(احفظ الوديعة) (1تيموثاوس 20:6).
(التقليد الشريف حياة الروح القدس في الكنيسة).. فلاديمير لوسكي.
المعنى الداخلي للتقليد الشريف:
يتميّز تاريخ الأرثوذكسية خارجياً بسلسلة من الهزائم المفاجئة: سقوط الإسكندرية وأنطاكية والقدس نتيجة الفتح الإسلامي، إحراق كييف على يد المغول، تعرض القسطنطينية للغزو مرتين، أولاً من قبل الصليبيين ثم من قبل الأتراك، وأخيراً اندلاع ثورة تشرين في روسيا. إلا أن هذه الأحداث وإن عملت على تحويل ظاهر العالم الأرثوذكسي، فإنها لم تبدّل في شيء الاستمرارية الداخلية للكنيسة. إن أكثر ما يثير الغريب في لقائه الأول مع الأرثوذكسية، طابعها الموحي بالقدم وبقاء مظهرها دون تغيير. فسيرى أن الأرثوذكسيين ما برحوا يعمّدون بالتغطيس ثلاث مرات كما في الكنيسة القديمة، وأن المناولة تعطى للأطفال والأولاد الصغار. كما سيسمع الشماس يهتف أثناء القداس الإلهي (الأبواب، الأبواب)، كما في سالف الأيام حين كانت مداخل الكنائس محكمة الإقفال وما من أحد خارج إطار الأسرة المسيحية كان بمستطاعه الاشتراك بعبادتها وكذلك سيجد أن دستور الإيمان يتلى بدون أي إضافات.
وما هذه سوى أمثلة بسيطة مما يميّز جانباً من جوانب الحياة الأرثوذكسية. منذ مدة غير بعيدة دُعي لاهوتيان أرثوذكسيان لإيجاز الطابع المميِّز لكنيستهما، فشدّد الاثنان على عدم تغيرها وعزمها الأكيد على البقاء أمينة للماضي، وعلى شعورها أنها تعيش في استمرارية حية مع كنيسة العهود القديمة. {راجع براتسيوتيس وفلوروفسكي في كتاب (الأرثوذكسية، حوار لجنة الإيمان والنظام) جينيفا، 1960} قبل ذلك بقرنين ونصف القرن، قال البطاركة الشرقيون الشيء نفسه بالضبط (لغير قاسمي اليمين): (نحافظ على عقيدة الرب بدون فساد، ونتمسك بثبات الإيمان الذي أعطانا، ونحفظه منزهاً عن كل شائبة أو نقص كما يحفظ كنز ملكي وصرح باهظ الثمن، لا نضيف إليه شيئاً ولا ننقص منه شيئاً) {رسالة سنة 1718، مذكورة في كتاب وليامس: (كنيسة الشرق الأرثوذكسية في القرن الثامن عشر)، ص17}. كلمة (التقليد الشريف) بالنسبة للأرثوذكسيين تعبّر عن فكرة هذه الاستمرارية الحية. لقد كتب القديس يوحنا الدمشقي يقول: (لن نغيّر في الحدود الأزلية التي خطها آباؤنا، بل نحافظ على التقليد كما تسلمناه) {في الأيقونات 2، 12}.
ولكن إذا كان الأرثوذكسيون يتحدثون دائماً عن التقليد، فما الذي يعنونه بالضبط ؟ التقليد بالمعنى القاموسي، رأي أو معتقد أو عادة ينقلها الأسلاف لذريتهم. والتقليد المسيحي، في هذه الحال، هو الإيمان الذي سلّمه المسيح للرسل، ذلك الإيمان الذي تناقلته الأجيال المتعاقبة في الكنيسة منذ عصر الرسل {قارن مع رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس (3:15)}. على أن التقليد الشريف يعني بالنسبة لمسيحي أرثوذكسي ما هو أوضح وأدق من هذا، يعني أسفار الكتاب المقدس، ودستور الإيمان، وقرارات المجامع المسكونية، وكتابات آباء الكنيسة، كما يعني أيضاً القوانين الكنسية والكتب الليتورجية والأيقونات المقدسة، أي كل ما عبّرت عنه الأرثوذكسية عبر العصور من عقيدة وتنظيم كنسي وعبادة وفن. والمسيحي الأرثوذكسي يعتبر نفسه اليوم حارساً لهذا الإرث الكبير المتناقل ويدرك أن واجبه نقل هذا الإرث كاملاً إلى الأجيال المقبلة.
وتجدر الملاحظة بأن الكتاب المقدس جزء من التقليد الشريف. بالرغم من أن الكثيرين من غير الأرثوذكس وبعضاً من الكتّاب الأرثوذكس يعتبرون التقليد على أنه (التعليم الشفهي الذي أعطاه المسيح ولم يدوّنه تلامذته المباشرون) (قاموس أكسفورد) وبالتالي إن التقليد شيء آخر غير الكتاب، وإنهما مصدران مختلفان من مصادر الإيمان المسيحي، لا يوجد في الواقع سوى مصدر واحد فقط، لأن الكتاب المقدس موجود من ضمن التقليد. والعمل على فصل الكتاب المقدس عن التقليد أو وضعهما الواحد في مواجهة الآخر يعني افقارهما معاً.
ومع احترامهم لما تسلّموه من الماضي يعي الأرثوذكسيون أن ليس كل ما فيه متساوٍ في القيمة. فمن بين العناصر المختلفة المكوّنة للتقليد، يحتلّ الكتاب المقدس مكانة خاصة وكذلك دستور الإيمان والتحديدات لعقائدية الصادرة عن المجامع المسكونية. ويعتبر الأرثوذكسيون هذه العناصر الأساسية في التقليد مسلّم بها ومطلقة وغير قابلة للتغيير أو الإلغاء أو حتى إعادة النظر. أما باقي عناصر التقليد فليس لها المكانة نفسها. فالمجامع المكانية ليس لها وزن المجامع المسكونية، وكتابات أثناسيوس أو سمعان اللاهوتي الجديد ليس لها المكانة عينها التي لإنجيل يوحنا مثلاً.
كل ما يأتي من الماضي ليس له قيمة متساوية وليس بالضرورة صحيحاً. وكما أشار أحد الأساقفة في مجمع قرطاجة السنة الـ257: (الرب قال: أنا الحق، ولم يقل أنا العادة أو التراث) {آراء الأساقفة حول معمودية الهراطقة،30}. وثمة فارق بين التقليد الشريف والتقاليد بمعنى العادات: فالكثير من التقاليد المسلّمة إلينا من الماضي هي محض إنسانية وطارئة، وتشكل في أحسن الأحوال آراء تَقَوِيّة ولكنها ليست جزءاً من التقليد الشريف الواحد الحامل العناصر الأساسية للرسالة المسيحية.
ومن الضروري مساءلة الماضي. ففي الفترة البيزنطية وبعدها، لم يكن الأرثوذكسيون لينظروا إلى الماضي نظرة نقدية كافية، الأمر الذي خلق بعض الركود معظم الأحيان. واليوم ليس لهذا الموقف أن يستمر: فالفقه المتسع، والاتصالات المتزايدة بالمسيحيين الغربيين، وتحدّيات العلمنة والإلحاد، كل ذلك حمل الأرثوذكسيين المعاصرين على دراسة تراثهم عن كثب، وعلى التمييز بشكل أدق بين التقليد الشريف والتقاليد (العادات). لكن هذا التمييز لا يسهل تحقيقه دائماً. ومن الضروري تجنب الوقوع في أخطاء (المؤمنين القدامى) في روسيا وكذلك في أخطاء أصحاب (الكنيسة الحية){راجع (الأرثوذكسية في الماضي والحاضر)، للمؤلف، منشورات النور(الناشر)}: فأولئك وقعوا في مفهوم المحافظة المتطرف حيث يرفضون قبول أي تغيير في التقاليد، وهؤلاء على العكس وقعوا في مفهوم التحديث أو الليبرالية اللاهوتية التي لا تكترث للتقليد الشريف. إلا أنه على الرغم من العوائق الواضحة، فقد يكون أرثوذكسيو اليوم في وضع أفضل من وضع أسلافهم خلال القرون الماضية فيما يتعلق بإجراء تمايز أكثر إنصافاً. وفي كثير من الحالات ساعدهم اتصالهم بالغرب على الوصول إلى الجوهري من تراثهم.
والإخلاص الحقيقي للماضي ينبغي له أن يكون دائماً إخلاصاً خلاقاً، لأن الأرثوذكسية لا يسعها أبداً أن تكتفي (بلاهوت الترداد) العقيم، الذي فيه نكتفي بترداد صيغ معروفة دون السعي للولوج إلى مضمونها. فليس ثمة من آلية في مضمار الولاء الواعي للتقليد. وليس الأمر مجرد نقل، كيفما اتفق، لما تلقيناه. فعلى الأرثوذكسي أن يرى التقليد من الداخل، ويلج إلى روحه. ولكي يحيا المرء في التقليد، لا يكفي أن يلتزم فكرياً بمجموعة من العقائد، لأن التقليد أبعد بكثير من مجموعة من الآراء المجردة. إنه لقاء حي وشخصي مع المسيح في الروح القدس. التقليد لا تحفظه الكنيسة مجرد حفظ، فهو يعيش فيها، وهو في الكنيسة حياة الروح القدس. ففي المفهوم الأرثوذكسي ليس التقليد جامداً، بل هو حيوي، وليس قبولاً ميتاً للماضي، بل خبرة الروح القدس الحية التي تحافظ على جدتها باستمرار. وعلى الرغم من أن التقليد ثابت داخلياً – لأن الله لا يغيّر – فإنه يتخذ على الدوام صيغاً جديدة، تضاف الواحدة منها إلى الأخرى دون أن تحل محلها. ومع أن الأرثوذكسيين يتحدثون معظم الأحيان وكأن مرحلة التحديد العقائدي قد ولّت، فهذا ليس حقيقة الأمر، ولعلّنا سنشاهد في أيامنا هذه مجمعاً مسكونياً يلتئم ليعمل على إغناء التقليد من طريق إعلانات جديدة حول فكرة التقليد الحي هذه عبّر عنها بوضوح جورج فلوروفسكي حين قال: (التقليد الشريف شهادة الروح القدس، ووحيه الذي لا ينقطع وبشارته المستمرة… ولكي نقبل التقليد ونفهمه، علينا أن نحيا في الكنيسة، وأن نعي حضور السيد الواهب البركات، وعلينا أن نحس فيها نَفَس الروح القدس… فالتقليد ليس مبدأً للصيانة والحفظ، بل هو أولاً مبدأ النمو والتجدد… والتقليد ليس ذاكرة نطقية فقط بل هو المستقر الدائم للروح القدس) {(سوبورنوست، الكنيسة الجامعة)، في(كنيسة الله)، ص64 و65. قارن مع جورج فلوروفسكي في (القديس غريغوريوس بالاماس وتقليد الآباء)، في مجلة (سوبورنوست)، العدد الرابع، سنة 1961، ص165 إلى 176. وقارن أيضاً مع فلاديمير لوسكي في (التقليد والتقاليد) في كتاب (معنى الأيقونات) الذي وضعه بالاشتراك مع أوسبنسكي ص13 إلى 24. وإنني مدين جداً لهذين المقالين}.
التقليد الشريف شهادة الروح كما وعد المسيح حين قال: (وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق) (يوحنا، 13:16). هذا الوعد الإلهي هو مصدر احترام الأرثوذكسيين للتقليد.
التعابير الخارجية للتقليد:
1- الكتاب المقدس:
{راجع أيضاً (مدخل إلى الكتاب المقدس)، لرهبنة دير الحرف، منشورات النور (الناشر)}.
أ) الكتاب المقدس والكنيسة: الكنيسة المسيحية كنيسة كتابية. هذا الاعتقاد راسخ لدى الأرثوذكسيين قدر رسوخه لدى البروتستانت إن لم يكن أكثر. والكتاب المقدس هو التعبير الأسمى للإعلان الإلهي لبني البشر، وعلى المسيحيين أن يكونوا دائماً (أهل الكتاب). ولكن إذا كان المسيحيون أهل الكتاب فإن الكتاب المقدس هو كتابهم، ولا ينبغي أن ينظر إليه وكأنه فوق الكنيسة بل هو في الكنيسة يعاش ويفهم (لذلك لا يجب فصل الكتاب المقدس عن التقليد). الكتاب المقدس يستمد سلطته في النهاية من الكنيسة، لأن الكنيسة هي التي قررت في الأصل ما هي الأسفار التي تؤلف الكتاب المقدس وهي وحدها التي تستطيع تفسيرها بما لها من سلطة حقة. وثمة أقوال عديدة في الكتاب المقدس هي أبعد ما تكون عن الوضوح، وقارئها بكل ما أوتي من حسن نية معرض للخطأ في تفسير النصوص إذا اعتمد على فهمه الشخصي. سأل فيلبس الخصي الحبشي: (ألعلك تفهم ما أنت تقرأ، فقال: كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد) (أعمال، 30:8- 31). والأرثوذكسي في قراءته للكتاب المقدس يرضى إرشاد الكنيسة. والمهتدي الجديد حين يصبح عضواً في الكنيسة الأرثوذكسية، يعد (بتقبيل الكتاب المقدس وتفهمه وفقاً للتفسيرات التي أخذت بها ولا تزال أمنا الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة الجامعة الشرقية) {بما يختص بعلاقة الكتاب المقدس والكنيسة، راجع خاصة اعتراف دوسيتيوس}.
ب) نص الكتاب المقدس: النقد الكتابي: {راجع (وجه المسيح في الأناجيل)، لكزيتش، منشورات النور، 1981 (الناشر)}
العهد الجديد في الكنيسة الأرثوذكسية هو نفسه الذي تعتمده المسيحية بأسرها. أما النص المعتمد للعهد القديم فهو الترجمة اليونانية القديمة المعروفة بالسبعينية. وحيث تختلف هذه الترجمة عن الأصل العبري، (وهذا ما يحصل في كثير من الأحيان)، فالأرثوذكسي يعتقد بأن هذه الاختلافات إنما هي ناجمة عن وحي الروح القدس وإن من الواجب تقبلها على أنها جزء من الإعلان الإلهي المستمر. وأبلغ مثال نجده في أشعياء (14:7) حيث ورد في النص العبري: (الفتاة تحبل وتلد ابناً)، بينما ورد في نص السبعينية: (العذراء تحبل). وقد استشهد العهد الجديد بنص السبعينية (متى، 23:1).
ويضم النص العبري للعهد القديم تسعة وثلاثين سفراً. يضاف إليها في السبعينية عشرة أسفار تعرف في الكنيسة الأرثوذكسية بـ (الكتب غير القانونية) {وهي: عذرا 3، طوبيا، يهوديت، المكابيين 1، 2، 3، حكمة سليمان، الجامعة، باروخ ورسالة ارميا. أما في الغرب فغالباً ما تدعى تلك الأسفار (بالأبوكريفا)}. وقد اعتبرها مجمعا يسّي (1642) وأورشليم (1672) على أنها جزء أصلي من الكتاب المقدس. بيد أن معظم اللاهوتيين الأرثوذكس المعاصرين، سائرين على درب أثناسيوس وإيرونيموس، يقولون بأن هذه الأسفار العشرة هي جزء من الكتاب المقدس ولكنها ليست على مستوى باقي الأسفار في العهد القديم.
والمسيحية، وهي حقيقة، ليس لديها ما تخشاه من التنقيب المخلص. لذلك فالأرثوذكسية، رغم اعتبارها بأن الكنيسة هي المرجع الوحيد الذي له سلطة تفسير الكتاب المقدس، فهي لا تمنع من القيام بدراسة نقدية وتاريخية للكتاب المقدس، مع الاعتراف بأن الأرثوذكسيين لم يقوموا حتى الآن بأي نشاط بارز في هذا المضمار.
ج) الكتاب المقدس في العبادة: يعتقد البعض أحياناً أن الأرثوذكسية لا تولي الكتاب المقدس نفس الأهمية التي يوليه إياها المسيحيون الغربيون. ولكن، في الواقع، تتلى مقاطع من الكتاب المقدس باستمرار أثناء الخدم الأرثوذكسية: ففي صلاة السحر كما في صلاة الغروب في بحر الأسبوع تتلى المزامير كلها كما أنها تتلى مرتين في الأسبوع خلال الصوم الكبير {هذه هي القاعدة التي تضعها الكتب الليتورجية. أما من الناحية العملية فإن صلاة السحر وصلاة الغروب لا تقامان كل يوم في كل كنائس الرعية، بل تقامان معظم الأحيان أيام السبت والأحد وفي الأعياد، وفي بعض الأحيان تختصر القراءات من المزامير بكل أسف أو أنها تحذف كلياً أحياناً}. وتضم صلاة الغروب عشية كثير من الأعياد قراءات من العهد القديم: ثلاث قراءات في معظم الأحيان. وتلاوة الأناجيل تشكل جزءاً مهماً في صلاة السحر في الآحاد وأيام الأعياد. يليها القداس الإلهي حيث تقرأ كل يوم قراءة خاصة من الرسائل ومقطع من الإنجيل، بحيث تتم قراءة العهد الجديد بأكمله خلال السنة الطقسية، باستثناء سفر الرؤيا. وتتلى صلاة (الآن أطلق عبدك بسلام) في كل صلاة غروب. وكذلك ترتل أناشيد من العهد القديم مثل (نشيد زكريا) و (تعظم نفسي الرب) كل يوم في صلاة السحر. وتتلى الصلاة الربانية في كل خدمة. وإلى جانب كل هذه النصوص المستقاة من الكتاب المقدس فإن الكثير من العبارات والمفاهيم الكتابية تدخل في الليتورجيا. ود أجري إحصاء دلّ على أنه يوجد في القداس الإلهي 98 استشهاداً من العهد القديم و114 من العهد الجديد {ب. افدوكيموف، الأرثوذكسية، ص241، حاشية96}.
وكون المجمع المسكوني السابع قد أقر أن يكون للأيقونات نفس الإجلال المكرس للأناجيل، فيعتبر الأرثوذكسي الكتاب المقدس بمثابة أيقونة نطقية للمسيح. وفي كل كنيسة يوضع كتاب الأناجيل فوق المذبح ويجري الطواف به في كل قداس، وكذلك خلال صلاة السحر أيام الآحاد والأعياد. والمؤمنون يقبّلونه ويسجدون أمامه. بذلك تعبّر الكنيسة الأرثوذكسية عن احترامها، وتعرب عن إجلالها لكلمة الله.
2- المجامع المسكونية السبعة ودستور الإيمان:
{راجع (مدخل إلى العقيدة المسيحية) لكوستي بندلي ومجموعة من المؤلفين، الطبعة الثالثة، 1982، منشورات النور، وأيضاً (مجموعة الشرع الكنسي)، منشورات النور (الناشر)}
إن التحديدات العقائدية الصادرة عن المجامع المسكونية معصومة عن الخطأ. وهكذا فإن دساتير الإيمان التي سنّتها المجامع السبعة تتمتع، إلى جانب الكتاب المقدس، بسلطة دائمة لا ترد.
وأهم دستور للإيمان صدر عن المجامع هو دستور الإيمان النيقاوي القسطنطيني الذي يتلى في كل قداس إلهي، ويومياً في صلاة المساء وصلاة النوم.
وأما دستورا الإيمان الآخران المعتمدان في الغرب وهما (دستور الرسل) و(دستور أثناسيوس) فليس لهما أهمية دستور الإيمان النيقاوي لأن صياغتهما لم تتم في مجمع مسكوني. ويحترم الأرثوذكسيون (دستور الرسل) معتبرين إياه تعبيراً قديماً عن الإيمان ويقبلون ما ورد فيه كدستور إيمان غربي لم يُعمل به قط في البطريركيات الشرقية. أما (دستور أثناسيوس) فهو ليس معتمداً في العبادة الأرثوذكسية ولكننا نجده في كتاب الساعات (اورلوجيون) بدون إضافة (والابن) طبعاً.
3- المجامع اللاحقة:
كما سبقت الإشارة، فإن تحديد العقيدة الأرثوذكسية لم يتوقف بانتهاء المجامع المسكونية السبعة. فمنذ السنة الـ 787 عمدت الكنيسة إلى التعبير بصورة رئيسية عن معتقدها بطريقتين: أولاً بالتحديدات العقائدية التي صدرت عن المجامع المحلية (أي المجامع التي ضمت أعضاء ينتمون لكنيسة واحدة أو لعدة كنائس، ولكن دون الادّعاء بتمثيل الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة بأسرها)، وثانياً برسائل أو اعترافات إيمانية صدرت عن بعض الأساقفة إفرادياً. وفي حين أن القرارات العقائدية الصادرة عن المجامع العامة معصومة، فإن قرارات كل من المجامع المحلية أو الأساقفة هي دائماً عرضة للخطأ. لكنها إذا ما قُبلت من باقي الكنيسة فإنها تكتسب مدىً مسكونياً، أي أنها تكتسب سلطة شمولية شبيهة بسلطة القرارات العقائدية الصادرة عن المجمع المسكوني. والقرارات العقائدية الصادرة عن المجمع المسكوني لا يمكن تصحيحها أو إعادة النظر فيها، إذ يجب قبولها جملة وتفصيلاً. لكن الكنيسة ظلت على الدوام انتقائية في طريق بحثها لأعمال المجامع المحلية. على سبيل المثال فقد قبلت كل الكنيسة الأرثوذكسية جزءاً من القرارات الإيمانية التي صدرت عن مجامع القرن السابع عشر، ولكنها تركت جانباً البعض الآخر أو عملت على تصحيحه.
وهاكم أهم البيانات العقائدية الأرثوذكسية منذ السنة الـ787:
- الرسالة الجامعة للقديس فوتيوس الكبير (867).
- الرسالة الأولى الموجهة من ميخائيل كارولاريوس إلى بطرس بطريرك أنطاكية (1054).
- قرارات مجامع القسطنطينية السنة الـ1341 والـ1351 المتعلقة بقضية الهادئين.
- الرسالة الجامعة للقديس مرقص الأفسسي (1440- 1441).
- اعتراف جيناديوس بطريرك القسطنطينية (1445- 1456).
- ردود إرميا الثاني على اللوثريين (1573- 1581).
- اعتراف ميتروفانس كريتوبولس (1625).
- اعتراف الإيمان الأرثوذكسي الصادر عن بطرس مغيلة في صيغته المنقحة (المقبول من مجمع يسّي السنة الـ1642).
- اعتراف دوسيتيوس (المقبول في مجمع أورشليم السنة 1672).
- ردود البطاركة الأرثوذكسيين على (غير قاسمي اليمين) (1718، 1723).
- رد البطاركة الأرثوذكسيين على البابا بيوس التاسع (1848).
- رد مجمع القسطنطينية على البابا ليون الثالث عشر (1895) {راجع (رسالة مجمعية وأسقفية)، منشورات النور،(الناشر)}.
- الرسائل الجامعة الصادرة عن بطريركية القسطنطينية المتعلقة بالوحدة المسيحية والحركة المسكونية (1920، 1952).
هذه الوثائق – من باب 5 إلى 9 بنوع خاص – يطلق عليها أحياناً اسم (الكتب الرمزية) للكنيسة الأرثوذكسية، لكن الكثيرين من العلماء الأرثوذكسيين اليوم يرون بأن هذه التسمية تقود إلى الشطط ويمتنعون عن استخدامها.
4- آباء الكنيسة:
{راجع كتابات بعض الآباء في منشورات النور، أمثال (الآباء الرسوليون) و (الحياة في المسيح) لنيقولا كاباسيلاس و (السلم إلى الله) ليوحنا السلمي و (في المعمودية) ليوحنا الذهبي الفم، و (نسكيات) اسحق السرياني، الخ… (الناشر)}.
ينبغي للتحديدات الصادرة عن المجامع أن تدرس في إطار الكتابات التي وضعها آباء الكنيسة. ولكن كما أن الكنيسة انتقائية تجاه المجامع المحلية، فهي أيضاً انتقائية تجاه الآباء. فكتابات بعضهم قد تكون مغلوطة ومتناقضة، وينبغي أن يُفصل في هذه الكتابات بين القمح والزؤان. فلا يكفي الأرثوذكسي الاستشهاد بالآباء، بل يجب عليه أن يلج إلى روح الآباء ويكتسب فكراً آبائياً. ولا ينبغي له أن يعامل الآباء على أنهم بقايا من الماضي، بل أن يرى فيهم شهوداً أحياء وأشخاصاً معاصرين.
ولم تحاول الكنيسة الأرثوذكسية قط أن تحدد من هم الآباء، كما أنها لم تعن بتصنيفهم من حيث الأهمية. إلا أنها تولي احتراماً خاصاً لكتّاب القرن الرابع ولا سيما غريغوريوس النازينزي وباسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم (وهم من يسمّون بالأقمار الثلاثة). وعصر الآباء بالنسبة للأرثوذكسية لا ينتهي بانتهاء القرن الخامس، فثمة كتّاب آخرون أقرب عهداً ويعدّون من الآباء أمثال مكسيموس المعترف ويوحنا الدمشقي وثيودوروس من ستوديوم وسمعان اللاهوتي الجديد وغريغوريوس بالاماس ومرقص الأفسسي. ومن الخطأ النظر إلى كتابات الآباء على أنها دائرة مقفلة تخص الماضي وحده. فمن ذا الذي يقول بأن عصرنا الحاضر لن يظهر فيه أيضاً أشخاص جدد يماثلون باسيليوس أو أثناسيوس ؟ والقول باستحالة ظهور آباء جدد، كالقول بأن الروح القدس قد هجر الكنيسة.
5- الليتورجيا:
{راجع (ذبيحة التسبيح) لفريدا حداد، و (من أجل فهم الليتورجيا وعيشها) لرهبنة دير الحرف، و (مائدة الرب) لأفاناسييف، و (مدخل إلى القداس الإلهي) لكوستي بندلي، و (العبادة الفردية والعبادة الجماعية) لجورج فلورفسكي، كلها في منشورات النور (الناشر)}.
لا تميل الكنيسة الأرثوذكسية أن تزيد من التحديدات العقائدية كما هي الحال في الكنيسة الكاثوليكية. ولكن لا ينبغي أبداً الاستنتاج بأن عدم إعلان معتقد ما كعقيدة رسمية يعني بالضرورة أن هذا المعتقد ليس جزءاً من التقليد الأرثوذكسي وإنما هو مجرد رأي خاص. فبعض المعتقدات التي لم يجر تحديدها رسمياً، نراها مقبولة من الكنيسة بيقين داخلي واضح وإجماع ملحوظ وصفاء كلي بحيث تصبح مساوية كل المساواة لتحديد مصاغ بشكل صريح. يقول القديس باسيليوس الكبير (إن قسماً من تعاليمنا مكتوب، أما القسم الآخر فانتقل إلينا بشكل سرّي من طريق التقليد الرسولي. ولهاتين الصيغتين من التعاليم نفس القيمة في مجال التقوى) {في الروح القدس، 27، 66}.
هذا التقليد الداخلي الذي (انتقل إلينا بشكل سرّي) محفوظ بنوع خاص في عبادة الكنيسة. إيمان الإنسان يعبر عنه في صلاته (Lexorandi،Lexcredendi). والأرثوذكسية وضعت قليلاً من التحديدات العقائدية الصريحة حول الإفخارستيا وسائر الأسرار المقدسة، وحول الدهر الآتي، ووالدة الله والقديسين والمؤمنين الراقدين: فالعقيدة المتعلقة بهذه الأمور موجودة بمعظمها في الصلوات والتراتيل التي تؤدى أثناء الخدم الأرثوذكسية. وليست فقط كلمات هذه الخدم تشكل جزءاً من التقليد، بل كل الحركات والأعمال التي ترافقها كالتغطيس في ماء المعمودية، وأنواع المسح بالزيت، وإشارة الصليب الخ… هذه كلها ذات مدلول خاص وتعبّر من خلال الرموز عن حقائق الإيمان.
6- القانون الكنسي:
{راجع (مجموعة الشرع الكنسي)، منشورات النور، 1975 (الناشر)}.
إلى جانب التحديدات العقائدية، أعدّت المجامع المسكونية القوانين الكنسية التي تعالج تنظيم الكنيسة ونظامها. كما وضع بعض القوانين الأخرى كل من المجامع المكانية أو عدد من الأساقفة. وقد صنف ثيودور بلسمون وزوناراس وكتّاب بيزنطيون آخرون مجموعات القوانين الكنسية وجعلوا لها تفسيرات وشروحات. وأهم شرح عصري يوناني (البيذاليون) (دفة المركب) نشر سنة 1800، وهو من وضع القديس نيقوديموس الذي عاش في الجبل المقدس.
والقانون الكنسي الأرثوذكسي لم يدرس جيداً في الغرب، لذلك فإن المؤلفين الغربيين يقعون معظم الأحيان في خطأ الاعتقاد بأن الأرثوذكسية ضمنياً ليس لها تنظيمات. لكن حياة الأرثوذكسية خاضعة على العكس للكثير من القوانين التي غالباً ما تتميز بدقتها وحزمها. لكن من واجبنا الاعتراف بأن الكثير من القوانين الكنسية هي في أيامنا هذه صعبة التطبيق بل مستحيلة التطبيق، وقد سقطت بالتالي نتيجة عدم استعمالها. ولعلّ من مهمات أي مجمع عام جديد للكنيسة يجري عقده أن يعيد النظر في القانون الكنسي ويعمل على توضيحه.
في حين أن التحديدات العقائدية تملك الصوابية المطلقة وهي غير قابلة للتعديل، فإن القوانين الكنسية بحد ذاتها لا تتطلع إلى هذا المستوى. ذلك أن التحديدات العقائدية بحث في الحقائق الأزلية، في حين تعنى القوانين الكنسية بشؤون الحياة اليومية للكنيسة، تلك الحياة التي تتغيّر ظروفها باستمرار، والتي تواجه مواقفاً على أشد ما يكون وعقائد الكنيسة: فالقانون الكنسي هو السبيل الذي تطبَّق بواسطته العقائد على مجرى الحياة اليومية لكل مسيحي. ومن هذه الناحية تشكل القوانين جزءاً من التقليد الشريف.
7- الأيقونات:
تقليد الكنيسة لا يجد له تعبيراً في الكلمات فقط أو في الحركات والرموز التي تقام في العبادة، بل يُعبّر عنه أيضاً من طريق الفن عبر الخطوط والألوان في الأيقونات المقدسة. والأيقونة ليست مجرد رسم ديني هدفه إيقاظ المشاعر الورعة، وإنما هي سبيل من السبل التي يعلَن بها الله للإنسان. فمن خلال الأيقونات يحقق المسيحيون الأرثوذكسيون رؤيا العالم الروحي. وبما أن الأيقونات تشكل جزءاً من التراث التقليدي، فرسّامها ليس حراً في إجراء الاقتباس أو التجديد الذي يحلو له، لأنه يجب أن يعكس عمله روح الكنيسة وليس أحاسيسه الجمالية الشخصية. فالإلهام الفني ليس مستبعداً، بل يجب تطبيقه ضمن حدود بعض القواعد المرعية. فمن المهم أن يكون رسّام الأيقونات فناناً جيداً، ولكن أهم من ذلك أن يكون مسيحياً مخلصاً، يحيا في روحية التقليد ويعدّ نفسه لعمله من طريق الاعتراف والمناولة.
تماسك عناصر التقليد:
تلك هي العناصر الأساسية التي تكوِّن تقليد الكنيسة الأرثوذكسية من الناحية الخارجية. ولا يمكن فصل هذه العناصر عن بعضها البعض أو وضع بعضها في وجه البعض الآخر، لأن الروح القدس يتكلم من خلالها جميعها. وهي تشكل وحدة متكاملة ويُفهم العنصر منها في ضوء العناصر الأخرى.
قيل أحياناً أن السبب العميق لانشقاقات المسيحية الغربية في القرن السادس عشر يعود إلى ذاك الانفصال الذي حلّ بين اللاهوت والتصوّف (Mysticisme)، وبين الليتورجيا والتقوى الشخصية. أما الأرثوذكسية فسعت من جانبها إلى تجنّب انفصال كهذا. فكل لاهوت أرثوذكسي حقيقي هو لاهوت صوفي. وأي تصوّف يستقل عن اللاهوت من شأنه أن يصبح ذاتياً ومهرطقاً. كذلك فإن اللاهوت حين لا يكون صوفياً فإنه يسقط في علم الكلام الجاف (الأكاديمي) بالمعنى المجازي للكلمة.
اللاهوت والتصوّف والروحانية والمناقب والعبادة والفن، كل هذه أشياء لا ينبغي فصل بعضها عن بعض. فالعقيدة لا يمكن فهمها إلاّ من خلال الصلاة. ويقول إيفاغريوس: (اللاهوتي إنسان يحسن الصلاة، ومن يصلّي بالروح والحق هو لاهوتي) {في الصلاة،60}. والعقيدة التي تدرك في ضوء الصلاة يجب أن تكون أيضاً معاشة: فاللاهوت الذي لا يُترجم عملاً هو، كما قال القديس مكسيموس المعترف، لاهوت (شياطين) {رسالته 20}. فدستور الإيمان لا يخص إلا أولئك الذين يعيشونه: فالإيمان والمحبة، واللاهوت والحياة، أمور لا يسوغ فصلها. في القداس الإلهي البيزنطي تسبق تلاوة دستور الإيمان الجملة التالية: (لنحب بعضنا بعضاً لكي بعزم واحد نعترف مقرّين بآب وابن وروح قدس ثالوث متساوي في الجوهر وغير منفصل)، وهي كلمات تعبّر بدقة عن موقف الأرثوذكسيين من التقليد. فما لم نحب بعضنا البعض، فإنه ليس بمستطاعنا أن نحب الله، وإذا لم نحب الله، فلن يكون بمقدورنا أن نعلن إيماننا، ولن ندخل إلى روح التقليد، لأنه ما من طريق آخر لمعرفة الله سوى أن نحبّه.
كتاب: الكنيسة الأرثوذكسية: إيمان وعقيدة
Chapitre premier : La noble tradition : sources de la foi orthodoxe
تأليف: الأسقف كاليستوس (تيموثي) وير