أ – غرباء وضيوف
يحيا الإنسان، بعد السقوط، بعيداً عن البيت الأبوي، فيصفه الكتاب المقدّس بـ “الغريب” و”الضيف” (تك23: 4، لاو25: 23، 1 أخ29: 15، مز38: 13، 1 بط1: 1)، لأن وطنه الحقيقي هو محبة الله المثلَّث الأقانيم التي سقط منها آدم، ويعود إليها بواسطة المسيح، فيحيا مجدَّداً في ملئها، ويصير مواطناً في ملكوت السموات، أي في مملكة الآب والابن والروح القدس.
تقرِّبنا المعموديّة المقدَّسة من “جماعة الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السموات” (عب12: 23)، ونصير من “أبناء وطن القدّيسين ومن أهل بيت الله” لأننا قد بُنينا “على أساس الرسل والأنبياء، وحجر الزاوية هو المسيح يسوع نفسه، لأن به يُحكم كل بناء ويرتفع ليكون هيكلاً مقدَّساً في الربّ” (أف2: 19-21). لذلك يؤكد الرسول أن وطننا الحقيقي “في السموات، ومنها ننتظر مجيء المخلِّص يسوع المسيح الذي يبدِّل جسدنا الحقير فيجعله على صورة جسده المجيد بما له من قدرة يُخضع بها كل شيء” (فيل3: 20-21)، “لأنه ليس لنا مدينة باقية، وإنما نسعى إلى مدينة المستقبل” (عب13: 14).
تتّصف حياتنا المقبلة بالثبات، أمّا حياتنا الحاضرة فتوصف بأنها “ظرفية”: “حياة الإنسان على الأرض تجنّد، وكأيام أجير أيامه” (1 يو7: 1، فيل1: 21-24، 2 كو5: 8-9، 2 تيم4: 6، الجامعة12: 7). وقد عاش المسيحيّون الأوائل هذه الحقيقة بكافة نتائجها. ونجد في الرسالة إلى ذيوغنيتوس، وهي نص قديم، تمييزاً للمسيحيين عن سائر الناس: “لا يختلف المسيحيّون عن سائر البشر بالمكان الذي يقطنونه، ولا باللغة التي يتكلمونها، أو العادات التي ألفوها. فهم لا يقطنون مدناً خاصة، ولا يتحدّثون بلهجة مختلفة، ولا يحيون عادات مغايرة… صحيح أنهم يقطنون مدناً يونانية وبربرية، حسب إقامة كل منهم، ويتبعون العادات المحلّية في ملبسهم وطعامهم وسائر ضرورات معيشتهم، ولكنهم يحيون حياة غريبة ومدهشة بالفعل. يقطنون أوطانهم، فتحسّ أنهم ضيوف مؤقتون أو سكان راحلون. وقد يشاركون مواطنيهم في كل شيء، إلاّ أنهم يعتبرون أنفسهم غرباء. البلد الغريب موطنهم، وموطنهم كالبلد الغريب… يحملون الجسد ولا يحيون حسب الجسد. يجتازون حياتهم على الأرض ولكنهم من سكان السماء”.
ويخاطب القديس يوحنا الذهبي الفم مسيحيّ عصره قائلاً: “ألاّ تعلم أن هذه الحياة غربة؟ أتظن أنك تقطن هذه المدينة أو غيرها إلى الأبد؟ إنك مسافر. هل تفهم ما أقوله لك؟ لستَ ساكناً دائماً، وما أنت سوى رحّالة وعابر سبيل. لا تقل لي إنك من هذه المدينة أو تلك، فليس لأحد مدينة هنا، لأن المدينة موجودة في “العلاء”. الحياة الحاضرة مسيّرة. فلنسر، إذن، يومياً بقدر ما تسمح طبيعتنا. هل قابلتم إنساناً واحداً يخفي ماله وهو مسافر؟ وهل ثمة من يخفي ماله وهو في الطريق؟ قل لي، إذا دخلت فندقاً فهل تجلس وتزيّنه أو تصلّح فيه أي شيء آخر؟ أفلا تأكل وتشرب وتسرع بالذهاب؟.
هذه الحياة ليست سوى فندق. ندخلها ونقضي فيها حياتنا الحاضرة كلها. ولكننا نجتهد كي نرحل عنها بأمل طيّب. فعلينا ألاّ نترك هنا أي شيء يمكن أن نفتقده هناك. إذا دخلت فندقاً أفلا تقول للخادم: احرص على وضع أمتعتي في مكان جيّد. ولا تترك شيئاً منها هنا حتى لا يضيع، ولو كان أصغر الأشياء وأتفهها، بل انقل كل شيء إلى غرفتي؟ وهذا ما يجب أن تفعله في هذه الحياة. فلنعتبرها فندقاً ولا نتركنّ فيه شيئاً، بل ننقله إلى وطننا الثابت الباقي.
“أنت مسافر وعابر سبيل، والأحرى أنك أقل من مسافر. أتتساءل: كيف ذلك؟ سأقول لك. أن المسافر يعرف متى يأتي الفندق ومتى يخرج منه، لأنه هو من يحدّد موعد مجيئه وذهابه. أمّا نحن فندخل الفندق، حياتنا الحاليّة، دون أن نعلم متى سنخرج منه. وكثيراً ما نهيّئ مآكل لزمن طويل، وفي اللحظة عينها يدعونا السيّد إلى جواره… الخروج غير معروف، والثروة غير ثابتة، والأخطار كثيرة، والأمواج تخبط في كل مكان، وأنت قد تعلّقت كمجنون بأشياء باطلة وبظلال. فما بالك تترك الحقيقة وتطارد الأوهام؟”. (1)
تساءل القديس أنطونيوس الكبير يوماً: “يا ربّ، لماذا يموت البعض في سن الشباب، ويصل آخرون إلى سن شيخوخة طاعنة؟ لماذا يفتقر البعض، ويغنى آخرون؟ وكيف يغنى الأشرار ويجوع الصديقون؟” فسمع صوتاً يقول: “يا أنطونيوس انتبه لنفسك. هذه أحكام الله ولا يهمّك أن تعرفها” (أنظر أيوب42: 1-5، الجكمة 2: 1-25، 3: 1-8).
ب – الانتصار على الموت
غالباً ما نقول، في حديثنا عن الموت، إنه أمر طبيعي. والحقيقة أن الموت ليس من طبيعة الإنسان كما خلقها الله. “ليس الموت من صنع الله ولا هلاك البشر يسرّه” (الحكمة1: 13). “فإن الله خلق الإنسان خالداً (2) وصنعه على صورة ذاته. لكن بجسد إبليس دخل الموت إلى العالم” (الحكمة2: 23-24).
الموت هو نتيجة الحالة الجديدة التي انتقل إليها الإنسان بعد السقوط، وسببه الخطيئة. وهكذا صار عدوَّ الإنسان (1كو15: 26)، والخليقة كلها تئنّ وتعاني مع الإنسان منه حتى هذا اليوم (رو8: 21). وطبيعي أن يأمل الإنسان في أن يعود إلى حالته وينجو من الموت. وقد وعد الله بخلاص الإنسان من وبقة الشيطان، وبالتالي من عبوديّة الموت (تك3: 15)، منذ الأيام الأولى للسقوط ولرزوح الإنسان تحت سلطة الموت حيث يسود الشيطان (عب2: 14). وقد تكلّم أنبياء العهد القديم بحماس بالغ على غلبة الموت: “ويبيد (الربّ) الموت على الدوام، ويمسح السيّد الربّ الدموع من جميع الوجوه ويزيل تعيير شعبه من كل الأرض، لأن الربّ قد تكلّم” (أش25: 8). “سأفتديهم من يد الجحيم وأنجّيهم من الموت، وأكون هلاكك أيها الموت، وأكون استئصالك أيتها الجحيم” (هوشع 13: 14).
وقد استخدم بولس الرسول عبارات الظفر عينها في كلامه على هزيمة الموت: “ومتى لبس هذا الكائن الفاسد ما ليس بفاسد، ولبس الخلود هذا الكائن الفاني، تمّ قول الكتاب: “قد ابتلع الظفر الموت”. فأين ظفرك يا موت؟ وأين شوكتك يا موت؟… فالحمد لله الذي آتانا الظفر على يد ربّنا يسوع المسيح” (1كو15: 54-57).
وتصرخ الكنيسة ليلة عيد الفصح: “أين غلبتك أيها الموت؟ أين جبروتك أيها الجحيم؟ لقد قام المسيح وأنت قد ابتلعت!”. بماذا أُبتُلع الموت؟ بالنصر الذي تحقّق في شخص المسيح الذي “شارك “الإنسان” باللحم والدم ليقضي بموته على ذاك الذي يقدر أن يميت، أعني به إبليس، ويعتق الذين ظلّوا طوال حياتهم في العبوديّة مخافة الموت” (عب 2: 14-15). وبكلام آخر، أن النصر قد تحقّق “في جسد المسيح” (أف2: 15)، وهو ليس وقفاً على الأحياء وحدهم، بل إن انحدار المسيح الظافر إلى الجحيم، جعل النصر يشمل إخوتنا الراقدين (1 بط3: 19).
“لقد ملك جحيم الجنس البشري، لكن إلى حين، لأنك قد وُضعت في قبر أيها القويّ. وبكفّك المحيي حطّمت مغاليق الموت، وبشَّرت الذين انحدروا إلى هناك منذ الدهر بخلاص حقيقي، أيها المخلِّص، صائر بكر الأموات” (إحدى التراتيل الأرثوذكسية).
إن قيامة المسيح لم تكن ذات صفات روحيّة وحسب، بل قيامة شاملة كلّية. فقد نهض المسيح “بلحمه وعظامه”، واستطاع الناس أن يروه ويلمسوا جراحه (لو24: 39-40، يو20: 27، رؤ5: 6). وهذا الكلام لا يعني أننا نشدِّد على الناحية الماديّة من القيامة، كما يدّعي أصحاب الضلال، إنما نهدف إلى تأكيد قيامة الربّ بالجسد. أي أن ما رآه التلاميذ لم يكن “روحاً” بل الربّ نفسه، الذي أكّد لهم أنه “لحم وعظام”، ودعاهم إلى لمسه، وطلب منهم أن يأتوه بما يأكله (لو24: 39-42). وقد بشَّر أنبياء العهد القديم بذلك (مز15: 9-10، أع2: 31-32)، وذكره المسيح نفسه حيث تكلّم “على هيكل جسده”: “انقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في ثلاثة أيام” (يو2: 31-32).
في المعموديّة المقدّسة يرتدي المسيحي جسد الربّ الناهض والمنتصر على الموت، وينتمي إلى الكنيسة أي إلى جسد المسيح (غلا3: 27، أف1: 22، كول1: 18-24) ويدخل ملكوت الحياة. فلا يخشى الموت فيما بعد، لأن الربّ نفسه قد أكّد له أن الموت لن يقترب منه (متى16: 18).
ج – القيامة الأولى
“ورأيت أرواح الذين ذُبحوا في سبيل الشهادة ليسوع وسبيل كلام الله وجميع الذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته ولم يُسَموا على جباههم ولا على أيديهم قد عادوا إلى الحياة وملكوا مع المسيح ألف سنة. تلك هي القيامة الأولى… سعيد مقدّس مَن كان له حظ القيامة الأولى، فلا سلطان للموت الثاني عليهم، بل يكونون كهنة الله والمسيح ويملكون معه ألف سنة” (رؤ20: 4-6).
يشير هذا المقطع إلى الأنبياء والصدّيقين الذين عاشوا في العهد القديم، وكانوا أمناء لله، فلم يخضعوا “للوحش”، ولم يُوسَموا على جباههم وأيديهم بـ “علامته” التي ترمز إلى الكفر بالله والخضوع المطلق لأعمال الشيطان، ومنها عبادة الأوثان (مز95: 5). وعلى الرغم من عيشهم في العهد القديم يمكن القول أنهم قد عانوا “لأجل شهادة يسوع لأجل كلمة الله”. ويذكر بولس الرسول أن موسى “آثر أن يشاطر شعب الله عذابه على التمتّع الزائل بالخطيئة، واعتبر عار المسيح أغنى من كنوز مصر، لأنه كان يطمح إلى الثواب” (عب11: 25-26، أنظر مز 88: 51-52). إلاّ أن موسى وجميع رجال العهد القديم القديسين الذين ذكرهم الرسول بأسمائهم وكل “الجمع الغفير من الشهود” (عب11 و12) “لم يحصلوا على الموعد، لأن الله قدّر لنا مصير أفضل من مصيرهم” (عب 11: 40). ولكنهم حصلوا على نصيب في “القيامة الأولى” التي تحققت بانحدار المسيح الظافر إلى الجحيم (3) (1 بط3: 19) وانتصاره على الشيطان وأعماله، فصاروا في شركة مع المسيح، ويملكون معه “ألف سنة”. أي حتى مجيء الربّ وتحقيق “القيامة الثانية” يوم الدينونة العامة.
إن قدّيسي كنيستنا لسعداء حقاً، لأنهم يشتركون بهذه القيامة الأولى ويملكون مع المسيح، ولن يكون لـ “الموت الثاني” أيّة سلطة عليهم، حين يأتي المسيح ثانية ليدين الأحياء والأموات.
ونحن أيضاً نشترك في مجد أبناء الملكوت، لأننا نحيا “في المسيح” من خلال اشتراكنا في أسرار الكنيسة المقدّسة. ففي العماد المقدّس نحصل على نصيب في هذه القيامة الأولى (رو6: 3-11)، ونغدو في شركة مع القديسين مواطني ملكوت الله.
أمّا الألف سنة فلا تشير إلى المستقبل، لأنها بدأت فعلاً بانتصار المسيح على الشيطان، وهزيمة الموت، وستنتهي بالمجيء الثاني. “الحق أقول لكم: في جملة الحضور هنا من لا يذوقون الموت حتى يشاهدوا ابن الإنسان آتياً في ملكوته” (متى16: 28، مر9: 1، لو9: 27، أنظر متى28: 20). الملكوت الألفي الذي ذكرته الرؤيا (20: 4-6) بدأ منذ عهد الرسل، فهو الكنيسة التي بنيت على أساس الرسل والأنبياء، وحجر الزاوية فيها هو المسيح يسوع (أف2: 20). وهكذا فإن المسيحيين الذين نالوا المعموديّة بعد العنصرة، وكل من تعمّد بعدهم، لا يكونون “بعد اليوم غرباء أو ضيوفاً، بل أبناء وطن القديسين ومن أهل بيت الله… ومسكناً لله في الروح” (أف2: 18-20، أنظر غلا3: 27-28، أف4: 4-6، 5: 30، يو10: 16). وبالتالي، فإن أقوال الربّ أن الذين سمعوا كلامه لن يذوقوا الموت حتى يروا ملكوت الله، ليست أقوالاً رمزية، ويجب أن تُفسَّر بأن ملكوت الله قد بدأ لحظة موت المسيح وانحداره إلى الجحيم، فحقَّق بذلك “القيامة الأولى” وجعلنا نحيا في الأيام الأخيرة (متى12: 28، لو11: 20، 17: 21). ولكننا نؤكِّد هنا أن ثمة فرقاً بين أولئك القديسين وبيننا. فنحن قد حصلنا بالمعموديّة على “عربون الروح” (2 كو1: 22، أف1: 14)، ويبقى علينا أن نجاهد من أجل الوصول إلى المشاركة الثابتة في المجد الإلهي غير المخلوق، أي إلى حال القديسين الذين انعتقوا من الخطيئة. ومن هنا يتبيَّن ضلال أولئك الذين يحرِّفون آية الرؤيا (20: 4-6)، فيكونون قد تسبَّبوا في “هلاك نفوسهم” (2 بط3: 16).
د – “أمّا أنفس الصديقين فهي بيد الله”
“فإنهم بزيغ أفكارهم قالوا في أنفسهم: أن حياتنا قصيرة شقيَّة، وليس لممات الإنسان من دواء، ولم يُعْلَمْ قط أن أحداً رجع من الجحيم. أنّا ولدنا اتفاقاً وسنكون من بعد كأنّا لم نكن قط، لأن النسمة في آنافنا دخان، والنطق شرارة من حركة قلوبنا. فإذا انطفأت عاد الجسم رماداً وانحلّ الروح كنسيم رقيق، وما زالت حياتنا كأثر غمامة واضمحلّت مثل ضباب يسوقه شعاع الشمس ويسقط بحرّها. وبعد حين ينسى اسمنا ولا يذكر أحد أعمالنا. إنما حياتنا ظلّ يمضي ولا مرجع لنا بعد الموت، لأنه يختم علينا فلا يعود أحد. فتعالوا نتمتع بالطيبات الحاضرة ونبتدر منافع الوجود ما دمنا في الشبيبة. ونتروّ من الخمر الفاخرة ونتضمخ بالأدهان ولا تفتنا زهرة الآوان. ونتكلّ بالورود قبل ذبوله ولا يكن مرج إلاّ تمرّ لنا فيه لذة. ولا يكن فينا من لا يشترك لذَّاتنا، ولنترك في كل مكان آثار الفرح، فإن هذا حظنا ونصيبنا، لنجر على الفقير الصدّيق ولا نشفق على الأرملة ولا نهب شيبة الشيخ الكثير الأيام. ولتكن قوّتنا هي شريعة العدل، فإنه من الثابت أن الضعف لا يغني شيئاً. ولنكمن للصدّيق فإنه ثقيل علينا يقاوم أعمالنا ويقرّعنا على مخالفتنا للناموس ويفضح ذنوب سيرتنا. يزعم أنه يعلم الله ويسمّي نفسه ابن الربّ. وقد صار لنا عذولاً على أفكارنا. بل منظره ثقيل علينا لأن سيرة حياته تخالف سيرة الناس وسبله تباين سبلهم. قد حسبنا كزيوف فهو يجانب طرقنا مجانية الرجس ويغبط موت الصدّيقين ويتباهى بأن الله أبوه. فلننظر هل أقواله حق ولنختبر كيف تكون عاقبته، فإنه أن كان الصدّق ابن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه. فلنمتحنه بالشتم والعذاب حتى نعلم حلمه ونختبر صبره، ولنقضِ عليه بأقبح ميتة، فإنه سيفتقد كما يزعم. وهذا ما ارتأوه فضلّوا لأن شرّهم أعماهم فلم يدركوا أسرار الله ولم يرجوا جزاء القداسة ولم يعتبروا ثواب النفوس الطاهرة. فإن الله خلق الإنسان خالداً وصنعه على صورة ذاته. لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم، فيذوقه الذين هم من حزبه” (الحكمة2: 1-25).
لقد وُجد في العهد القديم أنس مضلِّلون كرزوا بانتفاء الحياة بعد الموت، ودعوا إلى التمتع بهذه الحياة لأنها وحدها الباقية. ولكنهم أناس ضالّون أعمالهم الشرّ فلم يعرفوا أسرار الله. أمّا نصيب الصدّيقين فليس مشابهاً لنصيب الخطأة: “أمّا نفوس الصدّيقين فهي بيد الله، فلا يمسها العذاب. وفي ظن الجهّال أنهم ماتوا وقد حسب خروجهم شقاء وذهابهم عنّا عطباً، أمّا هم ففي السلام. ومع أنهم عوقبوا في عيون الناس فرجاؤهم مملؤ خلوداً. وبعد تأديب يسير لهم ثواب عظيم لأن الله امتحنهم فوجدهم أهلاً له. محّصهم كالذهب في البودقة وقبلهم كذبيحة محرقة. فهم في وقت افتقادهم يتلألأون ويسمعون سعي الشرار بين القصب. ويدينون الأمم ويتسلّطون على الشعوب ويملك ربّهم إلى الأبد” (الحكمة3: 1-8، أنظر أيضاً أش57: 20). “أمّا المنافقون فسينالهم العقاب الخليق بمشوراتهم إذا استهانوا بالصدّيق وارتدوا عن الربّ” (الحكمة3: 10). “حينئذ يقوم الصدّيق بجرأة عظيمة في وجوه الذين ضايقوه وجعلوا أتعابه باطلة. فإذا رأوه يضطربون من شدّة الجزع وينذهلون من خلاص لم يكونوا يظنّونه. ويقولون في أنفسهم نادمين وهم ينوحون من ضيق صدورهم: “هذا الذي كنّا حيناً نتخذه سخرة ومثلاً للعار. وكنّا نحن الجهّال نحسب حياته جنوناً وموته هواناً. فكيف أصبح معدوداً في بني الله وحظه بين القديسين؟ لقد ضلّلنا عن طريق الحق ولم يضيء لنا نور البرّ ولم تشرق علينا الشمس” (الحكمة5: 1-6، أنظر حز18: 17، 27: 32).
هـ – “مغبوط السبيل الذي تسير فيه اليوم”
إن انتصار المسيح على الشيطان وأعماله يدعو كل مسيحي، حسب استطاعته، إلى التأمّل في هذا الحدث الذي ندعوه “الموت الطبيعي”، وإن يكن قد فقد المعنى الذي اكتسبه في فترة سيادة الشيطان. وهذا الموت بالنسبة إلى المسيحي المؤمن ليس سوى مدخل إلى الحياة الحقيقية. ولذلك لم يتردّد الآباء في وصفه بالشيء الصالح. وفي هذا المجال يقول القديس غريغوريوس النيصصي: “إن الموت صالح، فطوبى للأموات الذين يرقدون بالربّ، فإنهم كما يقول الروح يستريحون من أتعابهم، لأن أعمالهم تابعة لهم” (رؤ14: 13).
وترتّل الكنيسة في خدمة الجناز: “مغبوط السبيل الذي تسير فيه اليوم، فإنه قد تهيأ لك مكان الارتياح”. بالموت ينفصل جسد الإنسان عن النفس ويعود إلى الأرض “التي منها أُخذ”، فيما تعود النفس إلى الله “الذي وهبها” (تك 1: 27، 2: 7، 3: 19، جا12: 7). ولكن الجسد سينهض في يوم القيامة العامة ويلبس “صورة السماوي” (1كو15: 49)، ويتّحد مع النفس مجدّداً، ويكونان “مع الربّ دائماً” (1 تس4: 17، يو5: 28-29). “زرع الجسم بفساد والقيامة بغير فساد. زرع الجسم بهوان والقيامة بمجد. زرع الجسم بضعف والقيامة بقوة. يزرع جسم بشري فيقوم جسماً روحياً” (1 كو15: 43-44) “لن نموت جميعاً، بل نتبدّل جميعاً. في لحظة وطرفة عين عند النفخ في البوق الأخير، لأنه سينفخ في البوق، يقوم الأموات غير فاسدين ونحن نتبدّل. فلا بدّ لهذا الكائن الفاسد أن يلبس ما ليس بفاسد، ولهذا الكائن الفاني أن يلبس الخلود” (1 كو15: 51-53).
المؤمن لا يهاب الموت، لأنه يحيا الحياة الحقيقيّة الجديدة الحاصلة بقيامة المسيح، ويعلم أنه “ولو مات فسيحْيا” و”إنّ من يحيا ويؤمن، لن يموت أبداً” (يو11: 26، 5: 28-29)، فمن يذهب إلى وطنه الحقيقي الذي كُتب اسمه بين مواطنيه، سيكون مع الربّ دائماً (1 تسا4: 17).
الموت الطبيعي بالنسبة إلى القديسين كان دائماً حدثاً بهيجاً. ولذا تحتفل كنيستنا بيوم رقادهم احتفالاً يغلب عليه طابع الفرح، وتستعمل للإعلان عن ذلك العبارة المعروفة: “رقد بسلام”. أمّا إذا كان القديس شهيداً فيًقال إنه “انتهى بالسيف”. ففي زمن الإضطهادات كان كثير من المسيحيين يرغبون في الاستشهاد ويعتبرونه نعمة (فيل 1: 29)، ويُقْبِلون عليه دون خوف، وهم ممتلئون فرحاً وكأنهم ذاهبون إلى احتفال.
وقد كتب القديس إغناطيوس الذي اقتيد إلى روما ليستشهد، طالباً من مسيحيّ تلك المدينة ألاّ يحاولون تخليصه من براثن الوحوش: “إنني أخشى محبتكم، فإنها قد تظلمني. من السهل عليكم أن تفعلوا ما تريدون، أمّا أنا فمن العسير أن أصل إلى الله إذا لم تشفقوا عليّ… دعوني أكون فريسة للوحوش لأنها ستمكِّنني من ربح الله. أنا حنطة الله التي ستطحنها أضراس الوحوش، فأغدو خبزاً صالحاً للمسيح. اتركوا الوحوش تلتهم جسدي كله حتى لا أكون عبئاً على أحد. وعندئذ لا يرى العالم حتى جسدي، فأكون تلميذاً حقيقياً للمسيح. فابتهلوا إليه من أجلي، لأكون قرباناً لله بموتي. أنا أعرف مصلحتي، وقد شرعت الآن في أن أكون تلميذاً للمسيح، ولن يمنعني أحد عن ذلك لا من المرئيات ولا من غير المرئيات، وسأفوز بالمسيح. أكتب إليكم وأنا حيّ، ولكنني مشتاق إلى الموت، ففي داخلي يكمن “الماء الحيّ” الذي ينادي ويقول: تعالَ إلى الآب”.
و – الوجود الشخصي بعد الموت
لا بدّ من التأكيد على الوجود الشخصي بعد الموت، فثَمَّة مبتدعين يحوِّرون التعليم الكتابي بقولهم أن المرء يزول بعد الموت، أو أن نفس الإنسان تفقد وجودها الشخصي بعد الموت. وقد أوردنا آنفاً بعض شهادات من العهد القديم على وجود الحياة بشكل شخصيّ بعد الموت، ونورد الآن شهادات أخرى على ذلك. فعندما يشير الكتاب إلى موت إبراهيم (تك25: 8) وإسحق (تك35: 29) ويعقوب (تك49: 33) يقول إنهم “انضموا إلى قومهم” (أنظر عدد20: 24، 27: 13، 31: 12). ويذكر أيضا أن الملك شاول قد تحدَّث إلى روح النبي صموئيل (1ملو28: 15) وأن النبي إيليا قد صلّى لكي “تعود” نفس ابن الأرملة (3 ملو17: 21-22) وابتهل إلى الله أن يأخذ نفسه (3 ملو19: 4). وفي الأمثال: “إذا مات الإنسان المنافق هلك منه الرجاء وأمل الأثمة يبيد” (11: 7). ويذكر سفر المكابيين أن “الله لا يميتهم (الأتقياء)، حتى ولا رؤساء آبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب، بل إنهم يحيون لله” (4 مكا7: 19، أنظر7: 3، 9: 8-9، 18: 23، حز18: 17، 27: 32، جا12: 7).
وقد عبّر داود عن ابتهاج قلبه بحضور الربّ في حياته، وأعلن إيمانه الوطيد بأنه، ولو مات، فإن جسده سيوضع في القبر على رجاء القيامة، وأكّد أن الله لن يترك نفسه في الجحيم ولن يسمح أن يرى عبدَه المكرَّس فساداً: “وجسدي أيضاً سيسكن على الرجاء، لأنك لا تترك نفسي في الجحيم، ولا تدع قدّوسك يرى فساداً” (مز15: 9-10، أنظر مز21: 27).
وثمّة مزمور آخر يصف موت الأشرار: “الحكماء يموتون، وكذلك الجاهل والغبي، يهلكون ويخلفون غناهم لآخرين. كان الإنسان في كرامة فلم يفهم فماثل البهائم وتشبَّه بها… جُعلوا في الجحيم كالغنم فيرعاهم الموت ويسود عليهم المستقيمون في الغداة، ويمحوا الجحيم ذكرهم حتى من سكناهم. الله وحده يفتدي نفسي من يد الجحيم حين يأخذني. لا تخشَ إذا استغنى إنسان ونما مجد بيته. فإنه إذا مات لا يأخذ شيئاً ولا ينزل مجده معه. وبينما يبارك نفسه في حياته ويمدح على رغد عيشه، ينضمّ إلى جيل آبائه الذين لا يعاينون النور أبداً. كان الإنسان في كرامة فلم يفهم فماثل البهائم وتشبَّه بها” (مز48: 11-21، أنظر حز32: 30-31).
إن الكفرة والصدّيقين سيستمرون في الحياة بعد الموت، وبطريقة واعية. ولكن مصيرهم يختلف عمّا كان في هذه الحياة. فالأشرار والكفرة الذين تمتّعوا بجميع وسائل الراحة في هذه الحياة سيشقون، أمّا الصدّيقون فيكونون في مصفّ الذين يملكون. وصاحب المزامير واثق من وجود هذا المصفّ الجديد، ومؤمن باستمرار الحياة الشخصيّة، لذلك يستعطف الله أن يشفق على نفسه، عندما يرحل من هذا العالم: “الله وحده يفتدي نفسي من يدي الجحيم” (مز48: 16). وقد استخدم المسيح مثلاً مشابهاً (الغني لعازر) ليوضح مصير الكفرة بعد الموت (لو16: 19-31).
نستنتج من كل ذلك أن العهد القديم لم يقبل آراء الصدوقيين الذين لم يؤمنوا بخلود النفس (جا3: 19-21) وعلّموا أن البشر يماثلون البهائم “لأن ما يحدث لبني البشر هو يحدث للبهيمة، وللفريقين حادثة واحدة، كما تموت هي يموت هو، ولكليهما روح واحد، فليس للإنسان فضل على البهيمة لأن كليهما باطل. كلاهما يذهبان إلى مكان واحد. كان كِلاهُما من التراب وكِلاهُما يعودان إلى التراب” (جا3: 19-21). ولكن السفر نفسه يجيب: “فيعود التراب إلى الأرض حيث كان، ويعود الروح إلى الله الذي وهبه” (جا12: 7).
ونرى في العهد الجديد أن موسى وإيليا اللذين انتقلا منذ زمن بعيد (تث34: 5، 4 ملو2: 11) يظهران على جبل التجلّي ويراهم التلاميذ الثلاثة، لا في منامهم، بل في “يقظتهم” (لو9: 32). فالكتاب المقدّس يؤكِّد استمرار الحياة بعد الموت، على عكس المضلِّلين القائلين بزوال الإنسان النهائي. والمسيح نفسه قال للِّص الشكور: “اليوم ستكون معي في الفردوس” (لو23: 43)، أي أن حياة هذا الخاطئ التائب ستستمر في الفردوس.
تؤكِّد الكنيسة الأرثوذكسية انحدار المسيح الظافر إلى الجحيم، حيث “انطلق بهذا الروح يبشِّر الأرواح التي في السجن وكانت قد عصت فيما مضى” (1 بط3: 19 20)، أي أن الذين ماتوا قبل الربّ استمروا في وجودهم الشخصيّ، فاستطاعوا سماع البشارة واتخاذ القرار المؤدّي إلى خلاصهم في المسيح.
قال الله لموسى: “أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب” (حز3: 6). وقد ذكر المسيح هذه الآية وأضاف: “وهو ليس إله أموات بل إله أحياء” (لو20: 37-38، متى22: 32، مر12: 26-27، أنظر 4 مكا7: 19، 18: 23). وعندما يقول الربّ أن إبراهيم وإسحق ويعقوب أحياء، لا يعني أنهم سيقومون في الحياة الآتية، بل إنهم يتابعون الحياة بعد موتهم: “من عاش وآمن بي فلن يموت أبداً” (يو11: 26، 5: 24).
وفي رؤيا يوحنا إشارة واضحة إلى الحياة بعد الموت، حيث تظهر نفوس الشهداء وهي تستعطف الله ليضع حدّاً لشقاء إخوتهم على الأرض واضطهاداتهم (رؤ6: 9-10). وقد عبّر بولس الرسول عن هذا الاستمرار في قوله: “فالحياة عندي هي المسيح، والموت ربح. ولكن، إذا كان لي في حياة الجسد ما أسعى به سعياً مثمراً، فإني لا أدري ما أختار وأنا بين أمرين: فلي رغبة في الذهاب لأكون مع المسيح وهذا أفضل كثيراً، غير أن بقائي بينكم أشدّ ضرورة لكم” (فيل1: 21-24، أنظر2 كو5: 8).
وتفسير هذه الآية واضح، فهي تشير إلى إيمان الرسول بأنه سيواصل وجوده الشخصيّ قرب المسيح بعد انتقاله من الحياة، ولكنه لأجل محبته للإخوة يريد أن يبقى معهم ليبنيهم في الإيمان. وإذا كان بولس لم يقصد أن حياته مع المسيح ستبدأ ور موته، يصبح من المستحيل فهم هذه الآية، لأننا لن نفهم لماذا يجد مشكلة في الاختيار بين البقاء والذهاب.
والخلاصة، أن كل الآيات الكتابية التي ذكرناها، وكثيراً غيرها (أنظر مثلاً متى10: 28، لو12: 4، يع5: 20) تدلّ على أن الكتاب المقدّس يؤكِّد خلود النفس بالمعنى الشخصي.
ز – الوجود الشخصي للأشرار
ثمّة أناس لا يؤمنون بوجود شخصيّ للأشرار بعد الموت، ويؤكِّدون أن رأيهم هذا يستند على الكتاب المقدّس. ولكن الآيات التي يستشهدون بها لا تشير إلى دمار “نفوس” الأشرار، بل إلى موت الجسد و”دمار” جميع أعمالهم (مز 145: 4) والى نسيان اسمهم بين الأحياء، لأن “اسم المنافقين يبلى” (أم10: 7). ويجب ألاّ ننسى أن كلمة “نفس” المستعملة في الكتاب المقدّس تحمل معنى مزدوج (متى10: 39، 16: 25، مر8: 35، لو 9: 24، 17: 33، يو12: 25). إنها لا تعني الإنسان الروحي وحسب، بل تشير إلى الحياة الحاضرة أيضاً (أنظر مر10: 45، يو3: 16). كما أن كلمة الموت لا تعني نهاية الحياة الحاليّة وحسب، بل انفصال الإنسان عن الله بسبب الخطيئة (متى8: 22، لو15: 24-32، رو5: 12).
يؤكِّد الكتاب المقدّس إذاً استمرار وجود الأشرار بعد الموت ويشير أيضاً إلى أنهم سيتعذبون قبل مجيء الربّ الثاني (مز48: 11-21، حز32: 30-31، لو16: 19-31). فماذا سيحدث لهم أثناء المجيء الثاني؟.
كلام الله واضح جدّاً في هذا المجال: “اذهبوا عني يا ملاعين، إلى النار المعدّة لإبليس وملائكته” (متى25: 41). فما هي “النار الأبدية”؟ وهل تعني “الزوال الكامل” كما يدَّعي المبتدعون؟ يجيب الكتاب المقدّس على هذا السؤال: “هناك يكابدون العذاب نهاراً وليلاً إلى دهر الدهور” (رؤ20: 10، أنظر متى8: 12، مر9: 43). فــ “النار الأبدية” هي الانفصال النهائي عن الله، الذي هو الحياة، لذلك توصف بأنها “الموت الثاني” (رؤ21: 8). وهذا ما ينتظر الأشرار إذاً، وليس “الزوال الكامل”. إنهم سيعيشون العذاب الأبدي بسبب انفصالهم عن الله انفصالاً نهائياً. وهذا هو الموت الثاني.
ح – الصلوات من أجل الراقدين
إن إيمان الكنيسة بالوجود الشخصيّ بعد الممات، وبالرباط الذي يصلنا بإخوتنا الراحلين، يبرِّر الصلوات والذكرانيات التي تُقام من أجلهم. وفي الكتاب المقدّس أمثلة على ذلك، منها يهوذا المكابي الذي قرَّب ذبيحة عن نفوس الجنود المقتولين “كتذكار مقدّس وورع”: “ثم جمع من كل واحد تقدمة، فبلغ المجموع ألفي درهم من الفضة، فأرسلها إلى أورشليم ليقدّم بها ذبيحة عن الخطيئة. وكان ذلك من أحسن الصنيع وأنقاه، لاعتقاده بقيامة الموتى. لأنه لو لم يكن مترجياً قيامة الذين سقطوا لكانت صلاته من أجل الموتى باطلاً وعبثاً. ولاعتباره أن الذين رقدوا بالتقوى قد ادُّخر لهم ثواب جميل. وهو رأي مقدّس تِقَوي. ولهذا قدّم الكفارة عن الموتى ليُحَلّوا من الخطيئة” (2 مكا43: 45).
ط – مجيء الربّ الثاني
“أيها الجليليّون، ما لكم قائمين تنظرون إلى السماء؟ فيسوع هذا الذي رُفع عنكم سيعود كما رأيتموه ذاهباً إلى السماء” (أع1: 11). فمتى يتحقَّق هذا المجيء؟
يتجاسر بعض المضلِّلين فيحدّدون زمناً معيّناً لذلك. والواقع أن هذه المعضلة شغلت النبي دانيال في العهد القديم فتساءل عن الأزمنة الأخيرة: “يا سيّدي، ما آخر هذه؟ فأجابه الربّ: اذهب يا دانيال، فإن الأقوال مغلقة ومختومة إلى وقت الانقضاء” (دا12: 8-9)، أي اسكت يا دانيال، فهذه الأقوال مستورة إلى أن يأتي وقتها المحدّد. وقد سأل التلاميذ الربّ يسوع عن الأمر نفسه: “قل لنا، متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟ فأجابهم: احذروا أن يضلّكم أحد. فسوف يأتي كثير من الناس منتحلين اسمي يقولون أنا هو المسيح، ويضلّون كثيرين” (متى24: 4-5، 23: 26، مر13: 5-6، 21: 23، أنظر أيضاً متى7: 15، لو21: 8). “ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والآونة التي وقَّتها الآب بذات سلطانه” (أع1: 7). “وأمّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلمها أحد، ولا الملائكة ولا الابن إلاّ الآب” (مر13: 32). أن يوم الربّ سيأتي مثل “لص نصف الليل” (2 بط3: 10)، أي في اللحظة التي لا يعلم بها أحد.
توضح هذه الآيات أن معرفة زمن مجيء الربّ لا تهم أتباع المسيح الحقيقيين الصادقين. فقد قال الربّ بوضوح: “ليس لكم أن تعرفوه” (أع1: 7)، أمّا الذي يتجاسر ويجعل هذا الزمن موضوعاً لتبشيره، فإنه يضلُّ ويضلِّل كل من يؤمن بأقواله. فالربّ نفسه قد نبَّهنا مسبقاً أن علينا أن نحترز ونصحو.
لن يعرف أحد زمن المجيء الثاني. ولكننا نعلم أن هذا اليوم سيأتي، وأن مجيء المسيح سيكون مرئياً، وليس “غير مرئي” كما يدّعي محرِّفو الكتاب المقدّس: قال الملاكان للتلاميذ: “سيعود كما رأيتموه ذاهباً” (أع1: 11)، وستراه “جميع قبائل الأرض” (متى24: 30)، لا الصدّيقون وحدهم بل الأشرار أيضاً، وحتى أولئك الذين صلبوه (رؤ1: 7، أنظر زخريا12: 10). سيأتي “بمجده” وسيجلس على “عرش مجده” وستجتمع قدَّمه “جميع الأمم” وسيفرز الصالحين عن الطالحين. “فهؤلاء يذهبون إلى الجحيم وأمّا الصدّيقون فإلى الحياة الأبدية” (متى25: 31-46، أنظر8: 11-12، 13: 41-43، 47: 50، 2 تس 1: 7-10، دا12: 2-3).
ستكون قيامة الأموات شاملة. غير أن الصدّيقين سينهضون إلى قيامة حياة والطالحين إلى قيامة دينونة: “لا تعجبوا من هذا، فستأتي ساعة يسمع فيها صوته جميع الذين في القبور، فيخرجون منها. أمّا الذين عملوا الصالحات فيقومون إلى الحياة، وأمّا الذين عملوا السيئات فيقومون إلى الهلاك” (يو5: 28-29، متى25: 46، أنظر أش26: 19، حز37: 1-14، دا12: 2-3).
ي – “احذروا أن يضلَّكم أحد”
رأينا أن الربّ لم يكتفِ بالقول أن مجيئه الثاني لن يعرف به أحد بل دعا أيضاً إلى الحذر والتنبّه لأن أناساً سيظهرون ويحاولون تضليل المسيحيين (متى24: 4-11، مر13: 22). وقد ظهر هؤلاء فعلاً في أيامنا فادّعوا أنهم “قناة” لله، وأن “يهوه الله” “يدفق” على الناس “نوره” و”حقيقته” من خلال هذه “القناة” أي من خلالهم.
يدّعي هؤلاء أن مجيء الرب سيكون غير منظور، وقد ذكرنا أن هذا الإدّعاء يناقض تعليم الكتاب المقدّس. ولكنهم لا يكتفون بذلك، بل يدورون من بيت إلى بيت لكي يكرزوا “ببشارتهم السارة” عن “الملكوت المؤسس”. ومما يقولونه أن “زمان الأمم قد جاء” وأن “المجيء الثاني حصل في العام 1914″، وأن “الكرازة بالملكوت” بدأت بعد الحرب العالمية الأولى.
والواقع أن ما ورد في إنجيل متى ينطبق على هؤلاء تماماً: “فإذا قال لكم قائل: “هوذا المسيح هنا فلا تصدّقوه. فسيظهر مسحاء دجّالون وأنبياء كذّابون، يأتون بآيات عظيمة وأعاجيب لو استطاعت لأضلّت المختارين أنفسهم. فها أنذا أُنبئكم. فإن قيل لكم: “ها هو ذا في البرّية” فلا تذهبوا، أو “ها هو ذا في المخادع” فلا تصدقوا” (متى24: 23-27).
وإذن، فإن إنجيل هؤلاء الناس ليس هو “الخبر السار” الذي بشَّر به الرسل، بل “إنجيل آخر” يقود إلى الهلاك (غلا1: 6-9). فالملكوت الذي تحدَّث عنه الكتاب المقدّس بدأت الكرازة به منذ زمن يوحنا المعمدان (لو16: 16)، وليس بعد العام 1914. ويخبرنا الكتاب أن اكتمال “أزمنة الأمم” سيكون بعد عودة الشعب الإسرائيلي، ثم يأتي الربّ (لو21: 24-27، رو11: 25 –33، أنظر لو13: 25، متى23: 39، زخريا12: 10). ولكن عودة الشعب لم تحصل، وبالتالي فإن “الملكوت المؤسس” ليس إلاّ بدعة وضلالة.
والواقع أن الحديث عن الأنبياء الكذبة ليس وقفاً على العهد الجديد وحده، فقد ذكر أنبياء العهد القديم أنهم يشكلون خطراً كبيراً. وكلام الأنبياء الكذبة المعاصرين لا يختلف عن كلام أنبياء العهد القديم الكذبة، فهم يتحدثون باسم الله، ولكنهم لا ينطقون إلاّ بما في قلوبهم، بغية تضليل الشعب. وقد حذّر الله هؤلاء “الأنبياء” أن عقالهم سيكون رهيباً ونهايتهم مزرية، وأوصى شعبه ألاّ يستمع إلى صوتهم المضلِّل: “فقال لي الربّ: أن الأنبياء يتنبّأون باسمي زوراً وأنا لم أرسلهم ولم آمرهم ولم أكلّمهم، إنما يتنبّأون لكم برؤيا زور وبالعرافة والباطل وضلال قلوبهم. لذلك هكذا قال الربّ على الأنبياء المتنبّئين باسمي وأنا لم أرسلهم، وهم يقولون إنه لا يكون في هذه الأرض سيف ولا جوع. أن هؤلاء الأنبياء بالسيف والجوع يفنون” (إرم14: 14-16).
“وكانت إليّ كلمة الربّ قائلاً: يا ابن البشر تنبّأ على أنبياء إسرائيل الذين يتنبّأون وقل للمتنبِّين من عند أنفسهم: اسمعوا كلمة الربّ. هكذا قال السيد الربّ: ويل للأنبياء الحمقى الذين يتبعون روحهم ولم يروا شيئاً. أنبياؤك يا إسرائيل كالثعالب في الأخربة. لم تصعدوا إلى الثلمة ولم تشيدوا جداراً لبيت إسرائيل لتقفوا في القتال في يوم الربّ. إنما رؤياهم الباطل والعرافة الكاذبة. قالوا: يقول الربّ. والربّ لم يرسلهم واطمعوا في تمام كلمتهم” (حز13: 1-6).
“هكذا قال الربّ على الأنبياء الذين يضلّون شعبي ويعصّون بأسنانهم وينادون بالسلام. والذي لا يلقمهم في أفواههم يقدّسون عليه القتال. إنه لذلك يكون لكم الليل عوض الرؤيا، والظلمة عوض العرافة، وتغرب الشمس على الأنبياء ويدلَهُمّ عليهم النهار. فيخزى الراؤون ويخجل العرافون، وجميعهم يلثمون شفاههم لأنه ليس جواب من الله” (ميخا3: 5-7، أنظر زخ13: 2-5).
“هكذا قال ربّ الجنود: لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبّأون لكم ويخدعونكم. يتكلّمون برؤيا قلوبهم لا عن فم الربّ. يقولون الذين يهينونني قد تكلّم الربّ: سلام يكون لكم” (إرم23: 16-17).
وقد وُجه هذا التحذير إلى شعب الله الجديد، أي المسيحيين: “إياكم والأنبياء الكذبة، يأتونكم في ثوب النعاج، وهم في باطنهم ذئاب خاطفة” (متى7: 15). و”ابتعدوا عن هؤلاء الناس” (1 تيم6: 5). ويسميّهم الرسول بولس “رسل كذّابون وعملة مخادعون يتزيّون بزيّ رسل المسيح”. ويتابع: “ولا عجب فالشيطان نفسه يتزيّا بزيّ ملاك النور، فليس غريباً أن يتزيّا خدمه بزيّ خدم البرّ” (2 كو11: 13-15). ولكن كيف نميّز تعليم هؤلاء الناس الكاذب من التعليم الصحيح؟ يجيب الرسول بولس أن الهراطقة يحرِّفون إنجيل المسيح، أي أنهم يعلّمون إنجيلاً جديداً من لدنهم: “فلو بشّرناكم نحن أو بشَّركم ملاك من السماء بخلاف ما بشَّرنكم به، فليكون ملعوناً” غلا1: 8-9، أنظر تث13: 1-6). فحقيقة الإنجيل “قد سلِّمت إلى القدِّيسين مرّة واحدة وإلى الأبد” (يهوذا3، متى5: 18-19)، ولا يمكن أن تتغيّر “حسب الظروف والأحوال”، كما يدّعي المضلِّلون الذين يقولون أن الله قد أرسلهم “نوراً حيّاً”، ولذلك يعيدون النظر في “آرائهم الخاطئة” كل فترة من الزمن، ولكن كلمة الله واضحة في هذا المجال: “فإن قلت في نفسك: كيف يُعرف القول الذي لم يقله الربّ؟ فإن تكلم النبيّ باسم الربّ ولم يتمّ كلامه ولم يقع، فذلك الكلام لم يتكلّم به الربّ بل لتجبّره تكلّم به النبيّ فلا تخافوه” (تث18: 21-22).
ك – أورشليم العُلْوِيَّة
“ثم رأيت عرشاً أبيض عظيماً، ورأيت الذي عليه استوى. فهربت السماء والأرض من أمام وجهه ولم يبقَ لهما أثر. ورأيت الأموات كباراً وصغاراً قائمين قبالة العرش. وفُتحت الكتب، ثم فتح كتاب أخر، سِفر الحياة، وعوقب الأموات مثلما في الكتب، كل واحد بأعماله. وقذف البحر الأموات الذين فيه، وقذف الموت والجحيم ما فيهما. فعوقب كل واحد بأعماله. وطُرح الموت في مستنقع النار، وهذا المستنقع هو الموت الثاني. ومن لم يوجد مكتوباً في سِفر الحياة طُرح في مستنقع النار” (رؤ20: 11-15).
“ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى قد زالتا، ولم يبقى للبحر وجود. ورأيت المدينة المقدّسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله، وقد تزيَّنت كما تتزيَّن العروس لبعلها. وسمعت صوتاً يهتف من العرش: “هوذا بيت لله والناس: يسكن معهم ويكونون له شعباً. الله معهم ويكون لهم إلهاً، يكفكف كل دمعة تسيل من عيونهم. لم يبقَ للموت وجود، ولا للبكاء ولا للصراخ ولا للألم، لأن العالم القديم قد زال”. وقال الذي على العرش استوى: “ها أنذا أجعل كل شيء جديداً”. ثم قال لي: “أكتب: هذا الكلام صدق وحق”. وقال لي: “قضيّ الأمر. أنا الألف والياء، البداية والنهاية. من كان عطشان أرويته أنا من ينبوع الحياة مجاناً. ذاك حظ الغالب. سأكون له إلهاً ويكون لي ابناً. أمّا الأنذال والكفّار والأوغاد والقاتلون والفجّار والسحرة وعبدة الأصنام وجميع الكذابين، فنصيبهم في المستنقع المتّقد بالنار والكبريت، ذاك هو الموت الثاني”. وجاءني أحد الملائكة السبعة، أصحاب الأكواب السبعة الممتلئة بالنكبات السبع الأخيرة، وقال لي: “تعالَ فأريك عروس الحمل”. فنقلني بالروح إلى جبل عظيم شاهق وأراني أورشليم المدينة المقدّسة نازلة من السماء من عند الها، وعليها مجد الله. وكانت تتلألأ مثل أكرم الحجارة، كأنما هي يشب بلوري” (رؤ21: 1-11).
“ولم أجد فيها هيكلاً، لأن الله الربّ القدير والحمل هما هيكلها. وبها غنى عن ضياء الشمس والقمر، لأن مجد الله أضاءها، والحمل قام مقام مشعلها. ستمشي الأمم في نورها، ويأتيها ملوك الأرض بكنوزهم. لا تقفل أبوابها طوال اليوم، لأنه لا ليل فيها. ستُحمل إليها كنوز الأمم وأبهتها، ولا يدخلها شيء نجس، ولا الذين يأتون بالقبائح ويفترون الكذب، بل الذين كُتبوا في سِفر الحياة، سِفر الحمل” (رؤ21: 22-27).
“لا لعن بعد اليوم. عرش الله والحمل يقوم في المدينة، فيعبده عباد الله ويشاهدون وجهه، ويكون اسمه على جباههم. لا ليل هنالك فلا يحتاجون إلى مصباح أو شمس ليستضيئوا، لأن الربّ الإله ينشر نوره عليهم أبد الدهور” (رؤ22: 3-5، أنظر أش 60: 1-22).
ل – “لا بد لهذا الفاسد أن يلبس عدم الفساد”
القيامة التي يصفها الكتاب المقدّس ليست قيامة أرواح فقط، بل قيامة أجساد. وجسدنا الفاني سيلبس عدم الفساد، فتتمّ أقوال الأنبياء عن ابتلاع الموت وغلبته (أش25: 8، هو13: 14، رؤ20: 14).
“هذا شأن قيامة الأموات: يكون زرع الجسم بفساد والقيامة بغير فساد. يكون زرع الجسم بهوان والقيامة بمجد. يكون زرع الجسم بضعف والقيامة بقوة. يزرع جسم بشري فيقوم جسماً روحانياً. وإذا كان هناك جسم بشري، فهناك أيضاً جسم روحاني، فقد ورد في الكتاب: “كان آدم الإنسان الأول نفساً حيّة” وكان آدم الآخر روحاً محيياً. ولكن لم يظهر الروحاني أولاً، بل البشري، وظهر الروحاني بعده. الإنسان الأول من التراب فهو أرضي، والإنسان الآخر من السماء. فعلى مثال الأرضي يكون الأرضيون، وعلى مثال السماوي يكون السماويون. وكما لبسنا صورة الأرضي، فكذلك نلبس صورة السماوي.
أقول لكم، أيها الإخوة، أن اللحم والدم ليس بوسعهما أن يرثا ملكوت الله، ولا يسع الفساد أن يرث ما ليس بفساد. وإني أكشف لكم سرّاً فأقول: إننا لا نموت جميعاً، بل نتبدّل جميعاً. في لحظة وطرفة عين، عند النفخ في البوق الأخير، لأنه سينفخ في البوق، يقوم الأموات غير فاسدين ونحن نتبدّل. فلا بدّ لهذا الكائن الفاسد أن يلبس ما ليس بفاسد، ولهذا الكائن الفاني أن يلبس الخلود. ومتى لبس هذا الكائن الفاسد ما ليس بفاسد، ولبس الخلود هذا الكائن الفاني، تمّ قول الكتاب: “قد ابتلع الظفر الموت”. فأين ظفرك يا موت؟ وأين شوكتك يا موت؟ أن شوكة الموت هي الخطيئة، وقوة الخطيئة هي الشريعة. فالحمد لله الذي آتانا الظفر على يد ربّنا يسوع المسيح. فكونوا، يا إخوتي الأحباء، ثابتين راسخين، مواصلين تقدّمكم في عمل الربّ، عالمين أن جهدكم في الربّ لا يذهب سدى” (1كو15: 42-58، أنظر رو6: 3-14).
وقد أعلن النبي حزقيال حصول قيامة الأجساد هذه وهزيمة مملكة الموت. إذ “قادته يد الربّ” إلى أحد السهول، وكان مليئاً بالعظام البشريّة. وهناك سأله الربّ: “فقال لي: يا ابن البشر، أتُرى تحيا هذه العظام؟ فقلت: أيها السيّد الربّ أنت تعلم. فقال لي: تنبّأ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الربّ. هكذا قال السيّد لهذه العظام: ها أنذا أدخل فيك روحاً فتحيين. أجعل عليك عصباً، وأنشئ عليك لحماً وأبسط عليك جلداً وأجعل فيك روحاً فتحيين وتعلمين أني أنا الربّ. فتنبّأت كما أُمرت، فكان صوت عند تنبؤي، وإذا بزلزال، فتقاربت العظام، كل عظم إلى عظمه. ورأيت فإذا بالعصب واللحم قد نشأ عليها وبسط الجلد عليها من فوق، ولم يكن بها روح. فقال لي: تنبّأ نحو الروح، تنبّأ يا ابن البشر وقل للروح: هكذا قال السيّد الربّ: هلمّ أيها الروح من الرياح الأربعة وهبّ في هؤلاء المقتولين فيحيوا. فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أرجلهم جيشاً عظيماً جداً جداً. فقال لي: يا ابن البشر، هذه عظام آل إسرائيل بأجمعهم. ها هم قائلون: قد يبست عظامنا وهلك رجاؤنا وانقطعنا. لذلك تنبّأ وقل لهم: هكذا قال السيّد الربّ، ها أنذا افتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي. وأجعل روحي فيكم فتحيون وأريحكم في أرضكم فتعلمون أني أنا الربّ قد تكلّمت وفعلت” (حز37: 1-14).
م – أبناء الملكوت
لا يحدّد الكتاب المقدّس عدد الذين سيدخلون ملكوت السموات، كما يدّعي محرِّفو الحقيقة. فرغبة الرب واضحة، وهي: “احمل من فيها على الدخول، حتى يمتلئ بيتي” (لو14: 23). وعندما تذكر الرؤيا أن عدد المختومين هو اثنا عشر ألفاً من كل سبط من أسباط إسرائيل الإثني عشر (7: 4-8)، لا يجب أن يؤخذ الرقم حرفياً، لأن الله لا يفرِّق بين اليهود والأمم: “فلم يبقَ من بعد يهودي أو يوناني… لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع” (غلا3: 28). “فأمّا الذين قبلوه، فقد أولاهم أن يصيروا أبناء الله، هم الذين آمنوا باسمه. وهم ليسوا من دم ولا من رغبة ذي لحم ولا من رغبة رجل، بل الله ولدهم” (يو1: 12-13).
لا يدخل أحد إلى ملكوت السموات على أساس أصله العرقي، بل على أساس ولادته الروحية (“من الله وُلدوا”) ولا يدخل من يقول (يا ربّ، يا ربّ)، بل من يفعل “مشيئة أبي السماوي” (متى7: 21). وتالياً، فإن الرقم المذكور في الرؤيا رقم رمزي. فهو يرمز إلى الكمال، وحاصل ضربه بنفسه (144000) لا يخرج عن هذا الإطار. أمّا الذين سيخلّصون فهم جماهير لا تُحصى، ومتحدرون من جميع القبائل ومن سائر أمم العالم. وهم أولئك الذين عملوا “الأعمال الصالحة”، فأدخل اسمهم في “سِفر الحياة” (رؤ20: 12-15، دا7: 10).
والأعمال الصالحة ليست إعلان “بشارة سارّة عن ملكوت مؤسس” كما يدّعي حملة الضلال، بل “الإيمان العامل بالمحبة” (غلا5: 6، يع2: 14-27)، أي الإيمان الحيّ الذي ينبغي أن يعبِّر عنه بأعمال المحبة والإحسان إلى كل من هو بحاجة إليه، لا إلى الإخوة وحدهم (لو10: 25-27، متى25: 34 -40)، وهو يشمل حتى الأعداء (1 ملو24: 20، 1 يو31: 29، أم24: 17، 25: 21، رو12: 20-21، متى 5: 44-48، 23: 23، لو6: 27-36).
عدد أعضاء ملكوت الله ليس محدّداً مسبقاً، وكل مسيحي مؤمن له هذا الرجاء ولا يجوز أن يشكّكه أحد فيه (كول2: 18-19). فقد أرسل الربّ يسوع تلاميذه إلى جميع الأمم بهدف إيصال البشارة السارّة إلى الجميع، وليعمّدوا كل الناس دون استثناء، بعد أن يعلّموهم حفظ وصايا الربّ والإيمان به (متى28: 19-20، أنظر1 تيم2: 4). ويذكر إرميا النبيّ أن الله سيجمع مجدّداً “بقية الغنم” إلى واحد، فـ “تثمر وتكثر” (إرم23: 3). وقد تحققت نبوءة إرميا بتجسّد الربّ وقيامته وجمعه شمل أبناء الله (يو11: 52، 17: 20-26). والربّ نفسه يعلن: “ولي خراف أخرى ليست من هذه الحظيرة (ليست من شعب إسرائيل، بل من الأمم)، فتلك أيضاً لا بدّ لي أن أقودها. ستسمع صوتي، فيكون هناك رعيّة واحدة وراع واحد” (يو10: 16، حز34: 23، 37: 24).
ثمة رعيّة واحدة إذاً، وهي متّحدة أمام عرش الله. ولا توجد رعيّتان، واحدة على الأرض وأخرى في السماء، كما يدّعي المضلِّلون. وهذه الرعيّة الواحدة تتألف من جماهير لا تحصى، وعدّدها ليس محدّداً مسبقاً. “بدا لعينيّ جمع كثير لا يُحصى من كل أمة وقبيلة وشعب ولسان، وكانوا واقفين أمام العرش وأمام الحمل” (رؤ7: 9). هذه الجماهير الغفيرة التي رآها يوحنا لم تكن على الأرض بل في السماء، “أمام عرش الله وأمام الحمل”، وهي مكونة من أبناء ملكوت الله.
ن – الجحيم
يذكر النبي ملاخي أن يوم الربّ سيكون “كالتنّور المضطرم وسيحرق جميع المتكبّرين وصانعي النفاق كعصافة. فيحرقهم اليوم الآتي، قال ربّ الجنود” (ملا4: 1). وقد ذكرنا سابقاً أن هذه العقوبة لا تعني دماراً أو زوالاً نهائياً، بل جحيماً أبدياً (رؤ14: 10-11، 20: 10، متى8: 12، مر9: 43). فما هو هذا الجحيم؟.
يعلّم الكتاب المقدّس أن الخطيئة هي “شوكة الموت” (1كو15: 56)، و”عندما تنضج تلد الموت” (يع1: 15، أنظر لو15: 24-32)، أي انفصال الإنسان عن المسيح الذي هو الحياة (يو1: 4، 11: 25). فخطيئة الإنسان في هذه الحياة تبعده عن الشركة مع الله، ويبقى بعد الموت منفصلاً عن الله، فلا يرى وجهه ولا يبتهج. ويقول آباء الكنيسة أن الشرير لا يستطيع أن يرى حتى وجه أخيه، لذلك يحيا شعور الوحدة إلى درجة تكون له جحيماً لا توصف.
ورد في كتاب أقوال الآباء الشيوخ (4): “قال الأب مكاريوس: كنت أسير في البرّية فوجدت ذات يوم جمجمة إنسان ميت مرمية على الأرض، فحركتها بعصا النخيل لتكلّمني. قلت لها: من أنت أيها الإنسان؟ أجابتني: كنت رئيس كهنة عند الوثنيين الذين بقوا في هذا المكان. أمّا أنت فتدعى مكاريوس حامل الروح القدس، الذي في كل وقت وفي كل ساعة تشفق على الموجودين في الجحيم وتصليّ من أجلهم فيتعزون قليلاً. قلت: وما هما التعزية والعقوبة؟ أجابت الجمجمة: كما تبعد السماء عن الأرض، هكذا هي النار تحتنا. فالنار تلفحنا من أخمص القدمين حتى الرأس، ولا أحد منا يقدر أن يرى وجه الآخر، لأن وجه كل واحد ملتصق بظهر الآخر. وعندما تصليّ من أجلنا، يتمكن الواحد منّا أن يرى رفيقه بعض الشيء. هذه هي التعزية. فبكيت وقلت: واحسرتاه على اليوم الذي فيه يولد الإنسان إذا كانت هذه تعزية العقوبة. ثم قلت: وهل هناك عذاب أسوأ؟ أجابت الجمجمة: العذاب الأشد هو من تحتنا. فقلت: ومن هم الذين هناك؟ قالت نحن قد رُحمنا قليلاً لأننا لا نعرف الله. أمّا أولئك الذين عرفوه وأنكروه فهم الذين تحتنا. فللحال أخذت الجمجمة وطمرتها”.
تُظهر هذه القصة المأخوذة من كتاب “أقوال الآباء الشيوخ” مدى الخوف الذي سيعيشه أولئك الجاحدون الأشرار الذين لم يكونوا أمناء على المحبة والشركة مع الله والإخوة، بل نقضوهما وخانوهما، ومن لم يعش في الشركة مع الله المثلَّث الأقانيم لن يرى وجوه الآخرين، بل يحرم مما طرحه هو نفسه جانباً: الشركة الحقيقيّة مع الله والإخوة والفرح الذي لا يعبَّر عنه ولا يوصف، وهو ثمر تلك الشركة (أنظر رؤ21: 7-8، 22: 4، 14: 15). وتظهر القصة أيضاً مدى قوّة صلاة الكنيسة والقدّيسين، إلى درجة أنها تقدِّم راحة حتى للوثنيين.
س – “يا لها من ساعة…..”
تذكّر الكنيسة الأرثوذكسية بحقيقة الدينونة الرهيبة للأشرار، وخاصة في أحد مرفع اللحم (الإينوس) حينما تُقام ذكرى مجيء الربّ الثاني: “يا لها من ساعة رهيبة، ويا له من يوم رهيب، عندما يستوي الديّان على العرش. وتُشهر أفعال، وخفايا الظلام تُنشر، والملائكة يبادرون فيجمعون الأمم كلها. فهلمّوا أصغوا أيها الملوك والرؤساء، العبيد والأحرار، الخطأة والصدّيقون، الأغنياء والفقراء، أنه سيأتي العتيد أن يدين المسكونة بأسرها. فمن يحتمل الوقوف أمام وجهه، عندما تنتصب لديه الملائكة وتوبخ الأفعال والظنون والأفكار الصادرة في الليل وفي النهار. يا لها من ساعة رهيبة. فيا نفسي انتبهي قبل الانقضاء واهتفي صارخة: اللّهم التفت وخلّصني بما أنك متحنّن وحدك”.
“يا نفسي، يا نفسي، انهضي، لأية حال ترقدين؟ فقد قرب الإنقضاء وأنت عتيدة أن تنزعجي. فاستيقظي إذاً لكي يرأف بك المسيح الإله، الحاضر في كل مكان والمالئ الكل”.
ع – الفردوس
تظهر القصة التي ذكرناها عن الأنبا مكاريوس “الفجوة العظمىط التي تفصل الجاحدين عن سواهم في الجحيم (لو16: 26) وتدلّ أيضاً على مجد أبناء الله. فالذين في الجحيم لن يروا حتى وجوه إخوانهم، أمّا الصدّيقون الذين في “أحضان إبراهيم” (لو16: 22-23) فيبقون “مع الرب دائماً” (1 تس4: 17)، وينظرون إلى وجهه المجيد (رؤ22: 4، 1 كو13: 12، 1 يو3: 2، أنظر مز16: 5). ويقول الرسول بولس أن الربّ “سيأتي في ذلك اليوم ليمجّد في قدّيسيه ويعجب به جميع الذين آمنوا” (2 تس1: 10).
ستكون علاقة الربّ مع شعبه وثيقة إلى حدّ أن الكنيسة ستظهر وكأنها “عروس الحمل” وهي متسربة بمجده (رؤ 22: 9، أنظر متى22: 1-14، لو14: 16-24). وهذا هو “فرح ربّنا” الذي سيدعى إليه الصدّيقون (متى25: 21، أنظر رؤ2: 6-10، مز15: 11)، ويصف سِفر الرؤيا هذا الفرح الذي لا يُعبَّر عنه بقوله أن الصدّيقين سيحملون على جباههم “اسم الله” (رؤ22: 4) ويشتركون بالمجد الإلهي و”يضيئون كالشمس” (متى13: 43). وبهذا يكتمل عمل خلاص الإنسان، الذي وصفه المسيح أمام تلاميذه، وخاصة في صلاته إلى الآب: “أنا في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم” (يو14: 20). “إن أحبني أحد يحفظ كلامي، وأبي يحبه، فنأتي إليه ونجعل عنده مقامنا” (يو17: 11). “ولست أسأل من أجلهم وحدهم، بل أدعو أيضاً للذين سيسمعون كلامي فيؤمنون بي. فليكونوا بأجمعهم واحداً. وكما أنت فيّ أيها الآب، وأنا فيك، كذلك فليكونوا فينا واحداً، ليؤمن العالم أنك أنت الذي أرسلني. المجد الذي أوليتني، أوليتهم إياه ليكونوا واحداً كما نحن واحد. أنا فيهم وأنت فيّ لتكون وحدتهم كاملة، ويعرف العالم أنك أنت الذي أرسلني، وأنني أحببتهم كما أحببتني. يا أبت، أن الذين وهبتهم لي هم الذين أريد أن يكونوا معي حيث أكون فيعاينوا ما أوليتني من مجد، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم. يا أبت العادل، العالم لم يعرفك، أمّا أنا فقد عرفتك، وعرف هؤلاء أنك أرسلتني. أظهرت لهم اسمك، وسأظهره لهم، لتكون فيهم المحبة التي إياها أحببتني، وأكون فيهم” (يو17: 20-26).
ف – “اسهروا واستعدّوا”
يهتف يوئيل النبي قائلاً: “انفخوا في البوق واهتفوا في جبل قدسي، وليضطرب جميع سكان الأرض، فإن يوم الربّ قد وفد وقد اقترب” (يوئيل 2: 1). ويقول الربّ يسوع: “فاسهروا إذاً، لأنكم لا تعلمون أي يوم يأتي سيدكم… فكونوا أنتم أيضاً على أهبّة، لأن ابن الإنسان يأتي في ساعة لا تتوقّعونها… فمن تراه العبد الأمين العاقل، الذي أقامه سيّده على أهل بيته، ليعطيهم القوت في حينه؟ طوبى لذلك العبد الذي سيجده سيّده عند عودته منصرفاً إلى عمله هذا! الحق أقول لكم: إنه يقيمه على جميع أمواله. أمّا إذا قال عبد السوء في نفسه: “سيتأخر سيّدي في رجوعه” وأخذ يضرب أصحابه، ويأكل ويشرب مع السكيرين، فيرجع سيّد ذلك العبد في يوم لا يتوقّعه، وساعة لا يعلمها، فيعزاه ويجزّيه جزاء المنافقين، وهناك البكاء وصريف الأسنان” (متى24: 42-51).
دعوة المسيح: (اسهروا) موجَّهة إلى جميع المسحيين دون استثناء، وليس إلى فئة معيّنة كما يدّعي المضلِّلون. وذلك واضح تماماً في أكثر من مكان. ففي مَثَل الوزنات نرى أن كل عبد قد نال عدداً محدّداً من الوزنات، لكي يعمل بضمير حسن من أجل زيادتها. والذي ظهر مستحقاً ثقة سيّده ونمى الوزنة المعطاة له، مدحه السيّد ووصفه بأنه (عبد أمين”، أمّا الذي أظهر توانياً وكسلاً مستهجنين فقد وُصف بأنه “عبد شرير” (متى25: 14-30، أنظر لو19: 11-27). ويذكر الكتاب المقدّس أن كل عضو في الكنيسة ينال موهبة خاصة ليستخدمها في بناء الإخوة والكنيسة كلها، وليس لراحته الخاصة أو منفعته الشخصيّة (1 كو12: 4-31، 14: 12).
فالمسيح يدعو كل مسيحي إلى أن يضع موهبته الخاصة في خدمة إخوانه، دون أن يستخدمها لمتعته الشخصية، وهكذا يظهر أنه “عبد أمين وفطن” ويغدو شريكاً في ملكوت الله الذي جعله مكيلاً على جميع ممتلكاته. أمّا إذا تهاون يكون عبداً شريراً، فيدينه الربّ، لأن “من أُعطي كثيراً، يُطلب منه الكثير. ومن أُدع كثيراً، يُطالب بأكثر منه” (لو12: 48).
لا يوجد إنسان يمكن أن يقال إنه “عبد أمين وفطن” بشكل مسبق. وكل مسيحي مؤمن مدعو إلى السهر من أجل أن يصبح قي عيني الله عبداً أميناً وابناً حقيقيّاً لملكوته. وقد واظب الرسل وقدّيسو كنيستنا على السهر في حياتهم كلها وحتى آخر رمق من أنفاسهم. وقد أشار بولس الرسول إلى جهاده الشخصي لكي يجعل من قيامة المسيح ملكاً خاصاً له: “وما ذلك أني فزت أو أدركت الكمال، بل أسعى لعلّي أستولي كما استولى عليّ المسيح. أيها الإخوة، لا أدّعي أني استوليت، وإنما يهمّني أمر واحد وهو أن أنسى ما ورائي وأتمطى إلى الأمام فأسعى إلى الغاية، إلى الجائزة التي يدعونا الله إليها لننالها من عل في المسيح يسوع” (فيل3: 12-14).
ويروي كتاب “أقوال الآباء الشيوخ” عن الأب أغاثون “أنه كان يهتمّ بحفظ كل الوصايا. فإذا مرّ بمركب، كان هو أول من يحمل المجذاف. وإذا زاره الإخوة مدّ لهم المائدة بيده بعد الانتهاء من الصلاة. وذلك لأنه كان مليئاً بمحبة الله. ولمّا أوشك أن يرقد، ظلّ ثلاثة أيام فاتحاً عينيه دون حركة. أمّا الإخوة فكانوا يوقظونه قائلين: أيها الأب أغاثون، أين أنت الآن؟ قال لهم: أنا واقف أمام محكمة الله. قالوا له: وهل تخاف يا أبانا؟ فقال لهم: لقد فعلت قدر طاقتي وحاولت أن أحفظ وصايا الله. إلاّ أنني إنسان. فكيف لي أن أعرف إذا كنت قد أرضيت الله بأعمالي؟ قال له الإخوة: ألست مقتنعاً بأن أعمالك كانت حسب إرادة الله؟ قال الشيخ: لست مقتنعاً بشيء حتى أقابل الله. لأن محكمة الله شيء ومحكمة الناس شيء آخر. ولمّا أرادوا أن يسألوه أمراً آخر، قال لهم اعملوا لي معروفاً ولا تتكلموا الآن، لأني مشغول. وهكذا رقد بفرح. فكانوا يرونه يرحل عنهم كما يودِّع الواحد أحباءه. كان صاحياً في كل شيء. وكان يردّد على الدوام: بدون صحو كثير لا يستطيع الإنسان أن يتقدّم ولا في فضيلة واحدة”.
يذكِّرنا مَثَل الأب أغاثون بتلك الصلاة العظيمة في سِرّ المسحة المقدّسة، وهي تعيد الأقوال النبويّة: “وكنا كلنا كالنجس، وبرّنا كله كثوب الطامث، وكلّنا ذبلنا كالورق، وآثامنا كالريح ذهبت بنا” (أش64: 6). أمّا دانيال النبيّ فيعترف أمام الله: “أنّا خطئنا وأثمنا ونافقنا وتمرّدنا وزغنا عن وصاياك وأحكامك” (دا9: 5، أم20: 9).
ص – “فليحذر السقوط من توّهم انه قائم”
قال بولس الرسول: “فليحذر السقوط من توّهم انه قائم” (1 كو10: 12). أي أن المؤمن يجب أن يشعر دائماً أن رحمة الله وحدها هي التي تخلّصه. وهذا الشعور لا يعني وقوع الإنسان في حالة سلبية، إنما يعبّر عنه بالسهر والجهاد. فقد طلب الله من النبي حزقيال أن يعلن أن الله يرغب بحرارة في عودة الخاطئ، وأن كل من يتوب عن حياته الخاطئة يحيا ولا تحسب عليه خطاياه السابقة، أمّا التقيّ الذي يتّكل على برّه، فإن حياته الفاضلة السابقة لن تجديه نفعاً: “وأنت يا ابن البشر فقل لآل إسرائيل: هكذا تكلّمتم قائلين: أن معاصينا وخطايانا علينا، ونحن بها مضمحلون، فكيف نحيا؟ قل لهم: حيّ أنا يقول السيّد الربّ. ليست مرضاتي بموت المنافق، لكن بتوبة المنافق عن طريقه فيحيا. فتوبوا، توبوا عن طرقكم الشريرة، فلِمَ تموتون يا آل إسرائيل. وأنت يا ابن البشر فقل لبني شعبك أن برّ الله لا ينقذه في يوم معصيته، ونفاق المنافق لا يهلكه في يوم توبته عن نفاقه، والبار لا يستطيع أن يحيا في برّه في يوم خطيئته. إذا قلت للبار إنك تحيا حياة فتوكَّلَ على برّه وصنع الإثم فإن جميع برّه لا يذكر، وبإثمه الذي صنعه يموت، وإذا قلت للمنافق إنك تموت موتاً، فإن تاب عن خطيئته وأجرى الحكم والعدل. وردّ الرهن ذلك المنافق وأدّى ما اختلسه وسلك في رسوم الحياة من دون أن يصنع إثماً، فإنه يحيا حياة ولا يموت” (حز33: 10–15).
مهما كان المؤمن متقدّماً في الحياة الروحيّة، فهو مدعو إلى جهاد متواصل. وكم هو غريب حقاً سلوك بعض الهراطقة الذين يكرزون بأنهم “مخلَّصون”. والحق أنهم لم يفهموا قط أقوال الكتاب المقدّس: “اعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة” (فيل2: 12، أنظر3: 8-12). فعلينا إذاً أن نعمل بأتعاب ومشاق من أجل خلاصنا. ويجب أن يكتسب هذا العمل صفة ثابتة، ولا يكون اعتمادنا على أعمال الفضيلة التي نقوم بها بالصدفة.
الرجاء الوحيد الباقي هو رحمة الله ومحبته، فالله وحده يخلِّص كل خاطئ تائب، ولا يحسب عليه ماضيه. وهو يدين كل متهاون في حياته الروحيّة، لاعتماده على فضيلته السابقة، لأنه يتّكل على نفسه لا على رحمة الله الآب ومحبته.
ق – “تعال أيها الربّ يسوع”
سيأتي الربّ، وسنملك معه في مملكة روحيّة، وليس في مملكة ماديّة، كما يدّعي المضلِّلون (متى22: 29-30، يو18: 36، رو14: 17، 1 كو6: 13، 15: 51-53، 2: 9 الخ…). صحيح أننا لا نعرف متى سيأتي الربّ، ولكن واجبنا هو العمل لإسراع مجيئه، بأن نشهد لإنجيله “في المسكونة كلها” (متى24: 14، مر13: 10).
المسيحي المؤمن في حالة ترقّب دائمة، والكنيسة هي العروس النقيّة التي تنتظر بشوق وصول “الكائن والذي كان والآتي” الذي هو “الألف والياء، البداية والنهاية والذي سيأتي” (رؤ1: 8، أنظر خر3: 14).
لقد وعد الختن السماوي: “نعم، إني آتي سريعاً”. والكنيسة وكل مؤمن يهتفون جميعاً: “آمين، تعالَ أيها الربّ يسوع”.
(1) لا يقصد القديس يوحنا الذهبي الفم أن نهمل واجباتنا تجاه العالم، لأننا في العالم. ولكن القصد هو ألا نعمل في العالم وكأننا باقون أبداً. بل يجب أن نعلم أن ما نعمله كله حتى لو كان للعالم إلا أنه من أجل مجد اسم الرب وليس لأجل مجدنا الشخصي الباطل… وهذا ما سيوضحه الكاتب في الفصل القادم… (الشبكة)
(2) لم يُخلق الإنسان خالداً في ذاته، بل ليبقى خالداً. وخلوده هذا ليس صفة ذاتية فيه، بل نعمة إلهية يستمدها من اتحاده بمصدر الحياة، أي بالله. ولكن عندما سقط آدم، بعد الخطيئة الجدية، انفصل عن مصدر الحياة وبالتالي أصبح تحت سلطان للموت. راجع “تجسد الكلمة” للقديس أثناسيوس الكبير… (الشبكة)
(3) كلمة “الجحيم” محذوفة من الكتاب المطبوع، إذ أن الجملة جاءت هكذا: ” ولكنهم حصلوا على نصيب في “القيامة الأولى” التي تحققت بانحدار المسيح الظافر إلى (1 بط3: 19) وانتصاره على الشيطان وأعماله… إلخ”….، راجع كتاب: “نزول المسيح إلى الجحيم” للقديس إبيفانيوس رئيس أساقفة قسطندية في قبرص… (الشبكة)
(4) راجعه من سلسلة ( آباء الكنيسة ) رقم7 ، منشورات النور ، 1973 (الناشر).