Site icon شبكة أرثوذكس أونلاين

أقوال بعضِ القديسين في الدينونة – القسم الثالث

من سيرة الأب باخوميوس: إنه في بعضِ الأوقاتِ بينما كان باخوميوس مع الأب بلامون، وافاهما راهبٌ قد استولت عليه الخيلاءُ والاعتداد بالذات. وإذ كان الوقتُ شتاءً، فقد كانت قدامهما نارٌ تشتعل. فلما رآها الأخُ الضيفُ، داخَلَه السُبحُ الباطل وقال لهما: «من منكما له إيمانٌ صادقٌ بالله، فليقف على هذا الجمرِ ويقول الصلاةَ التي علَّمها السيدُ لتلاميذِه». فلما سمع الشيخ قولَه هذا، زجره قائلاً: «ملعونٌ هو ذلك الشيطان النجس، الذي ألقى هذا الضميرَ الفارغ في قلبك، فكفَّ عن هذا الأمر، لأنه من شيطان العُجب». فلم يحفل ذلك الأخ بقولِ الشيخ، ولكنه قال: «أنا، أنا». ثم نهض قائماً ووقف على ذلك الجمرِ المتَّقد كثيراً، وقال الصلاة الإنجيلية مهلاً مهلاً، ثم خرج من النارِ ولم تضرّه بشيءٍ، ومضى إلى مسكنِه بكبرياءِ قلبٍ. فقال باخوميوس للشيخ:

«يعلم الربُّ، أني عجبتُ من ذلك الأخ، الذي وقف على هذا الجمر ولم تحترق قدماه». فقال له الشيخ: «لا تعجب يا ابني من هذا، لأنه بلا شك من فِعلِ الشيطان، ولأجلِ أنه لم يذلِّل لبَّه، تسامح الله في أن لا تحترق قدماه، كالمكتوب: إن الله يُرسل لذوي الاعوجاج طرقاً مُعوجّةً. ولو علمتَ يا ابني ما ينتهي إله أمرُه، لكنتَ تبكي على شقاوتِه». وبعد أيامٍ قليلةٍ، لما رأى الشيطانُ أنه جانحٌ لخداعِه تشكَّل بصورةِ امرأةٍ جميلةٍ جداً، متزينةً بثيابٍ فاخرةٍ، فجاءت إليه، وقرعت بابَه، ففتح لها لوقتِه، حينئذ أسفرت عن وجهِها وقالت له: «اعلم أيها الأب الخيرِّ أن عليَّ ديناً لأقوامٍ مقتدرين، وهم يطالبونني، وليس لي ما أُوفيهم، وأخشى أن يقبضوا عليَّ، ويأخذوني عبدةً لهم، لأنهم مسافرون، فاعمل جميلاً، وأْوِني عندك يوماً واحداً، أو يومين حتى يمضوا، فيكون لك من الله جزيلُ الأجرِ، ومني أنا المسكينة صالحُ الذكرِ». فأما هو فلصلفِ قلبهِ، لم يحسَّ البلاءَ الذي دُبِّر له، فقِبلها داخل قلايتهِ، حينئذ لعبت عليه أفكارُه، فعوَّل على معاشرتها، ومد يدَه نحوها ليتمَّ الفعلَ النجس، فلوقته باغته الشيطانُ وصرعه على الأرضِ، فضاع عقلُه وبقى مسبخاً كالميتِ نهاراً وليلةً، ثم عاوده رشدُه، فقام وجاء إلى الشيخ بلامون وهو باكٍ، فطرح ذاتَه بين يديه قائلاً: «أنا هو السبب في هلاكي، وعلة مماتي. لأني لم أُصغِ إلى كلامِك، ولذلك حلَّ بي ما حلَّ». وشرح ما حدث له، ثم طلب صلاةً، فلما قاما ليصليا عليه باغته الروحُ النجس، وطفر به طفرةً منكرة، ومضى مستكداً مسافةً بعيدةً، حتى وصل مدينة تُدعى بانوس، وبقى فيها ضائعَ العقلِ وقتاً، وأخيراً زج بنفسِه في تنورٍ متقد، حيث احترق فيه وهلك.

وآخرُ أيضاً، كان كثيرَ الصلاةِ والصومِ والجهادِ، وكان كلُّ يومٍ في ازديادٍ وحرص، وحدث أنه اتكل على أعمالهِ الصالحة، فجاءه المجرِّبُ في الليلِ في شبهِ امرأةٍ تائهةٍ في البريةِ، ووثبت ودخلت قلايتَه، ووقعت بين رجليه، وكانت تطلبُ إليه أن تستترَ عنده تلك الليلةِ، فظن في نفسهِ حينئذ أن يصنعَ معها خيراً، وبدأ يسألها كيف تاهت؟ فأخبرته ما أصابها … ثم بدأت تكلمه، وتزرع في قلبهِ الأفكار الدنسة، وترثي لحاله، وتتظاهر بالإشفاق عليه، وهكذا أطالت في كلامِها حتى أمالته إلى الشهوةِ النجسةِ، مريدةً جذبه إلى نفسها، وبالضحك السمج أضلَّته حتى أنه بسط يديه إليها، فاقترب منها مسبياً بها، مقدماً نفسَه ليُتمَّ الشهوةَ، فصاحت بغتةً وخرجت هاربةً مثلَ الدخانِ، وصوتُ الضحك سُمع في الهواءِ من الأرواحِ النجسة يصيحون ويقولون: «يا من تعظَّم وترفَّع إلى العُلا، انظر كيف هبطت إلى الهاويةِ». ومن بعد هذا غدا حزيناً ورجع إلي العالم. وعلى هذا المنوال يفعلُ الشيطانُ، فإنه إذا غَلب إنساناً يجعله بغير معرفةٍ لئلا يقومَ من سقطتِه، ومن أجل ذلك علينا الهرب من العالمِ، والحذر من ملاقاة امرأةٍ، ولا نقطع رجاءَنا أبداً من رحمةِ ربنا.

قال شيخٌ: «حدث أن إنساناً شريفاً فرَّق جميعَ مالِه وعَتَقَ مماليكَه وزهد في الدنيا، إلا أنه صار متوكلاً على نفسِه وحده، مرشداً لذاتهِ، ولم يُرِد أن يكونَ تابعاً لغيرِه، متعلِّماً ممن هو أقدم منه، فوقع في نجاساتٍ شنيعةٍ وكاد يهلك، لولا أن مراحمَ الله تداركته بالتوبةِ فتعلَّم بالخبرة أن التواضع أفضل وأعظم من كلِّ الأعمالِ والفضائل».

الأب لوقيوس: سأله أخٌ عن ثلاثةِ أفكارٍ قائلاً: «أريد أن أتغرَّب». قال له الشيخ: «إن لم تضبط لسانَك في أيِّ موضعٍ مضيْْتَ إليه فلستَ بغريبٍ، أما إذا ضبطتَّ لسانَك ههنا فأنت غريبٌ». فسأله الأخُ أيضاً قائلاً: «أريدُ أن أصومَ يومين يومين». فقال له الشيخ: «قد قال إشعياء النبي: إن أنت أضنيتَ عُنُقَك كالأسلةِ، وافترشتَ المسوحَ والرماد، فلن يُعتبر ذلك صوماً مقبولاً، إما إذا أردت الصومَ حقاً فاصرف الأفكارَ الخبيثةَ». وأخيراً قال الأخ: «إني أؤثر أن أهربَ من الناسِ». فقال له الشيخ: «إن لم تستطع تقويم نفسِك وأنت بين الناس، فلن يمكنك تقويمها وأنت وحدك».

وقال أيضاً: «إن المرأةَ تعلمُ أنها قد حبلت عند توقف دمها، كذلك النفس تعلم أنها قد قبلت الروح القدس عند انقطاع الآلام السائلة منها من أسفل. أما إذا دامت فيها، فكيف يمكنها أن تثمر وهي هكذا ثماراً مثل ثمارها وهي عديمة الآلام؟ أعطِ دماً وخذ روحاً».

كما قال أيضاً: «توجعتْ معدتي مرةً وطلبتْ طعاماً في غير أوانِه، فقلتُ لها: موتي، وما دُمتِ قد طلبتِ طعاماً في غير أوانِه، فها أنا أقطعُ عنك ما كنتُ أعطيكِ إياه في أوانهِ».

قال شيخٌ: حدث مرةً أني كنتُ في موضعٍ حيث أتى يتامى ومساكين يسألون صدقةً، فلما ناموا كان بينهم واحدٌ لا يقتني شيئاً يلبسه سوى حصيرةٍ، نصفها فوقه ونصفها الآخر تحته، وكان وقتئذ بردٌ شديد، فخرج بالليلِ يبول ماءً، فسمعتُه من شدةِ البردِ يُعزي نفسَه ويقول:« أشكرك يا ربُّ، كم من أغنياءٍ الآن في السجونِ يرزحون في أغلالٍ حديديةٍ، وآخرين وقد رُبطتْ أرجلُهم في الخشبِ، لا يستطيعون الخروجَ حتى لتبديدِ الماء، ولا يقدرون أن يمدُّوا أرجلهم، وأنا مثلُ ملكٍ، لي سلطانٌ على ذاتي، حيثما شئتُ أذهبُ». فلما أنصتُّ وسمعتُ كلامَه هذا، دخلتُ إلى الإخوةِ وحدثتهم، فلما سمعوا تعجبوا وسبحوا الله.

قيل أتى تلميذٌ لأنبا مقاريوس وقال له: «أبي يرسلني لقضاءِ خدماتٍ له، وإني خائفٌ من الزنى». فقال له الشيخ: «في أيِّ وقتٍ جاءتك تجربةٌ قل: أيها الرب إلهي بصلاةِ أبي نجني، وهو يخلصك». وحدث في أحدِ الأيامِ أن أغلقت عليه عذراءٌ البابَ، فصرخَ بصوتٍ عظيمٍ وقال: «يا إله أبي خلِّصني». وللوقتِ وجد نفسَه في طريقِ الإسقيطِ.

الأب ماطوس:سأله أخٌ قائلاً: «قل لي كلمةً». فقال له الشيخ: «اطلب إلى الله أن يعطيكَ نوحاً في قلبك وتواضعاً في نفسِك وتأملاً دائماً في خطاياك، ولا تدن آخرين، ولا تجعل لك صداقةً مع صبي، ولا معرفةً بامرأةٍ، ولا صديقاً مخالفاً، ولا صلةً بإنسانٍ ما، واضبط بطنَك ولسانَك، وإن تكلم أحدٌ بحضرتِك فلا تلاججه، وإن قال لك جيداً قل نعم، وإن تكلم رديئاً فقل: أنت أخبر بما تتكلم به، ولا تمارِ ولا تماحك، فهذا هو حدُ الخلاصِ».

وسأله آخر: «قل لي كلمةً». فقال له: «اقطع عنك كلَّ مماحكةٍ في الأمورِ كلِّها، وابكِ ونح فقد قَرُبَ الوقتُ».

كذلك سأله آخر قائلاً: «ماذا أصنعُ فإن لساني يغلبني، وفي كلِّ وقتٍ أحضرُ بين الناسِ لا أستطيع أن أضبطَه، وتجدني أدينهم على كلِّ فعلٍ رديء». فأجابه الشيخ قائلاً: «إن كنتَ لا تستطيع ضبط لسانك فاهرب منفرداً لأن هذه الحالة ناتجةٌ عن ضعفٍ، فالذي يريد أن يجلسَ مع الإخوةِ ينبغي ألا يكون ذا أربعة قرونٍ بل يكون مدوّراً، حتى يمكنه التدحرج نحو الكلِّ».

وقال الشيخ: «لستُ من أجلِ الفضيلةِ أنا جالسٌ في الوحدةِ، ولكن من أجلِ الضعفِ، لأن المتقلبين بين الناسِ لهم قوتان».

وقال أيضاً: حدث أن مضى ثلاثةُ إخوةٍ إلى الأب بفنوتيوس، وسألوه كلمةً، فقال لهم الشيخ: «امضوا، وليكن عندكم الحزنُ أفضلَ من الفرحِ، والتعبُ أفضلَ من النياحِ، والإهانةُ أفضلَ من الكرامةِ، وليكن عطاؤكم أكثر من أخذِكم».

القديس مرقص تلميذ الأب سلوانس: قيل عنه إنه كانت له طاعةٌ عظيمةٌ،كما كان كاتباً. وكان الشيخ يحبه كثيراً من أجل طاعتِه. وإذ كان له أحد عشر تلميذاً آخرين، فهؤلاء كانوا يحزنون بسببِ حبهِ له أكثر منهم، فلما سمع الشيوخُ بذلك جاءوا إليه ولاموه على ذلك. فما كان منه إلا أن أخذهم وخرج وقرع على كلِّ قلايةٍ قائلاً: «أيها الأخ هلمَّ إليَّ فإني محتاجٌ إليك». فلم يتبعه ولا واحدٌ منهم فوراً. وأخيراً جاء إلى قلاية مرقص وقرع البابَ قائلاً: «يا مرقص». فلما سمع صوتَ الشيخ وثب في الحالِ وخرج خارجاً، فأرسله في خدمةٍ. فقال للمشايخ: «أيها الآباءُ، أين باقي الإخوة»؟ ثم دخل قلاية مرقص مفتشاً فوجده كان يكتب وقت ندائهِ عليه، وقد بدأ بكتابةِ الأعدادِ الكبرى التي منها  ( أوميجا فوقها خط والتي تعني ثمانمائة). فعند سماعِه صوت الشيخ لم يُرسل القلمَ ليتمَّها فتركها حرف wفقط، فلما رأوا ذلك هكذا قالوا: «بالصوابِ تحبُّ هذا الأب، ونحن نحبُّه والله يحبُّه».

وحدث في بعضِ الأوقاتِ أن كان الأب سلوانس يمشي مع مشايخ في الإسقيطِ، ومرقص معه، فأبصر الشيخ خنزيراً برياً، فقال لمرقص: «أترى يا ولدي هذا الوحش الصغير»؟ قال: «نعم يا معلم». قال الشيخ: «انظر كيف أن قرونَه مستويةٌ حسنة». قال له: «نعم يا معلم». فتعجب الشيوخُ من جوابهِ وانتفعوا من عدم مراجعتِه لمعلمِه.

الأب ميليسيوس:قيل عنه إنه عبر يوماً بموضعٍ فرأى راهباً ممسوكاً متَّهماً في جريمةِ قتلٍ، فدنا الشيخ وسأل الأخَ عن أمرهِ فعلم أنه قد اتُّهم ظلماً. فقال الشيخ لماسكيه: «أين يوجد المقتول»؟ فأروه إياه. فبسط يديه وصلى إلى الله، ثم قال للميت قدام الجميع: «قل لنا من قتلك»؟ قال الميتُ: «إني دخلتُ الكنيسةَ وأعطيتُ القسَ مالاً ليحفظَه لي، فقام عليَّ وذبحني، وحملني وطرحني قدام قلاية هذا الراهبِ. فأريدُ أن يؤخذ المالُ من القسِ ويُعطى لأولادي». فقال الشيخ: «ارقد ثانيةً حتى يأتي الربُّ ويقيمك».

وسأل أخٌ الأب موتيوس قائلاً: «أريد أن أمضي لأسكنَ في موضعٍ، فماذا تريدني أن أتدبَّر هناك»؟ فقال له الشيخ: «إن سكنتَ في موضعٍ فاحذر أن لا تُخرج لك اسماً في شيءٍ من الأشياء، بل في كلِّ موضعٍ جلستَ فيه، اتبع الكلَّ مساوياً نفسكَ بهم، وكل ما تراه من أفعالِ الورعين الأتقياء الذين يُنتفَع منهم، فافعله مثلهم، وبذلك تتنيح. لأن هذا هو الاتضاع أن تساوي نفسَك بإخوتِك، حتى إذا أبصرك الناسُ تدخل وتخرج مع الإخوةِ لا يزعجونك».

الأب مرقص المصري:قيل عنه إنه مكث ثلاثين سنة لم يخرج خارجاً عن قلايتهِ، وقد اعتاد قسيسٌ أن يأتي إليه، ويقوم بخدمةِ القداس. فاحتال الشيطانُ في إيقاعه في ألم الدينونةِ، فأوعز إلى بعضِهم فأتوْا إليه بإنسانٍ مجنونٍ بروحٍ نجس، طالبين أن يصليَ عليه، فقبل كلِّ شيءٍ بدأ المريضُ يقول له: «إن قسيسك له رائحة الخطية، فلا تدعه يدخل إليك». فقال له الشيخ: «أيها الولدُ، إن كلَّ الناسِ يطرحون الجيفَ والنجاسةَ خارجاً، أما أنت فقد أدخلتها إليَّ، أما كُتب لا تدينوا لكي لا تدانوا، فهو وإن كان خاطئاً، لكن الربَّ يخلصه، لأنه كُتب: وإن هو سقط فالرب يقيمه. وقد كُتب أيضاً: وليصلِّ بعضُكم من أجلِ بعضٍ لكي تُشفوا». وإذ قال ذلك صلى صلاةً فهرب الشيطانُ من ذلك الإنسانِ، وصرفه خائباً. فلما أتى القسُ كعادته قبله الشيخ بفرحٍ، فلما أبصر الإلهُ الصالح أمانةَ الشيخ، كشف له سراً وهو أن القسيسَ عندما اعتزم الوقوف قدام المائدةِ المقدسةِ، رأى الشيخ أن ملاكاً قد انحدر من السماءِ، ووضع يدَه عليه، فصار كعمودِ نارٍ، فعجب الشيخ من ذلك المنظرِ، وإذا بصوتٍ يأتيه قائلاً: «لماذا تعجب؟ إن كان الملكُ الأرضي لا يرتضي أن يقفَ أحدُ خدامِه بين يديه بلِباسٍ قذر، فكم بالحري ملك السماوات فإنه يجلل خدامَه الواقفين بين يديه بالمجدِ».

الأب مقاريوس المدني: قيل إن أحدَ الإخوةِ استمر يتردَّد عليه مدة أربعة أشهر يومياً، وذلك ليسأله عن كلمةٍ، فكان كلما ذهب إليه لا يجده متفرغاً من الصلاةِ حتى ولا مرةً واحدةً. فعجب الأخُ لذلك وقال: «هذا ملاكٌ وليس بإنسانٍ، وانتفع جداً».

قال الأب مطونس: «كلما دنا الإنسانُ من اللهِ، فإنه يرى نفسَه خاطئاً، لأن إشعياء النبي لما أبصر الله دعا نفسَه دنساً ونجساً».

قيل: مدح الآباءُ شخصاً في وجهِه بين يدي الأب أنطونيوس، فأراد الأب أن يمتحنَه إن كان يحتمل الذمَّ، فلم يحتمل، فقال: «هذا الأخُ يشبه قريةً مزينةً من خارجٍ، لكنها من داخلٍ خاويةً، بل ملآنةً من اللصوص».

وقيل أيضاً: شكا أخٌ إلى شيخٍ قائلاً: «إني أضربُ المطانيةَ للأخِ الواجد عليَّ، وهو غير نقي الفكرِ والضمير معي». فقال له الشيخ: «لستَ تقولَ الحقَ، لأنك وأنت تضرب المطانية، تؤديها له بدونِ أن تتوبَ إليه من كلِّ قلبك». فقال له الأخُ: «نعم، بالصوابِ حكمتَ». قال له الشيخ: «من أجلِ ذلك لا يُقنعه الله أن ينقيَ ضميرَه معك، لأنك لم تضرب له المطانيةَ وأنت مُسَلِّمٌ بخطئك نحوه، بل لا زال يَعْلُق في ضميرِك أنه هو المخطئ. ضع في ضميرِك أنك أنت المخطئ، وزَكِّ أخاك وبرِّئه من الخطيةِ، وحينئذ يحقق الله ذلك في فكرِه، ويُعطِّفه نحوك».

وسأله أخٌ آخر قائلاً: «إني أصنعُ مطانيةً للأخِ، ويبقى قلبي واجداً عليه». فأجابه الشيخ: «إن هذا هو الحقدُ، وهو يتولَّد من الغضبِ، كما تتولَّد النارُ من القدحِ، فبالمطانية شفيتَ الغضبَ، ولكنك ما استأصلتَ الحِقدَ، فيجب أن تقطعَ الأوجاعَ وهي طريةٌ صغيرةٌ قبل أن تتفرَّع وتقوى فيعسُر قطعها. فلماذا لا تفهم ما تقوله قدام اللهِ في المزمور السابع: “يا ربي وإلهي، إن كنتُ صنعتُ هذا، وكان في يديَّ ظلمٌ، أو كافأتُ ظالمي شراً، إذاً أسقطُ في يدِ أعدائي خائباً، ويطلبُ العدو نفسي ويدركها”. فإن كافأنا شراً بشرٍّ فنحن ندعو على أنفسنا لا ندعو لها. والمكافأةُ (على الشرِّ) تارةً تكون بالفعلِ، وتارة بالقولِ، وتارة بالفكرِ، وهذا هو الحقدُ. فقد لا يُحزِن من أحزنه، لكنه إذا رأى أو سمع أن غيرَه قد أحزنه يفرحُ، وقد لا يرى ذلك ولكنه يشتهي أن يراه، وهذه كلها من وجوه الحقدِ، وبعضُها أصعبُ من بعض».

كذلك سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «ماذا أعمل يا أبي، فإني عاتبٌ على أخي، وليس في نيتي سماحٌ بأن أغفرَ له»؟ فلما سمع الشيخ هذا الكلام رفع عينيه إلى السماءِ وضرب صدرَه قائلاً له: «يا شقي، إن كنتَ تُغضب ربَ السماوات والأرض، وهو يطيل روحَه عليك ويغفر لك إذا ما تبتَ إليه، فكيف لا تغفر أنت لأخيك»؟

قال شيخٌ: «لقد تركنا الطريقَ المستقيمةَ التي رسمها لنا آباؤنا، وهي أن نلومَ ذواتَنا، ورجعنا باللائمةِ على القريبِ منا، وأصبح كلُّ واحدٍ منا يحرصُ ويجتهدُ في أن يُرجعَ السببَ على أخيه في كلِّ أمرٍ ويطرح ثقلَه على قريبهِ. كما صار كلُّ واحدٍ منا متهاوناً، وفي نفسِ الوقتِ نطالب قريبَنا بحفظِ الوصايا، مع أننا لا نحفظ شيئاً منها».

حدث في أحدِ الأيامِأن جاء إلى شيخٍ أخان غاضبان على بعضِهما، وشكا إليه الأكبر منهما قائلاً: «إني إذا أمرتُ أخي بعملِ شيءٍ، فإن أمري هذا يُحزنه، كما أني أحزنُ كذلك لحزنِه، مفكِّراً أنه لو كان كاملاً في محبتهِ لي لكان يقبلُ ما أقولُه له بفرحٍ». أما الأصغرُ فقال: «يا ليتَه يكلمني بحسبِ مشيئةِ الله، لكنه يأمرني بسُلطةٍ حسب مشيئته، ولذلك لا يوافقني قلبي على طاعتهِ بحسب ما أوصى به الآباءُ». فقال الشيخ: «يعلمُ الله أني متحيرٌ كيف أن الاثنين يلومُ كلٌّ منهما الآخرَ، كما يحزنان دون أن يلومهما أحدٌ، فعِوض أن يرجع الواحدُ منهما باللائمةِ على نفسِه ويقول: حقاً إني بسُلطةٍ أكلمُ أخي ولذلك يحزن؛ نراه بالعكس يقول: إنه لم يكن كاملاً في محبته لي. كذلك الآخر فعِوض أن يقول إن أخي يكلمني بحسب مشيئة الله لمنفعتي، نراه بالعكس أيضاً يقول: إنه يأمرني بسُلطةٍ حسب مشيئته. وهكذا بقي الاثنان حزينين بدون وجه حق، وذلك لأننا نستعمل أقوالَ آبائنا باعوجاجٍ حسب نوايانا الخبيثة، فكلُّ واحدٍ منا يلقي الذنبَ على رفيقهِ، ولذلك لا ننجح ولا نفلح».

قال شيخٌ: «إن كلمتَ إنساناً كلمةً تنخسه بها، لكنه لم يحس، فلا تتب إليه ولا تعطِه مطانية، ولا تُقلق الأخَ».

وقال أيضاً: «إن عملتَ عملاً وسطَ جماعةٍ، وعرفتَ أنه يُحدِثُ عثرةً وشكاً، فأسرع واستره، ولا تتوسع فيه، ليعبرَ بغير قلقٍ».

قال الأب زوسيما: اتفق أني كنتُ مع أخٍ آخر سالكيْن مع علمانيين في طريق نابلس، فوصلنا إلى موضعٍ تُجبى فيه ضريبةٌ، فالعلمانيون لمعرفتِهم بالأمر، أعطوا ما وجب عليهم من الضريبةِ، وأما الأخُ الذي كان معي، فأخذ في المقاومةِ قائلاً: «أتتجاسرون على أن تأخذوا خِراجاً من رهبان»؟ فلما سمعتُه يقول هكذا، قلتُ له: «ما هذا الكلام الذي تقولُه يا أخي؟ كأنك تريدُ أن تطالبهم بإكرامِك إكرام قديسٍ إن شاءوا وإن أبوْا؟ فيا ليتهم كانوا قد أبصروا ما توقعوه من حُسن إجابتك وتواضعك، فكانوا يخجلون ويقولون: اغفر لنا. فأعطهم إذن الجزيةَ كتلميذٍ وديعٍ للإله الوديع الذي تمسكن ودفع الدرهمين، ثم اعبر بسلام».

الأب نسترون:كان يتمشَّى في البريةِ مع أحدِ الإخوةِ، فلما شاهد تنيناً هرب. فقال له الأخ: «أأنت كذلك أيها الأب تفزع»؟ أجاب الشيخ: «لا، لستُ أفزعُ يا ولدي، لكن الهربَ أوفق لي، ولولاه لما كنتُ قد تخلَّصتُ من روحِ المجدِ الفارغ».

قيل: إنه كان في الصعيدِ راهبٌ قد بلغ من التقشفِ مبلغاً عظيماً، ظافراً على صلواتٍ وطلباتٍ وسهر، ومالكاً عدم القنيةِ إلى أبعد غايةٍ، يُفني جسدَه بالأصوامِ والأتعاب. هذا كان قد بدأ جهادَه بأن كان يتناول كلَّ عشيةٍ ملءَ راحتيه قطينية مبلولة وكفى، وصار يتدرج إلى أن أصبحَ يتناول ذلك القدر يوماً بعد يومٍ، وهكذا حتى استطاع بعد مدةٍ أن يأكله مرةً واحدةً كلَّ أسبوعٍ مساء الأحد، أو يأكل مما اتفق له من الحشائش النابتة، ومكث على هذه الحال مدةً من الزمانِ، فحسده الشيطانُ ورامَ أن يرميه في الكبرياءِ، فوسوس له بأنه قد سلك في النسكِ مسلكاً لم يبلغه أحدٌ من البشرِ، وأنه يجب أن يجترحَ الآيات كي يزدادَ نشاطُه، ويرى الناسُ العجائبَ فيمجِّدوا الله، لأن الربَ نفسَه أيضاً قال: «ليرى الناسُ أعمالَكم الحسنةَ فيمجدوا أباكم الذي في السماوات». فسأل الربَّ من أجلِ هذا الأمرِ، وإذ لم يشأ الإلهُ المتعطِّف أن يظلمَ تعبَه، فقد ألهمه فكراً بأن الرسولَ يقول: «لسنا كفاةً أن نرى رأياً من أنفسِنا». وقال: «إن كان ذلك السيد لم يجد نفسَه كُفئاً لأن يرى رأياً من ذاتِه، فكم بالحري يجب عليَّ أنا الشقي أن أقولَ هذا القول، أقومُ إذن وأمضي إلى فلان المتوحد، ومهما قال لي أقبله كمرسَلٍ لي من قبل الله». وكان ذلك المتوحد راهباً كبيراً وقد نجح في عمل التاؤريا، قادراً على منفعةِ من يسأله. فقام للوقتِ ومضى إليه، فلما دخل قلايته رأى المتوحدُ قردين جالسين على كتفيه، ممسكين عنقَه بسلسلةٍ، وكلٌّ منهما يرهقه جذباً إليه، فلما شاهد هذا المنظرَ عرف  السببَ إذ كان متفقهاً جداً. وإنه تنهد باكياً بسكونٍ. ومن بعدِ الصلاةِ وما جرت به العادةُ من السلامِ، جلسا مدة ساعةٍ صامتيْن، لأنه هكذا كانت عادة الآباء الذين هناك، ثم فتح الراهبُ القادمُ فاه قائلاً: «أيها الأب، انفعني وأرشدني للخلاصِ». فأجابه الشيخ: «إنني لستُ كفئاً لذلك يا ولدي، لأني محتاجٌ بعد إلى إرشادٍ». فقال له: «لا تردَّني يا أبي، لأني موقنٌ بفضلِك وقد ألزمتُ ذاتي قبول مشورتك». فأجابه الشيخ: «إني أخشى أنك لا تسمع مني، ولذلك أُفضِّلُ أن أمتنعَ من ذلك». فحقَّقَ وأكَّد له أنه قبل مجيئهِ قد عاهد نفسَه قائلاً: «مهما قلتَه لي أقبله كمِن فم الله». فقال الشيخ: «خذ قِطعَ النقودِ هذه وامضِ إلى المدينةِ وابتع عشرَ خبزاتٍ وقسطَ نبيذٍ وعشرة أرطال لحمٍ وعُد بها إليَّ». فحزن الأخُ لذلك جداً، لكنه على كلِّ حالٍ أخذ ما أعطاه له ومضى كئيباً. وفي طريقِه جاءته الأفكارُ قائلةً: «أيُّ شيءٍ يقصده ذلك الشيخ، وكيف أستطيع أنا أن أبتاع هذه الأشياء وكيف أحملها؟ وما هو موقفي من العلمانيين مما يضطرني إلى أن أذوبَ خجلاً»؟ وهكذا سأل واحداً فابتاع له الخبزَ، وآخرَ ابتاع له النبيذَ، ولما جاء دورُ اللحم، قال: «يا ويلي كيف أحصلُ على اللحمِ، سواء ابتعتُه أنا بيدي أم كلفتُ آخرَ». ثم كلَّف رجلاً علمانياً فابتاع له اللحمَ، وحمل الجميعَ وجاء بها إلى الشيخ مفكراً. فقال له الشيخ: «اطبخ اللحمَ وطجِّنه». ففعل ذلك مُعَبَّساً. فقال له الشيخ: «لا تنسَ ما عاهدتني به أنك سوف تفعل جميعَ ما أُشير به عليك، فخذ هذه الأشياء جميعها، وامضِ إلى قلايتك، وصلِّ وتناول خبزةً واحدةً وشربةً واحدةً من النبيذ ورطلَ لحمٍ في كل يومٍ عند المساء. ومن بعد عشرة أيامٍ عُد إليَّ». فلم يتجاسر على أن يردَّ له جواباً.

وهكذا أخذ كلَّ ما أعطاه ومضى حزيناً باكياً قائلاً في نفسِه: «من أيِّ درجةٍ في الصومِ هبطتَ، وفي أيِّ حالةٍ حصلتَ»؟ ثم أنه قال لنفسِه: «إن لم أفعل ما أمرني به أكونُ قد خالفتُ الله، لأني قد عاهدتُه أنه مهما قال لي أفعله كمِن فمِ الله، والآن يا ربُّ، انظر إلى شقاوتي وارحمني واغفر لي خطيئتي، لأني مضطرٌ أن أعملَ خلافَ هواي». وجاء إلى قلايتهِ باكياً، وتمَّم ما قاله له الشيخ، وعكف على الصلاةِ عكوفاً بليغاً، وكان إذا ما أكل، يبلُّ الخبزَ بدموعِه قائلاً: «يا الله قد أُهملتُ وخُذلت من يدِك». فلما رأى الله حزنَه وبكاءَه ومسكنته، عزَّى قلبَه وكشفَ له السببَ، فشكر الله واعترف بالقول النبوي: «إن كلَّ برِّ الإنسانِ مثل خرقة الطامث». وأيضاً: «إن لم يبنِ الربُّ البيتَ ويحرس المدينةَ، فباطلاً سهر الحارسُ». وهكذا عاد إلى الشيخ منهوكَ الجسمِ متوعكاً أكثرَ مما كان وهو يطوي الأسابيع صائماً. فلما رآه الشيخ متذلِّلاً متمسكناً، قبله بفرح بوجهٍ طلق، وصلَّيا وجلسا صامتين مدة ساعةٍ، ثم قال الشيخ: «يا ولدي، إن الله المحبَّ للبشرِ قد تعاهدك، ولم يمكِّن العدوَ من الاستيلاء عليك، لأنه من عادتِه دائماً خداع من يسلك مسلكَ الفضيلةِ بوجوه تتبين أنها واجبةٌ ويسوقهم بها إلى مرض الكبرياء، ويأمرهم أن يخوضوا في خوضٍ عظيمٍ من الفضائلِ حتى من هذه الوجهة يُهبطهم هبوطاً عظيماً، لأنه ليس عند الله شيءٌ مرذولٌ مثل مرض الكبرياء. ولا ثمة فضيلة تساوي التواضع، فتأمَّل الأمرين مِن مَثل الفريسي والعشار، لأن بعضَ الشيوخِ يقولون إن بعض الإفراطات من أعمالِ الشياطين، فاسلك طريقاً ملوكيةً كما يقول الكتاب، ولا تمل يُمنى ولا يُسرى، اتبع التوسط في الأمورِ، وفي كلِّ عشيةٍ يكونُ غذاؤك، وإن دعت الضرورةُ لمرضٍ أو عارضٍ يعرض، فاسلك للوقت بحسب ما تقتضيه الحال، كذلك إن اقتضى الأمرُ حلَّ الساعة المحدودة فلا تحزن، وإن اقتضى أن تتناول في يومٍ غير مطلق، فتناوله، لأننا لسنا تحت ناموسٍ بل تحت نعمةٍ. فإذا أكلت فلا تمتلئ بل اقتصر سيما من الأطعمة اللذيذة، وأحب أبداً ما كان دوناً، واحفظ قلبَك لأن النبي يقول: الذبيحة لله روحٌ منسحقة، والله لا يُرذل القلبَ المتواضع المنكسر. وقد قال أيضاً: تواضعتُ فخلَّصني الربُّ. والربُّ يقول بلسان إشعياء النبي: إلى من أنظر إلا إلى الوديع الخائف من كلامي. فألقِ يا بُني جميعَ اتكالِك على الربِّ واسلك طريقَك بسلامٍ وهو يفعل لك الخيرَ، ويُخرج عدلَك كضوءٍ وحُكمك كالظهيرةِ». وبعد أن دعَّم الأخَ بأقوالٍ كثيرةٍ، أخلى سبيلَه مسروراً بالربِّ، وإذ كان يمضي ترنَّم قائلاً: «خائفوك وعارفو شهاداتك ليردُّوني، وأدباً أدَّبني الربُّ وإلى الموتِ لم يُسلِّمني، ويؤدبني الصديقُ برحمةٍ ويوبخني». وقال لنفسه: «ارجعي يا نفسي إلى موضع راحتك لأن الربَ قد أحسن إليك، وبقية القول». وهكذا جاء إلى قلايته، وقضى بقيةَ عمرِه حسب مشورة الشيخ.

أخٌ أقلقته الأفكارُ، فذهب إلى أحدِ الشيوخِ وسأله قائلاً: «يا أبي، ما أصعب التجارب التي لحقت ضعفي». فتنهَّد الشيخ وقال: «يا بُني، لا يُدهشك هولُ عساكر الشياطين إذا كان اللهُ معك، فإن الشياطين إذا أبصروا النفسَ صاعدةً إلى اللهِ، يغتاظون عليها دائماً ويحسدونها. وأحياناً لا يحضرُ الله وملائكتُه في المحنِ، فلا تفتُر أنت عن الاستغاثةِ به، بتواضع قلبٍ. ومتى أصابك حادثٌ مثل هذا، فتأمَّل بفكرِك عِظم قوة الله المنيعة، وانظر ضعفَك واطلب الله بكلِّ قلبك تجدهُ سريعاً».

قال أحدُ الشيوخ: «لا تكونُ تحتَ السماءِ أمةٌ مثلَ المسيحيين إذا أكملوا ناموسَهم، كما لا توجد مرتبةٌ جليلةٌ كمثلِ مرتبةِ الرهبان إذا حفظوا طقوسَهم. ولذلك فإن الشياطين لحسدِهم، يحاربونهم بكلِّ أصنافِ الرذيلةِ، ويجعلونهم يُغمِضون أعينَهم عن خطاياهم ويوبِّخون خطايا غيرهم، لكي يُبعدوا عنهم السلامةَ، ويلقوا فيهم الشرورَ. فلنسأل الربَّ الإله أن يخرقَ شِباكَهم عنا ويخلِّصنا من أيديهم».

قال شيخٌ: «كما أن عابرَ الطريقِ ضيفُ يومهِ، لا يدخل المنزلَ ما لم يأمره صاحبُه بذلك، هكذا العدو، إن لم يقبله الراهبُ، لا يقدر أن يدخلَ إلى عندِه. فإذا صلَّيتَ فقل: يا ربُّ أنت العارف بكلِّ الأشياءِ، أنا بهيمةٌ، ما عرفتُ شيئاً بعد. لكن علِّمني كيف أبدأُ، أنت قد جئتَ بي إلى ههنا فعلِّمني كيف أخلصُ».

قال يوحنا ذهبي الفم: «من أجلِ أننا لا نتحفَّظ من الزلاَّت الصغار فإننا نقع في الكبار، فمثلاً ضَحِكَ إنسانٌ في غير وقت الضحك، فَجَرَّ غيرَه إلى الضحكِ».

كما قال أيضاً: «ما هو الضحك؟ وما هو ضَرَرُه؟ بالضحكِ تبدأُ مخافةُ الله في أن تنقطع، ويتولَّد من الضحكِ المزاحُ، ومن المزاح الأقوال القبيحة، ومن هذه تكون الأفعال المذمومة. فالعدو المخادع يسهِّل علينا الزلات الصغار، ومنها يُدخلنا إلى الخطايا الكبار، ومن ههنا يقودُنا إلى اليأسِ. فبهذا التدرج يُدخل إلينا الأمورَ مستورةً، فينبغي لنا أن نطردَ هواجسَه من مبادئها، ولا نتهاون بالصغار حيث يكمن العدو فيها، ومنها يجرُّنا إلى الكبار. وإلا فلو كان يحاربنا ظاهراً عياناً، لكان قتالُه سهلاً علينا، وقهرُه متيسراً لدينا، لكنه يعمل لنا كميناً وفخاً، لا نقدر على الخلاص منه سريعاً، فإن تيقَّظنا أفسدنا عليه كلَّ حيلِهِ، وذلك لأن ربنَا قد كسر عنا كلَّ سلاحِه، وقد حذَّرنا من الصغارِ، إذ أنه ما وقف عند حدِّ قوله: لا تقتل، فحسب، بل قال: ولا تغضب، وانتهى إلى منعنا من مخاطبةِ أحدٍ لأخيه بكلمة امتهانٍ. وما وقف عند حدِّ قوله: لا تزن، لكنه حذَّرنا من النظرِ إلى امرأةٍ بشهوةٍ. وأعطى الويلَ للضاحكين. وبالغ في الاستقصاء في باب الصغار إلى أن قال: إن كلَّ كلمةٍ بطالةٍ يقولها الإنسانُ، سوف يعطي عنها جواباً. فإذا عرفنا ذلك، فسبيلُنا إذن أن نحفظ أنفسَنا من الخواطرِ، فلا نسقط سريعاً».

قال شيخٌ: «لو نظرنا إلى خطايانا لما نظرنا إلى خطايا غيرِنا، لأنه من ذا الذي يَدَع ميته ويبكي على ميت غيرهِ، وخطيةُ الإنسانِ هي موتُ نفسِه».

وقال آخر: «إن أنت قصدتَ الإحسانَ إلى الأخيارِ والإساءةَ إلى الأشرارِ، فمنزلتُك منزلةُ قاضٍ لا عابد».

وقال آخر: «مَن فيه اتضاعٌ، فمن شأنهِ أن يوضِع الشياطين (أي يغلبهم)، ومن ليس فهي اتضاعٌ فمن شأن الشياطين أن يوضِعوه».

وقال أيضاً: «ليس من يحتقر ذاتَه هو المتضع، ولكن من قَبِلَ من غيرِه ضروبَ الهوانِ بفرحٍ، فهذا هو المتضع».

وقال كذلك: «لا يمكننا أن نحوزَ ربَّنا داخلنا بدون تواضعٍ وتعبٍ كثيرٍ وصلاةٍ بغيرِ فتورٍ».

كان أخٌ مقاتَلاً بالزنى، فسأل شيخاً أن يبتهلَ في أمرِه لكيلا يقهره الشيطانُ، فسأل الشيخ اللهَ في أمرِهِ سبعةَ أيامٍ، وبعدها سأل الأخَ عن حالِهِ، فقال له: «لم يخف القتالُ بعد». فتعجَّب الشيخ لذلك، وإذا بالشيطانِ قد ظهر له قائلاً: «أما أنا، فمنذ اليوم الأول في ابتهالك إلى اللهِ بشأنِهِ، انصرفتُ عنه. إنما هو يقاتلُ ذاتهَ وحدَه، لأنه يأكل ويشرب وينام كثيراً».

قال الآباءُ: «حيث يكون شربُ النبيذِ أو النظر إلى الصبيان فلا حاجة هناك إلى شيطان».

وقف الشيطانُ برجلٍ قديس ساعةَ وفاتهِ وقال له: «لقد انفلتَّ مني». فأجابه: «لستُ أعلمُ». إلى هذا المقدار كان احتراسُ الآباء من الافتخارِ في شيءٍ.

قال الآباء: «المناظرة في الآراء، والقراءة في العقائد المختلفة، والكلام في الإيمان، من شأن هذه أن تطردَ من الإنسانِ خشوعَه، أما أقوالُ الآباءِ وأخبارُ القديسين فمن شأنِها أن تنيرَ النفسَ وتليِّنها».

حدث أن شيخاً مغبوطاً أخذ عوداً صغيراً وخيطاً صغيراً وقال: «من ذا الذي يغتمُّ على فقدِ هذه الأشياء الحقيرة ويحقد بسببها إن كان عاقلاً، لَعَمْري، إن من استبصر في قدرِ هذا العالم الزائل كلِّه فلن يعتبره سوى اعتبارِهِ لهذه الأشياءِ الحقيرة، ومع هذا أقولُ إنه لن يَضُرَّ الإنسانَ أن يكون له إشفاقٌ على شيءٍ ويأسف على فقدِهِ فقط، بل وعلى جسمِه الذي هو أكرم من كلِّ ما يمتلكه عنده، لأننا قد أُمرنا أن نتهاون بأنفسنا وأجسادنا، فكم يجب علينا على أكثرِ الحالات أن نتهاونَ بما هو خارجٌ عنا».

وقال شيخٌ: «سبيلنا أن نعلم أنه لا يوجد أصدقُ ممن يذمُّنا ويبكِّت أعمالَنا، وينبغي لنا أن نراعي مذلّتنا، لأن الذين يُراعون مذلّتهم ويتحققونها يطحنون إبليسَ المحتال، وقد قال الآباءُ: لو أُحدر التواضع إلى الجحيم، لصعد إلى السماء، ولو رُفعت الكبرياءُ إلى السماءِ لهبطت إلى أسفلِ الأرضِ».

قال قديس: «متى أحزنك أحدٌ في شيءٍ، فلا تنطق البتة إلى أن تُسَكِّن قلبَك بالصلاةِ، ثم بعد ذلك استعطفه».

وقال أيضاً: «من لا يضرُّ ذاتَه فلا يضرُّهُ إنسانٌ».

كذلك قال: «إن الفضيلةَ تريد منا أن نريدها لا غير».

كما قال أيضاً: إذا أُحزن إنسانٌ، فاضطرب ولم يتكلم، فهو مبتدئٌ في الفضيلةِ، وليس من الكاملين بعد، أما الكاملُ فهو ذاك الذي لا يضطرب أصلاً، كالنبي القائل: «استعديت ولم أضطرب». فيا ليتنا نكون من المبتدئين، لنستمدَّ من الله المعونةَ. إن الصلاة بتكلفٍ من شأنِها أن تولِّد صلاةً نقيةً براحةٍ، فتكون الأولى بتكلُّف النيةِ، والثانية براحةٍ من النعمةِ.

قال شيخٌ: «إن خاتم المسيح الظاهر هو الصليب، وخاتمه الباطن هو الاتضاع، فهذا مثل صليبه، وذاك مثل خُلُقِه».

قيل: إن ثلاثةً من الإخوةِ زاروا شيخاً، فقال له الأول: «يا معلمُ، لقد كتبتُ بنفسي العتيقة والحديثة، (أي العهدين القديم والجديد)»، فأجابه الشيخ: «لقد ملأتَ طاقات قلايتِك ورقاً». فقال له الثاني: «إني قد حفظتُ العتيقةَ والحديثةَ في صدري»، فقال له الشيخ: «لقد ملأتَ الهواءَ كلاماً». أما الثالث فقال له: «لقد نبتَ الحشيشُ وملأ موقدي». فقال له الشيخ: «لقد طردتَ عنك محبةَ الغرباءِ».

أتى شيخٌ إلى قلايته، فوجد لصاً يسرقها، فقال له: «أسرع قبل أن يأتي الإخوةُ فيمنعونا من تكميل الوصية».

سُئل شيخٌ: «ما هي أعظمُ الفضائل»؟ فقال: «إذا كانت الكبرياءُ أشرَّ الخطايا حتى أنها أهبطت طائفةً من السماءِ إلى الأرضِ، فمن البديهي يكون الاتضاعُ الحقيقي المقابل لها أعظمَ الفضائلِ، إذ هو يرفعُ الإنسانَ من الأعماقِ إلى السماءِ، وقد غبَّطه الله قائلاً: مغبوطون أولئك المساكين بالروح، أي المتضعين بقلوبهِم، فإن لهم ملكوت السماوات».

وقال شيخٌ: «كما أن الميتَ لا يتكلمُ البتة، كذلك المتضع لا يزدري أحداً، حتى ولو رآه للأصنامِ ساجداً».

وقال أيضاً: «لا يوجد شيءٌ أصعب من العادةِ الرديئةِ، إذ يحتاجُ صاحبُها في سبيلِ قطعِها إلى زمانٍ وتعبٍ كثير، أما التعبُ فهو في متناول الكثيرين، ولكن الزمانَ الذي يحتاج إليه فما أقلَّ من قضاه حتى النهايةِ، لأن أكثرَ أصحابهِا اختطفهم الموتُ قبل تمامِ زمانِ قطعِها، والله وحدُه هو الذي يعلمُ كيف يدينهم».

كما قال أيضاً: «من لا يستطيع أن يُبغضَ المقتنيات، فلن يقدرَ أن يُبغضَ نفسَه حسب الوصيةِ المسيحية».

زار أخٌ شيخاًوسأله قائلاً: «كيف حالك»؟ فأجابه الشيخ قائلاً: «أسوأ الأحوال». فقال له الأخُ: «لِمَ ذلك»؟ فأجابه الشيخ قائلاً: لأن لي ثلاثين سنةً وصلاتي خلالها عليَّ لا لي. لأني أقفُ قدام الله وألعن ذاتي وأقول ما لا أشتهي أن يخرجَ من فمي. إذ أقولُ: «ملاعين الذين حادوا عن وصاياك»، وأحيدُ عن الوصايا. وأفعلُ الآثامَ وأقول: «لا تتراءف على فاعلي الإثم». وأكذب كلَّ يومٍ وأقول لله: «إنك تُهلك كلَّ من يتكلم بالكذبِ». وأحقد وأقول: «اغفر لنا خطايانا، كما نغفر نحن لمن أخطأ إلينا». وأخطئ وأقول: «عندما يُزهر الخطاةُ ويعلو جميعُ عاملي الإثم، فهناك يُستأصلون إلى الأبد». وآثم وأقول: «أبغضتُ جميعَ عاملي الإثم». وهمي كلُّه في المأكل وأقول بين يدي الله: «نسيتُ أكلَ خبزي». وأنامُ إلى الصباح وأقول: «في نصفِ الليلِ كنتُ أنهضُ لأسبِّحك». وليس لي خشوعٌ ولا دموع وأقول: «تعبتُ في تنهدي، وصارت دموعي خبزاً لي نهاراً وليلاً، وبدموعي أبلُّ فراشي». وأفكِّرُ فِكراً خبيثاً وأقولُ لله: «إن ما يتلوه قلبي هو لديك كل حين». وليس لي صيامٌ وأقول: «ركبتاي ضعفتا من الصوم». ونفسي متكبرةٌ وجسدي مستريحٌ وأقول لله: «انظر تواضعي وتعبي واغفر لي جميع خطاياي». ولا استعداد لي وأقول: «مستعدٌ قلبي يا إلهي». فقال الأخُ: «يا معلم، على ما يلوح لي، إن النبي قال ذلك عن نفسِه». فتنهَّد الشيخ وقال: «صدقني يا ابني إن لم نعمل نحن بما نصلي به قدام الله، فإن صلاتَنا تكونُ علينا لا لنا».

قال شيخٌ: «إذا كان لا يعرفُ ما في الإنسانِ إلا روحُه، كقول الرسول، وإذا كنا نعلم أن كثيرين تابوا ولم نعلم بتوبتهم، وإذ قد يتفق أن يتوبَ إنسانٌ في آخرِ حياتِه ويُقبل كاللِّصِ، فسبيلنا إذن، أن لا ندينَ أحداً، فالديان هو الله وحده فكيف يجسر أحدٌ أن يتدخل فيما يخصُّ الله»؟

Exit mobile version