنه، لكي يغرس في ذاته أقوى فرض لهذه الفضيلة المركبة والموحدة، يستمع إلى أسمى المدائح لجمال الفضيلة، ويسمع ذم انحلال الرذيلة وبؤسها. كل ذلك منقوش في ذهنه بالوعود الصادقة بالأجر الرائع، أو الوعيد بالعقابات المريعة في الحياة الثانية. هذه هي سمة الوعظ في العصر الحديث. فيتهيأ الإنسان الراغب في الخلاص بلهفة، وقد أرشد بهذه الصورة، ويتهيأ بسرور إلى تطبيق ما تعلمه وإلى اختبار ما قرأ وسمع. لكنه يا للأسف! يتحقق، منذ الخطوة الأولى، إنه يتعذر عليه العمل بنواياه. وهو يرى مسبقاً، بل يلاحظ بعد الاختبار، أن طبيعته المعطوبة والمضعفة أقوى من قناعات عقله، وأن حريته مستعبدة، وأن نزعاته مفسدة وأن قوته الروحية ليست إلا ضعفاً. فتخطر بباله هذه الفكرة بصورة طبيعية: أليس هناك وسيلة ما تسمح له بالقيام بما يفرضه ناموس الله عليه، ما تطلبه التقوى المسيحية، وسيلة توسلها كل الذين توصلوا إلى الخلاص والقداسة؟ ونتيجة لذلك، ولكي يوفق في نفسه بين مقتضيات ضميره وتخاذل قواه عن العمل بها، يرجع مجدداً إلى المبشرين بالخلاص، طارحاً هذا السؤال: (كيف أكتسب خلاصي؟ كيف أبرز عجزي عن تنفيذ هذه الشروط؟ والذين وعظوا بكل ما تعلمت، هل هم أنفسهم، على قدرة تسمح لهم بتطبيقه بصرامة؟).
اطلب من الله. تضرع إلى الله. صل لكي تحصل على معونته. فيستنتج الباحث: (أو ما كان أجدى من البداية وفيما بعد أن أدرس الصلاة التي تعطي وحدها القوة على إنجاز كل ما تتطلبه الحياة الروحية؟). وينصرف إلى دراسة الصلاة: يقرأ، ويتأمل، ويدرس تعاليم الذين كتبوا في هذا الموضوع. الحق أنه يجد لديهم الكثير من الأفكار النيرة، والكثير من المعارف العميقة، كما يجد كلمات ذات قوة عظيمة. يعالج أحدهم، بصورة رائعة، موضوع ضرورة الصلاة. ويكتب ثان باحثاً في ما لها من قدرة وأثر مفيد أو في اعتبارها واجباً أو في كونها تقتضي الحمية والانتباه وحرارة قلب، وطهارة النفس، والمصالحة مع الأعداء، والتواضع والندامة وشروطاً غيرها، ضرورية.
ولكن ما الصلاة بحد ذاتها؟ كيف يفعل المرء – واقعاً – لكي يصلي؟ من النادر جداً أن تجد عن هذين السؤالين الرئيسيين الملحين جداً جواباً دقيقاً يمكن لكل إنسان أن يفهمه. بحيث أن الذي يستعلم بحرارة عن الصلاة، يُترك كما أمام حجاب السر. وما قرأه، على وجه العموم، لا يطلعه إلا على وجه واحد للصلاة، يبقى – على كونه تقياً – خارجياً. ويتوصل إلى هذا الاستنتاج: إن الصلاة هي الذهاب إلى الكنيسة، ورسم إشارة الصليب والانحناء والسجود وقراءة المزامير والقوانين والمدائح.
هذه هي الفكرة التي كثيراً ما يتصورها عن الصلاة الذين لا يعرفون كتابات آباء الكنيسة حول الصلاة الداخلية والتأمل. وعلى الزمن، ينتهي الباحث إلى وجدان كتاب اسمه الفيلوكاليا، يعرض فيه خمسة وعشرون من الآباء الغزيري الحكمة، بصورة ميسرة، لمعرفة الحقيقة العلمية، ولجوهر صلاة القلب. وفي هذا بداية لنزع الحجاب الذي كان يخفي سر الخلاص والصلاة. ويرى أن الصلاة حقاً تعني توجيه الفكر والانتباه بدأب إلى الله، والسير في حضرته، وأن نستثير في ذواتنا محبته بواسطة التفكير فيه، وأن نشرك اسم الله في تنفسنا وفي خفقات القلب. ويرشد الإنسان، في ذلك كله، الترداد بالشفتين لاسم يسوع المسيح الكلي القداسة، أو تلاوة صلاة يسوع في كل حين وفي كل مكان وخلال أي عمل، من غير توقف. إن هذه الحقائق المشرقة، بإنارتها ذهن الباحث، وبشقها طريق دراسة الصلاة وتطبيقها، تساعده على أن يتابع مباشرة تطبيق هذه التعاليم الحكيمة عملاً. إلا أنه، عندما يقوم بمحاولاته الأولى، يصطدم أيضاً بصعاب جمة حتى يريه معلم ذو خبرة (في الكتاب ذاته) الحقيقة كلها. أي إن الصلاة الدائمة وحدها هي المجدية في السير بالصلاة الداخلية نحو الكمال، ولخلاص النفس على حد سواء. إن الأساس الذي يقوم عليه مجمل طريقة العمل الخلاصي إنما هو تواتر الصلاة. كما يقول سمعان اللاهوتي الجديد: (إن الذي يصلي بلا انقطاع يجمع كل خير في هذا العمل وحده). ولكيما يبين هذه الحقيقة في ملئها، نراه يوسعها هكذا:
(لا بد، قبل كل شيء، لخلاص النفس، من الإيمان الحقيقي. يقول الكتاب المقدس: (وبغير إيمان لا يستطيع أحد أن يرضي الله) (عبر6:11). ومن كان بدون إيمان سيدان. ولكنا نجد في الكتاب المقدس ذاته أن ليس في استطاعة الإنسان من تلقاء ذاته أن يجعل الإيمان يولد فيه، حتى ولا بحجم حبة خردل. وأن الإيمان لا يأتي منا، ما دام هبة من الله. وأن الإيمان موهبة روحية، يهبها الروح القدس. ومادام الأمر هكذا، فماذا يجب أن نفعل؟ كيف نوفق بين حاجة الإنسان إلى الإيمان واستحالة توليده بشرياً؟ إن السبيل إلى ذلك مبين في الكتاب المقدس ذاته: (اطلبوا تعطوا). لم يكن باستطاعة الرسل أن يصلوا إلى كمال الإيمان من ذواتهم، لكنهم توسلوا يسوع المسيح قائلين: (يا سيد، قو إيماننا). بهذه الصورة يحصل المرء على الإيمان. يبين هذا المثل أننا نبلغ الإيمان بالصلاة. ولخلاص النفس، بالإضافة إلى الإيمان الحقيقي، يقتضي أيضاً الأعمال الصالحة، إذ إن (الإيمان بلا أعمال ميت). سيدان الإنسان على أعماله لا على إيمانه وحده. (إن أردت أن تدخل ملكوت السموات فاحفظ الوصايا: لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك وأحبب قريبك كنفسك). والمهم أن نحفظ هذه الوصايا كلها معاً (لأن من حفظ الناموس كله وعثر في أمر واحد فقد صار مجرماً في الكل) (يعقوب 10:2). هذا ما يعلمه يعقوب الرسول. ويقول بولس الرسول، واصفاً الضعف البشري: (إذ لا يبرر بأعمال الناموس أحد من ذوي الجسد أمامه…
لأنا نعلم أن الناموس روحي، لكني أنا جسدي مبيع تحت الخطيئة…
لأن الإرادة حاضرة لي وأما فعل الخير فلا أجده…
وما لا أريده من الشر إياه أعمل…
فأنا إذن بالروح عبد لناموس الله، وبالجسد عبد لناموس الخطيئة) (رومية 20:3 و14:7، 18، 19 و25).
كيف نقوم بالأعمال المفروضة في ناموس الله، والإنسان بلا قوة ولا قدرة له على حفظ الوصايا؟ لا إمكانية له على هذا إلى أن يطلبه، إلى أن يصلي لكي يناله: (ليس لكم شيء لأنكم لا تسألون) (يعقوب 2:4). هذا هو التفسير الذي يعطيه الرسول. ويسوع المسيح نفسه يقول: (بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً). أما فيما يتصل بالعمل معه، فهذا تعليمه: (اثبتوا في وأنا فيكم… الذي يثبت في وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير). ولكن أن نكون معه يعني أن نشعر دائماً بحضوره، أن نذكر اسمه بصورة مستديمة. (إن سألتم شيئاً باسمي فإني أفعله). وهكذا، فإن إمكانية فعل الخير تيسرها الصلاة ذاتها. ونحن نجد مثالاً لهذا لدى بولس الرسول نفسه: صلى ثلاثاً ليتغلب على التجربة، وقد حنى ركبته أمام الله الآب لكيما يعطيه القوة في إنسانه الداخلي وأُمر عندئذ أن يصلي، قبل كل شيء، وأن يصلي كل حين وفي كل مناسبة).
وحاصل ما قيل أن خلاص الإنسان كله رهن بالصلاة ولذا كانت ذات الأهمية الأولى، ولابد منها، إذ إن الإيمان ينتعش بها ويحيا، وبها تنجز الأعمال الصالحة. وبكلام موجز، مع الصلاة يسير كل شيء بنجاح. وبغير الصلاة لا يمكن القيام بأي من أعمال البر المسيحية. وهكذا فإن ضرورة بذل ذواتنا بلا انقطاع ودوماً، تنبع من الصلاة، بصورة حصرية. أما باقي الفضائل، فإن لكل منها وقتها الخاص. وأما بالنسبة إلى الصلاة، فيطلب منا عمل لا ينقطع: (صلوا بلا انقطاع). من الحق ومن المناسب أن نصلي دائماً، وأن نصلي في كل مكان. وللصلاة الحقيقية شروطها. ينبغي أن تُرفع بذهن وقلب طاهرين، وبغيرة متقدة، وبانتباه شديد، بخوف واحترام وبأعمق تواضع ممكن. ولكن، أي إنسان ذي ضمير لا يقر أنه بعيد عن أن يتقيد بهذه الشروط، وأنه يرفع صلاته لا بنازع منه، وتلذذ بالصلاة وحب لها، بل – على الأرجح – سداً لحاجة، ورغماً عنه؟ يقول الكتاب المقدس بهذا الصدد أيضاً أنه ليس بمقدرة الإنسان أن يحافظ على فكره غير متزعزع، وأن ينقيه من الأفكار الشريرة، إذ إن (أفكار الإنسان شريرة منذ صباه)، وإن الله وحده هو الذي يعطينا قلباً غير قلبنا وفكراً جديداً (حيث إن الإرادة والعمل هما من الله). ويقول بولس الرسول نفسه: (إن كنت أصلي بلساني فنفسي (أي صوتي) يصلي أما عقلي فهو بلا ثمر) (1كورنثوس14:14). ويؤكد أيضاً: ( لا نعلم ماذا نصلي) (رومية 26:8). ينتج من هذا أننا غير قادرين، من تلقاء ذاتنا على رفع الصلاة الحقيقية. نحن لا نستطيع، في صلواتنا، أن نبرز الخواص الأساسية للصلاة الحقيقية.
إن كان هذا مدى عجز كل كائن بشري، فماذا يبقى ممكناً لإرادة الإنسان وقوته من أجل خلاص النفس؟ لا يستطيع الإنسان الحصول على الإيمان بلا صلاة، وهذا يصدق أيضاً على الأعمال الصالحة. لكن الصلاة الحقيقية ذاتها ليست في يده. فماذا يبقى له أن يعمل؟ ما المدى المتبقي لممارسة حريته وقوته لكي يتمكن من ألا يهلك بل يخلص؟
لكل عمل ميزته وهذه الميزة قد احتفظ الله بحرية منحها. ولكيما يتجلى ارتباط الإنسان بالله، بمشيئة الله، بصورة أوضح، ولكي يستطيع أن يغمسه في التواضع بصورة أعمق، لم يخص الله إرادة الإنسان وقوته إلا (بكمية) الصلاة. أوصى أن نصلي بلا انقطاع، دائماً، في كل حين وفي كل مكان. هنا يتم الكشف عن الطريقة السرية للصلاة الحقيقية، وفي آن معاً، للإيمان ولإنجاز وصايا الله. فوض إذن للإنسان أمر (كمية الصلاة). يعود إليه شأن تواتر الصلاة وهو تابع لإرادته. هذا ما يعلّمه آباء الكنيسة.
يقول القديس مكاريوس الكبير إن الصلاة، في الحق، موهبة النعمة. ويقول القديس ازنيك إن الصلاة المتواترة تصبح عادة، ثم طبيعة ثانية، وأنه من غير ذكر كثير لاسم يسوع المسيح يستحيل تطهير القلب. وينصح كاليستوس واغناطيوس بالذكر المتواتر المستمر لاسم يسوع، قبل كل تقشف وعمل، إذ إن التواتر الكثير يسير بالصلاة الناقصة إلى الكمال. ويؤكد الطوباوي ديادوكس أنه إذا ذكر إنسان اسم الله بالكثرة التي يستطيع، فلن يسقط في الخطيئة.
يا لها من خبرة، ويا للحكمة الكامنة هنا، وما أقرب هذه التعاليم العملية للآباء من القلب! فبخبرة الآباء وبساطتهم يلقون ضوءاً ساطعاً على وسائل السير بالنفس إلى الكمال. وما أشد التباين بين هذه التعاليم، والتعاليم الأخلاقية للعقل النظري! هكذا يتكلم العقل: اصنعوا هذه الأعمال الصالحة وتلك، تسلحوا بالشجاعة، استعملوا قوة إرادتكم، اقنعوا أنفسكم باعتبار الثمار الطيبة للفضيلة مثلاً: طهروا فكركم وقلبكم من أوهام العالم، استبدلوها بتأملات مفيدة. افعلوا الخير، ستكونون محترمين وتجدون السلام. عيشوا وفقاً للعقل والضمير. ولكن، يا للآسف! فإن هذا التفكير، بالرغم من كل ما فيه من قوة، لن يصيب هدفه من غير الصلاة الدائمة، من غير طلب عون الله.
فلننتقل الآن إلى بعض التعاليم الأخرى للآباء، وسنرى ماذا تقول في تطهير النفس، مثلاً. كتب القديس يوحنا السلمي: (عندما يظلم العقل بأفكار شريرة تغلبوا على العدو بتكرار اسم يسوع. لن تجدوا في السماء أو على الأرض سلاحاً أقوى وأجدى من هذا). ويعلمنا القديس غريغوريوس السينائي: (اعلموا هذا، إنه لا يستطيع أحد أن يسيطر على فكره بنفسه، ولذلك، فمتى برزت أفكار شريرة، اذكروا اسم يسوع مراراً، وعلى فترات متواترة، وستسكن هذه الأفكار). يا لها من طريقة بسيطة وسهلة! وعلى هذا، فإن الاختبار يثبت جدواها. وما أشد التباين بينها وبين إرشادات العقل النظري، الذي يسعى، بغرور، للوصول إلى الطهارة بمجهوداته الخاصة.
وإذ نلحظ هذه التعاليم القائمة أساساً على خبرة آباء الكنيسة، نصل إلى استنتاج راسخ هو:
إن الطريقة الرئيسية، الوحيدة والبسيطة جداً، لبلوغ الخلاص والكمال الروحي هي في دوام الصلاة، وعدم انقطاعها، مهما كانت ضعيفة. أيتها النفس المسيحية، إن لم تجدي في ذاتك المقدرة على عبادة الله بالروح والحق، إن لم يكن قلبك يشعر بدفء الصلاة الداخلية وعذوبتها، فات بما تستطيعين إلى ذبيحة الصلاة، بما يرتهن بإرادتك، بما هو في حدود مقدرتك. فلتألف، قبل كل شيء، شفتاك، وهما تلك الأداة الوضيعة، لفظ الصلاة المستمر المستديم، ولتذكر اسم يسوع ذكراً كثيراً بلا انقطاع. وما هذا بالعمل الجبار، وهو في حدود قدرة كل إنسان. وهذا أيضاً ما تأمر به وصية الرسول القديس هذه: (فلنقرب به إذن ذبيحة الحمد لله كل حين وهي ثمر الشفاه المعترفة لاسمه) (عبر15:13).
من المؤكد أن دوام الصلاة يشكل عادة ويصير طبيعة ثانية. وهو يأتي بالفكر والقلب، بين الحين والحين، إلى حال مناسبة. فلنفرض أن إنساناً يطبق على الدوام وصية الله هذه وحدها عن الصلاة الدائمة. إنه يكون بهذا قد أتم الوصايا كلها. فالواقع أنه إذا رفع الصلاة بلا انقطاع في كل زمان وفي كل الظروف، ذاكراً بالسر اسم يسوع المسيح الأقدس (وبالرغم من أنه يفعل هذا أول الأمر دون حماس روحي ولا غيرة، وحتى بجهد النفس) فلن يكون له من الوقت متسع للأفكار الباطلة، لإدانة قريبه أو لتبذير وقته في متعة الحواس. كل فكرة شريرة ستجد فيه عقبة لانتشارها. وكل عمل آثم يجرب به، لن يمكنه من التمام، كما لو كان ذهنه خالياً. والإفراط في الكلام، والكلام البطال ينبذان، وكل غلطة تمحى فوراً من النفس بالقدرة الرحيمة للذكر المستديم للاسم الإلهي. وغالباً ما ستحول الممارسة المستديمة للصلاة دون ارتكاب الإنسان مأثمة، وتعيده إلى مصيره الأصلي: الاتحاد بالله.
أرأيتم الآن أهمية (كمية) الصلاة وضرورتها؟ إن استمرار الصلاة هو الطريقة الوحيدة للوصول إلى الصلاة الطاهرة الصحيحة. إنها التهيئة الأفضل والأجدى للصلاة، وأضمن وسيلة لبلوغ غاية الصلاة والخلاص.
ولإقناعكم، بصورة حاسمة، بضرورة الصلاة المستديمة وخصبها، لاحظوا:
– إن كل رغبة وكل فكرة في الصلاة هي من عمل الروح القدس، وهي صوت ملاككم الحارس.
– إن اسم يسوع المسيح المذكور في الصلاة يحوي قدرة خلاصية قائمة وفاعلة بذاتها، ولذا: لا تضطربوا لعدم الكمال أو للجفاف في صلاتكم، وانتظروا بصبر ثمر الذكر المستديم للاسم الإلهي. لا تصغوا إلى تلميحات لأناس لا خبرة لهم، وقد أعميت قلوبهم، حين يقولون إن الذكر الفاتر تكرار عديم الجدوى، بل ممل. كلا: إن قوة الاسم الإلهي وذكره المستديم سيأتي ثمرهما في الوقت المناسب.
تحدث كاتب ديني بصورة رائعة في هذا الموضوع، قائلاً: (إني أعلم أن بالنسبة لكثيرين من مدعي الروحانية أو الحكمة الفلسفية، الساعين دائماً إلى العظمة الزائفة وإلى الممارسة المغرية للعقل وللكبر، إن مجرد التلاوة الصوتية، وإن مستديمة، لصلاة يبدو قليل المعنى، أو كانشغال أدنى، بل حتى مجرد مزحة. لكن هؤلاء المساكين يخطئون وينسون وصية يسوع المسيح القائلة: (إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات) (متى 3:18). إنهم ينظمون لذواتهم شبه علم في الصلوات، يقوم على أسس واهية من العقل الطبيعي. أنحن بحاجة إلى الكثير من البحث والعلم والتفكير لنقول، بقلب متلهف: (يا يسوع ابن الله، ارحمني)؟ أفلا يمتدح معلمنا الإلهي نفسه هذه الصلاة المستديمة؟ ألم يجب أجوبة رائعة، أولم تنجز أعمال رائعة بهذه الصلاة القصيرة والمستديمة؟
أيتها النفس المسيحية، شددي العزم ولا تكفي عن تلاوة صلاتك اللامنقطعة، حتى ولو أتى نداؤك من قلب مازال في حرب ضد نفسه، من قلب نصفه ملآن بحب العالم. ما هم! ثابري، لا تدعي مجالاً لأن تصمتي ولا تضطربي. إن صلاتك ستتطهر من ذاتها، بفعل التكرار. ولتحفظ ذاكرتك هذا أبداً: (إن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم) (1يوحنا 4:4). ويقول الرسول أيضاً: (إن الله أعظم من قلبنا ويعلم كل شيء).
بعد هذه التأكيدات المقنعة بأن الصلاة القديرة على مساعدة الضعف البشري، لفي متناول الإنسان، وهي رهن إرادته الخاصة، صمم، حاول، ولو ليوم واحد، في أول الأمر. راقب ذاتك واجعل تواتر الصلاة كبيراً، بحيث يستغرق ذكر اسم يسوع في الأربع والعشرين ساعة وقتاً أطول بكثير مما تستغرقه مشاغل أخرى. وسيريك انتصار الصلاة على المشاغل الدنيوية، في الوقت المناسب، إن نهارك لم يذهب سدى بل أنقذ للخلاص. وإن الصلاة الدائمة، بمقياس الدينونة الإلهية، تكافئ وزناً ضعفك وأعمالك الشريرة وتمحو خطايا هذا اليوم في ضميرك. وإنها تضع قدمك على سلم الفضيلة وتهبك الرجاء بتقديس ذاتك).
السائح: من كل قلبي، أشكرك، أيها الأب البار، فبقراءتك هذا النص، أعطيت نفسي الخاطئة فرحاً. كرمى لله، تفضل بالسماح لي بنسخ ما قرأت. يمكنني هذا بساعة أو ساعتين. إن كل ما قرأت في غاية الجمال وباعث على التعزية، ويبدو مفهوماً في غاية الوضوح لعقلي الغبي، تماماً كالفيلوكاليا، حيث يعالج الآباء الموضوع ذاته. هنا، مثلاً، في الجزء الرابع من الفيلوكاليا يكتب يوحنا الكرباتي: (إن لم يكن لكم القوة اللازمة للسيطرة على الذات وللقيام بأعمال الزهد، فاعلموا أن الله يرغب خلاصكم بالصلاة). ولكن ما أروع، ما أفصح هذا في دفترك، وما أوضحه! أشكر الله أولاً، وأشكرك ثانياً، على أنه أعطي لي سماعه.
الأستاذ: لقد استمعت أيضاً إلى قراءتك بالكثير من الانتباه والمتعة، يا أبت. وكل الحجج، إذ تقوم على المنطق الصارم، هي بالنسبة لي متعة ولذة. ولكن يبدو لي، في آن معاً، أن هذه الحجج تربط إمكانية الصلاة المستديمة بشروط ملائمة، وبعزلة ساكنة هادئة. أقر بأن الصلاة الدائمة اللامنقطعة وسيلة قديرة وفريدة للحصول على معونة النعمة الإلهية في أعمال التقديس كلها، وأنها في حدود الإمكانيات الإنسانية. لكنه منهج غير قابل للتطبيق إلا للذي ينعم بالعزلة والهدوء. فإذا ما ابتعد عن الأعمال والهموم والملاهي، أمكنه أن يصلي كثيراً، بل من غير انقطاع. وليس عليه ما يخشاه إلا تكاسله أو ما في أفكاره الخاصة من عقبات. لكنه إن هو ارتبط بواجباته وبأعماله دائماً، وإن هو وجد بالضرورة في مجلس صاخب، فلن يتمكن من تحقيق رغبته في الصلاة كثيراً بسبب تشتيت للذهن لا بد منه. وبالتالي، فإن هذه الطريقة للصلاة المتواترة، ما دامت مرتبطة بظروف ملائمة، لا يمكن للجميع استعمالها، ولا تعني كل الناس إذن.
الراهب: لا حاجة بنا إلى الوصول إلى هذه النتيجة. إن القلب الذي تعلم الصلاة الداخلية يمكنه دوماً أن يذكر اسم الله من غير أن يمنعه عنها أي شاغل جسدي أو عقلي، وبرغم كل ضجة (والذين يعرفون هذا يعرفونه بالخبرة، والذين لا يعرفونه عليهم تعلمه بالتمرين المتدرج). وببساطة أكبر، يمكننا القول بتأكيد أن أياً من المشاغل الخارجية لا يمكنه قطع الصلاة في من يرغب الصلاة، إذ إن الفكر الداخلي في الإنسان لا يرتبط بالظروف الخارجية ويبقى حراً حرية تامة، في ذاته. يمكن، في كل حين، أن ننبهه وأن نوجهه نحو الصلاة. ويمكن حتى للسان أن يقوم بالصلاة سراً، من غير توليد أي صوت، بحضور أشخاص كثيرين وأثناء أي من أنواع المشاغل.
ومن جهة ثانية، ليست أعمالنا، بالتأكيد على أهمية كبرى، وأحاديثنا على درجة من الفائدة يستحيل معها أن نجد وسيلة لذكر اسم يسوع، في فترات، حتى ولو لم يكن الذهن قد تمرس بعد بالصلاة المستديمة. وبالرغم من أن العزلة والهرب من الحياة الطائشة تشكلان ظرفاً مناسباً للصلاة الواعية والمستديمة، فيجب أن نخجل من ندرة صلاتنا، لأن (الكمية) والتواتر في متناول الجميع، مهما كان المرء ضعيفاً ومنشغلاً، نجد أمثلة مقنعة عن الصلاة لدى أناس تكاثرت عليهم الالتزامات الواجبات الشاغلة وهموم العمل. بيد أنهم لم يكتفوا بالمثابرة على ذكر اسم يسوع الإلهي باستمرار بل قد توصلوا بهذه الطريقة إلى صلاة القلب الداخلية واللامنقطعة.
هكذا كان أمر البطريرك فوتيوس {القديس فوتيوس الكبير (توفي عام 891) بطريرك القسطنطينية ومن ألمع رجال الدين في عصره. كان ذا ثقافة واسعة جداً وقد دافع بشدة عن عقيدة انبثاق الروح القدس من الآب وهاجم زيادة كلمات (والابن) (Filioque) التي ظهرت في عهده في الغرب}، الذي ترقى من مرتبة عضو في مجلس الشيوخ إلى سدة البطريركية، والذي كان، أثناء إدارته لبطريركية القسطنطينية الشاسعة، يثابر باستمرار على ذكر اسم الله، وتوصل إلى صلاة القلب اللامنقطعة. وشأن كاليستوس الذي تعلم، في جبل آثوس، الصلاة المستديمة في حين كان يتابع عمله كطباخ. وكذلك لعازر، البسيط القلب، الذي كان مكلفاً بعمل مستمر في الدير، فكان يردد بلا انقطاع، في زحمة أشغاله الصاخبة، صلاة يسوع فيبقى في سلام. وكثيرون غيرهم مارسوا بصورة مشابهة ذكر اسم الله المستديم.
لو كان من المستحيل فعلاً أن نصلي في زحمة أعمال شاغلة أو في حضرة الآخرين فمن البديهي أنه ما كنا تلقينا الوصية بذلك. يتكلم القديس يوحنا الذهبي الفم هكذا في تعاليمه عن الصلاة: ينبغي ألا يجيب أحد أنه يستحيل على الإنسان الذي تشغله هموم العالم والذي لا يستطيع الذهاب إلى الكنيسة أن يصلي دائماً. ففي كل مكان، حيثما كنتم، يمكنكم أن ترفعوا بالفكر مذبحاً لله. وهكذا فمن المناسب الصلاة في أعمالكم، أثناء السفر، واقفين وراء مائدة البيع أو جالسين إلى عمل يدوي. من الممكن الصلاة في كل مكان، في أي موضع. والحق أن الإنسان إن وجه انتباهه بهمة إلى ذاته، لقي في كل مكان ظروفاً ملائمة للصلاة. هذا إن كان مقتنعاً أن الصلاة يجب أن تكون شاغله الأساسي، وتحل قبل أي واجب آخر. وبديهي أنه، في هذه الحال، سيرتب أعماله بتصميم أكبر، وفي الأحاديث الضرورية مع الآخرين يلزم جانب الإيجاز، ويميل إلى الصمت ولا يحب الكلام البطال، ولن يتعلق بجنون بالأشياء المضجرة. وبهذه الوسائل جميعاً سيجد دروب الصلاة والسلام. في حياة منظمة بهذه الصورة، ستكون هذه الأعمال كلها، بقوة ذكر اسم الله، موسومة بسمة النجاح، وسيتدرب آخر الأمر على الذكر المتواصل لاسم يسوع. وسيعرف بالخبرة أن تواتر الصلاة، هذه الوسيلة الفريدة للخلاص، هو في متناول الإرادة البشرية. وأنه من الممكن أن نصلي في كل حين، في كل الأحوال وفي كل الأمكنة. وسيتوصل بسهولة إلى الارتقاء من الصلاة الصوتية المتواترة إلى الصلاة الذهنية ومنها إلى صلاة القلب التي تفتح، فينا، ملكوت الله.
الأستاذ: أقر أنه من الممكن، بل من السهل أيضاً، أثناء لمشاغل الآلية أن نصلي كثيراً، بل باستمرار، إذ إن العمل الآلي الذي يقوم به البدن لا يقتضي تأنياً ذهنياً عميقاً، ولا تفكيراً عميقاً، ولذا يمكن للعقل، أثناء القيام بهذا العمل، أن يستغرق في الصلاة المستمرة وتتبعه الشفتان. ولكن إن كان علي القيام بعمل ذهني محض: كالقراءة بإمعان، مثلاً أو التأمل في مسألة خطيرة، أو التأليف الأدبي، فكيف يمكنني أن أصلي، في هذه الحال، بالذهن والشفتين؟ ما دامت الصلاة عملاً ذهنياً، في المقام الأول، فكيف يمكنني في آن واحد أن أعطي ذهناً واحداً بعينه أموراً مختلفة ليفعلها؟
الراهب: ليس حل مسألتك بصعب، ونحن نعتبر أن الذين يصلون باستمرار يقعون في فئة من ثلاث فئات: فئة المبتدئين، أولاً، وثانياً فئة الذين تقدموا بعض التقدم، وثالثاً فئة الذين تمرسوا كثيراً. وبوسع المبتدئين أن يشعروا، من حين إلى حين، باندفاع الفكر والقلب نحو الله، وأن يرددوا صلوات قصيرة بالشفتين، حتى أثناء عمل ذهني. والذين تقدموا وبلغوا شيئاً من الاستقرار الذهني يمكنهم التدرب على التأمل أو الكتابة في حضرة الله المستمرة. إليك صورة ستوضح الأمر لك: أفرض أن ملكاً قاسياً متطلباً أمرك أن تؤلف رسالة في موضوع عسير في حضرته، على أقدام عرشه. فبالرغم من إمكان انشغالك الكلي في عملك، لن يسمح لك وجود الملك، ذي السلطان عليك، والذي حياتك في يديه، لن يسمح لك بأن تنسى، ولو لحظة واحدة، أنك تفكر، أنك تمعن الفكر، وأنك تكتب، لا في العزلة، بل في مكان يقتضيك انتباهاً واحتراماً خاصين. وعيك هذا قرب الملك يبين بوضوح تام إمكانية الانصراف إلى الصلاة الداخلية المستديمة حتى في أثناء القيام بعمل ذهني. أما الذين تقدموا بفضل اعتياد طويل أو بنعمة الله، فانتقلوا من الصلاة الذهنية إلى صلاة القلب، فهم لا يقطعون صلاتهم أثناء نشاطاتهم الذهنية مهما كانت دائبة ولا حتى أثناء النوم كما قال لنا الكلي الحكمة: (أنا نائمة لكن قلبي مستيقظ) (نشيد 2:5). والذين بلغوا تلقائية القلب هذه يكتسبون مقدرة كبرى على ذكر الاسم الإلهي بحيث أن الصلاة تسهر بذاتها وأن الذهن كله ينجرف في تيار صلاة لا تنقطع، مهما كانت حال الذي يصلي، ومهما كانت مشاغله في ذلك الحين مجردة وذهنية.
Le prêtre: اسمح لي يا أبت أن أقول ما أفكر فيه. أعطني الكلام لأقول كلمة أو كلمتين. كان في النص الذي قرأته ما يبين بصورة رائعة أن الوسيلة الوحيدة لبلوغ الخلاص والكمال هو تواتر الصلاة، أياً تكن. لكني لا أفهم هذا جيداً. وهذا ما يلوح لي: أية فائدة قد يكون لي في ذكر اسم الله باستمرار باللسان وحده ولكن من غير انتباه ومن غير أن أفهم ما أقول؟ لن يكون هذا إلا تكراراً لا طائل تحته. والنتيجة الوحيدة هي أن اللسان سيتابع ثرثرته، وأن عمل الذهن سيختل توازنه وقد أزعجه هذا في تفكيره. إن الله لا يطلب كلمات، بل روحاً منتبهاً وقلباً نقياً. أو ليس من الأفضل رفع صلاة، وإن كانت قصيرة، بل نادرة أو فقط في أوقات معينة، ولكن بانتباه وغيرة وحرارة، ومع الفهم الواجب؟ وإلا فبالرغم من تلاوة الصلاة ليلاً ونهاراً، من غير طهارة الذهن، فليس هذا من أعمال العبادة، ولن يكون المرء قد فعل شيئاً في سبيل الخلاص. ولا يتوكأ الإنسان عندئذ إلا على ثرثرة خارجية لا يجنى منها إلا التعب والملل، بحيث أنه – في نهاية المطاف – تفتر الثقة بالصلاة تماماً وينبذ الإنسان هذه الطريقة العقيمة. ومن جهة ثانية، يستدل على عدم جدوى صلاة الشفتين وحدهما مما هو مبين لنا في الكتب المقدسة، كهذا مثلاً: (هذا الشعب يكرمني بشفتيه وأما قلوبهم فبعيدة عني) (متى8:15)، أو (ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات) (متى 21:7)، أو (أوثر أن أقول خمس كلمات بعقلي… على أن أقول عشرة آلاف كلمة بلسان مجهول) (1كور19:14). إن هذا كله يبين عقم الصلاة الخارجية التي يرددها الفم بلا انتباه.
الراهب: يكون في وجهة نظرك بعض الحق لو لم يضف إلى وصية الصلاة بالفم ضرورة فعل هذا باستمرار، ولو لم يكن لذكر اسم يسوع المسيح سلطان خاص يعطي بذاته، من جراء ممارسته المتواصلة، ثمرة الانتباه والهمة. ولكن، ما دامت المسألة المطروحة الآن هي تواتر الصلاة، مدتها وطابعها اللامنقطع (بالرغم من أنها في البداية قد تتلى بعدم انتباه أو بصورة جافة) فإن الاستنتاجات التي توصلت إليها خطأ تسقط تلقائياً. فلندرس القضية عن كثب أكثر. ينتهي أحد الكتاب الروحيين – بعد أن يثبت القيمة الكبرى والكسب الناتج عن الصلاة المتكررة المتلوة بصيغة لا تتغير – إلى القول:
إن كثيرين من مدعي الثقافة يعتبرون هذه التقدمة الكثيرة لصلاة واحدة لا تتغير عديمة الجدوى، بل باطلة. يحسبونها عملاً آلياً وشغل جهال عميت قلوبهم. لكنهم يجهلون السر المعلن عنه بهذه الممارسة الآلية في الظاهر. هم لا يعرفون أن حركة الشفتين المتواصلة تصبح، من حيث لا يشعر المرء، نداء صادقاً للقلب، وتتسلل إلى الحياة الداخلية، وتصبح فرحاً، وتصير وكأنها طبيعية للنفس، جالبة لها النور والغذاء، وقائدة إياها إلى الاتحاد بالله. إن هؤلاء الناقدين يذكروني بأولاد كانوا يعلَّمون الألف باء والقراءة. لما تعبوا من هذا هتفوا: (أليس من الأفضل مئة مرة أن نصطاد السمك، كوالدنا، من أن نمضي النهار كله مرددين: أ- ب- ت-، أو من أن نخرطش على قطعة ورق بريشة؟). إن فائدة معرفة القراءة والمعارف الناتجة عنها، والتي لا يمكن أن تكون إلا ثمرة هذه الدراسة الشاقة للأحرف تحفظ غيباً، كانت بالنسبة لهم سراً غامضاً. وكذلك شأن الذكر البسيط والمتكرر لاسم الله: إنه سر محجوب بالنسبة للناس غير المقتنعين بنتائجه وبقيمته الكبرى. إنهم يقيسون إثبات الإيمان وفقاً لقوة عقلهم الخاص القصير النظر والعادم الخبرة، وينسون أن للإنسان طبيعتين، تؤثر كل منهما في الثانية تأثيراً مباشراً.
إن الإنسان مجبول من جسد وروح. لماذا. مثلاً، إن أنت رغبت في تطهير نفسك، بدأت بالاهتمام بالجسد، بأن تجعله يصوم، بحرمانه من الأطعمة والأغذية المقوية؟ إنما تفعل، بالتأكيد، لكيلا يصير عقبة، أو بكلام أفضل، لكي يمكنه أن يصبح الوسيلة الميسرة لطهارة النفس وللتمييز الروحي، ولكي يذكرك الإحساس المستمر بجوع الجسد تصميمك على السعي إلى الكمال الداخلي والأشياء التي ترضي الله، والتي تنسى بسهولة قصوى. ويتعلم المرء بالخبرة أنه، عبر فعل خارجي، كالصيام الجسدي، يحقق التنقية الداخلية للذهن، وسلام القلب، ويجد أداة لترويض الأهواء ومنحاً يحث المجهود الروحي.
وهكذا، بوساطة أشياء خارجية ومادية، يتلقى الإنسان العون والفائدة الداخلية والروحية. وعليك أن تتصور أن هذا شأن صلاة الشفتين المتواترة، التي تجتذب، مع المداومة، صلاة القلب الداخلية وتساعد لاتحاد الروح بالله. من الباطل تصور اللسان، وقد مل التكرار وغياب الفهم هذا القاحل، مضطراً إلى التخلي التام عن مجهود الصلاة هذا الخارجي، على اعتباره عديم الجدوى. كلا! إن الاختبار العلمي يثبت لنا هنا العكس تماماً. والذين مارسوا الصلاة الدائمة يؤكدون لنا أن هذا ما يحصل: الذي صمم على أن يذكر اسم يسوع بلا انقطاع، أو أن يتلو صلاة يسوع باستمرار – والأمران سيان – يشعر أول الأمر – وهذا بديهي – ببعض الصعوبة، وعليه محاربة الكسل. ولكنه كلما طالت مدة العمل على هذا بعزم، ازدادت ألفته بمهمته من حيث لا يشعر. حتى أنه، في نهاية الأمر، تكتسب الشفتان واللسان مقدرة كبرى على التحرك. إنها تعمل بصورة لا رادّ لها – حتى من أي مجهود من قبله – وتتلو صلاة يسوع بلا أي صوت. وفي آن معاً، تكون حركة عضلات الحنجرة قد انساقت وتدربت بحيث أنه يبدأ – أثناء صلاته – بالإحساس بأن التلفظ بالصلاة أصبح خاصة من خواصها الدائمة والجوهرية. بل إنه يشعر، كلما توقف مرة، بأن ثمة شيئاً في الظاهر ينقصه. وينتج عن هذا عندئذ أن الذهن بدوره يأخذ في الاستسلام، في أن يصيخ السمع لعمل الشفتين هذا اللإرادي، وبه يتفتح للانتباه، مما يقود إلى ينبوع من المسرات للقلب، وإلى الصلاة الحقيقية.
إنك تجد هنا إذن المفعول الحقيقي النافع للصلاة الشفوية الكثيرة أو المستمرة. وهو النقيض تماماً لما يتصوره أولئك الذين لم يجربوها ولا هم فهموها. أما في ما يتصل بفقرات الكتاب المقدس التي تستشهد بها دعماً لاعتراضك، فلسوف يتضح معناها إن نحن درسناها بإمعان. إن عبادة الله المرائية بالفم، وحب الظهور أو انعدام الصدق عند من يهتف ( يا رب، يا رب!)، كل هذا استنكره يسوع المسيح، إذ إن إيمان الفريسيين المتكبرين لم يكن إلا في فهمهم، ولم يكن في وجدانهم ما يبرره بأية درجة، وما كانوا يعتنقونه في القلب. وإنما قيلت هذه الأشياء لهم، ولا صلة لها بأمر تلاوة صلاة قد أعطى المسيح بصددها تعاليم مباشرة، وصريحة ودقيقة. (على الناس أن يصلوا دائماً من غير أن يضعفوا). وكذلك بولس الرسول، إذ يقول إنه يفضل خمس كلمات تقال بالذهن على الكثير من الكلمات بلا تفكير، أو بلغة مجهولة، فهو يتحدث في التعليم على وجه العموم، لا في الصلاة بصورة خاصة، وهو موضوع قال فيه بحزم، (فأريد أن الرجال يصلون في كل مكان…) (1تيموثاوس 8:2). وهذا التعليم الأساسي: (صلوا بلا انقطاع) (1تسالونيكي 17:5) إنما هو منه. أترى الآن كيف أن الصلاة الكثيرة، خصبة على ما فيها من بساطة، ومدى ما يقتضيه الفهم الصحيح للكتاب المقدس من اعتبار ممعن؟
السائح: ما أصدق هذا يا أبت! إني رأيت كثيرين من الناس، ببساطة كلية، من غير أي نوع من الثقافة والعلم، حتى أنهم لا يعرفون ما هو الانتباه، يرفعون صلاة يسوع بفمهم ومن غير توقف. ولقد رأيتهم يبلغون ما لا تستطيع عنده شفتاهم ولسانهم أن تتوقف عن تلاوة الصلاة. وكانت تجلب إليهم الفرح والنور، ومن أناس مهملين ضعفاء كانت تحولهم إلى زهاد مكتملين وإلى قدوات للفضيلة.
الراهب: إن الصلاة تقود الإنسان إلى ولادة جديدة، إن جاز القول. ولها من القدرة ما يستحيل معه على أي شيء، على أية درجة من الألم أن تقاومها. لو سمحتم، يا إخوتي، قرأت لكم، بمثابة وداع، مقطعاً قصيراً، ولكنه شيق، معي هنا.
الجميع: سنستمع إليه بكل سرور.
في ما للصلاة من قدرة
الراهب: إن للصلاة سلطاناً وقدرة عظيمين بحيث يمكننا القول: (صل، وافعل ما تشاء)، فالصلاة سترشدك إلى العمل الصالح والبار. ولا نحتاج، لكي نرضي الله، إلا إلى المحبة: (أحب، وافعل ما تشاء)، هذا ما يقوله المغبوط أوغسطين (4) {توفي عام 430، أسف ايبونا في إفريقيا الشمالية، من كبار آباء الكنيسة الغربية}، (إذ إن الذي يحب حقاً لا يمكنه أن يرغب فعل شيء لا يرضي المحبوب). وما دامت الصلاة وفق المحبة وفعلها، يمكننا حقاً أن نقول عنها قياساً: (إن الصلاة المستمرة تكفي للخلاص). (صل وافعل ما تشاء)، وستبلغ غاية الصلاة. إنها ستنيرك.
لكي نفهم هذه القضية بتفصيل أكبر نضرب بعض الأمثلة:
1- (صل، وفكر ما تشاء)، إن الصلاة ستطهر أفكارك. ستعطيك الصلاة حسن التمييز. وهي تبطل وتطرد كل الأفكار الزائفة. هذا ما يؤكده القديس غريغوريوس السينائي. إن رغبت طرد الأفكار وتنقية الذهن، فهذه نصيحته: (أطردها بالصلاة). إذ لا يمكن لأي شيء أن يتحكم بالأفكار كما تتحكم بها الصلاة. ويقول أيضاً القديس يوحنا السلمي في الموضوع ذاته: (اقهر باسم يسوع الأعداء الممسكين بزمام فكرك. لن تجد سلاحاً غير هذا).
2- (صل وافعل ما تشاء)، سترضي أعمالك الله وستكون مفيدة وخلاصية. إن الصلاة الكثيرة، بصدد أي موضوع، لا تبقى أبداً من غير ثمر، إذ إن فيها مقدرة النعمة. (إن كل من يدعو باسم الرب يخلص) (أعمال 21:2). مثال: كان رجل قد صلى بلا جدوى ومن غير حمية، فحصل بهذه الصلاة على حسن التمييز وعلى الرغبة في التوبة. صلت فتاة كانت تحب المتعة، فدلتها صلاتها هذه على طريق الحياة البتولية، والطاعة لتعليم المسيح.
3- (صل ولا تتحمل كبير عناء لقهر أهوائك بقوتك الخاصة). ستهدمها الصلاة فيك، (لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم) (1يوحنا 4:4). هذا ما يقوله الكتاب المقدس. ويعلم القديس يوحنا الكرباتي أنك إذا كنت وليس لك موهبة ضبط النفس فينبغي لك ألا تحزن لهذا، بل أن تعلم أن الله يطلب منك الجد في الصلاة، والصلاة ستخلصك. لنا مثال حاسم عن هذا في الستارتس الذي يقول لنا عنه كتاب (حياة الآباء): إنه لما سقط في الخطيئة، لم يستسلم لليأس بل لجأ إلى الصلاة، وبها عاد إلى ما كان عليه من سابق توازن.
4- (صل، ولا تخش شيئاً). لا تخش عثرات الحظ ولا تخش الكوارث. ستحميك الصلاة وتبعدها عنك. تذكر القديس بطرس الذي كان قليل الإيمان فأشرف على الغرق والقديس بولس الذي كان يصلي في سجنه، والراهب الذي نجته الصلاة من هجمات التجارب، والفتاة التي أنقذت من نوايا عاطلة لجندي إزاءها بسبب الصلاة، واذكر الحالات المشابهة التي توضح سلطان صلاة اسم يسوع، وقدرتها وشموليتها.
5- (صل بالطريقة التي تريد، ولكن صل دائماً، ولا تدع شيئاً يصرفك عن الصلاة). كن مرحاً وهادئاً. إن الصلاة ستدبر كل أمورك وتعلمك. تذكر كلام القديسين يوحنا الذهبي الفم ومرقس الناسك في سلطان الصلاة. يعلن ذاك أن الصلاة، حتى إن رفعناها نحن الكثيري الخطايا، تطهرنا على هذه للحال. ويقول هذا: (الصلاة بطريقة ما في مقدرتنا، لكن الصلاة بطهارة موهبة النعمة). قدم إذن لله ما في وسعك تقديمه. ارفع إليه أولاً (الكمية) وحدها، وذلك باستطاعتك، وسيسكب الله قوته في ضعفك. قد تكون الصلاة جافة ولا منتبهة، ولكن مستمرة، وستولِّد عادة، وتصبح طبيعة ثانية وتتحول إلى صلاة نقية، نيرة، إلى صلاة رائعة من لهيب نار.
6- ومن المهم أن تلاحظ، ختاماً، أنه إن طال وقت تيقظك في الصلاة، فإنه لن يبقى لك من الوقت متسع للقيام بأعمال شريرة، ولا حتى بمجرد التفكير فيها.
فهل ترى الآن أية أفكار عميقة تجدها ملخصة في هذا التوكيد الحكيم: (أحب وافعل ما تشاء)، (صل وافعل ما تشاء). يا للسلوى ويا للتعزية للخاطئ المثقل بأعباء ضعفه والذي يئن تحت أهوائه الهائجة!
الصلاة. هذا ما أعطيناه كوسيلة عامة كلية للخلاص، لكي تتعاظم النفس كمالاً. هذا كل شيء. ولكنا عندما نلفظ اسم الصلاة، يضاف إليه شرط: (صلوا بلا انقطاع). هذه وصية كلمة الله. وبالتالي فإن الصلاة يبرز أغزر جدواها وثمارها كلها عندما ترفع بكثرة، باستمرار. إذ إن تواتر الصلاة رهن – بلا شك – بإرادتنا، أما الحمية وكمال الصلاة فهما – تماماً كالطهارة – هبتا النعمة.
ولذا فإننا سنصلي قدر ما نستطيع. سنكرس حياتنا كلها للصلاة، حتى ولو تعرضت، في البداية، إلى شرود الذهن. إن الممارسة الطويلة ستعلمنا الانتباه. والكمية ستقود، تأكيداً، إلى النوعية. يقول أحد الكتاب الدينيين من ذوي الخبرة: (إن أردتم أن تتعلموا القيام بأي عمل بصورة متقنة، فعليكم الإكثار من فعله قدر المستطاع).
الأستاذ: الحق إن الصلاة قضية كبرى، وتكرارها باندفاع وهمة هو المفتاح الذي يفتح كنز النعمة. ولكن ما أكثر ما أجد نفسي في صراع مع نفسي بين الحماس والكسل! وما أشد ما سيسعدني وجدان طريق النصر، أن أصمم وأستيقظ على ممارسة الصلاة بصورة مستمرة!
الراهب: كثير من الكتاب الروحيين يقدمون لنا وسائل عدة مرساة على تفكير منطقي للحث على الجد في الصلاة. مثلاً:
- إنهم ينصحونك بأن يتشرب ذهنك بأفكار ضرورة الصلاة وامتيازها وجدواها، لخلاص النفس.
- فليحصل لك قناعة راسخة بأن الله يفرض علينا الصلاة فرضاً وأن كلامه يأمر بها في كل موضع.
- تذكر دائماً أنك إذا كنت متكاسلاً ومهملاً للصلاة، فلن تستطيع تحقيق أي تقدم في أعمال البر ولا في الحصول على السلام والخلاص، وأنك، بالتالي، ستقاسي بالضرورة العذاب على الأرض وفي الحياة العتيدة في آن معاً.
- أثر تصميمك الاقتداء بقدوة القديسين الذين بلغوا جميعاً القداسة والخلاص عن طريق الصلاة الدائمة.
بالرغم من أن لهذه الطرائق جميعاً قيمتها، ومن أنها وليدة تفكير سليم، فإن النفس المحبة للمتعة والمستسلمة للامبالاة – حتى في حال تقبلها هذه الطرائق وتوسلها – نادراً ما تتفهم مراميها البعيدة للسبب الآتي: إن هذه العلاجات مرة الطعم لمذاقها المضعف وضعيفة جداً بالنسبة لطبيعتها المنفسدة في صميمها. فهل هنالك مسيحي لا يعرف أن عليه أن يصلي بكثرة وبجد، وأنه واجب يفرضه الله، وأننا متضررون من الكسل في الصلاة، وأن القديسين كلهم قد صلوا بحمية ومثابرة؟ ولكن على هذا، فمن النادر جداً أن تكون هذه المعرفة قد آتت ثمارها. وكل من يراقب ذاته يلاحظ بوضوح أنه قليلاً ونادراً ما يعمل بهذه الوصايا، وأنه بالرغم من تذكرها النادر يعيش كل الوقت حياته ذاتها الفاسدة والخاملة. ولذا، فإن آباء الكنيسة، في خبرتهم وحكمتهم الإلهية، ولمعرفتهم ضعف الإرادة والميل المفرط إلى المتعة في القلب البشري، يتخذون احتياطات خاصة، ويخففون لذا المهمة، ويحلون بالعسل حافة الكأس المرة. وهم يبينون أن أنجع الوسائل وأسهلها للتخلص من الكسل واللامبالاة إزاء الصلاة يكمن في اكتشاف حلاوة الحب الإلهي وغزارته، ذلك الحب الذي ستسمح الصلاة بتبادله، بعون الله.
إنهم ينصحونك بأن تتأمل ما استطعت في حال روحك، وبأن تقرأ بإمعان كتابات الآباء بهذا الصدد. وهم يؤكدون هذا التوكيد المشجع: إن هذه المشاعر الداخلية اللذيذة يمكن بلوغها بسرعة وسهولة في الصلاة، ويبينون كم هي مرغوب فيها. إن فرح القلب دفق الحرارة الداخلية والنور، والحماس الذي لا يوصف، وخفة القلب والسلام العميق وجوهر الغبطة ذاتها تنتج كلها عن صلاة القلب. والنفس الضعيفة والفاترة، إذ تستغرق في أفكار من هذا القبيل، تلتهب وتتقوى، وحرارتها في الصلاة تشجعها، فكأنها تغرى بأن تأخذ في ممارسة الصلاة. وكما يقول اسحق السرياني: (إن الفرح جاذب للروح، هذا الفرح المتولد من ازهرار الرجاء في القلب، والتأمل في هذا الرجاء هو هناء القلب). ويقول المؤلف نفسه أيضاً: (إن هذا العمل، من أوله إلى آخره يفترض منهجاً والأمل في نجاحه. وهذا يحدو بالنفس إلى إرساء أساس للمهمة المطلوب إنجازها. كما يجد التعزية، في آن معاً، في رؤيا الهدف الذي تجهد لإصابته). وكذلك القديس ازنيك، بعد أن يصف كيف يكون الكسل عقبة في سبيل الصلاة، ويدفع بعض الأوهام حول طريقة إذكاء جذور الحماس لها، يقول خاتماً بوضوح: (إن نحن لم نكن مستعدين على رغبة صمت القلب لأي سبب فليكن هذا طلباً للذة تشعر بها النفس منها، وللفرح الذي يأتي به هذا الصمت).
نرى إذن أن هذا الأب يصور الشعور بالفرح هذا كمشجع على صلاة دائبة. ويعلم مكاريوس الكبير، بالطريقة ذاتها أن جهودنا الروحية (الصلاة) يجب أن تبذل بقصد جني ثمرها – أي نعيم القلب. وبإمكاننا أن نجد أمثلة واضحة عن هذه الطريقة في مقاطع عدة من الفيلوكاليا، تصف بالتفصيل مناعم الصلاة. والذي يصارع الكسل أو الجفاف عليه أن يقرأها كلما استطاع، على أن يعتبر نفسه غير جدير بهذا الفرح، مؤنباً نفسه دوماً على إهماله في الصلاة.
Le prêtre: ألن يقود تأمل كهذا إنساناً غير مجرب إلى (التلذذ الروحي)، تبعاً للاسم الذي يطلقه اللاهوتيون على ذلك الميل للروح المتعطشة إلى تعزيات مفرطة وحلاوات والتي لا ترضى بإنجاز أعمال الإيمان كغرض مجرد، من غير أن تحلم بالمكافأة؟
الأستاذ: يبدو لي أن اللاهوتيين، في هذه الحالة، يحذرون من الإفراط في المتعة الروحية أو الطمع فيها، لكنهم لا ينبذون قط الفرح والتعزية. إذ إن الرغبة في المكافأة إن لم تكن الكمال، فإن الله على هذا لم يمنع الإنسان من التفكير بالفرح والتعزية، وهو تعالى يستعمل فكرة الثواب ليحض الناس على إتمام الوصايا وعلى بلوغ الكمال. (أكرم أباك وأمك): إنها الوصية، وترى أن المكافأة تتبع، وكأنها المنخس الذي يحث على الطاعة: (وتطول أيامك على الأرض). (إن أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع كل ما تملك وتعال اتبعني). هذا ما يقتضيه الكمال، ويأتي بعده مباشرة المكافأة، كدافع لبلوغ الكمال: (فيكون لك كنز في السموات). (طوبى لكم إذا أبغضكم الناس ونفوكم وعيروكم ونبذوا اسمكم نبذ شرير من أجل ابن البشر) (لوقا 22:6)، هذا ما يقتضيه التكامل الروحي: إنه يفرض قوة روحية غير عادية، وصبراً جميلاً مثابراً. ولذا كانت المكافأة والتعزية كبيرتين، قادرتين على توليد قوة الروح هذه وإذكائها: (إن أجركم عظيم في السموات). أنا أعتقد إذن أن بعض الرغبة في الملء، في صلاة القلب، ضروري ويشكل وسيلة بلوغ الجد والنتيجة في آن معاً. بحيث أن هذا كله – لا شك – يؤيد التعاليم العملية التي سمعناها لتونا من قدس الأب بهذا الصدد.
الراهب: كتب لاهوتي حقيقي – وأعني به القديس مكاريوس المصري – في هذا الموضوع بأوضح بيان، قال: (عندما تغرس كرمة تركز فيها أفكارك وأتعابك بغية جني العنب، وإلا فإن تعبك كله سيكون سدى. وكذلك أمر الصلاة: إن أنت لم تطلب الثمر الروحي – أي المحبة، والسلام والفرح الخ… – فإن تعبك سيكون سدى. ولذا فإن علينا إتمام واجباتنا الروحية (الصلاة) على أمل جني ثمارها، وقصد جنيها، أي التعزية ومسرة القلب). أنظر كيف أجاب بوضوح، هذا الأب البار، عن سؤالك حول ضرورة الفرح في الصلاة! والواقع، إنه يحضرني رأي قرأته لكاتب ديني منذ زمن غير طويل. قال على وجه التقريب: (إن كون الصلاة طبيعية في الإنسان هو السبب الأول لميله إليها). إن دراسة هذه الميزة الطبيعية يمكنها – في نظري – أن تكون وسيلة فعالة جداً للحث على الجهد في الصلاة، هذه الوسيلة التي يبحث عنها الأستاذ بكل غيرة.
اسمحوا لي بأن ألخص بسرعة البضع نقاط التي لفت إليها الانتباه في هذا الدفتر. يقول الكاتب مثلاً إن العقل والطبيعة يقودان الإنسان إلى معرفة الله. والعقل يثبت النظرية القائلة إن لا عمل بلا سبب، وبارتقائه سلم الأشياء الحسية من الأدنى إلى الأسمى يصل إلى السبب الأول: الله. وأما الطبيعة فتبرز في كل الخطوات روائع حكمة وتناغم ونظام، وتصبح بذا نقطة ارتكاز السلم الموصلة من الأشياء المتناهية إلى اللامتناهي. بحيث أن الإنسان الطبيعي يتوصل بصورة طبيعية إلى معرفة الله. ولهذا السبب لا يوجد، ولم يوجد قط شعب أو قبيلة همجية مجردة عن كل معرفة لله. وبسبب من هذه المعرفة، يوجه ساكن الجزر مهما كان متوحشاً، ومن غير أي دافع خارجي، وكأنه يفعل بصورة لا إرادية، يوجه انتباهه نحو السموات، ويركع، ويتنهد تنهداً لا يفهمه ويخامره شعور واضح أن هناك شيئاً ما يجذبه نحو العلاء، شيئاً يدفع به نحو المجهول. إنه أساس كل الديانات الطبيعية. ومن الجدير جداً بالملاحظة، بهذا الصدد، أن جوهر كل ديانة أو روحها لدى كل شعوب الأرض، يقوم في الصلاة السرية، التي تتجلى بشكل من أشكال عمل الذهن، وكنوع من الذبيحة، مع أنها تكون مشوهة شيئاً ما بسبب الظلمة التي يتخبط فيها عقل الشعوب الوثنية. ولما كان هذا مدهشاً كثيراً في نظر العقل، كان يهمنا، بالنسبة ذاتها اكتشاف السبب الخفي لهذا الشيء الرائع المتجلي بميل طبيعي نحو الصلاة.
ليس من الصعب أن نجد الجواب السيكولوجي عن هذا. إن جذور الأهواء والأعمال البشرية كلها وقوتها، في الحب الفطري للبقاء. يؤيد هذا غريزة حفظ البقاء المتأصلة في الأعماق والتي تعم الناس جميعاً. وغاية كل شهوة بشرية، وكل تحرك وعمل إرواء حب البقاء هذا، وسعي الإنسان إلى الملء. وإرواء هذه الحاجة يرافق الإنسان الطبيعي طوال حياته. لكن الذهن الإنساني لا يكتفي بما يرضي الحواس. وحب البقاء الفطري لا يتوقف أبداً. وهذا الحب يتعاظم باطراد دائم. ويتنامى الجهد الرامي إلى بلوغ الملء، ويملأ المخيلة ويدفع بالشعور نحو غاية ثانية. ومد هذا الشعور وهذا الميل الداخلي، في تطوره، هو المذكي الطبيعي للصلاة. إنه لزوم حب البقاء ذاته حينما يتضخم إلى اللانهاية. وكلما قل نجاح الإنسان الطبيعي في بلوغ السعادة ازداد سعيه إليها وتزايد ميله ووجدانه في الصلاة منفذاً لهذا الميل. ويلجأ لطلب ما يشتهي إلى السبب المجهول لكل ما هو كائن. وهكذا فإن حب البقاء هذا الفطري، وهو من العناصر الأولى للحياة، هو حتى لدى الإنسان الطبيعي مذكي الصلاة. إن باري الأشياء جميعاً، اللامتناهية حكمته، قد جعل في طبيعة الإنسان قدرة حب البقاء (كشاغل) تماماً، حسب تعبير الآباء، سيسمو بالكائن الإنساني الساقط حتى ملامسة الأشياء السماوية. حبذا لو لم يكن الإنسان قد انحدر بهذه القدرة! ليته حافظ عليها في امتيازها وفقاً لدعوته مع طبيعته الروحية! إذن لكان لديه وسيلة ناجعة تقوده على طريق الكمال الروحي. ولكن وا أسفاه! كثيراً ما يحول هذه القدرة النبيلة إلى هوى أناني عندما يجعل منها أداة لطبيعته الحيوانية.
Départs: أشكركم من صميم القلب، يا زائري الأعزاء. لقد كان لي حديثكم الخلاصي خير تعزية، وعلمني أنا قليل الخبرة الكثير من الأشياء المفيدة. فيلهبكم الله نعمته جزاء محبتكم.
(يفترقون).