Site icon شبكة أرثوذكس أونلاين

أقوال بعضِ القديسين في الدينونة – القسم الأول

قال القديس دوروثاؤس: إنه لا شيء أردأ من الدينونةِ للإنسان، لأن بسببها يتقدم إلى شرورٍ ويسكن في شرورٍ، فمن دان أخاه في قلبهِ وتحدث في سيرتهِ بلسانهِ، وفحص عن أعمالهِ وتصرفاتهِ، وترك النظرَ فيما يُصلِح ذاتَه، وانشغل عما يلزمه بما لا يلزمه من الأمورِ التي ينشأ عنها الازدراءُ والنميمةُ والملامةُ والتعيير، فحينئذ تتخلى المعونةُ الإلهية عنه، فيسقط فيما دان أخاه عليه. أما النميمةُ فتصدر من ذاك الذي يخبر بما فعله أخوه من خطايا شخصية، فيقول عنه إنه فعل كذا وكذا. وأما الدينونة، فبأن يخبر بما لأخيه من خُلقٍ رديء، فيقول إنه سارقٌ أو كذاب أو ما شابه ذلك، فيحكم عليه بالاستمرار فيها وعدم الإقلاع عنها. وهذا النوع من الدينونة صعبٌ جداً، ولذلك شبَّه ربنا خطية الدينونة بالخشبة، والخطية المدانة بالقذى. من أجل ذلك قَبِلَ توبةَ زكا العشار، وصفح عما فعله من آثامٍ، وشجب الفريسي لكونِه دان غيرَه، مع ما له من صدقةٍ وصومٍ وصلاةٍ وشكرٍ لله على ذلك.

فالحكم على خليقةِ الله، يليق بالله لا بنا، فدينونةُ كلِّ واحدٍ وتزكيته هي من قبل الله وحده، لأنه هو وحدَه العارف بسرِّ كلِّ إنسانٍ وعلانيته. وله وحده إصدار الحكم في كلِّ أمرٍ وعلى كلِّ شخصٍ. إذ يتفق أن يعمل إنسانٌ عملاً بسذاجةٍ وبقصدٍ يرضي الله، وتظن أنت غير ذلك، وإن كان قد أخطأ، فمن أين تعلم إن كان تاب وغفر الله له، أو إن كان الله دانه في العالم إزاء ذنوبهِ؟ فالذي يريد الخلاص إذن، ليس له أن يتأمل غيرَ نقائص نفسِه، مثل ذلك الذي رأى أخاه قد أخطأ فبكى وقال: «اليوم أخطأ هذا الأخ، وغداً أخطئ أنا، وربما يُفسح الربُ لهذا فيتوب، وقد لا يُفسح لي أنا». فبالحقيقة ويلٌ لمن يدين أخاه فإنه سيُهلك نفسَه بكونِه صار دياناً، ولكونهِ يؤذي الذين يسمعونه. وعنه يقول النبي: «ويلٌ للذي يسقي أخاه كأساً عكرة». وكذلك: «ويلٌ للذي من قِبلهِ تأتي الشكوك». أما أصلُ هذا كلِهِ فهو عدم المحبة، لأن المحبةَ تغطي كلَّ عيبٍ. أما القديسون فإنهم لا يدينون الأخَ، لكنهم يتألمون معه كعضوٍ منهم، ويشفقون عليه ويعضدونه ويتحايلون في سبيلِ خلاصِهِ، حتى ينشلونه كالصيادين الذين يرخون الحبلَ للسمكةِ قليلاً قليلاً حتى لا تخرق الشبكةَ وتضيع، فإذا توقفت سَوْرةُ حركتِها حينئذ يجرونها قليلاً قليلاً، هكذا يفعل القديسون، فإنهم بطول الروح يجتذبون الأخَ الساقطَ حتى يقيموه، كما فعل شيخٌ إذ جلس على الماجورِ الذي كانت تحته المرأة، لكي لا يجدها أولئك الدين نمُّوا على الأخ … بشفقةٍ ومحبةٍ، لا باستنقاصٍ وتعيير.

كذلك أخبرأحدُ رؤساءِ الأديرةِ عن شيخٍ من الشيوخ القديسين أنه سكن قريباً من الديرِ، وكان ذا نفسٍ راجحةٍ في الصلاح، فجاوره أخٌ راهب. واتفق في غيبة الشيخ أن طغى الأخُ وفتح قلايتَه، ودخل فأخذ زنابيلَه ومصاحِفَه. فلما رجع الشيخ وفتح قلايته، لم يجد زنابيلَه ولا باقي حاجاته، فجاء إلى الأخِ ليخبره بما جرى له. وبدخولهِ قلاية الأخ وجد زنابيله ومصاحفه في وسطِها، لأن الأخَ لم يكن بعد قد خبأها. فلمحبةِ الشيخ، رأى ألا يحرجه، أو يوبخه، أو يخجله، فتظاهر بوجود ألم في بطنِهِ، ويحتاج الأمر لزوالهِ إلى قضاء الحاجة، فدخل بيتَ الراحةِ وأبطأ فيه وقتاً طويلاً، حتى إذا تأكَّد أن الأخَ خبأها، خرج الشيخ وبدأ يكلمه في أمورٍ أخرى ولم يوبخه. وبعد أيامٍ قليلةٍ، عثروا على زنابيل الشيخ عند الأخ، فأخذه قومٌ وطرحوه في الحبسِ، فلما سمع الشيخ أنه في الحبسِ ولم يكن يعرف العلةَ التي من أجلها حُبس، قام وجاء إلى الرئيس، وقال له: «اصنع محبةً وأعطني بيضاً وخبزاً قليلاً». فقال له ذاك: «من البيِّن أنه يوجد عندك اليوم ضيوفٌ». فقال له: «نعم». فأخذ الشيخ ما طلبه، ومضى إليه في الحبسِ، ليجد الأخُ غذاءً من الطعام. فلما دخل ليفتقدَه، خرَّ الأخُ على رجليه وقال: «يا معلم، لقد جيء بي إلى ههنا، لأني أنا هو الذي سرقتُ زنابيلك، ومصاحفك تجدها عن فلان، وثوبك تجده أيضاً عند فلان». فقال له الشيخ: «بالحقيقيةِ يا ولدي، اِعلم تماماً أني لستُ من أجل هذا الأمر دخلتُ إلى الحبس، ولم أعلم بوجهٍ من الوجوه أنك جئتَ من أجلي إلى ههنا، لكني سمعتُ أنك محبوسٌ فاغتممتُ، وجئتُ مصلحاً لك طعاماً تتغذى به، فاقبل الخبزَ والبيضَ وخذه من أجلِ محبتي». ثم إن الشيخ خرج إلى أكابر البلد، وأعلمهم بأن هذا الأخ بريءٌ، وسألهم ألا يجلبوا على أنفسِهم خطيئةً. ولكونه معروفاً بينهم بالفضلِ والخيرِ، سمعوا لكلامِه، ولوقتهم أطلقوه، فهذا الأخُ بقي تلميذاً عند الشيخ بقية أيام حياتهِ ولم يكلِّمه بكلمةٍ واحدةٍ قط.

وأيضاً قال شيخ: لا تدن الفاسقَ أيها العفيف لئلا تصير مثلَه مخالفاً للناموس، لأن الذي قال لا تزنِ، قال أيضاً لا تدِن. والرسول يعقوب يقول: «إن من حفظ الناموسَ كلَّه، وذلَّ في واحدةٍ منه، صار مُطَالباً بالجميعِ».

قال يوحنا السينائي: إنه في حالِ جلوسي في البريةِ الجوانية، جاءني أحدُ الإخوة متفقداً مَن بالدير، فسألتُه: «كيف حالُ الإخوة»؟ فأجابني: «بخيرٍ بصلاتِك». فسألتُه أيضاً عن أخٍ واحدٍ كانت سمعتُه قبيحةً، فأجابني: «صدقني يا أبي، إنه لم يتُب بعد منذ ذلك الوقتِ الذي أُشيعت عنه فيه تلك الأخبار». فلما سمعتُ ذلك قلتُ: «أُف». فعند قولي «أف» أخذني سُباتٌ وكأن نفسي قد أُخذت، فرأيتُ أني قائمٌ قدامَ الجمجمة، والمسيحُ مصلوباً بين لصين، فتقدمتُ لأسجدَ له، ولكنه أمر الملائكةَ الواقفين قدامَه بإبعادي خارجاً قائلاً: «إن هذا الإنسان قد اغتصب الدينونةَ مني ودان أخاه قبل أن أدينه أنا». فوليتُ هارباً، فتعلق ثوبي بالباب وأُغلق عليه، فتخليْتُ عن ثوبي هناك. فلما استيقظتُ قلتُ للأخ الذي جاءني: «ما أردأ هذا اليوم عليَّ». فأجابني: «ولِمَ يا أبي»؟ فأخبرتُه بما رأيتُ وقلت: «لقد عدمتُ هذا الثوبَ الذي هو سُترة الله لي».

ومن ذلك اليوم، أقام القديس هكذا تائهاً سبعَ سنين في البراري، لا يأكل خبزاً ولا يأوي تحت سقفٍ، ولا يبصر إنساناً. وأخيراً رأى في منامِهِ كأن الربَ قد أمر أن يُعطوه ثوباً. فلما انتبه فرح فرحاً عظيماً، وبعد أن أخبرنا بذلك بثلاثة أيامٍ تنيح. فلما سمعنا ذلك تعجبنا قائلين: «إن كان الصديقُ بالجهدِ يخلص، فالمنافق أين يظهر».

من خبر لتادرس الرهاوي:

كان بتلك النواحي حبيسٌ قديم، فمضى إليه القديس تادرس الأسقف، وسأله أن يعرِّفه بسيرتهِ من أجلِ الرب. فتنفس الحبيسُ الصعداء، وتنهد من صميمِ قلبهِ وذرفت دموعُه وقال: «أما سيرتي فأنا أخبرك بها، فقط لا تُشهرها لأحدٍ إلا بعد انتقالي. فاعلم أيها الأب، أني خدمتُ بديرٍ ثلاث سنوات مع أخٍ أكبر مني، وبعد ذلك جئنا إلى البريةِ في بابل القديمة، وسكنَّا مقابرَ لم يبعد بعضُها عن بعضٍ كثيراً. وكنا نتغذى من الحشائش النامية من ذاتِها من سبتٍ إلى سبتٍ، وكنا إذا خرجنا لنجمع الحشائش لغذائنا، يتراءى مع كلِّ واحدٍ منا ملاكٌ يحفظه. ولم يكن أحدُنا يخاطب الآخر ولا يقترب منه. ففي أحدِ الأيامِ رأيتُ أخي من بُعدٍ قد قفز عن موضعٍ طائراً كأنه نجا من فخٍ، ومضى هارباً إلى قلايتهِ. فلما عجبتُ من قفزتِه، مضيْتُ إلى ذلك الموضع لأتحقق الأمرَ. فوجدتُ هناك ذهباً كثيراً، فأخذتُه ثم جئتُ إلى المدينةِ، وابتعتُ موضعاً حسناً محاطاً بسورٍ وبه عينُ ماءٍ صافٍ، فبنيتُ هناك كنيسةً، وعمَّرتُ موضعاً لضيافة الغرباءِ. وابتعتُ برسمهِ مواضعَ كافيةً للإنفاق عليه، وأقمتُ عليه رجلاً خبيراً بتدبيرِهِ. أما باقي المال، فقد تصدَّقتُ به على المساكين حتى لم أُبقِ لي منه ولا ديناراً واحداً. ثم عدتُ طالباً قلايتي، وفكري يوسوسُ لي قائلاً: «إن أخي من فشلِهِ ما استطاع تدبير ما وجده من المال، أما أنا فقد دبرتُه حسناً». في حال تفكري بهذا، وجدتُ نفسي وقد وصلتُ بقرب قلايتي، ورأيتُ ذلك الملاك الذي كان قبلاً يُفرِّحني، وإذا به ينظر إليِّ نظرةً مفزعةً، قائلاً لي: «لماذا تتعجرف باطلاً؟ إن جميعَ تعبك الذي شَغَلْتَ نفسَك فيه كلَّ هذه الأيام، لا يساوي تلك القفزةَ الواحدة التي قفزها أخوك، لأنه ما جاز عن حفرةِ الذهبِ فحسب، بل عبَرَ أيضاً تلك الهوةَ الفاصلةَ بين الغني ولعازر, واستحق لذلك السُكنى في أحضان إبراهيم، من أجل ذلك فقد أصبح حالُك ليس شيئاً بالنسبةِ لحالِه بما لا يقاس، وها هو قد فاتك كثيراً جداً، ولهذا صرتَ غيرَ أهلٍ لأن ترى وجهَه، كما لن تحظى برؤياي معك بعدُ». وإذ قال لي الملاكُ ذلك غاب عن عيني. ثم إني جئتُ إلى مغارةِ أخي فلم أجده فيها، فرفعتُ صوتي باكياً حتى لم يبقَ فيَّ قوةٌ للبكاءِ. وهكذا أقمت سبعةَ أيام أطوفُ تلك البريةَ باكياً، فما وجدتُ أخي، ولا وجدتُ عزاءً، فتركتُ ذلك الموضع نادباً، وجئتُ إلى هنا، فأقمتُ في هذا العمودِ تسعاً وأربعين سنةً محارِباً أفكاراً كثيرة، وشياطين ليست بقليلةٍ، وكان على قلبي غَمامٌ مظلمٌ وحزنٌ لا يمازجه عزاء. وفي السنة الخمسين، في صبيحة الأحد، أشرق على قلبي نورٌ حلو، قشع عني غَمامَ الآلام، وبقيتُ مبتهلاً بقلبٍ خاشعٍ مُنَدَّى بدموعٍ ذاتِ عزاءٍ، فلما جازت الساعة الثالثة من النهار، وأنا ملازمٌ للصلاةِ قال لي الملاكُ: السلامُ لك من الربِّ، والخلاص. فتعزَّى قلبي».

قيل: أخطأ أحدُ الإخوةِ فطُرد، فقام الأب بيساريون وخرج معه قائلاً: «وأنا أيضاً خاطئٌ».

وحدث مرةًأن هفا أخٌ بالإسقيط، وانعقد مجلسٌ بسببهِ، فقام الأب بيئور، وأخذ خُرجاً وملأه رملاً وحمله على ظهرهِ، كما أخذ كيساً صغيراً ووضع فيه قليلاً من الرملِ وجعله قدامه. فسألوه: «ما هذا الخُرج المملوء كثيراً»؟ فقال: «إنه خطاياي قد طرحتُها وراءَ ظهري حتى لا أنظرها ولا أتعب لأجلِها، أما الرملُ القليل الموجود قدامي، فهو خطايا أخي، وقد جعلتُها قدامي لأدينه عليها». فلما سمع الإخوةُ ذلك انتفعوا، وغفروا للأخِ.

قيل: سأل أحدُ الإخوةِ شيخاً قائلاً: «ما السبب في أني أدين الإخوةَ دائماً»؟ فأجابه الشيخ: «لأنك ما عرفتَ ذاتك بعد، لأن من عرف ذاته، لا ينظر عيوبَ إخوتِهِ».

قيل كذلك: كان أخان في كنوبيون، واستحق أن ينظرَ كلٌّ منهما نعمةَ اللهِ على أخيه. فعرض لأحدِهما أن يخرجَ يومَ الجمعةِ خارج الكنوبيون، فرأى إنساناً يأكل مبكراً، فقال له: «أفي هذا الوقت تأكل يومَ الجمعةِ»؟ ولما كان الغدُ رآه أخوه ولم يبصرْ عليه النعمةَ التي كانت تُرى عليه، فحزن لذلك، ولما جاء إلى قلايتهِ قال له: «ماذا عملتَ يا أخي»؟ قال: «ما عملتُ شيئاً حتى ولا فكرتُ فكراً رديئاً». قال له: «ألم تتكلم بشيءٍ»؟ فقال: «نعم، بالأمسِ رأيتُ إنساناً خارج الكنوبيون يأكلُ مبكراً، فقلت له: أفي هذا الوقت تأكل يومَ الجمعةِ»؟ فقام بالتكفير عن ذلك مدة أسبوعين، وسأل الله بتعبٍ، فظهرت نعمةُ اللهِ على الأخِ، فشكرا الله كلاهما.

قال أحدُ الآباء: إن أخاً من الإخوةِ جاء إلى آخر، وتحدَّثا بشأنِ أخٍ لا يحفظُ العفةَ، فأجاب الآخرُ وقال: «وأنا سمعتُ بهذا أيضاً». فلما مضى ذلك الأخ إلى قلايتهِ لم يجد فيها الراحةَ التي تعوَّدها. فقام ورجع إلى ذلك الأخ وضرب له مطانية قائلاً: «اغفر لي، فإني لم أسمع شيئاً عن ذلك الأخ». فقال له الآخر كذلك: «ولا أنا سمعتُ شيئاً». فلما ندما على ما قالا وجدا راحةً.

قال أخٌ للأب بيمين: «إن أنا رأيتُ أخاً قد سمعتُ عنه سماعاً قبيحاً، فهل من الواجبِ عليِّ ألا أُدخله قلايتي؟ وإن رأيتُ أخاً صالحاً، فهل أفرحُ به»؟ فأجابه الشيخ: «إن أنت صنعتَ مع الأخ الصالح خيراً قليلاً، فاصنع ضِعفَه مع ذاك، لأنه أخٌ مريض».

قال القديس أنسطاسيوس: «لا تكن ديَّاناً لأخيك، لتؤهَّل أنت للغفران، فربما تراه آثِماً خاطئاً، لكنك لا تعلم بأي خاتمةٍ يفارق العالم، فذلك اللصُ المصلوب مع يسوع، كان للناسِ قتالاً وللدماء سفاكاً، ويوداس الرسول كان تلميذاً للمسيح ومن الأخصاء، إذ كان الصندوق عنده، إلا أنهما في زمنٍ يسير تغيَّرا، فدخل اللصُ الفردوسَ، واستحق التلميذ المشنقةَ وهلك».

وقال أيضاً: إن أخاً من الرهبانِ كان يسير بتوانٍ كثير، هذا وُجِدَ على فراشِ الموتِ وهو في النزعِ الأخير بدون جزعٍ من الموتِ. بل كانت نفسُه عند انت قالهِ في فرحٍ كاملٍ وسرورٍ شاملٍ. وكان الآباءُ وقتئذ جلوساً حوله، لأنه كانت العادةُ في الديرِ أن يجتمعَ الرهبانُ كلُّهم أثناء موتِ أحدهم ليشاهدوه، فقال أحدُ الشيوخِ للأخِ الذي يموت: «يا أخانا، نحن نعلم أنك أجزتَ عمركَ بكلِّ توانٍ وتفريط، فمن أين لك هذا الفرحُ والسرور وعدمُ الهمِّ في هذه الساعةِ؟ فإننا بالحقيقةِ لا نعلمُ السرَّ، ولكن بقوةِ الله ربنا تقوَّ واجلس وأخبرنا عن أمرِك العجيب هذا، ليعرفَ كلٌّ منا عظائمَ اللهِ». وللوقت تقوَّى وجلس، وقال: «نعم يا آبائي المكرَّمين، فإني أجزتُ عمري كلَّه بالتواني والنوم، إلا أنه في هذه الساعةِ، أن أحضرَ لي الملائكةُ كتابَ أعمالي التي عملتُها منذ أن ترهبتُ، وقالوا لي: أتعرف هذا؟ قلتُ: نعم، هذا هو عملي، وأنا أعرفه، ولكن من وقتِ أن صِرتُ راهباً ما دِنتُ أحداً من الناسِ قط، ولا نميتُ قط، ولا رقدتُ وفي قلبي حقدٌ على أحدٍ، ولا غضبتُ البتة، وأنا أرجو أن يَكْمُل فيَّ قولُ الرب يسوع المسيح القائل: لا تدينوا لكي لا تدانوا، اتركوا يُترك لكم. فلما قلتُ هذا القولَ، تمزَّق للوقتِ كتابُ خطاياي بسبب إتمامِ هذه الوصية الصغيرة». وإذ فرغ من هذا الكلام أسلم الروحَ. فانتفع الإخوةُ بذلك وسبَّحوا الله.

سُئل شيخٌإن كان الله يقبل توبةَ الخطاةِ، فردَّ على سائلِه قائلاً: «أخبرني أيها الحبيب، لو أن ثوبَك تمزَّق، فهل كنتَ ترميه»؟ قال: «لا، ولكني كنتُ أخيِّطُه وألبسه». فقال الشيخ: «إن كنتَ أنت تشفق على ثوبِك الذي لا يحيا ولا يتنفس، فكيف لا يشفق الله على خليقتِهِ التي تحيا وتتنفس»؟

سأل أحدُ الإخوةِالأب بيمين قائلا: «يا أبي، إن وقع إنسانٌ في خطيئةٍ ورجع، فهل يغفر الله له»؟ فقال له الشيخ: «إن كان الله قد أمر الناسَ بأن يفعلوا هذا، أفما يفعله هو؟ نعم، بل وأكثر بما لا يقاس، إذ هو نفسُه الذي أوصى بطرسَ بهذا عندما قال له بطرس: إن أخطأ إليَّ أخي سبعَ مراتٍ، أأغفر له؟ فقال له سيدنا المتحنن: لستُ أقولُ سبعَ مراتٍ فقط لكن سبعةً في سبعين».

قال شيخ: «إني أهوى الرجلَ الذي يخطئ ويندم ويُقر بخطئهِ، أكثر من الرجلِ الذي يعملُ الصلاحَ ويزكي نفسَه».

شيخٌ حَدَّثته أفكارُهقائلةً له: «استرح اليومَ وتُب غداً». فقال: «لن يكونَ ذلك أبداً، بل عليَّ أن أتوبَ اليومَ، ولتكن مشيئةُ الربِ غداً». كذلك حدَّثته أفكارُه من جهةِ الصومِ قائلةً: «كُلْ اليومَ، وتنسكْ غداً». فقال: «لن أفعلَ ذلك، لكني أصومُ اليومَ، وتتم إرادةُ اللهِ غداً».

كان إنسانٌ جنديمن بلاد الأكراد، قد عمل خطايا كثيرةً ودنَّس جسدَه بكلِّ أصنافِ النجاساتِ، وبرحمةِ اللهِ تَخَشَّع قلبُه، فزهد في العالمِ ومضى إلى موضعٍ قفرٍ، وبنى له قلايةً في أسفل الوادي، وأقام فيها مهتماً بخلاصِ نفسِه. فلما عرف مكانَه بعضُ معارفهِ، صاروا يُحضرون له خبزاً وشراباً وكلَّ حاجاتهِ. فلما رأى ذاتَه في راحةٍ وأصبح لا يُعوزه شيءٌ، حزن وقال في نفسِه: «إننا ما عملنا شيئاً يستوجبُ الراحة، وهذا النياحُ الآن يُفقدني النياحَ الأبدي، لأني لستُ مستوجباً لنياحٍ البتة». وهكذا ترك قلايتَه وانصرف قائلاً: «لنَسِر إلى الضيقةِ، لأنه ينبغي لي أن آكلَ الحشيشَ طعامَ البهائمِ، إذ كنتُ قد فعلتُ أفعالَ البهائمِ». وهكذا أصبح راهباً مجاهداً.

قيل عن الأب أموناس: إنه أتاه أخٌ يطلبُ منه كلمةَ منفعةٍ، وأقام عنده سبعةَ أيامٍ، ولم يُجِبه الشيخ بشيءٍ، وأخيراً قال له: «انطلق وانظر لذاتِك، أما أنا فإني خاطئٌ، وخطاياي قد صارت سحابةً سوداءَ مظلمةً، حاجزةً بيني وبين الله».

قال الأب ألينوس: «من لم يَقُل: لا يوجد في هذا الكونِ كلِّه إلا الله وأنا فقط، فلن يصادف نياحاً».

وقال أيضاً: «لو لم أكن هدمتُ كلَّ شيءٍ، لما كنتُ قادراً على أن أبني ذاتي».

كذلك قال: «لتكن مشيئةُ الإنسانِ من باكر إلى عشية بحسب قياس إلهي».

جاء عن الأب بفنوتيوس أنه لما كان في البريةِ، كان مزاجُه صعباً، وأعمالُه بحرارةٍ كثيرةٍ، ولكنه لما صار أسقفاً تغير الحالُ قليلاً، فطرح ذاتَه قدام الله قائلاً: «يا تُرى، أَمِن أجلِ الأسقفيةِ ابتعدتْ عني النعمةُ»؟ فقيل له: «لا، ولكن لما كنتَ في البريةِ، حيث لا يوجد أناسٌ، كان اللهُ يَعْضُدك، أما الآن فإنك في العالمِ حيث يوجد الذين يَعْضُدونك». وما أن علم ذلك حتى هرب لوقتِه إلى البريةِ.

كان أنبا أبللو إذا جاءه أحدُ الإخوةِ طالباً معونَتَه في عملِه، فإنه يمضي معه بفرحٍ قائلاً: «لقد حُسِبتُ اليومَ مستحقاً لأن أعملَ مع الملكِ المسيحِ، وذلك أفضلَ جداً من نفسي».

قيل عن الأب بيصاريون إنه كان كالطيورِ، وكأحدِ الوحوش البرية، أكمل حياتَه بلا همٍ، ولم يهتم قط ببيتٍ، ولا خزَّن طعاماً، ولا اقتنى كتاباً، بل كان بكليتِهِ حراً من الآلام الجَسَدانية، راكباً فوق قوة الإيمان، صائراً بالرجاءِ مثل أسيرٍ للأمورِ المنتظرة، طائفاً في البراري كالتائه، عارياً تحت الأهوية، وكان يصبرُ على الضيقاتِ مسروراً، وكان إذا وجد مكاناً فيه أناسٌ، يجلس على الباب باكياً مثل إنسانٍ نجا من الغرقِ، فيخرج أحدُهم ويسأله قائلاً: «لماذا تبكي أيها الإنسان»؟ فيجيبه قائلاً: «إن لصوصاً وقعوا بي وأخذوا جميعَ غنى بيتي، ومن الموتِ أفلتُّ بعد أن سقطتُّ عن شرفِ نسبي». فإذا سَمع ذاك منه هذا الكلام المحزن، يدخل ويأتيه بقليلٍ من الخبزِ قائلاً له: «خذ هذا يا أبتاه، واللهُ قادرٌ أن يردَّ لك حاجتك». فيقول: «آمين»، ولا يأخذ شيئاً، بل كان يبكي ويقول: «اطلب أنت يا أخي، كي يردَّ لي الله شيئاً منها».

مضى إلى الأب بنيامين بعضُ الإخوةِ بالإسقيط، وأرادوا أن يصبُّوا له قليلاً من الزيتِ، فقال لهم: «هوذا الإناءُ الصغير الذي جئتم به منذ ثلاث سنين، موضوعٌ بحالِه كما تركتموه». فلما سمعوا عجبوا من جهادِ الشيخ وقالوا: «يا أبانا، هو ذا زيتٌ طيب، أما ذاك فإنه زيتٌ نَغل (أي زيتٌ مخلوط)». فلما سمع ذلك، رشم نفسَه بالصليب وقال: «إني ما علمتُ قط أن في الدنيا زيتاً غير هذا».

أذاعوا في بريةِ مصرَ، أن الصيامَ الكبير قد بدأ، فمرَّ أخٌ بشيخٍ كبيرٍ وقاله له: «لقد بدأ الصومُ يا أبي». فقال الشيخ: «أيَّ صيام يا ابني»؟ فقال له الأخُ: «الصيام الكبير». فأجاب الشيخ وقال له: «حقاً أقولُ لك، إن لي هنا ثلاثاً وخمسين سنةً، لا أدري متى يبدأ الصومُ الذي تقول لي عنه ولا متى ينتهي، ولكن سيرة أيامي كلهَا واحدةٌ».

قال الأب غريغوريوس الثاؤلوغوس: «إن هذه الأشياءَ الثلاثة الآتية، يطلبها اللهُ من كلِّ إنسانٍ من بني المعمودية وهي: إيمانٌ مستقيم من كلِّ النفْسِ، وصدقُ اللسانِ، وطهرُ الجسدِ وعفته».

وقال أيضاً: «إن العمرَ كيومٍ واحدٍ بالنسبةِ لأولئك الذين يعملون بشوقٍ».

كان للأب جلاسيوس مصحفٌ (أي كتاب مقدس) يساوي ثمانية عشر ديناراً، إذ كان محتوياً على العتيقةِ والحديثةِ. وكان موضوعاً في الكنيسةِ، فكلُّ من جاء من الإخوةِ قرأ فيه، فجاء أخٌ غريبٌ إلى الشيخ، ولما دخل ذلك الأخُ إلى الكنيسةِ، أبصرَ الكتابَ فاشتهاه وسرقه ومضى. فلم يتبعه الشيخ الذي كان قد علم بما فعله الأخُ. فمضى به الأخُ إلى المدينةِ، وأعطاه لإنسانٍ وطلب منه ستة عشر ديناراً، فقال المشتري: «إني لا أدفع الثمنَ دون أن أفحصَ الكتابَ». فتركه عنده. وإذا بالرجلِ يأتي به إلى أنبا جلاسيوس ويعرِّفه بما وافق البائع عليه، فقال الشيخ: «اشترِه، فإنه جيدٌ ويساوي أكثرَ من هذا الثمن». فمضى ذلك الرجل وقال للأخ: «إني أريته للأب جلاسيوس، فقال لي إن هذا الثمنَ كثيرٌ». فسأله الأخُ: «ألم يقل لك الشيخ شيئاً آخرَ»؟ فقال: «لا». حينئذ قال الأخُ: «إني لا أريد أن أبيعَه». ثم أن الأخَ أخذ الكتابَ وجاء به إلى الأب جلاسيوس وهو نادمٌ، فلم يشأ الشيخ أن يأخذَه، فطلب إليه الأخ قائلاً: «إن لم تأخذه فلن يكونَ لي راحةٌ». فقبله. وبعد ذلك مكث الأخُ عند الشيخ إلى حينِ وفاتهِ.

ومرةً أُحضِر إلى الديرِ سمكٌ، فشواه الطباخُ وتركه في الخزانةِ وخرج. فقبل أن يمضي أقام عليه صبياً ليحرسَه إلى حين عودته. إلا أن الصبي بدأ يأكل من السمكِ بشَرَهٍ. فلما جاء الخازنُ ووجده يأكل غضب ورفسه، فصادفت الرفسةُ يافوخه (أي رأسَه) وهو جالسٌ، فوقع الولدُ على الأرضِ ميتاً. أما الخازن فقد اعتراه الخوفُ، وأخذ الصبي ووضعه على سريرهِ وغطاه، وجاء إلى الأب جلاسيوس وخرَّ عند رجليهِ وأعلمه بما حدث. فقال له الشيخ: «لا تُعلم إنساناً بهذا الأمرِ، لكن اذهب وأحضره سراً إلى الدياقونيكون (أي مكان الخدمةِ) وضعه قدام المذبح وانصرف». فجاء الشيخ إلى الدياقونيكون وقام في الصلاةِ. ولما اجتمع الإخوةُ في الكنيسةِ لتأدية صلاة الليل، خرج الشيخ والصبيُ خلفه.

وقيل عن الأب جلاسيوس أيضاً إنه قلق من أفكارٍ تعرض عليه الخروج إلى البريةِ. فقال لتلميذهِ: «احرص على عدم مخاطبتي هذا الأسبوع». ونهض وأخذ عصاه بيدِهِ وبدأ يمشي خارج القلاية، وجلس قليلاً، ثم قام ومشى، فلما صار العشاء قال لفكرِهِ: «إن الذين يطوفون البريةَ، خبزاً لا يأكلون، وتحتَ سقفٍ لا ينامون، كما أن أولئك أيضاً يقتاتون بالحشيش. أما أنت فلكونك ضعيفاً، كُلْ بقولاً». فأكل ورقد تحت السماءِ، واستمر على ذلك ثلاثةَ أيامٍ وهو يمشي طول النهار، ويأكل في العشيةِ بقولاً يسيراً وينام في العراءِ. فلما تعب حينئذ بدأ يعاتب نفسَه قائلاً: «بما أنك لا تقدر أن تقومَ بأعمالِ أصحابِ البريةِ، فأَولى بك أن تجلسَ في قلايتِك وتبكي على خطاياك، ولا يطيش عقلُك قائلاً: ادخل إلى البرية. لأن عيني الربِّ في كل مكانٍ ناظرةٌ إلى أعمالِ جميعِ الناس، وهو يعرفُ جميعَ فاعلي الخير».

قال الأب جيرونديوس: «إن كثيرين يقاتَلون بشهوةِ الجسد وهم زناةٌ من غير أن يقتربوا إلى جسدٍ غريب، لأنهم لم يعرفوا كيف يقمعون أفكارَهم، فحفظوا البتوليةَ لأجسادِهم فقط، وزنوا بأنفسِهم. فجيدٌ هو أن يحرصَ كلُّ واحدٍ منا على أن يحفظَ قلبَه».

قيل عن الأب دانيال إنه لما أتى البربر إلى الإسقيط وهرب الرهبانُ كلُّهم قال: «إن لم يشأ لي الله أن أعيشَ، فما لي وللحياة». وإنه جازَ بينهم فلم يبصروه البتة. فقال في نفسِه: «هو ذا قد اهتم الله بي ولم أمت، فلأصنع الآن مثل إخوتي». فقام وهرب.

وحدث مرةًأن سأله أخٌ قائلاً: «ارسم لي وصيةً واحدةً أحفظُها». فقال له: «لا تجعل يدك مع امرأةٍ في صحفةٍ واحدةٍ، ولا تأكل معها لأن هذا فخُ شيطانِ الزنى».

أخبر أنبا دانيال، أنه حدث أن كان لرجلٍ غني في بابيلون مصرَ ابنةٌ مجنونة (بروحٍ نجس)، ولم يحصل لها على شفاءٍ. وكان له صديقٌ راهب، هذا قال له: «إنه لا يستطيع أحدٌ أن يشفي ابنتك إلا الشيوخ الرهبان، ولكنك إن طلبتَ إليهم فلن يجيبوك إلى طلبك لتواضعهم. فأُشير عليك بأن تصنع حسب ما أقوله لك، فإذا هم جاءوا إلى السوقِ ليبيعوا عملَهم، تظاهر بأنك تريد الشراءَ منهم، وخذهم معك إلى منزلِك لتعطيهم الثمنَ، وحينئذ اسألهم أن يصنعوا صلاةً، وأنا واثقٌ أن ابنتَك تبرأ». فلما خرج الرجلُ إلى موضع البيعِ وجد راهباً واحداً من التلاميذ جالساً، فأخذه إلى بيتِهِ مع زنابيلِهِ بحجة أنه يعطيه ثمنها، فلما وافى الراهب إلى المنزلِ، خرجت البنتُ المجنونةُ ولطمت خدَّ الراهبِ، فَحَوَّلَ لها الآخرَ باتضاعٍ حسب الوصيةِ، فتعذب الشيطانُ من إتمام الوصيةِ، وخرج منها متألماً صارخاً قائلاً: «الويل لنا من وصايا يسوع لأنها تزعجنا». فلما علم الشيوخُ بما كان، سبَّحوا الله قائلين: «لا شيء يُذِلُّ عظمةَ الشيطان مثل إكمال وصية السيد المسيح ربنا باتضاعٍ».

قيل عن الأب ديسقورس التناسي إن خبزَه كان من شعيرٍ وعدس، وفي كلِّ سنةٍ كان يرسم لنفسِه خطةً يبدأ بها جهادَه قائلاً مثلاً: «في هذه السنةِ سوف لا ألتقي بإنسانٍ، ولن أكلِّم أحداً، وفي هذه السنةِ لن آكل طبيخاً، ولن أتذوَّق ثمرةً». وهكذا كان يصنعُ في كلِّ خطةٍ، فإذا تمم إحداها، بدأ بالأخرى، وهكذا كان الحالُ طول السنة. وقد كان يقول: «إنْ كنا نلبس الثوبَ السماوي، فلن نوجد عراةً، وإن وُجدنا لابسين غير ذلك الثوب، فماذا نصنع؟ نخاف أن نسمعَ ذلك الصوت القائل: أخرجوه إلى الظلمةِ القصوى، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. فالآن يا إخوتي، قبيحٌ بنا بعد أن لَبسنا الإسكيم هذه السنين كلَّها، أن نوجد عراةً في اليوم الأخير، وليس علينا ثيابُ العُرسِ، فالويل لنا من تلك الندامةِ، إذا ما نظرنا إلى سائرِ الأبرارِ والصديقين، وهم يصعدون إلى السماءِ، ونحن نُساقُ إلى العذاب».

قال الأب إبيفانيوس: «إن التأمُّلَ في الكتبِ حِرزٌ عظيمٌ يحفظُ الإنسانَ من الخطيةِ، ويستميله إلى عملِ البرِ».

وقال أيضاً: «إن الجهلَ بما في الكتبِ جُرفٌ عظيمُ السقوطِ، وهوَّتُه عميقةٌ».

وقال أيضاً: «إن الذي لا يعرف النواميسَ الإلهية، فقد ضيَّع رجاءَ خلاصِهِ».

كذلك قال: «إن خطايا الأبرارِ على شفاههِم، أما خطايا المنافقين فهي في جميعِ أجسادِهم، من أجلِ ذلك يقول النبي: ضع يا ربُّ حافظاً على فمي وباباً حصيناً لشفتيّ. وأيضاً: قلتُ أحفظُ طريقي كيلا أُخطئ بلساني».

كما قال: «إن الله يتركُ للخطاةِ رأسَ المالِ إزاء توبتِهم، مثل الزانية والابن الشاطر، فأما الصديقون فإنه يطلب منهم رأسَ المالِ مع ربحِه، إذ قال له المجد لتلاميذِه: إن لم يزد برُّكم على الكتبةِ والفريسيين، فلن تدخلوا ملكوتَ السماوات».

وأيضاً قال: «إن الربَ إلهَنا يبيع ملكوتَه للناسِ بشيءٍ يسير، بكسرةِ خبز، بثوبٍ بالٍ، بكأسِ ماءٍ بارد، بفَلْسٍ واحدٍ، وذلك إذا قُدمت بإفرازٍ».

حدث في ذاتِ يومٍأن التقى القديس أفرآم السرياني بامرأةٍ فاسدةٍ، وراودته عن نفسِها كي يشتركَ معها في جماعٍ نجسٍ، وإلا شنَّعت عنه، فقال لها: «إن بعضَ الإخوةِ اعتادوا المجيء إلى هنا، فاتبعيني إلى موضعٍ آخر». فتبعته. ولما اقتربوا من موضعٍ يجتمع فيه أناسٌ كثيرون، قال لها: «إني أرى أن نُكْمِلَ الفعلَ ههنا». فقالت له: «يا راهب، أما تستحي من كثرةِ هؤلاءِ الناس الذين يبصروننا ونحن في الفعلِ القبيح»؟ فقال لها: «وأنت يا امرأةُ، أما تستحين من اللهِ خالقِ الناس الذي ينظرنا في هذا الفعل القبيح»؟ فخزيت وانصرفت خائبة.

الأب ألوجيوس: جاء عنه أنه كان قساً، وكان يتنسك نسكاً زائداً، يصوم يومين يومين، وفي مرات كثيرةٍ كان يطوي الأسبوع كلَّه صائماً، وكان أكلُه لا يزيد عن الخبزِ والملح فقط، فمدحه الناسُ كثيراً، ولذلك كثُر نشاطه. فقام ومضى إلى شيخٍ يُسمى أنبا يوسف، ليعطي له وصايا أصعب في الجهادِ. فقبله الشيخ بفرحٍ، وما كان عنده من خيرٍ صنع له به ضيافةً، فلما قدَّم المائدةَ، قال له تلاميذه: «إن القسَّ لا يأكلُ سوى خبزٍ وملح فقط»، فلم يُجبهم أنبا يوسف، بل كان يأكلُ وهو صامتٌ. فأقاموا عنده ثلاثة أيام، ولم ينظروا أنبا يوسف يصلِّي أو يرتل، لأنه كان يجعل عملَه مخفياً، فخرجوا من عنده وما استفادوا شيئاً. وبتدبيرٍ من الله، قامت ريحٌ عظيمةٌ وحدث ظلامٌ، فلم يقدروا على المسير، ورجعوا إلى قلاية الشيخ، فسمعوه يصلي صلاةً حارةً بتسبيحٍ، فوقفوا خارج القلايةِ مدةً كبيرةً، وفي النهايةِ قرعوا البابَ، فسكت وفتح لهم، وقبلهم فرحاً. ولأجلِ شدةِ العطش أخذ ألوجيوس إناءَ الماءِ ليشربَ، فوجده ممزوجاً من ماءِ البحرِ وماء النهر، فلم يقدر أن يشربه، فرجع إلى ذاتهِ مفكراً، وإنه وقع على رجلي الشيخ قائلاً: «ما هذا يا أبتاه، إننا لم نسمعك تصلي لما كنا عندك، والآن وجدناك مصلياً، وأيضاً كنا نشرب الماءَ  حُلواً، والآن وجدناه مالحاً». فقال الشيخ: «إن الأخَ موسوسٌ فمزج الماء الحلو بماء البحر». فلم يقتنع القس ألوجيوس، وجعل يطلب إليه ملتمساً أن يعرفَ الحقَّ. فقال الشيخ: «ذاك الماء أعددناهُ للمحبةِ، وهذا الماء الذي نشربه دائماً»، وأخذ الشيخ في تثقيفه وتعليمه كيف يجبُ السيرَ بتمييز وإفراز، وكيف يقطعُ عنه الأفكارَ البشرية، كما علَّمه أن يكون مشاركاً (الإخوة) يأكل معهم ما يوضع قدامه، وأن يجعلَ عملَه مخفياً. فقال ألوجيوس: «بالحقيقةِ، إن هذا هو العمل».

سأل أخٌ الأب أورانيوس قائلاً: «كيف يأتي خوفُ الله للنفسِ»؟ فأجابه وقال له: «إن اقتنى الإنسانُ التواضع، ورفض المقتنيات، ولم يدن أحداً، فإن خوفَ اللهِ يأتي للنفسِ».

وقال أيضاً: «يجب أن تقتني لنفسِك دائماً تواضعاً وفزعاً وكثرةَ نوحٍ، وقلةَ طعامٍ».

وحدث أيضاً لما كان مبتدئاً، أنه مضى إلى أحد الشيوخِ، وطلب منه كلمةً، فأجابه الشيخ: «إن آثرتَ الخلاص، فإذا اتفق وجودك عند إنسانٍ فلا تتكلم قبل أن تُسأل». وإذ أدرك معنى الكلامِ، صنع مطانية للشيخ وقال: «لقد درستُ كتباً كثيرةً، ولكن مثل هذا الأدب لم أعرف بعد». وانطلق منتفعاً.

Exit mobile version