Ikon situs Jaringan Online Ortodoks

اللقاء السادس عشر: مع الأب يوسف (1) – عن الصداقة

1- مقدمة

 الطوباوي يوسف الذي نقدم لكم الآن تعاليمه ووصاياه هو أحد الثلاثة الذين أشرنا إليكم عنهم في المناظرة الأولى[1]، وهو ينتسب إلى عائلة عريقة جدًا. وكان رئيسًا لمدينة  تميس Thmuis في مصر، وقد تعلم فصاحة اليونان وبلاغة المصريين، حتى إنه كان يحدثنا بطلاقه تثير دهشتنا، الأمر الذي يجهله المصريون، وما كان يحدثنا عن طريق مترجم، إنما يحدثنا بلغتنا مباشرة.

إذ رآنا شغوفين للتعليم منه، سألنا أولاً عما إذا كنا أخوين، ولما سمع منا أننا مرتبطان بوحدة روحية لا جسدية، وأننا منذ بداية زهدنا العالم ونحن مرتبطان برباط لا ينفصم، كذلك في أسفارنا التي نقوم بها من أجل العبادة الروحية، وفي سلوكنا في الدير أيضًا، عندئذ بدأ الآب مناظرته كما يلي:

2- أنواع الصداقات

 توجد أنواع كثيرة من الصداقات والمصاحبات بين البشر، بطرق مختلفة من جهة رباطات الحب. فالبعض يدخلون في تكوين علاقة تعارف يليها علاقة صداقة خلال معرفة سابقة. وآخرون يرتبطون برباط حب بعد الدخول في صفقات أو اتفاقات تجارية. والبعض يتحدون معًا في صداقة بسبب التشابه ووحدة العمل أو العلم أو الفن أو الدراسة، الأمر الذي يجعل حتى النفوس الشرسة تشفق على بعضها البعض. فنرى الذين في الغابات والجبال يتلذذون باللصوصية ويشغفون بسفك الدم، يحتضنون شركاءهم في الجرائم ويهتمون ببعضهم البعض.

 لكن هناك نوع آخر من الحب، فيه يكون الاتحاد نابعًا عن دوافع طبيعية وبسبب رابطة الدم، مثل الرباط الذي بين أفراد القبيلة الواحدة، أو الرباط بالزوجات والآباء والاخوة والأبناء، إذ لهؤلاء تمييز خاص عند الإنسان عن غيرهم. وهذا الأمر لا نجده في البشرية فقط، بل وبين كل الطيور والحيوانات. فعند الخطر تدافع (الطيور والحيوانات) عن صغارها بدافع طبيعي، حتى إنهم لا يخشون التعرض للخطر والموت من أجلها. حقًا حتى هذه الأنواع من الحيوانات والحيات والطيور التي تنعزل بعيدًا عن غيرها بسبب شراستها المهلكة أو سمها المميت مثل الأفاعي والثور الوحشي والنسور، بالرغم من إنه حتى نظراتها يقال عنها إنها خطيرة على كل إنسان، لكنها لا تضر بعضها البعض بل يوجد فيما بينها سلام ومشاعر صداقة بسبب وحدة أصلهم.

 غير أن هذه الأنواع كلها من الحب التي نتحدث عنها هي عامة، توجد بين الصالحين والأشرار، وبين الحيوانات المفترسة والثعابين، وهى لا تبقى إلى الأبد! غالبًا ما تفسد وحدتهم وتنكسر بسبب البعد المكاني، أو بسبب عامل النسيان بحكم الزمن، أو بسبب المضايقات في التعامل والاحتداد في الكلام. فإذ تقوم هذه الأنواع على أساس النفع الخاص أو الرغبات أو بسبب القرابة أو التشابه في العمل، لذلك متى انتهت هذه الظروف بطلت الألفة.

3- كيف يمكن للصداقة أن تبقى على الدوام؟

 بين هذه الأنواع جميعها يوجد نوع واحد من الحب لا ينحل، حيث يقوم فيه الاتحاد لا على التعارف أو بغية نوال شفقة أو ربح أو بسبب نوع من العلاقات التجارية أو بحكم ضرورة الطبيعة، إنما ببساطة لأجل التشابه في الفضيلة. هذا الحب، أقول، لا تهزه الظروف، ولا يؤثر فيه أو يفسده عامل الزمن أو المكان، بل ولا يقدر الموت أن ينزعه. هذا هو الحب الحقيقي الذي لا ينكسر، والذي لا تنفصم رباطاته بسبب اختلاف الميول أو أي اضطراب من جهة الرغبات المتضاربة.

 لكننا نعرف كثيرين نُزع عنهم هدفهم، هؤلاء الذين ارتبطوا معًا برباط الزمالة خارجًا عن حبهم للسيد المسيح الملتهب، فلم يقدروا أن يبقوا على هذه الزمالة على الدوام دون أن تنكسر، لأنهم وإن اعتمدوا على بداية حسنة لصداقتهم، لكنهم لم يثبتوا بنفس الغيرة في غرضهم الذي بدأوا به. لهذا فإن حبهم يكون إلى حين، لأنه لم يُدعم بصلاح مشترك مشابه، بل يمارسه طرف واحد فقط بشجاعة لا تكل، بينما ينكسر بسبب دناءة الطرف الثاني. لأن ضعفات الباردين يحتملها الأقوياء بصبر، أما الضعفاء فلا يحتملون أنفسهم، لأنهم يزرعون في داخلهم أسباب الاضطراب التي لا تسمح لهم بالراحة. وهم في هذا يشبهون الذين يعانون من مرض جسدي، فينسبون تعب معدتهم وتوعك صحتهم إلى إهمال الطباخين ومساعديهم الذين يخدمونهم، أي الذين هم في صحة جيدة، دون أن يدركوا أن السبب هو ضعفهم هم.

 لذلك كما سبق أن قلت إن اتحاد الصداقة الأكيد الذي لا ينحل هو الذي يكمن بين المتشابهين في الصلاح وحده… بهذا يكون الحب غير مغشوش بين من لهم هدف واحد وفكر واحد ليشاءوا أو يرفضوا نفس الأمور معًا.

 إن أردتم أن تحفظوا هذا الحب غير المنكسر يجدر بكم أن تكونوا حريصين أولاً أن تتخلصوا من أخطائكم وتميتوا شهواتكم بغيرة مشتركة وهدف متحد، مجاهدين في تحقيق ما يُبهج النبي على وجه الخصوص القائل: “هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الأخوة معًا” (مز 1:133). لأنه أي شيء يُظهر وحدة الروح مثل السكنى معًا في مكان واحد؟! غير أن مختلفي الشخصية والهدف عبثًا يحاولون السكنى معًا في سكنٍ واحدٍ، ولا يعوق البعد المكاني الوحدة بين المتأسسين على صلاحٍ متساوٍ. لأن الاتحاد يتم بالله وليس بالمكان… ولا يمكن للسلام الثابت أن يبقى متى اختلفت الإرادة بين الناس.

4- سؤال

 جرمانيوس: هل لو رأي إنسان أن أمرًا ما – حسب فكر الله – مفيدًا ونافعًا، يتممه حتى ولو كان ضد إرادة الطرف الثاني أم يترك الأمر؟!

5- الأب يوسف

 قلنا أن الصداقة التامة الكاملة لا يمكن أن تبقى إلا بين الكاملين والمتشابهين في الصلاح، الذين بسبب تشابه الفكر واشتراكهم في الهدف لا يختلفوا قط في أي أمر من الأمور الخاصة بتقدمهم في الحياة الروحية مهما كان السبب، أما إذا وجدت بينهم نزاعات فهذا دليل على عدم استيفائهم الشرط السابق ذكره. وحيث إنه لا يقدر أحد أن ينطلق إلى الكمال ما لم يبدأ من الأساس، وسؤالك ليس عن عظمة هذا الاتحاد إنما كيف يُمكن اقتنائه، لهذا أرى إنه يحسن بي أن أشرح لكم، في كلمات قليلة، القانون الذي يحكمه، والطريق الذي ينبغي أن توجه إليه خطواتك حتى يمكنك بسهولة أن تضمن بركة الصبر والسلام.

6- الوسائل التي تحفظ الاتحاد

 أولاً: الأساس الأول للصداقة الحقيقية يكمن في الازدراء بالأمور الزمنية واحتقار كل ما نملكه لأنه من الخطأ تمامًا أن نهتم بأباطيل العالم وكل الأمور المزدراة أكثر مما نهتم بالأمور الأعظم ألا وهي محبة القريب…

 ثانيًا: يجدر بكل إنسان أن يقطع رغباته، فلا يظن في نفسه إنه حكيم مُختبر، فلا يفضل آرائه عن آراء قريبه.

 ثالثًا: يلزمه أيضًا أن يعرف أن كل شيء، حتى ما يبدو مفيدًا وضروريًا، يحتل المركز الثاني بعد بركة الحب والسلام.

 رابعًا: عليه أن يتحقق إنه لا يجوز له أن يغضب قط بسببٍ حسن أو رديء.

 خامسًا: يجدر به أن يحاول شفاء كل غضبٍ عند أخيه تجاهه، ولو كان بغير سبب، بنفس الطريقة التي بها يرغب في أن يتخلص هو من غضبه ضد أخيه. وليعلم أن غضب أخيه ضده هو أمر شرير مثل غضبه ضد أخيه، فيبذل كل طاقته أن يستبعد عن ذهن أخيه الغضب تمامًا.

 أخيرًا: الأمر الذي بلا شك حاسم ويجب عليه أن يتحققه كل يوم إنه راحل عن هذا العالم. وبهذا ليس فقط لا يسمح للغضب أن يبقى في قلبه، بل ويضبط كل حركات الشهوات والخطايا من كل الصنوف.

 فمن يقتنى هذه الأمور، لا يسمح للغضب وعدم الاتفاق أن يوجدا ولا يجد سببًا لهما. أما من يفشل في هذه الأمور، فإنه وإن كان غيورًا بالحب لكنه يتشرب سم الانفعال ضد الأصدقاء شيئًا فشيئًا، وإذ تحدث منازعات متكررة يبرد الحب فيه شيئًا فشيئًا وفي وقت أو آخر، يفارق الحب قلوب المحبين، إلى أن يُنتزع تمامًا.

 لأنه من كان في الطريق السابق شرحه كيف يمكنه أن يختلف مع صديقه، مادام لا يطلب لنفسه شيئًا؟! بهذا يبتر بداية أي نزاع بترًا تامًا (ذلك الذي غالبًا ما يحدث بسبب أمور تافهة غير ضرورية بالمرة)، إذ يلاحظ ما لفائدته كما جاء في سفر الأعمال: “وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة. ولم يكن أحد يقول أن شيئًا من أموالهِ لهُ بل كان عندهم كل شيءٍ مشتركًا” (أع32:4).

 كيف إذن يمكن أن تحدث أي بذار للنقاش (المثير) ممن لا يطلب ما لنفسه بل ما لقريبه؟! بهذا يصير تابعًا لربه وسيده القائل عن نفسه: “لأني قد نزلت من السماءِ ليس لأعمل مشيئَتي بل مشيئَة الذي أرسلني” (يو38:6). كيف يمكن أن يثير نزاعًا لسببٍ ما، ذاك الذي صمم أن يأخذ برأي قريبه وليس حسب إرادته الذاتيه، محققًا بقلبٍ ورعٍ متضعٍ ما جاء في الإنجيل: “بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حبّ بعض لبعض” (يو35:13)؟ لأنه بهذا- كما بعلامة خاصة – أراد السيد المسيح أن يميز قطيعه في هذا العالم، فارزًا إياهم عن غيرهم، مختومين بالختم الذي نتكلم عنه! على أي أساس يقبل أية ضغينة تتسرب إلى نفسه أو تبقى في نفس أخيه؟! فإن قراره ثابت وهو أنه لا يمكن أن يترك أساسًا للغضب لأنه أمر خطير وخاطئ، وإذا ما كان أخوه غاضبًا معه لا يقدر أن يصلي كما لو كان نفسه غاضبًا، حافظًا كلمات ربنا ومخلصنا يسوع في قلبه باتضاع: “فان قدَّمت قُربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فأترك هناك قُربانك قُدّّام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعال وقدِّم قُربانك” (مت23:5،24).

باطلا تقررون ألا تغضبوا وأنتم تظنون أنكم بهذا تنفذون الوصية القائلة: “اغضبوا ولا تخطئُوا، لا تغرب الشمس على غيظكم”، “وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيهِ باطلاً يكون مستوجب الحُكم” (أف26:4، مت22:5)، إذا كنتم تهملون غضب الآخرين نحوكم بقلب عنيد ولا تبالون بتلطيفه بحنوكم. لأنكم بهذا تعاقبون بسبب تعديكم الوصية. الذي قال ألا تغضب على الغير، قال أيضًا ألا تتجاهل غضب الغير عليك، وكلاهما وصيتان متشابهتان في نظر الله “الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون” (1تى4:2)، سواء بكونك تهلك نفسك أو نفس أخيك. فموت الواحد مشابه لموت الآخر في نظر الله، وفي نفس الوقت كلاهما ربح متساوٍ في نظر (الشيطان) الذي يبتهج بكل دمار…

 أخيرًا كيف يمكنك أن تستبقى أي إغاظة مع أخيك يا من تتحقق كل يوم أنك راحل عن هذا العالم؟!

7- عظمة الحب وخطورة الغضب

 لا يوجد شيء يفوق الحب، وبالتالي لا يوجد شيء أدنى من الغضب. يلزمنا ألا نهتم بشيء مهما بدى نافعًا وضروريًا حتى نتجنب الغضب الذي يسبب اضطرابًا، ولا نرتبك بالأمور حتى التي نحسبها ليست كمالية حتى نحفظ هدوء الحب والسلام بغير نقص، لأنه يلزمنا أن ندرك أن لا شيء مهلك مثل الغضب والتكدر، وليس شيئ مفيدًا مثل الحب.

8- كيف ينشأ النزاع بين الروحانيين؟

 كما أن عدونا (إبليس) يشتت الاخوة الذين لا يزالون ضعفاء وجسدانيين خلال انفجار غضب مفاجئ بسبب أمور تافهة زمنية، يلقى بذار الخلاف حتى بين الروحانيين على أساس اختلاف الأفكار، مما يؤدى إلى نزاع واختلاف في الكلام. هذا يذمه الرسول، إذ يبذره عدونا الحقود الخبيث بين الاخوة الذين لهم فكر واحد، وذلك كقول سليمان الحكيم “البغضة تهيج خصومات والمحبة تستر كل الذنوب” (القديس أمبروسيوس12:10).

9- كيف نتخلص من أسباب النزاع بين الروحانيين؟

 لكي نحفظ الحب باقيًا بغير انكسار، لا يكفي نزع الأساس الأول لعدم الاتفاق والذي يظهر بصورة عامة بسبب محبة الأمور الأرضية التافهة مزدرين بكل الأمور الجسدية، واهبين اخوتنا احتياجاتهم المطلوبة بلا حدود؛ وإنما يجب أن نقطع بنفس الطريقة الأساس الفاني لعدم الاتفاق الذي ينشأ متسترًا تحت مشاعر الروحانية، ونقتنى أيضًا الاتضاع في كل شيء والإرادة المتفقة معًا.

10- اختبار عملي

 إنني أذكر، أنني في صبوتي اقترحت عليّ أفكاري أن ألتصق بشريك معي وكانت أفكارنا من جهة التداريب الروحية ودراسة الكتاب المقدسة تربكنا (نحن الاثنين)… لكن إذ اجتمعنا معًا وبدأنا نظهر أفكارنا في نقاش عام، ظهر بعضها باتفاق عام إنها مضرة، مع أنها كانت تبدو قبلاً مضيئة كالنور وذلك بخداع شيطاني حتى يسبب نزاعًا بيننا بسهولة… بهذا نُزع عنا كل مشاجرة، وقد سن لنا الآباء الشيوخ ما هو في قوة القانون: إنه لا يجوز لأحدنا أن يعتمد على حكمه الخاص متجاهلاً رأي أخيه، وذلك إن أردنا التحفظ من خداع مكر الشيطان.

 11- من يعتمد على رأيه الشخصي لا يسلم من خداع الشيطان

 لقد تأكد قول الرسول حقيقة “الشيطان نفسهُ يغيّر شكلهُ إلى شبه ملاك نورٍ” (2كو14:11)، إذ يبث بخداع أفكار الظلمة المشوشة بوفرة بدلاً من نور المعرفة الحقيقة.

 فإن لم نتقبل الأفكار بقلب متواضع وديع، ونأخذ في اعتبارنا رأي المختبرين والآباء الشيوخ، فاحصين إياها حسب حكمهم فننبذها أو نقبلها، بالتأكيد نقبل في أفكارنا ملاك الظلمة بدل ملاك النور ونُصاب بخراب خطير.

 من يعتمد على حكمه الخاص يصيبه ضرر لا يمكن تجنبه ما لم يصر محبًا وتابعًا الاتضاع الحقيقي، متممًا بانسحاق قلب ما يصلى من أجله الرسول كأمر رئيسي قائلاً: “فإن كان وعظ ما في المسيح، إن كانت تسلية ما للمحبَّة، إن كانت شركة ما في الروح، إن كانت أحشاء ورافة فتّمموا فرحى حتى تفتكروا فكرًا واحدًا، ولكم محبة واحدة، بنفسٍ واحدة، مفتكرين شيئًا واحدًا لا شيئًا بتحزُّبٍ أو بعُجبٍ، بل بتواضعٍ، حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم”، “وادّين بعضكم بعضًا بالمحبَّة الأخويَّة. مقدّمين بعضكم بعضًا في الكرامة” (في1:2-3، رو10:12)، حتى يهتم كل واحد بالأكثر بمعرفة أخيه وقداسته، ويرى أن النصيب الأفضل للتمييز الحقيقي هو أن يهتم الإنسان بحكم الغير وليس بحكمه هو.

12- لا تحتقر الأصاغر أثناء المناقشات

 يحدث أحيانًا بتصورٍ شيطاني أو نتيجة خطأ بشري أن يخطئ إنسان حاذق في الفهم ومتعلم. بينما يتقبل من هو قليل الفهم والأقل في الاستحقاق أمورًا بصورة أكثر صدقًا وبطريقة أفضل. لذا لا يليق بإنسان، مهما كان متعلمًا، أن يندفع في مجده الباطل، ظانًا أنه غير محتاج للمناظرة مع غيره. فإنه وإن لم يخدعه الشيطان فيعمي حكمه إلا أنه لا يقدر أن يتجنب شباك الكبرياء والغرور المهلكة. لأنه من يقدر أن يدعى لنفسه هذا من غير أن يصيبه خطر عظيم، بينما نجد الإناء المختار نفسه، الذي كما أكد أن فيه يتكلم المسيح نفسه، يعلن أنه في بساطة ذهب إلى أورشليم من أجل هذا السبب، مناقشًا مع زملائه الرسل بخصوص الإنجيل الذي بشر به للأمم حسب إعلان الرب له ومعونته؟!

 بهذا يظهر إنه يلزمنا أن نحفظ الوفاق والاتحاد ليس فقط من أجل هذه الوصايا (السابق ذكرها)، وإنما لئلا ننخدع بحيل الشيطان ونسقط في شباكه المنصوبة لنا.

13- الحب ليس فقط صفة للّه إنما هو الله

 سامية هي فضيلة الحب المبجلة، إذ يعلن الرسول الطوباوي يوحنا أنها ليس فقط تُنسب لله بل هي الله: “الله محبَّه ومَن يثبت في المحبَّة يثبت في الله والله فيهِ” (1يو16:4).

 هكذا نرى المحبة إلهية، حتى أننا نجد ما قاله الرسول حق حي وواضح فينا، “لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5:5). وكأنه يقول أن الله قد انسكب في قلوبنا بالروح القدس الساكن فينا، هذا الذي إذ لا نعرف ما نصلي لأجله “يعين ضعفاتنا… ولكن الروح نفسهُ يشفع فينا بأَنَّاتٍ لا يُنطَق بها، ولكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح، لأنهُ بحسب مشيئَة الله يشفع في القديسين” (رو26:8، 27).

14- درجات الحب

يمكن إظهار الحب الذي يتكلم عنه الرسول قائلاً: “فإذًا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيَّما لأهل الإيمان” (غلا10:6). إننا نحب آباءنا بطريقة، وزوجاتنا بطريقة، وأولادنا بطريقة ثالثة. فهناك فارق شاسع بين مشاعر المودة وبعضها البعض. بل نجد أن حب الآباء نحو أولادهم ليس متساوٍ على الدوام. ويظهر ذلك في حالة الأب[2] يعقوب، الذي كان أبًا لأثني عشر ابنًا، أحبهم جميعًا بحب أبوي، غير أن مودته ليوسف كانت أعمق كما جاء في الكتاب المقدس: “فلما رأَي اخوتهُ أن أباهم أحبَّهُ أكثر من جميع اخوتهِ أبغضوهُ..” (تك4:37). واضح أن ذلك الرجل لم يفشل في تقديم حب عظيم لبقية أولاده، إنما مودته التصقت بالأكثر بهذا الابن في حنو ولطف أعظم، وذلك بكونه رمزًا للرب.

 هذا الأمر نجده أيضًا بوضوح بالنسبة ليوحنا الإنجيلي الذي يُقال عنه: “كان يسوع يحبُّهُ” (يو23:13). فبالرغم من أن الرب قد احتضن الإحدى عشر الآخرين الذين اختارهم بنفس الطريقة التي اختاره بها، وقد وهبهم حبه الخاص كما جاء بشهادة الإنجيل: “وصيَّة جديدة أنا أعطيكم أن تحبُّوا بعضكم بعضًا، كما أحببتكم أنا تحبُّون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا” (يو34:13). “إذ كان قد أحبَّ خاصَّتهُ الذين في العالم أحبَّهم إلى المنتهى” (يو1:13)، فحبه لشخص معين بطريقة خاصة لا يعني عدم محبته لبقية التلاميذ، وإنما أظهر حبًا تامًا غزيرًا تجاه هذا الواحد، بسبب امتيازه بالبتولية ونقاوة جسده التي وهبت له. لهذا رعاه بمعاملة استثنائية كما لو كان له سمو خاص، ليس لأن هناك كراهية تجاه الآخرين، بل لوجود نعمة غنية أوفر للحب المميز.

 نجد أيضًا شيئًا من هذا القبيل في شخصية العروس في نشيد الأناشيد، حيث تقول: “عَلَمُهُ فوقي محبة” (نش4:2).

15- عدم تهدئة الضمير بالابتعاد عمن يغضبون عليهم

 إننا نعلم – وليتنا ما كنا نعلم – أن بعض الاخوة قساة وعنيدين. هؤلاء إذ يعرفون أن مشاعرهم قد ثارت ضد اخوتهم، أو أن اخوتهم ثارت مشاعرهم ضدهم، يعالجون هذا التكدير الذهني بالابتعاد عنهم، مع أنه كان يلزم أن يلاطفوهم ويتحدثون معهم باتضاع… وإذ يظنون إنهم يلطفون الأفكار المرة التي ثارت في قلوبهم، يزيدونها خلال هذا السلوك المملوء سفاهة، الأمر الذي كان يمكنهم التخلص منه للحال لو أظهروا اهتمامًا أكثر باخوتهم، واتضاعًا أمامهم. لأن التعبير عن الأسف المناسب في حينه يشفي مشاعرهم ويلطف قلوب اخوتهم.

 إنهم بهذا السلوك ينعشون خطية الدناءة، ويتممون خطية الكبرياء بدلاً من سحق كل بواعث النزاع، متجاهلين وصية الرب القائل: “وأما أنا فأقول لكم أن كل من يغضب على أخيهِ باطلاً يكون مستوجب الحُكم. ومن قال لأخيهِ رَقا يكون مستوجب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنَّم. فإن قدَّمت قُربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك فأترك هناك قُربانك قُدَّام المذبح واذهب أولاً أصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعال وقدِّم قُربانك” (مت22:5-24).

16- لا تتجاهل تكدر أخيك تجاهك

 هكذا ربنا غيور جدًا ألا نتجاهل تكدر الغير علينا، حتى إنه لا يقبل تقدمتنا متى كان أخونا لديه شيء ضدنا، بمعنى إنه لا يسمح لنا أن نقدم له صلواتنا ما لم يتم إصلاح سريع بنزع التكدر الذي في ذهن أخينا تجاهنا، سواء كان على حق أو باطلا.

 لأن الرب لم يقل: “أن لأخيك أساس سليم لشكواه ضدك”، بل قال: “وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك فأترك هناك قُربانك قُدَّام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك”، بمعنى إنه إن كان يوجد شيء – مهما كان صغيرًا أو تافهًا – يغضب أخيك عليك، وهذا تذكرته فجأة، يلزمك ألا تقدم قربان صلواتك الروحي إلا بإصلاح مملوء حنوًا، بنزع الكدر من قلب أخيك مهما كان سببه.

 فإن كانت كلمات الإنجيل تأمرنا أن نهدئ أولئك الذين هم غاضبين علينا لأسباب قديمة ولأمور تافهة… فماذا يكون شقاؤنا نحن الذين بنفاق عنيد نهمل الغضب القائم حاليًا، وقائم بسبب أمور خطيرة، ويرجع سببه إلى أخطائنا نحن؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ لكن إذ نحن متعجرفون بكبرياء الشيطان نتحرج من أن نتواضع، متذكرين أننا نحن السبب في تكدر أخينا. هكذا بروح متمردة نستهين بالخضوع لوصايا الرب، متذمرين عليها ظانين أنها مستحيلة التنفيذ. وإذ نضع في ذهننا أن الرب أوصانا بأمور مستحيلة غير مناسبة نصير كقول الرسول لسنا عاملين بالناموس بل ديانين له (يع11:4).

17- احتمل أخاك كما تحتمل أهل العالم

 يلزمنا أن ننتحب هذا الأمر بمرارة، وهو أن بعض الاخوة عندما يغضب عليهم أحد وينطق ضدهم بكلمات مخزية، فإذ يستسمحهم… يقولون للحال إنه لو كان إنسانًا وثنيًا أو يحيا حياة عالمية لاحتملوه، كما لو كان الاحتمال من جانبنا يكون بالنسبة لغير المؤمنين والمجدفين فقط ولا نحتمل الجميع. أو كأن الغضب يحسب شريرًا متى كان ضد إنسان وثني، وصالحًا لو كان ضد أحد الاخوة (المؤمنين)، مع أن الغضب المملوء عنادًا يجلب بالتأكيد ضررًا للنفس الغضوبة أيا كان الشخص الذي نغضب عليه.

 يا له من عناد مرعب! نعم وفيه جمود‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! لأنه بسبب غباوة أصحاب الأذهان البليدة لا يقدرون على تمييز تلك الكلمات، إذ لم يقل: “كل من يغضب على غريب باطلاً يكون مستوجب الحُكم”، بل قال: “كل من يغضب على أخيهِ باطلاً يكون مستوجب الحُكم”.

هكذا إن كنا نرى إنه بحسب قانون الحق أن كل إنسان هو أخ، إلا أنه في هذه العبارة تحمل كلمة “أخ” معنى الإنسان المؤمن والشريك معه في طريق الحياة أكثر مما تعنيها بخصوص الوثني.

18- لا تثر أخاك بالصمت

 لكن ما هذا؟! فإننا نظن أحيانًا أننا صابرون، وذلك لأنه عندما نُثار نحتقر الغير بعدم إجابتنا عليه. بصمتنا الكئيب أو خلال حركات السخرية وبالإيماءات نهزأ باخوتنا الغاضبين، حتى نثيرهم بنظراتنا الصامتة أكثر مما لو كنا قد غضبنا معهم ثائرين. في هذا نظن أننا غير مخطئين أمام اللّه لأننا لم نسمح لكلمة أن تخرج من شفاهنا، هذه التي توصمنا بوصمة العار أمام الناس وتديننا، كأن الله لا يهتم إلا بالكلمات غير مبالٍ بإرادتنا الخاطئة. وكأنه ينظر إلى تصرفنا الخارجي لعمل الخطية لا إلى رغبتنا ونيتنا المخطئتين. أو كأننا نُسأل في يوم الدينونة فقط على ما نفعله دون أن نُسأل عن نية الفعل…

 في هذا كأنه يكفي للإنسان أن يحتج بأنه لم يدفع الأعمى بيديه ليسقط، مع أن الجريمة متساوية حينما يزدرى بإنقاذه متى رآه في طريقه للسقوط في هوة وفي إمكانه أن يرشده ولم يفعل! أو كأن المجرم هو من يُمسك مرتكبًا الجريمة، ولا يُحاسب من دبر الجريمة وخططها!

 إذن باطلاً نلجم ألسنتنا إن كان صمتنا يقوم بنفس الدور الذي يقوم به الصراخ. وبواسطة إيماءاتنا الكاذبة نجعل ذاك الذي نشفيه في حالة أكثر غضبًا، بينما يمتدحنا الناس من أجل هذا… وبهذا يكون الإنسان أكثر إجراما، لأنه يحاول أن يمجد نفسه على حساب سقوط أخيه…

غالبًا ما يثير الصبر المتصنع الغضب بأكثر حذاقة مما يثيره الكلام. وبالصمت المؤذي يزيد شتائم الغير بطريقة أكثر مما يثيرها الكلام، وجراحات الأعداء تُحتمل بأكثر سهولة من مداهنة الساخرين المملوءة مكرًا، والتي قيل عنها حسنًا بالنبي: “ليأسر رؤَساءهُ حسب إرادتهِ” (مز 22:105). وفي موضع آخر قيل: “كلام النَّمام مثل لُقَم حلوة فينزل إلى مخادع البطن” (أم 22:26). هنا ينطبق القول: “لسانهم سهم قتال يتكلم بالغش. بفمهِ يكلم صاحبهُ بسلام وفي قلبهِ يضع لهُ كمينًا” (إر 8:9). وعلى أي الأحوال هو يخدع الغير إذ “الرجل الذي يطري صاحبهُ يبسط شبكة لرجليهِ” (أم 5:29).

 أخيرًا عندما جاءت جموع كثيرة بسيوف وعصي للقبض على الرب، لم يكن أحد من المجرمين في حق واهب الحياة أكثر قسوة من ذاك الذي تقدم باحترام مملوء خداعًا وتكريمًا فاسدًا مقدمًا قبلة حب غاش، هذا الذي قال له الرب: “يا يهوذا أَبقُبلةٍ تسلّم ابن الإنسان؟!” (لو48:22).

19- لا تُضرب عن الطعام بغضب

 يوجد نوع آخر من التكدر الشرير، الذي ما كان يستحق الإشارة إليه لولا معرفتنا أن بعض الاخوة يسمحون لأنفسهم به. هؤلاء الذين عندما يتكدرون يضربون عن الطعام حتى أننا (للأسف الأمر الذي لا يمكنني أن أذكره بغير خجل) نجد أولئك الذين في وقت هدوئهم يعلنون عجزهم عن الصوم أكثر من الساعة السادسة أو التاسعة، إذ بهم في وقت غضبهم لا يشعرون بالجوع لمدة يومين أو أكثر، فيزدادون زهدًا بواسطة تخمة الغضب.

هؤلاء بلا شك يدنسون الأمور المقدسة (الأصوام) كما لو كانت خارجة عن غضب شيطاني، محتملين أصوامًا كان ينبغي أن تقدم  لله وحده بتواضع قلب ونقاوة من الخطية، لكنهم يقدمون الصلوات والتقدمات للشياطين. وبهذا يكونون مستحقين لتوبيخات موسى القائل: “ذبحوا لأوثان ليست الله، لآلهةٍ لم يعرفوها أحداثٍ قد جاءَت من قريب لم يرهبها آباؤُكم” (تث17:32).

20- لا تقدم الخد الآخر بخد مزيف

 إننا لا نجهل نوعًا آخر من انحراف العقل الذي نجده في بعض الاخوة تحت لون من الصبر المزيف. هؤلاء لا يكتفون بإثارة المنازعات حتى يثيرون الآخرين لكي يضربونهم، لكنهم إذا ما ضُربوا بضربات خفيفة يقدمون أجزاء أخرى من جسمهم للضرب ليثيروا من هم حولهم، وهم يحسبون إنهم بهذا يحققون الكمال المأمور به في القول: “مَنْ لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل لهُ الآخر أيضًا” (مت39:5)، هؤلاء يجهلون معنى الآية وغايتها، ظانين إنهم ينفذون الصبر الوارد في الإنجيل أن لا نقاوم الشر بالشر ولا التهيج بمثله، وإنما قُدمت لنا الوصية لكي نسّكن غضب الضارب باحتمالنا ضعفه (وليس بإثارتنا له لكي يضربنا).

21- جرمانيوس: كيف يمكننا أن نلوم إنسانًا ينفذ وصية الإنجيل ولم يقابل الشر بمثله بل استعد لاحتمال خطأ مضاعف؟

22- يوسف: كما سبق أن قلنا منذ قليل إنه يلزمنا ألا ننظر إلى الأمر من جهة العمل ذاته بل نية الفاعل وطريقة تفكيره فإذا ما وُزنت فعل الإنسان، فاحصًا قلبه بتدقيق ومشاعره التي نبع عنها الفعل، فسترى إنه لا يمكن أن تتم فضيلة الاحتمال واللطف في الروح المضاد أي خلال عدم الاحتمال والغضب (الخفي).

 لهذا عندما أعطانا ربنا ومخلصنا درسًا كاملاً بخصوص فضيلة الاحتمال واللطف (أي يعلمنا لا أن نعترف بها بلساننا إنما نخزنها في أعماق نفوسنا الداخلية) وهبنا ملخصًا للكمال الإنجيلي قائلاً: “وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرّ. بل مَنْ لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل لهُ الآخر أيضًا” (مت39:5). (وإذ أشار إلى الخد الأيمن، فهذا لا يمكن أن يحدث إلا في وجه الإنسان الداخلي) [3]، ولهذا يرغب الرب أن ينزع عنا كل مثيرات الغضب من أعماق النفس الداخلية نزعًا تامًا. بمعنى إن كان خدك الأيمن الخارجي يستقبل لطمة من الضارب، فليقبل الإنسان الداخلي باتضاع أن يتقبل الضربة على خده الأيمن. بهذا يحتمل الإنسان الخارجي بلطف، ويخضع الجسد لمضايقات الضارب فلا يضطرب الإنسان الداخلي…

 لقد رأيت كيف أن هذا بعيد كل البعد عن الكمال الإنجيلي الذي ينادى بالثبات في الصبر، لا بالكلام بل في هدوء القلب الداخلي. ويأمرنا أن نحفظ هذا مهما أصابنا من شرور، حتى أننا ليس نحفظ أنفسنا على الدوام بغير غضب مقلق، بل وبخضوعنا لأذيتهم نجبرهم أن يهدأوا عن اضطرابهم بتتميمهم اللطم الثاني، وهكذا بلطفنا نقهر غضبهم… هكذا أيضًا تتحقق كلمات الرسول: “لا يغلبنَّك الشرُّ بل اغلب الشرَّ بالخير” (رو21:12).

 واضح أن هذا لا يقدر أن ينفذه من ينطق بكلمات اللطف والاتضاع بروح كهذه مملوءة غضبًا، حتى إنهم ليس فقط يفشلون في إطفاء نار الغضب الملتهبة، بل بالأحرى يشعلونها بأكثر قسوة، سواء في مشاعرهم أو مشاعر أخيهم الثائر.

 هؤلاء حتى وإن حفظوا هدوءً لأنفسهم لكنهم لا يحملون أي ثمر للبر. وبينما هم يدّعون الصبر من جانبهم على حساب هلاك قريبهم، يستبعدون المحبة الرسولية التي: “لا تطلب ما لنفسها” (1كو5:13)، لأن المحبة لا تطلب هذا الغنى لنفعها الخاص على حساب هلاك القريب، ولا ترغب في ربح شيء على حساب خسارة الغير.

23- قوة الإنسان وشهامته تكمن في خضوعه لإرادة غيره

 يلزمك بالتأكيد أن تعرف بصورة عامة أن من يخضع لإرادة أخيه يكون أقوى من الذي يتمسك متشبثًا بعنادٍ مدافعًا عن آرائه الخاصة. الأول باحتماله أخيه ومساعدته يربح صفة القوة والحيوية، أما الثاني فيقتني الضعف والمرض…

 لا يظن الأول أنه فقد شيئًا من كماله بالرغم من خضوعه وتركه شيئًا من دقته التي يهتم بها، بل ليتأكد أنه ربح ما هو أعظم: فضيلة الصبر وطول الأناة. هذه هي وصية الرسول: “فيجب علينا نحن الأقوياءَ أن نحتمل أضعاف الضعفاءِ ولا نُرضِى أنفسنا” (رو1:15) و”احملوا بعضكم أثقال بعضٍ، وهكذا تّمموا ناموس المسيح” (غلا2:6). لأن الإنسان الضعيف لا يقدر أن يعين الضعيف، ولا من يعانى من أمر يقدر أن يشفي عليلاُ مثله. أما من كان غير خاضعٍ للضعف فهذا يستطيع أن يقدم علاجًا للضعيف، إذ قيل: “أيُّها الطبيب اشفِ نفسك” (لو23:4).

24- عجز الضعيف عن احتمال غيره

 يجدر بنا أن نلاحظ هذه الحقيقة أيضًا، وهى أن طبيعة الضعفاء إنهم متسرعون ومستعدون على الدوام أن ينتهروا ويبذروا بذار المنازعات، بينما هم أنفسهم لا يقدرون أن يحتملوا أن يمسهم أحد بأقل ضرر بسيط. وبينما هم لا يبالون بالغير، ينشرون بتسرع وصايا يعجزون عن احتمال أخفها.

 لهذا حسب فكر الآباء الشيوخ السابقين أن الحب لا يمكن أن يبقى ثابتًا غير منكسر إلا بين أشخاص متشابهين في الهدف والصلاح، لأنه سينكسر حتمًا، في وقت أو آخر، مهما بذل طرف واحد فقط من عناية.

25- سؤال

 جرمانيوس: إذن كيف يمكن مدح الصبر الذي للرجل الكامل إن كان لا يحتمله الضعفاء على الدوام؟

26- يوسف:

 إنني لم أقل أن فضيلة الإنسان وصبره سيُقهران، لكن بؤس الإنسان الضعيف يزداد بواسطة طول أناة الرجل الكامل، وبزيادته في شره لا يقدر هو أن يحتمل شيئًا… غير أن الذي يرغب في حفظ مودة زملائه دون أن تنحل، بمعنى إنه عندما يُثار بأي خطأ (من الغير)، يلزمه أن يحفظ شفتيه، بل ويحفظ أعماق صدره بغير اضطراب. وإن وجد أنهم (شفتيه وصدره الداخلي) يضطربون اضطرابًا خفيفًا، يحفظ نفسه في صمتٍ كاملٍ ويلاحظ باجتهاد ما يقوله المرتل: “صَمتُّ صمتًا، سكَتُّ عن الخير، فتحرَّك وجعي. حمي قلبي في جوفي. عند لهجي اشتعلت النار. تكلمت بلساني” (مز 2:39، 3).

 يلزمه أيضًا ألا ينظر إلى حالته الحالية ولا يعطى بالاً لما يقترحه عليه غضبه العنيف وذهنه الثائر… إنما يجدر به أن يعيش في نعمة الحب الماضية، أو يتطلع بذهنه إلى المستقبل، إلى السلام الذي سيعود، بتأمله في ساعة غضبه ذاتها، كما لو كان قد عاد السلام بينهما فعلاُ. وبينما يحفظ نفسه ببهجة الاتفاق الآتي لا يشعر بمرارة النزاع الحاضر، وبسهولة يمكنه أن يقدم مثل تلك الإجابات (اللطيفة)…

27- كيف يمكن قمع الغضب؟

 يجدر بنا أن نقمع كل حركة من حركات الغضب ونلطفها تحت إرشاد التمييز (الحكمة)، حتى لا نتهور بالغيظ الأعمى، الأمر الذي قال عنه سليمان: “الجاهل يظهر كل غيظهِ، والحكيم يسكنهُ أخيرًا” (أم 11:29). بمعنى أن الإنسان الجاهل يلتهب بانفعال الغضب لينتقم لنفسه، أما الحكيم فبسبب نضوج مشورته ولطفه يطفئ الغضب شيئًا فشيئًا ويتخلص منه.

 يقول الرسول أمرًا مشابهًا: “لا تنتقموا لأنفسكم أيُّها الأحباءُ، بل أعطوا مكانًا للغضب. لأنهُ مكتوب لي النقمة أنا أجازى يقول الربُّ” (رو 19:12). بمعنى لا تسمحوا لقلوبكم أن تُحبس في مضايق عدم الصبر والجُبن، حتى متى ثارت أية عاصفة عنيفة للغضب لا تقدر أن تحتملها، لكن لتكن قلوبكم متسعة تتقبل موجات كلمات الغضب في تيارات الحب المتسعة التي “تحتمل كلَّ شيءٍ… وتصبر على كل شيءٍ” (1 كو 7:13). وهكذا تتسع أذهانكم بطول الأناة والصبر ويكون فيه أعماق المشورة الأمينة التي تستقبل دخان الغضب وتبيده.

 يمكن أن تفهم العبارة بالمعنى التالي: إننا نضع مكانًا للغضب وذلك بقدر ما نخضع بذهنٍ متواضعٍ هادئ لانفعال الآخرين، وننحني لعدم صبر الثائرين، كما لو كنا نستحق كل صنوف الخطأ (كتأديب لنا).

 أما الذين يشوهون معنى الكمال الذي يتحدث عنه الرسول مفسرين “وضع مكان الغضب” بأنه الابتعاد عن الإنسان في وقت غضبه، يبدو لي إنهم بهذا لا يقطعون أسباب الغضب بل يهيجون بواعث النزاع. لأنه ما لم نصلح غضب القريب في الحال بإصلاحٍ مملوء تواضعًا فإن الابتعاد يثير القريب أكثر…

 يتكلم سليمان عن أمرٍ كهذا قائلاً: “لا تسرع بروحك إلى الغضب، لأن الغضب يستقر في حضن الجهال” (جا 9:7). و”لا تبرز عاجلاً إلى الخصام لئَلاَّ تفعل شيئًا في الآخر حين يخزيك قريبك” (أم 8:25). وهو بهذا لا يلوم التسرع في النزاع بمعنى أنه يمدح النزاع المتأخر.

 بنفس الطريقة يجب أن نفهم القول: “غضب الجاهل يُعرَف في يومهِ. أما ساتر الهوان فهو ذكيّ” (أم 16:12)، لأنه لا يعنى أن الحكيم يخزن انفجار الغضب خفية، إنما يلوم انفجار الغضب المتهور… يلزمه أن يخفي الانفجار بهذا السبب، وهو إنه بينما يتركه إلى حين يهدأ روح الغضب إلى الأبد. لأن هذه هي طبيعة الغضب، عندما يترك له مكان (أي لا نتسرع به) يضعف ويبيد أمـا إذا عُرض الغضب في حالة الثورة فإنه يحرق أكثر فأكثر.

يجب على القلوب أن تتسع وتنفتح حتى لا تنحصر في مضيقات الجُبن وتمتلئ بالغضب المتزايد، وتصير قادرة أن تتقبل وصايا الله بما يدعوه النبي “(اتساع القلب) أو الاتساع الفائق”. إذ يقول النبي: “في طريق وصاياك سعيت عندما وسعت قلبي” (مز 32:119).

 لأن بطء الغضب هو حكمة، نتعلمها بواسطة أقوال الكتاب المقدس الواضحة لأن “بطيء الغضب كثير الفهم، وقصير الروح معلّي الحمق” (أم 29:14). لذلك يقول الكتاب المقدس عن الشخص الذي طلب من الرب عطية الحكمة: “وأعطى اللّه سليمان حكمةً وفهمًا كثيرًا جدًّا ورحبة قلب كالرمل الذي على شاطئِ البحر” (1 مل 29:4).

28- خاتمة

 هذا أيضًا ما تبرهنه لنا الخبرات الكثيرة أن الذين دخلوا في رباطات الصداقة خلال رباط شرير، لا يمكنهم أن يحفظوا اتفاقهم بغير انحلال، إما لأنهم حاولوا حفظه بعيدًا عن رغبتهم في الكمال، أو لعدم تأسيسه على الحب الرسولي بل على حب أرضي… أو لأن عدونا (الشيطان) المملوء دهاء يعجلهم بالتهور في كسر سلاسل صداقتهم حتى يجعلهم حانثين لوعدهم.

 هذا الفكر تأسس بأكثر تأكيد بواسطة أعظم الرجال حنكة، وهو أن الاتفاق الحقيقي والوحدة غير المنحلة يمكن أن توجد فقط بين الذين يحيون حياة نقية ومتشابهين في الصلاح والهدف.

 هكذا تحدث يوسف الطوباوي بحديث روحي بخصوص الصداقة، وقد ألهب الاشتياق بالأكثر نحو حفظ الحب الذي لزمالتنا لكي يبقى على الدوام.

ملخص المبادئ

الصداقة الدائمة هي التي يرتبط فيها الأعضاء مع بعضهم البعض في شخص الرب يسوع.

لا يمكن أن تدوم الصداقة ما لم تكن الأطراف متشابهة في الهدف ومتساوية في الصلاح والفضيلة.

أسباب فشل الصداقة بين الجسدانيين هو محبة الأمور الزمنية، وأسباب فشل الصداقة بين بعض الروحانيين هو ما يبثّه العدو من اختلاف الفكر.

لهذا يلزمنا

1- أن نرفض محبة العالم وكل ما فيه.

2- ألا نعتمد على حكمنا الخاص وإرادتنا ولا نتشبث بآرائنا.

الإنسان المتشبث بآرائه لا يسلم من خداعات العدو، والإنسان الذي يخضع لرأي أخيه وينصت لمن هم أقل منه إنسان قوى.

صور مستترة للغضب وعدم محبة الغير:

 1- الابتعاد عن الذين بيننا وبينهم نزاع بقصد إثارتهم.

مع أن الله ينظر إلى القلب لا إلى مجرد النزاع الخارجي.

 تأمرنا الوصية أن نهتم بأخينا الذي يحمل غضبًا تجاهنا، حتى ولو كان بغير سبب.

 2- يستخدم البعض الصمت لإثارة الآخرين أكثر مما يثيرهم الكلام. لأنه وإن ظهر أمام الناس بلا عيب لكنه يُهلك أخيه بإثارته بصمته.

 3- الإضراب عن الطعام بغضب.

 4- يقدم البعض الخد الآخر لإثارة الغير وليس لتلطيف غضبه.


[1] مناظرة 11 أو الأولى من الكتاب الثاني.

[2] الترجمة الحرفية “البطريرك” إذ تعتبر الكنيسة الآباء الأولين إبراهيم واسحق ويعقوب بطاركة.

[3] لأن الإنسان حينما يُضرب إنما يضرب على خده الأيسر.

Keluar dari versi seluler