ولكن سرعان ما انصرف اللاهوتيون إلى طرح نوعية “الاتحاد” بين جوهر يسوع الإلهي وجوهره البشري. في أنطاكية -على ما يرى داليس- جرى التأكيد على تمامية الطبيعتين (ص 28). رئيس المدرسة الأنطاكية هو دويدوروس المعروف بأسقف طرسوس في كيليكا. تلميذه ثيوذوروس أسقف المصيصة ذهب في الأمر إلى نهايته تقريباً فصارت العلاقة بين الطبيعتين أدبية. جاء الرد من أبوليناريوس اللاذقي في العام 352 وربما في العام 360 (للنقاد آراء مختلفة). أنطلق من أرسطو فقال أن اتحاد “الكاملين” مستحيل. فيسوع، إذن، لم يأخذ طبيعة إنسانية كاملة. والروح (nous باليونانية) هو النبرة العليا في الإنسان لدى فلاسفة اليونان. لم يأخذ يسوع روحاً nous. لأن “كلمة” الله حلّ محله. ولذلك ليسوع طبيعة واحدة. أبوليناريوس موحّد من البداية حتى النهاية: طبيعة واحدة، أقنوم واحد، شخص واحد، مشيئة واحدة، فعل واحد (1). انزعج صحبه أثناسيوس وباسيليوس والغريغوريوسان من موقفه. في الإسكندرية تعرض المجمع المنعقد في العام 362 برئاسة أثناسيوس للموضوع. ربما حوالي 370 كتب أثناسيوس رسالة إلى أسقف كورنثوس ببلاد اليونان يفند فيها ألواناً من البدع تدخل فيها بدعة أبوليناريوس وبدعة خصومه وانبرى الغريغوريوسان لمحاربته برجولة ومتانة (داليس 33).
أما أمر الأنطاكيين فلم يبلغ درجة مكشوفة من الخطر إلا بعد ارتقاء نسطوريوس تلميذ ثيوذوروس كرسي القسطنطينية. فاندلع الخلاف بينه وبين سكان القسطنطينية وامتد الشرر إلى أنحاء العالم المسيحي. وهو وصحبه أرسطويون أيضاً. لذلك، بحق، لاحظ داليس أن الأنطاكيين وأبوليناريوس اللاذقي كانوا يلتقون في أرسطويتهم. انطلقوا جميعاً من قول أرسطو باستحالة اتحاد “كاملين”. حل المعضلة ابوليناريوس فقال بالبتر أي أن يسوع لم يأخذ روحاً بشرياً nous. وحلّها الأنطاكيون بالتطرف في التمييز بين الطبيعتين حتى صار الاتحاد أدبياً.
إلا أن اللغة اليونانية كانت من جديد عاجزة عن التعبير. نسطوريوس عاد بألفاظ اللاهوت الأساسية إلى معانيها في الفلسفة والمعاجم إلى حد بعيد. تشدد كثيراً في تمسكه بالتقليد، ولكنه في الحقيقة والواقع لم يكن ذا كفاءة للهضم ولتمثيل التقليد. يبدو مشبعاً من الكبادوكيين إلا أنه عجز عن الهضم. ويبدو من طلبه إلى الأمبراطور أن يبيد المبتدعين أنه شديد الطباع وأن في تصرفاته نبوة وفي خلقه جفوة. كان راهباً متشدداً. لا يخلو من الصلف والاعتداد بالذات. في كتاباته جهود مضنية للفهم، إلا أنه يخرج عن جادة الصواب والتقليد كلما حاول أن يفسر نظريته القائلة بوجود شخصين (إلهي وبشري) في يسوع وشخص ثالث أسماه شخص الاتحاد. حاول عبثاً تطبيق رأي غريغوريوس اللاهوتي القائل أن المسيح واحد في اثنين (2) كما أن الثالوث هو واحد في ثلاثة أقانيم. لم يستطع أن يفهم هذا النص كما فهمه المجمع الرابع المسكوني. لا فلسفياً ولا لاهوتياً، لم يكن الشخصية المؤهلة لأن تفصل نقطة لاهوتية بالغة النعومة تتعلق بكيفية اتحاد الطبيعتين وبنوعية وحدة يسوع. بعبارة أخرى لم تكن لديه، أنتولوجية antologie قادرة على الكلام الصحيح عن كيان être يسوع. وقد جنى على نفسه بخروجه عن تقليد الكنيسة في كل مكان إذ رفض تسمية العذراء “أمّاً لله”. ومهما حاول المعاصرون (3) بحجة مجمع الفاتيكان الثاني (كغيريلماير مثلاً) أو بأية حجة أخرى تلطيف الوضع، فإن نسطوريوس يبقى ذا قفزات خارج تقليد الكنيسة وتعليم الآباء. فبعضهم -بما فيه غريلماير- يعتذر له بالجهل. ولكن غريلماير نفسه يذكر أنه كان عليه أن يعرف تسمية غريغوريوس اللاهوتي للعذارء “أمّاً لله” من خطبة هذا ذات الرقم 37. وترد أيضاً في الخطبة 29: 4. ونسطوريوس كان يعرف مؤلفات غريغوريوس، ويذكر غريلماير أن أفسطاطيوس أسقف أنطاكية المخلوع في العام 330 كان يعرف هذه التسمية (ص 285). وفي العام 325 أرسل ألكسندروس أسقف الإسكندرية الرسالة 12 إلى زميله الكسندروس القسطنطينية حيث وردت اللفظة (مين 18: 568). وقد عرف ثيوذوريتوس نفسه هذه الرسالة وأوردها في تاريخه (1: 3 في مين 82: 908). فهل جهلها نسطوريوس؟ وفي ورقة بردي ترجع إلى أواخر القرن الثالث وردت اللفظة. ومنذ الربع الثاني من القرن الرابع تتكاثر الأدلة والشهادات فجأة على استعمالها (راجع الحاشية 4 ص 43 من الترجمة الفرنسية مع النص اليوناني لرسالة غريغوريوس في العدد 208 من مجموعة S.C). والذهبي الفم أنطاكي اعتلى سدة القسطنطينية مثل غريغوريوس قبل أن يعتليها نسطوريوس وهو يؤمن بأن يسوع هو ابن الله وابن الإنسان الذي صار انساناً لكي يصّيرنا أولاداً لله. فوحدة شخص يسوع لديه بند إيمان رئيسي (الخطبة 2: 3 على إنجيل متى).
فمن الإسكندرية إلى أنطاكية إلى القسطنطينية إلى كبادوكية، اللاهوتيون والبطاركة كانوا في القرن الرابع مع الرهبان والشعب متعليقين بلقب “أُمّ الله”؛ فلا يُعقل أن ينفرد نسطوريوس في جهله. ولكن كان القصر معه.
جابهه في البداية المحامي أفسابيوس الذي صار فيما بعد أسقف دوريليوم (4). تنطس للمعركة كيرللس الإسكندري. خاضها معه شلستينوس بابا رومية. تراشق الطرفان التهم. كيرللس الاسكندري استعمل عبارة أثبت التحقيق أنها مدسوسة عليه باسم أثناسيوس بينما هي في الحقيقة من تأليف أبوليناريوس. العبارة هي: “طبيعة واحدة متجسدة للإله الكلمة” (5). اتهمه خصومه بأنه أبوليناري. تحولت المعركة إلى نوع من الصراع المصري-السوري. انعقد المجمع المسكوني الثالث في أفسس (431). تأخر أسقف أنطاكية يوحنا فانعقد المجمع في غيابه (22 / 7 / 431) وحُرم نسطوريوس. ووصل يوحنا فعقد مجمعاً معاكساً وحرم كيرللس. الأكثرية الساحقة مع كيرللس (حوالي 200 ثم زادات) بينما ضم مجمع يوحنا 37. وتوسع الانشقاق وغطس القصر فيه سلباً وإيجاباً. وكلّفت العملية كيرللس إفلاس كنيسته. ونجح أخيراً لأن خصومه من السوريين أرادوا إنقاذ نسطوريوس وهم يعرفون أنه انحرف عن الإيمان القويم. ففي آب 431 بعثوا برسالة إلى الأمبراطور تدل على أن إيمانهم قويم. وهي نفسها (بعد إضافة فقرة عليها) صارت في العام 433 رسالة المصالحة. وفي نص 431 ونص 433 (أوردناهما دفعةً واحدة في مكان آخر لأنهما وردا في نص 433) يتضح أن الأنطاكيين محافظون على تعليم آباء الكنيسة وبخاصة منه رسالة أثناسيوس إلى أبيكتوس (6) ورسالة غريغوريوس اللاهوتي إلى كليدونيوس وخطبته الثلاثون (7). وفضلاً عن سعي القصر الدائب لفرض الصلح لعب أكاكيوس أسقف حلب ووكيله في المجمع بولس أسقف حمص والقديس سمعان العمودي أدواراً مجيدة للسلام. اعتبر كيللس نفسه قد انتصر. واعتبر يوحنا وثيوذوريتوس أسقف قورش وهيباس أنهم قد انتصروا. والحقيقة التي لا مراء فيها أن المنتصر الأكبر هو الإيمان الأرثوذكسي. فالأنطاكيون جرّوا كيرللس إلى جهد لاهوتي رائع عادت معه عباراته الأبولينارية ذات معنى أرثوذكسي لا أبوليناري (8). وكيرللس جر الأنطاكيين إلى تعمق أوسع في آباء الكيسة ووضع النبرة على وحدة شخص يسوع. في النص المتفق عليه نرى نبرة كيرللس على الوحدة ونبرة الأنطاكيين على الطبيعتين (9). أما لفظة “هيكل” فليست خاصة بالأنطاكيين كما يرى باردي (في فليش ومارتان). فقد استعملها أثناسيوس واستعمل سواها مثل “بيت”، “أداة”، “ثوب”، “رداء”، (الرسالة إلى أبيكتوس 2 و4 10؛ إلى أديفيوس 3: 4؛ في التجسد 42، 43، 44، نبذة في مين 26: 1240). والذهبي الفم استعملها في شرح المزمور 44: 2. واستعمل لفظة “مسكن” في العظة 11 على يوحنا.
هذا الصلح بين المعتدلين الأنطاكيين ومصر وروما والقسطنطينية على حرم نسطوريوس وعلى نص لاهوتي رصين (وإن كان غير تام) أخرج من جسم الكنيسة الجامعة المتطرفين، فنشأت كنيسة نسطورية. تقلصت شيئاً فشيئاً عبر التاريخ. في العام 589 أغلق الأمبراطور زينون مدرستها في نصيبين. انتهت غلى الانتشار في العراق وفارس وحتى الصين، بديناميكية نادرة يحميها القصر الفارسي ويوغر صدرها على القسطنطينية. ولغوياً أنثنت إلى اللغة السريانية حتى بدت قومية. ولعبت دوراً بارزاً في نقل العلوم والفلسفة إلى العربية.
نسطوريوس قال بوجود أقنومين وطبيعتين وشخصين وشخص اتحاد. ورفض القول أن مريم هي أمّ الله. وقال أيضاً بالمشيئة الواحدة والفعل الواحد. وحرص شديداً على تبرئة لاهوت الابن من الأوصاف البشرية لدرجة أضعف معها الاتحاد جداً. النبرة لديه موضوعة على الطبيعتين مهما حاول الكلام عن الاتحاد. بالمقابل قال المتصالحون أن يسوع واحد وأن الاتحاد صار من طبيعتين وأن اللاهوتيين يستعملون ثلاث طرق:
- ينسبون اللاهوتيات إلى اللاهوت.
- ينسبون البشريات إلى الناسوت
- ينسبونها جميعاً إلى الشخص الواحد يسوع.
ولهذا فمريم هي حقاً أمّ الله بفضل وحدة يسوع.
(1) الألفاظ المركزية في اللاهوت منذ البداية حتى نهاية المجمع السادس المطروحة لدى أبوليناريوس بما فيه لفظة “التقنيم” أنه انفرد بطرح كل قضية الخريستولوجيا دفعة واحدة سبق فيها الزمن مع أنه رجل بدعة.
(2) طبيعتين.. (الشبكة)
(3) وبعضاً منهم من لاهوتيي أنطاكية العظماء في القرنين 20 و21… (الشبكة)
(4) إن أسقف دوريليوم هو نفس الشخص الذي تصدّى لبدعة أوطيخا فيما بعد، وحاربه ديسقوروس في المجمع اللصوصي واتهمه بالنسطورية… فقد كان هذا المحامي، هو أول من حارب نسطوريوس وجاهر بالإعلان بأن ما يعلمه نسطوريوس هو هرطقة. هو الذي كان بداية الشرارة التي أشعلت نار الغيرة في القديس كيرلس للتصدي لهرطقة نسطوريوس. ووصم نسطوريوس بأنه من أتباع بولس السمسياطي… (الشبكة)
(5) {حتى أن أهم كتاب في هذا الخصوص صدر عن أصحاب الطبيعة الواحدة “مجمع خلقيدونية، إعادة فحص” للأب صموئيل، أقرّ أن هذه العبارة أبولينارية. ولكنه دافع عن استخدامها، بأسلوب يتضح منه أنه يجهل كل ماتقوله كنيستنا الأرثوذكسية، إذ يقول في الصفحة 458:
[لقد أكد الكثير من العلماء المعاصرين أن عبارة “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة” كانت قد صيغت في الأصل بواسطة المدرسة الأبولينارية. وحتي إذا سلمنا بهذا الإحتمال, فينبغي أن ننبه إلي أن الأصل غير الأرثوذكسي لمصطلح ما أو وثيقة ما لا يُعد سبباً وجيهاً لرفضه بواسطة الفكر اللاهوتي الأرثوذكسي. وعلي سبيل المثال، كان التعبير النيقاوي “له ذات الجوهر الواحد مع الآب” (هوموأووسيوس تو باتري), جزء من المفردات الفالنتينية (التي تخص اتباع فالنتين). بل والأكثر من ذلك انها أُدينت بواسطة مجمع أنطاكية الذي حرم بولس السموساطي عام 268م وبالرغم من ذلك قام مجمع نبيقية 325م بتبني تلك العبارة، وبعد حوالي نصف قرن من الصراع العنيف قامت الكنيسة بالتصديق عليها في مجمع القسطنتينية عام 381م.
ولهذا فإن الأمر محل الإهتمام بالنسبة لمصطلح ما، ليس هو كيفية نشؤته, وإنما المعني الذي يُنسب إلي ذلك المصطلح والحاجة اللاهوتية لتأكيد فكرة ما (بواسطته)].
والكنيسة الأرثوذكسية تقول هذا. ولكنها تتوسع بالشرح فتقول: أن القديس كيرلس انخدع في بداية الأمر، ولكن المعركة التي كانت بينه وبين أنطاكية أوضحت له الفرق بين الطبيعة والأقنوم. ولهذا نراه بعد ذلك يُتهم بالنسطورية، وهذا ما سيتوضح لاحقاً في هذا الكتاب، والحواشي التي ستضعها الشبكة في هذا الكتاب}… (الشبكة)
(6) يوحنا الأنطاكي أعطاهما أهمية كبيرة. وكانت نسخته غير سليمة، فأمده كيرللس بنسخة أمينة (رسالة المصالحة) وهي حقاً إيمان أرثوذكسي.
(7) وتشبههما الخطبة 7 للذهبي الفم ضد أفنوميوس.
(8) وهذا الذي لم يفهمه الأب صموئيل. أننا لسنا ضد العبارة كعبارة، ولكن المعنى الذي يؤخذ من العبارة. ولهذا نجد القديس كيرللس قد دخل في معركة مع من كان متعصباً له ضد أنطاكية، وراح يشرح لهم أن إيمانه لم يتغير بل هو هو كما كان. إلا أن التعبير عن هذا الإيمان قد تغيّر… وهذا الذي سيتوضح لاحقاً كما ذكرنا في الحاشية (5) (الشبكة)
(9) ليس ضعف الأنطاكيين قائماً في وضع النبرة على الطبيعتين بل يقوم على جعلهما أقنوماً مناظراً للأقنوم الإلهي. وقوة كيرللس قائمة في التركيز على وحدة يسوع وعلى أقنومه الإلهي الذي اتخذ في الزمن بشريّة تملكها، صيرها ملكاً له بضمها إلى أقنومه الإلهي.