Site icon شبكة أرثوذكس أونلاين

أقوال بعضِ القديسين في الدينونة – القسم الرابع

أتى لصوصٌ إلى قلايةٍ في وقت الصلاةِ، فقال القسيس للإخوةِ: «اتركوهم يعملون عملَهم، ونحن نعمل عملَنا».

قال أخٌ لشيخٍ: «لماذا لا أستطيع مساكنة الإخوةِ»؟ فقال: «لأنك لا تتَّقِ الله، فلو تذكرتَ المكتوب: إن لوطاً تخلص من بين أهلِ سدوم، لأنه لم يكن يدين أحداً منهم، فلو تذكرتَ ذلك، لاستطعت الإقامة أينما شئتَ، حتى ولو بين الوحوشِ».

وقال شيخٌ: «من يحقد على أخيه، فقد خزَّن ذنوبَه في ذاتهِ، وختم عليها».

وقال أيضاً: «كما أن الذئبَ لا يجتمع مع النعجةِ لإنتاجِ ولدٍ، كذلك شبع البطن لا يجتمع مع توجع القلب لإنتاج فضيلةٍ».

وقال كذلك: «كما أن الأرضَ لا تُنبت وحدها من غير بذارٍ وفلاحةٍ ومطر سمائي، وحراسةٍ مما يمكن حراستها من البهائمِ والطيور، وسلامةٍ من الله مما لا يقدر الإنسانُ على دفعِه، كالدود والجراد وريح السموم، فإن كانت الأرضُ لا تنبت بغير تلك الأمور، فكم بالحري النفس، فإنها لا تُثمر الفضائلَ بدون تعليمٍ وتعبٍ كثير ومعونةٍ إلهية واحتراسٍ من الأعداء بقدر استطاعةِ الإنسان، ثم تضرُّع إلى الله في طلب تعضيدِه إزاء ما تعجز قدرته عنه».

سأل أخٌ قديساًعالماً بما ينبغي أن يكون عليه الراهبُ. فقال له الشيخ: «على ما أعرفُ أنا، ينبغي أن تكون وحدةُ السكنِ ملازمةً لوحدة الذات». فقال الأخُ: «إذا انفردتُ أخافُ». فقال له الشيخ: «ذلك لأنك حيٌ بعد».

قال شيخٌ: «كما أن الأرضَ لا تسقط أبداً لكونها موضوعةً هكذا إلى أسفل، كذلك مَن وضع ذاتَه لا يسقط أصلاً».

كما قال: «لا تصادق رئيساً ولا صبياً ولا تخاطب امرأةً ولا تبغض إنساناً».

كذلك قال: «سبيلُنا أن نتطهر بالدموعِ ما دمنا في هذا العالم، قبل أن نمضي إلى حيث تَحرق دموعُنا أجسادنَا».

سكن شيخٌمع إخوةٍ، واعتاد أن يقولَ لهم عن الشغلِ دفعةً واحدةً، فإذا لم يفعلوه، قام هو وعمله بدون غيظٍ.

كان أخٌ مسرعاً في الذهابِ إلى المدينةِ، فلما سأل شيخاً مشورةً صالحةً، قال له الشيخ: «لا تسارع في الذهابِ إلى المدينةِ، ولكن اهرب من المدينةِ بسرعةٍ».

شكا أخٌ إلى شيخٍ من قتالِ الزنى، فقال له الشيخ: «أتريدُ أن تتخلصَ وأنت نائمٌ؟ اذهب واتعب واجتهد، اطلب تجد، اسهر وتضرع تُعطَ، اقرع يُفتح لك. فكم من الناسِ يتجلَّدون في التعبِ والسهرِ وقد يتحملون العذابَ من أجلِ ربحٍ جسماني، فاثبت أنت إذن وتجلَّد من أجلِ اللهِ، واللهُ ينتصر لك».

قال أخٌ لشيخٍ: «إن أفكاري لا تتركني أستريح، ولذلك تجد نفسي مغمومةً». فقال له الشيخ: «إذا زرع الشياطيُن فيك الأفكارَ، فلا تتحدث معهم، فمن شأنِهم أن يطرحوا زرعَهم دائماً، ولكنهم لا يُلزمون أحداً بقبولِهِ اضطراراً، فلك أن تقبلَه أو لا تقبله. ألا ترى ما عمله أهلُ مديان، كيف أنهم زيَّنوا بناتهم وأظهروهن، ولكنهم لم يلزموا أحداً بالزنى معهن، فكان من الإسرائيليين من أراد مخالطتهن، ومنهم من لم يريدوا فلم يدنوا منهن، كذلك من اغتاظ منهن فشرع في قتلهن. وهكذا تكون حالُ الرهبانِ مع الأفكار التي تهجِسُ بها الشياطين إليهم». فأجاب الأخُ وقال: «كيف أعملُ يا أبي لأني ضعيفٌ والوجع غالبٌ عليَّ وليس لي قدرةٌ على مقاومةِ الأفكار». فقال له الشيخ: «إذا ألقوا فيك الأفكارَ فلا تجاوبهم، بل اهرب إلى اللهِ بالصلاةِ والسجودِ، وقل يا الله ارحمني واصرف عني هذه الأفكار بقوتِك العظيمةِ، فإني ضعيفٌ عن مقاومتِها». فقال له الأخُ: «إني إذا وقفتُ لأصلي، لا أحسُّ بخشوعٍ لعدم معرفتي بمعنى الكلامِ وقوتِه». فقال له الشيخ: «لقد سمعتُ أنبا موسى وجماعةً من الآباءِ يقولون هذا القولَ هكذا: إن الراقي (أو الساحر) لا يعرفُ قوةَ الكلامِ الذي يُعزِّم به، لكن الحيةَ تحسُّ بقوةِ القولِ فتخرج، كذلك نحن أيضاً، إن كنا لا نعرفُ ما نقولُه، ولكن الشياطين تعرفُ قولَنا وتنصرف عنا».

قال شيخٌ: «طوبى لمن أبغضَ الإثمَ وأحبَّ البرَ، وخاف عقابَ الجحيمِ وآثرَ ثوابَ الملكوتِ، وقاوم إرادةَ الشياطين، وأطاعَ إرادةَ الله، وصلى بلا فتورٍ، بلا طياشةٍ».

سئُل شيخُ: «ما هي الطريقُ الصعبةُ الضاغطة»؟ فقال: «هي أن تضبطَ أفكارَك وإرادتك لأجلِ الربِّ، وألا تتعلق بشيء مما لهذا العالمِ».

سُئل شيخٌ: «ما معنى المكتوب: وتبصر بني بنيك»؟ فقال: «إن ثمرة أتعاب القديسين هي بنو بنيهم».

قال شيخٌ: «إن العلماءَ الأشحاء المتكبرين يُشبهون ينبوعاً فيه ثعابين لا يقدر أحدٌ أن يشربَ منه، فمن لا ينطق فعلُه بالأكثرِ لا يُقبَل كلامُه. من أجل ذلك طلب داود الطوباوي من الله قائلاً، أعطني صلاحاً وأدباً ومعرفةً، لأن الصلاحَ بغير معرفةٍ باطلٌ، كذلك المعلم بلا صلاحٍ فهو معلمٌ باطلٌ».

قال يوحنا فم الذهب: «إننا إذا أخطأنا فإن الله قد يُنهض علينا أعداءنا ليؤدِّبونا. وعلى ذلك فلا ينبغي لنا أن نحاربهم، بل يجب أن نحاسب نفوسَنا ونثقِّفها، ولكونه أطلقهم علينا لأجلِ خطايانا، فمتى حاربناهم أصرُّوا هم على مضايقتنا، ولهذا أَمَرَنا ألا نكافئ أعداءنا، فلنقبل إذن الامتحانات كقبولِ الأدويةِ من الحكيم لنخلص، وكقبولِ التأديب من الأب لنتشرف، ولذلك قال سليمان الحكيم: أيها الولد، إن تقدمتَ لخدمةِ ربك، فتأهب للتجارب، واصطبر».

قيل: إن شيخاً راهباً تجذَّم، فأحضر له بعضُ المسيحيين مالاً وقال له: «انفق هذا المال على نفسِك في حالِ كبرِك ومرضِك». فأجابه الشيخ وقال له: «أتريد أن تُفقدني في ساعةٍ واحدةٍ ما قد تعبتُ في اقتنائه منذ بدء حياتي حتى هذه الساعةِ»؟ وهكذا لم يقبل منه شيئاً.

أحاط إخوةٌ بشيخٍ عند وفاتِه، ففتح عينيه وضحك ثلاث مراتٍ، المرة بعد الأخرى. فقالوا له: «لماذا تضحك يا أبتاه ونحن نبكي»؟ فقال لهم: «أما ضحكي الأول، فهو لأني رأيتُكم تخافون الموتَ، والثاني فهو لأنكم رغم خوفِكم منه فإنكم لا تستعدون له، أما ضحكي الثالث فهو لأني ماضٍ من التعبِ إلى الراحةِ». وهكذا تنيَّح فانتفع الإخوةُ منه.

وقال شيخٌ: «لا تدع لسانَك يخلو من التسبيح، فإن تصرفتَ في تدبيرِ قلايتك، فإن الأفكارَ السوء تنقطع عنك، ولا يجد العدو سبيلاً لما يخطره ببالك، فيبعد عنك».

وقال راهبٌ: «إن الذي يجلس في طاعةِ أبٍ روحاني لهو أكثرُ أجراً وأقلُ خطراً من ذاك الذي يجلس منفرداً في الوحدةِ والسكوت. الطريق المخلِّصة هي: أن يرجعَ الراهبُ باللائمةِ على نفسِه. الصمتُ في جميعِ الأمور هو الغربةُ. والغربة بالحقيقةِ هي الصمتُ. والذي يريد الخلاصَ فليتحمل الظلمَ ويصبر على الإهانةِ والخسارةِ الجَسَدَانية».

وقال شيخٌ: «ليس شيءٌ من الخطايا يستمر وجودُه بالفعلِ في الإنسانِ سوى الحقد، فإن القاتلَ مثلاً يكون زمانُ مباشرتِه بالفعلِ لخطيئتهِ أقلَ بكثيرٍ من زمان تركه لها، وكذلك الزاني والسارق وغيرهم. أما الذي يحقد، فإنه إن كان جالساً أو راقداً أو واقفاً أو ماشياً أو متكلماً أو ساكتاً أو صائماً أو آكلاً أو في سائرِ حالاتِه وأوقاتِه، فالحقد لا يزال ملازماً لقلبهِ. فمثل هذا الإنسان، صلاتُه باطلةٌ لأنه يطلب الغفرانَ وهو لا يغفر. فتعبُه كلُّه ضائعٌ حتى ولو سُفك دمُه كالشهداءِ، لأن الرسولَ قد قال إن هذه كلها لا تفيدُ شيئاً مع عدم الحبِّ، ولا حب مع الحقد».

قال أنبا ألوجيوس لتلميذِهِ: «يا بُني عوِّد نفسَك إضعاف بطنِك بالصومِ شيئاً فشيئاً، لأن بطنَ الإنسانِ إنما يشبه زقاً فارغاً، فبقدرِ ما تُمَرِّنه وتملأه تزداد سعتُه، كذلك الأحشاء التي تُحشى بالأطعمةِ الكثيرة، إن أنت جعلتَ فيها قليلاً ضاقت وصارت لا تطلبُ منك إلا القليلَ».

وقال شيخٌ: إنَّ كلَّ صغيرٍ يطرحُ كلمتَه في وسطِ شيوخٍ أكبر منه، فهو يشبه إنساناً يطرحُ ناراً في حجر أخيه».

قال بعضُ الشيوخِ: «أدِّبوا الأحداثَ يا إخوة قبل أن يؤدبوكم».

وقال أيضاً: «إنَّ فخَ الشيطان بالنسبة للرهبان هم الصبيان أكثر من النساء».

سأل أخٌ شيخاً: «كيف يقتني الإنسانُ البكاءَ»؟ فقال: «يقتني الإنسانُ البكاءَ إذا كان عقلُه يذكر دائماً خطاياه وموته ودينونته».

قال شيخٌ: «مكتوبٌ إنَّ من أجاب عما لا يُسأل عنه فهو جاهلٌ، فإن لم تُسألوا فلا تجيبوا».

وقال أيضاً: «كلُّ من يسكنُ في موضعٍ ولا يعمل فيه ثمرةً صالحةً، فالموضع نفسُه يطرده».

كما قال أيضاً: «ليس كلُّ فكرٍ يأتينا يُحسب خطيةً ما لم نقبله ونعملُ به، والأفكار منها ما هو لخلاصِ الإنسان، ومنها ما هو لهلاكهِ».

سُئل شيخٌ: «كيف ينبغي للمتوحد أن يسكنَ في قلايتِه»؟ فقال الشيخ: «ليكن له عدم اهتمام بذكر إنسانٍ أصلاً، ويحفظ عقلَه من الطياشةِ، كما يذكر الله دائماً».

قال شيخٌ: «ينبغي للراهب أن يشتريَ السكوتَ لنفسِه بما عزَّ وهان، ولو أدى ذلك إلى إصابته بخسارةٍ جَسَدَانية».

قال أنبا مرقص: «كلُّ ما تقوله خلفَ أخيك ولا تقدر أن تذكره قدامه، فهو نميمةٌ وسعايةٌ. كما أن كلَّ اهتمامٍ لا يُفضي إلى صلاحِ العبادةِ، فهو اهتمامٌ عالمي».

قال أخ: قلتُ لأنبا بفنوتيوس تلميذ الأب مقاريوس الكبير: «قل لي يا أبي كلمةً أحيا بها». فقال لي: «احفظ القناةَ التي تجري إلى مزرعتك». فقلتُ له: «ما معنى هذا»؟ قال: «القناة هي فمك، فإن لم تحفظه فلن تثمر نفسُك». فقلتُ: «كيف أحفظه»؟ قال: «إذا لم تسكن مع فلاحٍ فمِن أين لك أن تعرفَ ما تشتمل عليه الفِلاحة من حرثٍ وبذرٍ وحفظٍ وسقي وحصاد وغيره»؟ قلتُ أيضاً: «وما معنى هذا»؟ قال: «إذا لم تسكن مع شيخٍ مجرَّب كي يعلمك الرهبنةَ، فمِن أين تتعلمها؟ فلو انتقلتَ من مكانٍ إلى مكانٍ، أو انفردتَ وحدك، أو صرتَ أباً قبل أن تُستأهل لذلك من قِبل الله، فإنك تقيم كلَّ زمانِك وأنت لا تعرف كيف تحصد ثمر الفضيلةِ، بل تُضيِّع الزرعَ الذي هو تعليم طريق الله، فيجب عليك أن تسكنَ مع شيخٍ حتى تنال منه البركةَ الأخيرةَ، مثل أليشع الذي ثبَتَ مع إيليا حتى رُفع إلى السماء، فلما باركه تضاعفت عليه روحُه، ومثل تلميذيْ أنطونيوس اللذين سكنا مع الشيخ حتى طرحَ الجسدَ، وباركهما البركةَ الأخيرةَ فحل عليهما روحُ الله وصارا راعيين صالحين، ومثل يوحنا الذي سكن مع بمويه أبيه حتى فارق جسدَه، فسلَّمه للشيوخِ قائلا: هذا ملاك وليس بإنسانٍ، وكمثل يوحنا تلميذ أنبا بلا الذي أطاع أباه فأحضر الضبعةَ مربوطةً، ومثل تلميذٍ آخر لشيخٍ حيث كان يمشي مع متوحدٍ حتى وصلا إلى شاطئ نهرٍ فيه تماسيح، فعبر التلميذُ المطيع بينها وما استطاع المتوحدُ العبورَ، حتى أن الشيوخ في ذلك الوقتِ قالوا: إن التلميذَ المطيع بطاعتِه صار أعلا من المتوحد. ومثل تلميذٍ آخر كان طائعاً لمقاريوس، هذا كان قد أرسله أبوه إلى مصر، لما وقع في تجربةٍ صرخ بصوتٍ عظيم قائلاً: يا إله أبي خلِّصني، فمن ساعتِه وجد نفسَه يمشي في طريق الإسقيط. وقد كُتب: ابذر وقتَ الصباحِ ولا تبطل زرعَك إلى وقتِ المساء، ومعناه: الصلاح الذي بدأت به داوم عليه إلى وقت وفاتك.

وانظر إلى الذين تركوا آباءهم ماذا أصابهم، فعيسو لما ترك والده واختلط بالأمم المرذولة رذله الله، وجيحزي لما لم يُطع أليشع أصابه البرص، والتلاميذ الذين رجعوا إلى خلف وتركوا صحبة السيد أهلكوا ذواتَهم، ويوحنا تلميذ الأب مقاريوس لما لم يُطع أباه تجذَّم. فها أنا قد أخبرتُك بطريقِ الحياةِ والموت، فإن دخلتَ من البابِ الضيق الذي هو طاعتك لأبيك أوصلك ذلك إلى الحياةِ الأبدية، وإن مشيتَ في الطريقِ الواسعةِ التي هي أهوية قلبك أدت بك إلى الهلاكِ».

فقلتُ له: «يا أبتاه، لقد أتى بعضُ الإخوةِ إلى أبي، ولستُ قادراً على السكنى معهم». فقال لي: «لو كان فيك اتضاعٌ، لاستطعت السُكنى مع الوحوش، فكم بالحري مع الإخوةِ؟ واسمع قول داود النبي: ما أحسن وأجمل الإخوة إذا سكنوا معاً».

فقلتُ له: «إني أشاءُ أن أصيرَ شهيداً». فقال لي: «إن خالفتَ أباك فسوف تتعب ولن تصيرَ شهيداً، فقد حدث أنَّ شيخاً قال لتلميذِه في زمانِ الاضطهاد: يا بُني، إن كان لك اشتياقٌ أن تصيرَ شهيداً، فاذهب. أما الأخ فمع اشتياقِه إلى ذلك، إلا أنه لم يُطع هواه، ولم يمضِ، بل قال: لو صرتُ فوق رتبة الشهداء، فبَركَتُك لي كلَّ يومٍ هي أفضل يا أبي. فلما رأى الله إيمانَه في أبيه خاطبه بالصوتِ قائلاً: لأنك أطعتَ أباك، ها أنا أعطيك إكليلَ الشهداءِ، جاعلاً رتبتَك في مصافِ جماعةِ القديسين. أما الذين تركوا آباءَهم في الربِّ قائلين: إننا نتوحد ونصوم ونهرب من الناس، فانخدعوا بذلك للشيطان، ولم يصنعوا لا وحدةً ولا صوماً ولا هرباً من الناسِ، بل تنقلوا بين الأديرة والمدن والقرى، وزخرفوا ملابسهم، وفرح بهم الشيطانُ وهزأ بهم لأنهم قبلوا خداعه».

فقلتُ له: «لقد ربحتُ منك كثيراً يا أبي وأريدُ أن أسكنَ معك بقية حياتي». فقال لي: «أحيٌ أبوك بعد»؟ قلتُ: «نعم». فقال لي: «هذا عدم أدب، لأن من كان لا أب له فإني أقبله، أما أنت فلا، لئلا تصبح وقد أفسدتَ بنوَّتك، وأكون أنا قد بلبلتُ قانونَ الرهبنةِ، فآباؤنا كانوا يحفظون ضميرَ بعضِهم بعضاً، وبغير طاعةٍ لم ينجح أحدٌ».

فقلت: «يا أبي ماذا أصنعُ حتى أكمِّل الطاعةَ»؟ قال: «اسمع، سمعتُ عن رجلين، أُعطي لكلٍ منهما سبعة فدادين قمح ليحصدها في يومٍ واحدٍ، فلما نظر أحدُهما الفدادين قال: مَن مِن الناسِ يقدرُ أن يحصدَ هذه كلها في يومٍ واحدٍ؟ وإذ قال ذلك مضى ولم يحصد شيئاً. أما الآخر فقال: عليَّ أن أعملَ بكل قوتي ولا أوقف الحصادَ. فمَن مِن الاثنين أرضى سيدَه»؟ قلتُ: «الذي عمل بكلِّ قوته طبعاً». قال لي: «إذن امضِ أنت واعمل بكل قوتك، وأنا أؤمن أنك تُحسب مع الذين أكملوا الطاعةَ في الملكوتِ». ثم قال: «إن الخروفَ الثابت في الحظيرةِ محروسٌ، أما الذي يترك حظيرتَه ويذهب إلى قطيعٍ آخر فإنه يبقى وحشياً، ولن يسلم من ذئبٍ أو لصٍ، هكذا الراهب الذي يترك ديرَه، إذ يشبه أيضاً حماراً وكلُّ من يجده يركبه، حتى إذا عُقر لن يوجد له صاحبٌ ثابتٌ يعتني به فيهلك من الجوع والتعب والجراح. هكذا تكون حالُ الراهبِ إذا ترك ديرَه وأباه وإخوته، وسكن عند آخرين، فإنهم يرسلونه إلى هنا وإلى هناك حتى يسقط في الزنى ويهلك ولا يجد من يُنهضه. فمن ذا يترك العناية بأولادِه ويهتم بأولادِ غيرهِ»؟ ثم قال: «إن أبي قال لي: إن المفترقين يتعبدون كلُّ واحدٍ بحسب هواه وإرادته، وأما الذي يطيع أباه من أجلِ المسيحِ فهو أفضل، إذ قطع مشيئَته لله».

فقلتُ له: «يا أبي، إن النجاسات التي يبذرها الشيطان فيَّ، سواء أكملتُها أم لم أكملها، فإن العدو لا يتركني أخبر أبي بها بسبب الاستحياءِ». فقال لي: «لا تُطع عدوَّك بل أخبر أباك بجميعها حتى بأحلام الليل، ولا تُخفِ عنه شيئاً من أفكارِك إن كنتَ مطيعاً له في كلِّ شيءٍ من أجلِ الله مؤمناً أنه يُحاسَب عنك لطاعتِك له، وأما ما تخفيه عنه فسوف تُحاسَب أنت عنه كله». فقلتُ له: «هل لي أن أعرفَ شيخاً آخر يطيبُ به قلبي بنجاساتي»؟ قال: «إذا توفي أبوك وعُين أخٌ آخر ليصير بعده أباً للإخوة، فاتبعه لأن روحَ أبيك قد تضاعف عليه مثل أليشع بعد مفارقة إيليا، ويشوع بعد موسى. فقد قال الآباءُ: لا تُخبر بجراحِك غيرَ أبيك الروحاني. وإن كان أبوك متوفي، ولم يُعَين للإخوة أبٌ، فاطلب لك أباً شيخاً قديساً كاملاً في أعمالهِ قدام الله، وأظهر له جميعَ أمراضِك، فهو يصلي عليك فتُعافى، وهذا واحدٌ من ربوات، لأن الآباء قالوا: لا تُظهر خطاياك لكلِّ الناسِ، لئلا تُعثر كثيرين، وتؤذي الضعفاءَ وأخيراً تعثر بهم. وبالإجمال، فإن لم تضرهم ولم تتضرر بهم، فإنك لن تنتفعَ منهم، فتضطر إلى أن تتقدم لغيرِهم لتنتفع منهم وهكذا، ولكن كما كانت الأحكامُ الصغيرة تُرفع إلى الفهماءِ من شعب إسرائيل، فيحكمون فيها، والأحكام الكبيرة والمسائل الصعبة تُرفع إلى موسى فيحكم فيها، وما صَعُبَ عليه منها سأل الله في حكمهِ فيها، هكذا تصرَّف أنت، فالأمور الصغيرة أخبر بها الفهماء من الإخوة، والأمور الصعبة أخبر بها الأب، وما صَعُبَ عليه منها فهو يسترشد من الله فيها. واحذر أن تقول بقلةِ إيمانٍ كلمةً رديئةً في أبيك وإخوتك لكيلا يمنعك الله من دخول أرضِ الميعاد، وتُحرم من أكل ثمرتها كما جرى مع شعب إسرائيل ومع موسى أبيهم ويشوع وكالب إخوتهم، وأُنذِر أنه لا يدخلُ أرضَ الميعادِ منهم إلا هذان اللذان أطاعا أباهما، أما الذين رجعوا بقلوبهم إلى مصر، فقد ماتوا كلُّهم في البريةِ. فاثبت أنت مع أبيك، مثل يشوع مع موسى، لتصير مثلَه نبياً صانعاً العجائب، وأباً لأمةٍ كثيرةٍ، ووارثاً لأرضِ الميعاد، متمتعاً بثمراتها أنت وبنوك. وقد قال الله: أكرم أباك وأمَّك ليطول عمرك ويُحسن إليك. وقال: من يقل كلمةً رديئةً في أبيه أو أمّه يهلك. فإذا كان هذا عن الأب الجسدي، فكم بالحري الروحي. فالذي يترك أباه ويسعى فيه، فهو يشبه يوداس الذي ترك معلِّمَه وأسلمه، كما أن الذي يهزأ بأبيه، فإنه يرث لعنة حام الذي ضحك على أبيه لما انكشف، ويُحرم من بركة سام ويافث اللذين ستراه.

قلت: «يا أبي، إن الشيطانَ يُتعب الرهبان أكثرَ من أهلِ العالمِ». قال: «نعم، مثل ملكٍ يريد أن يطردَ من مملكتهِ قوماً ويُدخل بدلاً منهم إليها، فلابد إذن أن يعادي الذين أخرجهم، أولئك الذين أبدلهم بهم، وأجلسهم على كراسيهم، ومهما قدروا على إتيانهِ من الشرِ بهم فعلوه، فالرهبان الآن يجاهدون في سبيلِ دخول هذه المملكةِ والجلوسِ على كراسيهم، فالشياطين إزاء ذلك يقاتلونهم بالأكثر. فيجب عليك يا بُني أن تطيع وتتضع للآباء الروحانيين، لئلا تسقط مثل الشياطين، فإنهم بالعظمةِ والمعصيةِ لأبي الأرواح، سقطوا وهلكوا».

قلتُ له: «يا أبي، لقد سمعتُ عن قومٍ أنهم يصومون يومين يومين وأربعةً أربعة، وستةً ستة، وتملأني الغيرةُ فأَودُّ لو أصومُ مثلهم». فقال لي: «الذي يصنع هكذا بغير مشورةٍ، فإن الشياطين يرفعونه بالأكثر، وهكذا يحطونه إلى أسفل سريعاً، فالذي يقوم بما يفوق قدرتهِ يقتل جسدَه، وحينئذ ينكسر كالقوس إذا زاد توتُّرها أكثر من حدِّها». قلتُ: «وماذا أصنعُ إن شتمني أخٌ»؟ فقال: «إن المشتومَ إذا احتمل، غُفرت له الخطيةُ التي شُتم بها وصارت على الشاتم، مثل أن يُقال: يا سارق، يا كذاب، فقد جرى ذلك مجرى الاعتراف، فالمشتوم لما أُظهرت خطيئته وسكت واحتمل، فقد اعتُبر كأنه أقرَّ بها ودين عليها، أما الذي شتمه، فقد تحمل وزرها لكونه دان أخاه بذكرها، مع أنه قد أُمر بأن يُظهر خطايا نفسِه، ولكنه بالعكس أَظهر خطايا غيره، وقد قيل: إنه من الجهالةِ أن يهتمَ الإنسانُ بمرضِ غيرهِ، ويترك الاهتمامَ بمرضِ نفسهِ، أو يترك ميته ويمضي ليبكي على ميت غيره، كما أنه من أعظم الجهالات أن يغفلَ الإنسانُ عن خطيئته، ويذكر خطيئة أخيه».

Exit mobile version