Site icon شبكة أرثوذكس أونلاين

في مديح القديس بولس – سبع عظات للقديس يوحنا الذهبي الفم

بين القديس يوحنا الذهبي الفم والرسول بولس

صداقة فريدة

 يلتقي القديسان بولس الرسول والبطريرك يوحنا الذهبي الفم في أمورٍ كثيرة، بل نقول ارتبطت روحاهما بصداقة حميمة. قيل إن ضيفاً جاء لمقابلة القديس الذهبي الفم فأراد تلميذه أن يخبره عن حضور الضيف لكنه وجده منهمكاً في الحديث مع شخصٍ وقورٍ جداً. حاول عدة مرات الدخول إلى حجرته فلم يستطع. أخيراً اعتذر الضيف وترك البطريركية. ولما سأل القديس يوحنا الذهبي الفم تلميذه عن الضيف قال له إنه جاء ولم يستطع الدخول، كما لم يستطع أن يخبره عنه، لأنه كان منهمكاً جداً في حديثه مع شخصٍ وقورٍ. تعجب البطريرك إذ لم يكن معه أحد، وإذ أصر التلميذ انه رأى شخصاً وقوراً يتحدث معه جاء إليه بعدة أيقونات، فأشار إلى أيقونة القديس بولس، قائلاً: “هذا هو الرجل!” فعرف القديس يوحنا ان الرسول بولس كان حاضراً وهو يدرس ويتأمل في رسائل القديس بولس في حجرته الخاصة!

خير مفسرٍ لرسائل القديس بولس

 قدم لنا القديس يوحنا تفاسير وعظات على رسائل القديس بولس. اقتطف هنا تعليق الأب إسيذورس Isidore of Pelusium على عظاته على الرسالة إلى أهل رومية: [ظهرت كنوز حكمة يوحنا المتعلم على وجه الخصوص في تفسيره الرسالة إلى أهل رومية. لست أظن أن أحداً يقدر أن يقول إنني بهذا أتملقه، فإنه لو أراد بولس الإلهي نفسه أن يشرح بلسانه الفصيح كتاباته ما كان يتكلم بغير ما قال هذا السيد الشهير (1).]

ألقى القديس يوحنا الذهبي الفم سبع عظات عن القديس بولس حيث نظر إليه كقديس لم يفُقه أحد قط في العهدين، قارن بينه وبين رجال العهد القديم من هابيل حتى يوحنا المعمدان ليظهر انه فاق الجميع (2).

بين يديك ترجمة قامت بها بعض الشابات بالكنيسة وقد قمت بتبويبها مع بعض التعليقات، وحذف العبارات المتكررة.

القمص تادرس يعقوب ملطي
 1998
كنيسة الشهيد مار جرجس
اسبورتنج – الاسكندرية

هذا الكتاب من ترجمة الكنيسة القبطية: وهذا يعني أن ليس كل ما جاء في تعليقات المترجم أو المعد نتفق معه وأحياناً نختلف معه. فالرجاء تنبيهنا في حال وجود شيء من هذا القبيل أو غير مفهوم… ولعدم وجود المرجع الذي تمت هذه الترجمة عنه، ولأنه من الواضح أن العظة الرابعة لم تترجم بكاملها، قمنا بالبحث عن هذه العظات ولكن لم نجدها متوفرة أونلاين على أي موقع من المواقع المتخصصة بنشر التراث الآبائي.. إلا أننا عثرنا على كتاب انجليزي يحوي هذه العظات وبنفس اسم الكتاب بالعربي “في مديح القديس بولس” “In Praise of Saint Paul” وهو من ترجمة توماس هالتون، لمعرفة المزيد اضغط هنا

العظة الأولى:  بولس صاحب كمال البركات كلها

جمع الرسول بولس في شخصه كل الكمالات، فقد كان أعظم من هابيل ونوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب وموسى وداود وإيليا ويوحنا المعمدان والملائكة.

نقاوة القلب وأنهار الروح

[يقدم لنا القديس يوحنا شخص الرسول بولس المجاهد بالنعمة الإلهية لكي يحيا في نقاوة قلب، فتفيض فيه أنهار مياه الروح التي تحول القفر إلى فردوسٍ روحي مفرح.]

 بحق يمكن للإنسان أن يصف نفس القديس بولس بكونها حاملة بذار الفضيلة وفردوساً روحياً. فقد ترعرعت في داخله النعمة بعمقٍ، كما كان دائماً يهيئ أعماقه لتنمو النعمة فيها وتزدهر. وحين صار إناءً مختاراً دأب على تنقية نفسه فاستحق أن ينسكب عليه الروح القدس بفيض. هكذا صار لنا مصدر أنهارٍ كثيرة وعجيبة، ليست فقط الأنهار الأربعة التي نبعت في الفردوس، وإنما أنهار أخرى كثيرة تجرى كل يومٍ لكل واحدٍ منا لتروى ليس فقط الأرض، بل نفوس البشر فتجعلها تنبت الفضائل.

كمال كل البركات

أية كلمات يمكن أن تفي وصف صلاح هذا الإنسان حقه؟

أو أي لسان يستطيع أن يتغنى بمدائحه؟

كيف نستطيع أن ننظم مديحاً في الإنسان حين تتمتع نفسه بكل الفضائل البشرية، بل أقول ما هو أكثر من هذا بالفضائل الملائكية أيضاً؟ لكن لا يمكننا أن نصمت أمام هذا (العجز)، بل يلزمنا أن نتكلم. لأن هذا هو أعظم أعمال المديح، حين تفوق الأعمال البارعة محاولتنا لوصفها مهما كانت بلاغتنا. وإذ تفشل جهودنا نجد ذلك مرضياً بالأكثر من تسجيل أي عدد من الأعمال الناجحة.

إذاً أين نبدأ في مديحنا؟ أليس من هذه النقطة، وهى أن بولس صاحب كمال كل البركات. أي امتياز نراه جلياً في الأنبياء أو البطاركة أو الصالحين أو الرسل أو الشهداء نجده أكثر غزارة في بولس بطريقة فائقة.

بين ذبيحة بولس الرسول وذبيحة هابيل

 لاحظ هذا. تقول: إن هابيل قدم ذبيحة مقبولة (تك 4:4)، بهذا كان متميزاً. لكن إن اختبرنا ذبيحة بولس نجدها تفوق تلك التي لهابيل كما تعلو السموات عن الأرض. تسأل ماذا أعني؟ ببساطة قدم بولس ذاته ذبيحة يومية كاملة، وكانت تقدمته مضاعفة:

أولاً: كان يموت كل يومٍ (1 كو31:15 ).

ثانياً: كان يحمل في جسده إماتة يسوع على الدوام (2 كو 10:4)، إذ كان دائماً يواجه أخطاراً، وكان راغباً في الاستشهاد، بإماتة جسده صار بالفعل تقدمة ذبيحية، بل وبالحق أكثر من ذبيحة! لأنه لم يقدم ذبيحة غنمٍ أو ماشيةٍ، بل تقدمة جسده ودمه كذبيحة يومية مضاعفة. لهذا تجاسر فقال: “أنا الآن اُسكب في ذبيحة” (2 تي6:4)، داعياً دمه تقدمة.

لم تكفه هذه التقدمات، فبعد أن قدم نفسه بالكامل قرباناً أراد تقديم العالم كله قرباناً: الأرض والبحر، اليونانيين والبرابرة، كل أرض تطوقها السماء، هذه الأرض التي وطأتها قدماه، كأنه كائن ذو جناحين وليس مجرد رحالة! لقد نزع أشواك الخطية التي في الطريق، وزرع كلمة الدين في كل مكان. انتزع الخطأ، وأعاد الحق. جعل البشر ملائكة بل بالأكثر غيَّر البشر من شياطين إلى ملائكة (3). وإذ كان مزمعاً أن يلقى وراءه الصعاب والحرب التي لا ُتطاق قال لتلاميذه معزياً: “لكنني وإن كنت أنسكب أيضا على ذبيحة إيمانكم وخدمته أُسر وأفرح معكم أجمعين، وبهذا عينه كونوا أنتم مسرورين أيضاً وافرحوا معي” (في 17:2، 18).

 أية ذبيحة إذاً تعادل هذه الذبيحة التي قدمها بولس، مقدماً إياها قرباناً بسيف الروح، وتقدمة على مذبحٍ عالٍ فوق السماوات؟!

تقول إن هابيل قد طُرح إلى أسفل وذُبح بيد أخيه الغادرة (تك 8:4)، هذا قد ضاعف من عظمته. لكنني أحصى (لبولس) ميتات لا تُعد، وموتاً في كل يوم، أعلمنا  بها بولس.

إن أردت أن تعلم شيئاً عن الذبيحة التي تبلغ أقصى الحدود تجد هابيل الذي ذُبح بيد أخيه بلا سبب ولم يجنِ قايين أية منفعة من ذلك؛ وبولس أيضا قُتل بيد من أنقذهم مراراً من كل شرٍ، والذين من أجلهم احتمل كل أنواع العذاب.

فلك بولس وفلك نوح

[يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في الرسول بولس كقائد لفلك يطوف العالم كله لكي يحمل البشرية لا إلى جبل أراراط بل إلى السماء. لقد فتح نوح أبواب الفلك للحيوانات، أما فُلك بولس فيُحول الداخلين من الطبيعة الحيوانية إلى الطبيعة الملائكية.]

تقول كان نوح إنساناً باراً وكاملاً في جيله (تك  8:6-9)، وفريداً بين جنس البشر، لكن بولس كان بالحق فريداً.

أنقذ نوح نفسه وبنيه فقط، أما بولس فلم ينقذ أثنين أو ثلاثة أو خمسة من ذويه حين اجتاح الأرض طوفاناً، بل أنقذ العالم كله من تحطيم السفينة المحدق، وذلك ليس بوضع ألواحٍ خشبية جنباً إلى جنب لصنع فلكٍ، وإنما بالعمل على ألواحٍ (قلبية) عوض ألواح الخشب. لم يكن فلكه محمولاً إلى موضعٍ واحدٍ، بل ممتداً إلى أقاصي الأرض، فيه حمل كل الشعوب إلى يومنا هذا. فقد صنعه كي يضم فيه الجماعة لتخلص، يلحق به من هم أكثر غباوة من الحيوانات العجماوات، ويجعلهم يتمثلون بالقوات العلوية. هذا يثبت سمو فلكه.

استقبل نوح غراباً (تك  6:8) وذئباً لكنه لم يغير طبيعتهما المتوحشة. أما بولس فمن الجانب الآخر حول الذئاب إلى حملان، والصقور إلى حمامٍ! حوَّل طبيعة الإنسان غير العاقلة المتوحشة إلى رقة الروح، ولا يزال فلكه باقياً لم يتحطم. لم تزعزع عاصفة الشر ألواحه الخشبية، بل تغلبت ألواحه على العاصفة وأعادت الهدوء، لِمَ لا؟ فإن ألواحه لم تُدهن بالقار والحمر (تك  14:6؛ خر 3:2) بل بالروح القدس.

بين جهاد بولس وجهاد إبراهيم

[يقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين الرسول بولس وأبينا إبراهيم حاسباً الأول أعظم من جهة:

 1- الترك… ترك حتى الاشتياق إلى السماء من أجل حبه للسيد المسيح.

 2- إنقاذ للغير من أيدي الشياطين.

 4- تقديم نفسه ذبيحة حب للَّه.]

تقول إن كل البشر يعظمون إبراهيم لأنه ترك بيته وبيت أبيه وأقرباءه حين سمع الوصية: “إبرام، اترك مدينتك (أرضك) وبيت أبيك” (تك 1:12). لقد أمره اللَّه بهذا، وكان هذا يعنى كل شىء بالنسبة له. حقاً فإننا نحن أيضا نعجب منه. لكن هل هذا يجعله مثل بولس؟ لم يترك بولس بيته وبيت أبيه و ذويه فحسب، بل ترك العالم ذاته لأجل يسوع، بل بالأكثر أقول ترك السماء ذاتها. لم تشغل سماء السماوات قلبه، إذ كان هدفه الوحيد هو حب يسوع. لنسمع كلماته الواضحة في هذا الصدد: “لا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق تستطيع أن تفصلنا عن محبة المسيح ” (رو 38:8-39).

تقول إن إبراهيم واجه أخطاراً لينقذ ابن أخيه من البرابرة (تك 5:12)، أما بولس فلم ينقذ ابن أخيه فحسب ولا ثلاث مدنٍ أو أربع، بل أنقذ العالم كله، لا من البرابرة فحسب، بل من أيدى الشيطان نفسه، محتملاً كل يوم أخطاراً لا تُحصى، وبميتات كثيرة تمم خلاص آخرين.

تقول إن تقديم ابنه ذبيحة كان تاج الصلاح وإكليل الفلسفة. هنا نجد بولس أيضا في المقدمة، لأنه لم يقدم ابنه ذبيحة بل قدم ذاته مراراً ومراراً كما قلت.

بين بولس واسحق في حب المقاومين

يعجب الناس من اسحق في أمور كثيرة، خاصة صبره. فقد حفر آباراً (تك 18:26 )، وحين نُزعت عنه أملاكه لم يتشاجر بل سمح بردم آباره، وكان دائم الترحال من مكانٍ إلى آخر. لم يحشد قواته ضد العدو بل كان يرحل تاركاً وراءه ممتلكاته حتى يشبع عدوه رغبته في الظلم. أما بولس فحين رأى ليس آباره تُردم بالتراب بل جسده يُرجم بالحجارة لم يرحل من مكانه كما فعل هذا الرجل بل جرى وراء راجميه وجاهد حتى يقودهم إلى السماء. كلما سُدت الآبار كلما فجَّر بالأكثر فيه أنهار الاحتمال.

 بين بولس ويعقوب في حياة الجهاد

تقول: نجد في الكتاب إعجاباً بيعقوب بن اسحق وذلك لقوته (تك 28:32). لكن أية نفس، مهما بلغت صلابتها، تعادل قوة احتمال بولس؟! لقد احتمل العبودية ليس فقط لمدة أربعة عشر عاماً (تك 18:29، 27) بل كل أيام حياته من أجل عروس المسيح. احتمل ليس حر النهار وبرد الليل فحسب، بل عواصف من التجارب لا تُحصى، من جلدٍ ورجمٍ ومصارعة وحوشٍ مفترسة وأخطارٍ في البحر وأصوامٍ متواصلة نهاراً وليلاً وعُرىٍ وأخطارٍ في كل موضع (2كو23:11 الخ) حتى يتفادى الشباك ويخطف الحملان من بين أنياب الشيطان.

بين بولس ويوسف في العفة

تقول: امتاز يوسف بضبط النفس (تك 19). أخشى أن يكون من السخرية أن نمدح بولس بهذا الأمر. بولس الذي صُلب للعالم (غلا 14:16) والذي حُسب ليس فقط جمال الجسد بل كل شيء تراباً ورماداً، لم يهتز لشيء، فكان كجثةٍ تلتقي بجثةٍ، كان يخمد شهوات الجسد، ولم يخضع قط لأية شهوة منها.

بين بولس وأيوب المجرب

[يقارن بين القديس بولس وأيوب البار من جهة:

 1- مواجهة تجارب بلا حصر.

 2- كرم الضيافة جسدياً وروحياً.

 3- احتمال الآلام.]

تقول: يُعجب كل بشرٍ بأيوب، وهو بحق يستحق ذلك فإنه حارب في معركة عظمى ويمكن أن يقف في مقارنة مع بولس في صبره، وفي طهارة حياته، وشهادته للَّه، وصراعه الشجاع مع الشيطان، ونصرته التي أنهى بها صراعه. لكن صراع بولس استمر ليس بضعة أشهر فحسب بل سنوات طويلة. كان دائماً يندفع في فم الأسد، ويصارع في مواجهة تجاربٍ بلا عدد، مثبتاً أنه أكثر قوة من أية صخرة. لم يلعنه ثلاثة من الأصدقاء أو أربعة بل كل الاخوة الكذبة الخائنين، اُفتري عليه، تُفل عليه وُشتم.

كان كرم ضيافة أيوب عظيماً، كذلك اعتناؤه بالفقراء. هذا لا ننكره، لكن سرعان ما يسقط هذا أمام بولس، كما يسقط الجسد أمام النفس. اعتنى أيوب بالمرضى جسدياً، واعتنى بولس أيضاً بالمرضى روحياً. ففي وقتٍ قاد من هم عرج ومقعدين روحياً، وفي وقت آخر كسى العرايا بثوب الفلسفة (الحكمة).

كان لأيوب الباب المفتوح أمام الزائرين الذين استضافهم في بيته، أما بولس فكان له القلب المفتوح ليسع العالم كله، اتسم كرم ضيافته بالمسكونية. هذا دفعه للقول: “لستم متضايقين فينا بل متضايقين في أحشائكم” (2 كو12:6).

كان أيوب سخياً مع المحتاجين في العطاء من غناه وكثرة مواشيه، أما بولس فلم يكن يملك سوى جسده الذي استخدمه في خدمة المحتاجين ورعايتهم كقوله: “أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان” (أع 34:20).

تقول إن الدود والجراحات قد أصابت أيوب بآلامٍ حادة غير محتملة. هذا حق، لكن لنأخذ في اعتبارنا الجلدات التي تحملها بولس عبر السنين، والصوم المستمر، والعرى، والقيود، والسجن، والمخاطر، والمكائد من أهل بيته ومن الذين هم في الخارج من الطغاة ومن العالم كله. أضف إلى ذلك خبراته المرة، أي الآلام التي عانى منها من أجل الساقطين، واهتمامه بكل الكنائس، والافتراءات التي تحملتها نفسه بشجاعة وصلابة تفوق الحديد والصخر الذي لا يُكسر. احتمل بولس روحياً ما تألم به أيوب جسدياً. نعم، فقد احتمل حزناً أمر من أي دود يقرض في نفسه من أجل الساقطين. كانت ينابيع دموعه تنهمر نهاراً وليلاً، يتألم من أجل كل نفسٍ أكثر من آلام امرأة في حالة مخاضٍ، هذا قاده للقول: “يا أولادي الذين أتمخض بكم” (غلا 19:4).

[حمل القديس يوحنا الذهبي الفم نفس الروح إذ يقول لشعبه:

إن كان يلزم للإنسان أن يحب أولاده الجسديين حتى يُدعى أباً حسب الطبيعة، فكم بالأكثر يليق بالإنسان أن يحب أولاده حسب النعمة، الروحيين المعمدين، حتى لا يهلكوا في جهنم؟! (4)

إني أب مملوء حنواً… كل أمٍ تصرخ وهى تتمخض في ساعة الولادة، هكذا أفعل أنا أيضا! (5)

ليس شىء أحب إلىّ أكثر منكم. لا ولا حتى النور!

إني اُود أن أقدم بكل سرور عيني ربوات المرات وأكثر – إن امكن – من أجل توبة نفوسكم!

 عزيز عليَ جداً خلاصكم، أكثر من النور نفسه!…

لأنه ماذا تفيدني أشعة الشمس إن أظلم الحزن عيني بسببكم؟!…

أني أحبكم، حتى أذوب فيكم، وتكونون لي كل شيء، أبى وأمي واخوتي وأولادي! (6)]

بولس وأنبياء العهد القديم

من تذكر بعد أيوب يستحق الإعجاب؟ موسى بلا شك! لكن بولس فاقه بمراحل. بين إنجازات موسى العظيمة والكثيرة تتويجه بالمجد حين اختار أن يُمحى اسمه من سفر الحياة من أجل خلاص اليهود (خر32:32)، لكنه اختار أن يهلك مع الآخرين، أما بولس فاختار أن يكون محروماً من المجد الأبدي من أجل خلاص الآخرين دون إشراك أحد آخر معه في هلاكه.

صارع موسى مع فرعون، وأما بولس فصارع مع الشيطان يومياً.

حارب موسى في سباقٍ واحدٍ، أما بولس فحارب من أجل العالم كله في صراع ليس بالعرق بل بالدم الذي أُريق في كل موضع. لقد قاد الجميع إلى الخلاص، الذين في أماكن آهلة وغير آهلة، قاد اليونانيين والبرابرة.

أستطيع أيضا أن أتكلم عن يشوع وصموئيل والأنبياء الآخرين، ولكي لا تخرج العظة عن الحدود اكتفي بعمل مقارنة مع نخبة ممن هم أكثر شهرة تمثلهم. إذا كان بولس يفوق الفائقين منهم، فيكون الشك قليلاً من جهة الآخرين. من منهم يكون اكثر شهرة؟! من نذكر من هؤلاء غير داود وإيليا ويوحنا؟! كان إيليا منهم نذيراً لمجيء المسيح الأول (ملا5:4) ويوحنا للمجيء الثاني (مت11:3). هذا يوضح سبب ذكر اسميهما معاً.

 ما أبرع ما اتصف به داود؟! بلا شك تواضعه وحبه للَّه. حقاً من تفوق في هاتين الصفتين مثل بولس الذي اتسمت بهما نفسه؟!

ما هو عجيب بالنسبة لإيليا؟ إنه أغلق السماء، وسبب قحطاً، وانزل ناراً من السماء (1مل 1:17؛ 2مل12:1)! لست أظن ذلك! بل بالأحرى كان يغار للرب. كان ملتهباً بالحماس. لكن إذا اختبرت حماس بولس تجده فائًقا كتفوقه على بقية الأنبياء. أي حماسٍ يعادل كلماته عن مجد اللَّه: “أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل اخوتي أنسبائي حسب الجسد” (رو3:9). لذلك حينما قدمت له السماء الأكاليل أجَّل ومَّد الوقت، قائلاً: “ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم” (في24:1). لذلك اعتبر أن العالم المنظور الملموس غير كافٍ لإشباع حبه وغيرته، بل أراد عالماً آخر غير منظور ليمارس ما يودَّه ويتمناه.

تقول: أكل يوحنا المعمدان جراداً وعسلاً برياً (مت4:3)، أما بولس فمع أنه عاش في العالم ولم يسكن البرية ولم يأكل جراداً ولا عسلاً برياً لكنه كان مكتفياً بمائدة أكثر بساطة ونسكاً، متجاهلاً حتى الضرورات من أجل غيرته للكرازة.

تقول: أظهر يوحنا شجاعة عظيمة أمام هيرودس، أما بولس فلم ينتهر واحداً أو اثنين أو ثلاثة فقط بل عدداً لا يُحصى من ذات هذه العينة. لقد واجه بالحق طغاة أسوأ بكثير من هيرودس.

بين بولس الرسول والملائكة

يبقى لنا أن نقارن بولس بالملائكة. لنترك الأرض ونصعد إلى أبواب السماء. لا يقل أحد إن كلماتنا تحمل جسارة فائقة إن كان الكتاب المقدس يدعو يوحنا ملاكاً وأيضاً الكهنة، فلماذا تتعجب حين نقول إن بولس يستحق أن يُدعى هكذا لتفوقه في هذه الفضائل؟!

ما هو سبب عظمة الملائكة؟ طاعتهم للَّه، هذا ما أعجب داود فيهم: “أقوياء في الفضيلة، يطيعون كلمته” (مز 20:102). لكن طاعة بولس لا تُقارن حتى بالكثير من الكائنات غير المتجسدين. ما يجعلهم مباركين هو طاعتهم لوصية اللَّه ورفضهم التام لعصيانه. هذا ما فعله بولس بإخلاص تامٍ. لقد تمم كلمة اللَّه ووصاياه أيضا. ليس فقط وصاياه، بل ما هو أكثر، كما أفصح قائلاً: “إذ وأنا أبشر أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة” (1 كو 18:9).

ماذا يرى النبي في الملائكة ما يستحق الإعجاب؟ “الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة” (مز 4:103). هذا أيضا نراه في بولس، كنارٍ وريحٍ عبر الأرض طولاً وعرضاً ونقَّاها في ترحاله.

هذا ما يجعل الأمر مميزاً بالأكثر، بينما كان بولس على الأرض في الجسد الفاني أظهر مثل هذه الشجاعة وهزم القوات غير المنظورة.

كم نُحسب في لومٍ إذاً إن لم نجاهد متمثلين بمثل هذا الإنسان على وجه الخصوص الذي اجتمعت فيه كل الصفات الجليلة في إنسانٍ واحدٍ.

لنفكر ملياً في هذه الاعتبارات، فنكون بلا لومٍ.

لنجاهد لكي تكون لنا مثل غيرته، فنشاركه ذات البركات بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته الحانية، الذي له المجد والقوة، الآن وكل أوان، آمين.

العظة الثانية: “القديس بولس الرسول مثل بارز لإمكانيات الطبيعة البشرية في الفضيلة”

تُعتبر حياة الرسول بولس مثالاً حياً لإمكانيات الإنسان الفائقة في الحياة المقدسة، بعمل النعمة الإلهية، فلم يَعد لنا أن نحتج بضعف طبيعتنا، فإنه ليس من طبيعة تختلف عن طبيعتنا.

كانت محبة المسيح هي المصدر الرئيسي لجهاده وملء مسرته، وظل هدفه الأوحد هو خلاص النفوس. كان ملائكياً في نقاوته، حازماً في قراراته، يشارك الكل معه في إنجازاته.

بولس الرسول كمثالٍ حي لإمكانيات الإنسان!

كان القديس بولس من أنبل الرجال ومثالاً واضحاً لسمو الطبيعة البشرية وإمكانيتها (خلال النعمة) في الفضيلة. خلال حديثه عن شخص السيد (المسيح) وحثٌنا على الفضيلة أدان (بولس الرسول) المنادين بفساد الطبيعة البشرية، وأبكم أفواه الناطقين بالافتراءات، مؤكداً أن الفرق بين الملائكة والبشر طفيف جداً إن أرادوا الوصول إلى درجة الكمال.

لم تكن طبيعة بولس الرسول تختلف عن طبيعتنا؛ ولا نفسه مختلفة عن نفوسنا، ولا عاش في عالمٍ آخرٍ، بل سكن في نفس العالم والمدينة وخضع لنفس القوانين والعادات، لكنه فاق في الفضيلة كل البشر في الماضي والحاضر. الآن، أين هؤلاء المعترضين على صعوبة الفضيلة وسهولة الخطية؟ فهذا الرجل يدينهم بكلماته: “لأن خفة ضيقتنا الوقتية تُنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجدٍ أبدي” (2 كو17:4). فإن كانت ضيقاته محتملة وخفيفة، فكم بالأحرى ضيقاتنا التي إن قارناها بضيقاته صارت كلا شيء أو مجرد لذٌات؟

اتقاد غيرته وسط الآلام

بالحقيقة إن غيرته الزائدة لم ُتشعِرُه بالآلام المصاحبة لحياته في الفضيلة. ولم يكن ذلك الأمر هو الوحيد العظيم في حياته، وإنما أيضاً لم يكن له دافع خفيٌ وراء سعيه نحو الفضيلة. إننا نتخاذل في تَحمٌل الآلام من أجل الفضيلة حتى لو عُرضت علينا المكافأة مُقدٌماً، لكن بولس احتضن الآلام بمحبة بلا مُقابل، وتحْمَل بكل فرحٍ ما اعترضه من صعوبات وعوائق في طريق الفضيلة. فلم يتضايق من ضعف الجسد أو ضغوط المسئولية أو بطش العادات ولا من أي شئ آخر. عِلاوة على ذلك فاقت مسئولياته كل مهام القادة والملوك، لكنه كان يزداد في الفضيلة يومياً. وصار ازدياد المخاطر سبباً في التهاب غيرته بالأكثر، فقال “أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام” (في 13:3).

مفاهيم جديدة للموت والألم والفقر الاختياري

عندما اقترب منه الموت دعا الجميع لمشاركته هذا الفرح، قائلاً: “وبهذا عينه كونوا أنتم مسرورين أيضاً، وأفرحوا معي” (في 18:2). فكان يتهلل فرحاً في الضيق والألم وفي كل مذلة. كتب إلى أهل كورنثوس: “لذلك أُسَر بالضيقات والشتائم الضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح” (2 كو 10:12). ودَعا ذلك أذرع العدالة موضًحاً أنها مصدر مثمر لفائدته، فصار لا يُهزَم أمام أعدائه. وبالرغم من الضرب والاضطهاد والشتم كان كمن في عرسٍ مبهجٍ، مُصحِحاً الكثير من مفاهيم النصرة، متهللاً فرحاً، شاكراً لله بقوله: “ولكن شكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين” (2 كو 14:2). وفي كرازته ازدادت كرامته بقبوله الإهانات والاضطهادات، ناظراً للموت كما ننظر نحن إلى الحياة، وقابلاً للفقر كقبولنا للغنى، ومتمتعاً بالأتعاب لسعينا نحو الراحة، ومُفَضِلاً الضيقة عوض عن اللذة، ومُصلياً لأجل أعدائه أكثر من المصلين ضدهم. فقلب موازين الأمور، أو بالأحرى لنقُل إننا نحن الذين غيٌرنا تلك النُظم. إذ أنه ببساطة حافظ على شرائع الله، لأن ما سعى إليه يتفق مع الطبيعة البشرية أما سعينا نحن فهو ضد الطبيعة، والدليل على ذلك أن بولس مع من أنه إنسان إلا أنه جَدٌ فيما كان يعمله وليس فيما نحن نعمله. شئ واحد فقط كان يخافه ويخشاه، ألا وهو التعدٌي على شرائع الله. فسعى نحو لذةٍ واحدة فقط وهي أن يكون موضع سرور الله، ليس بمعنى السرور الحاضر فقط، بل السرور العتيد أن يكون أيضاً.

محبة المسيح الفائقة!

لا تحدثوني عن المدن أو الشعوب والملوك والجيوش والمال والولايات والسلطات، فهذه كلها فانيات، ولكن اهتموا بالفرح السماوي لتروا المحبة الفائقة التي في المسيح.

مجد الملائكة ورؤساء الملائكة وأي شئ آخر أقل شأناً عنده من محبة المسيح، فأمتلك في أعماقه الداخلية أعظم ما يمكن للإنسان امتلاكه، أي محبة المسيح التي بها اعتبر نفسه أسعد الناس، وبدونها يفقد كل رغبة في أية سلطة أو مبادئ أو قوات. بهذا الحب فضًل أن يُحسب ضمن الرُتب الوضيعة على أن يُحسب ضمن أعظم النبلاء بدونه. كان العقاب الوحيد في نظره أن يتجرًد من هذا الحب، فذاك هو الجحيم نفسه، والتأديب والشر الأبدي. على عكس ذلك فإن امتلاك محبة المسيح هي السماء، وهي الحياة، وهي العالم كله، وهي أن يصير ملاكاً، وهي الفرح الحاضر، والفرح المقبل، وهي أن يصير ملكاً، وهي الوعد، وهي الصلاح الأبدي.

خارج هذا لا يوجد أي شيء آخر سواء كان مُبهجِاً أو مؤلماً. احتقر العالم المنظور كله كأنه ورقة شجرة جافة متعفنة، فالطغاة والناس المملوءين بنار الغضب في نظره مجرد حشرات صغيرة، الموت والاستبداد والاضطهاد في نظره كلهو الأطفال، طالما أنه من أجل المسيح. فأحتضن كل هذا بفرح، واعتبر قيوده في سلاسل جائزة أثمن وأغلى من تاج نيرون، فصار سجنه سماءً واحتمل جراحات السياط باشتياق كاشتياق المتسابق نحو الجائزة، لذلك دعى الآلام، دعوني أشرح ما أقصده بذلك.

إن المكافأة الحقيقية هي أن ينطلق ويكون مع المسيح (في 23:1) فذاك أفضل من أن يكون في الجسد، لأن تلك هي الضيقة والتجربة. وبالرغم من ذلك فضٌل الضيقة عن المكافأة، وقال أنها أكثر ضرورة له. أن يكون محروماً من المسيح فذاك هو القضاء المؤلم الذي يفوق كل ألم، ولكن من أجل المسيح فضًل أن يكون هو نفسه محروماً منه عن أن يكون مع المسيح.

قد يقول قائل أن تلك الأشياء كانت موضع سروره بسبب المسيح. وأوافق على أن الذي يحزننا كان يفرحه… إذاً لماذا أذكر الأخطاء والإهانات؟ لأن آلامه الدائمة جعلته يقول: “من يضعف وأنا لا أضعف، من يعثر وأنا لا ألتهب” (2 كو 29:11)

مسرته في شركة آلامه للآخرين

يُقال أنه يوجد نوع من السرور مستتر في عمق الألم. فكثير ممن يحزنون لموت أبنائهم يجدون عزاءً إذا ما تُركوا وحدهم مع دموعهم، لكن إن حسبوا تلك الدموع يشعرون بازدياد عمق الألم. بالمثل فإن بولس لم ينقطع عن اكتشاف العزاء من خلال البكاء ليلاً ونهاراً. ولم يحزن أحد قط على آلامه مثلما حزن هو على آلام الآخرين. ما أعظم اهتمامه بخلاص اليهود، وذلك حينما صلىٌ أن يُحرم من مجد السماء لو كان ذلك سبيلاً لخلاصهم (رو 3:9)! ألا يوضح ذلك أن فقدان الآخرين لخلاصهم أشد ألماً من فقدانه خلاص نفسه، وإلا لِما صلى كما ذكر. لقد فضلٌ أن يكون محروماً واستمد عزاءً عظيماً من هذا الفكر، ولم يكن هذا فكراً طائراً، بل كان اشتياقاً متأصلاً في أعماقه، عبر عنه قائلاً: “إن لي حزناً عظيماً ووجع في قلبي لا ينقطع” (رو 2:9). إذاً بماذا نقارن بولس الذي يئنٌ يومياً من أجل كل إنسان في هذا العالم، من أجل كل جنس ومدينة، من أجل كل نفسٍ؟ لقد كانت عزيمته أشدٌ قوة من الحديد، وأكثر حزماً من الصلب، فبأية كلمات تصف هذه الروح؟! هل نشبهُها بالذهب أم بالصلب؟ إنها أكثر احتمالاً وأقوى من الصلب، وأنقى وأثمن من الذهب والماس، فبأي شئ يمكن مقارنتها؟ لا شيء! لأنه لا يمكن مقارنتها! فإن كان الذهب في نفس قوة الصلب أو أن الصلب له نفس قيمة الذهب لأمكننا وضع أُسس للمقارنة، لكن لماذا نقارن نفس بولس بالصلب أو الذهب؟ ناشد العالم كله وحينئذ ستجد أن العالم كله غير مستحق لنفس بولس، وإن تطابق هذا القول على الذين هاموا في البراري لابسين المسوح وساكنين في شقوق الأرض (عب 11: 37-38)، ينطبق هذا القول على نفس بولس.

فإن كان العالم لا يستحق فمن يستحقه؟ ربما السماء؟ حتى إن هذه وُجدت لا تتوافق معه، لأنه إذ فضٌل محبة الرب على السموات وسكانها، فبالأولى إن الرب الذي يفوق صلاحاً بقدر ما يفوق الصلاح على الخطية سيُفضَله عن سموات كثيرة! لأن حب الله لا يمكن مقارنته بمحبتنا، لأنه يفوقه كثيراً وبشكل لا يُنطق به!

لنتأمل ما تمتع به بولس من نِعم ومواهب، فقد اختطف إلى الفردوس إلى السماء الثالثة وتمتع بالشركة في كلمات سرائرية لا ينطق بها (2 كو 12: 2، 4)، فاستحق كل كرامة. لأنه حينما جال في الأرض كان كمن بصحبة الملائكة، وبالرغم من فخاخ الجسد المائت كان ملائكياً في نقاوته، وبالرغم من ضعف بشريته جاهد ليصير ملائكياً كالقوات العلوية، وكان سلوكه في العالم كمن يسكن على جناحي طائر وككائن غير قابل للفساد. احتقر كل المصاعب والأخطار. احتقر كل شئ على الأرض، كمن امتلك السماوات، لمن اختبر رؤية سرمدية، كمن عاش وسط الملائكة في السماء. إن مهمة الملائكة كانت خدمة البشر وحراستهم ولكن لم يستطع أحد القيام بالمهام الخاصة لكل فرد واحتياجاته الخصوصية مثلما فعل بولس لكل الأرض.

نعمة الله لا تقلل من كرامته!

أوافقك لو اعترضت أن بولس لم يعمل هذه الأشياء بنفسه، ولكن حتى وإن لم يحقق هذه الأعمال بقوته الشخصية فذلك ليس ذلك مبرٌراً للحد من تكريمه لأنه أثبت جدارته واستحقاقه للنعمة المُعطاة له.

كانت رسالة ميخائيل هي الاهتمام بشعب اليهود (دا 1:12)، أما مهمة بولس الرسول فكانت للأرض والبحار المسكونة منها وغير الساكنة، وهذا لا يعنى التقليل من رسالة الملائكة! حاشا! لكننى اوضٌح أن الإنسان يمكنه التمتع بشركة الملائكة بل يصير في نفس الرتبة والمكانة.

سلطانه الرسولي الفائق

لماذا لم تُرسل الملائكة في مهمة الكرازة بالإنجيل؟ لكي لا يكون للإنسان عذر في كسله أو إهماله، فيُبَررَ نفسه بحُجة اختلاف الطبيعة البشرية عن الملائكية، لأن الفرق عظيم. ومن العجيب حقاً إن الكلمة المنطوقة من لسان ترابي لها القدرة على اقتلاع الموت، وغفران الخطايا، وتعيد النظر للعميان، وتحول الأرض سماءً، وهذا يجعلني أتعجب من قدرة الله ويزداد إعجابي وإكرامي لغيرة بولس لنواله تلك النعمة وتهيئة نفسه وإعدادها حتى يستحق نوالها.

إني أُحثٌك لا لتتعجَب، بل لتقتدي بالمثال الأعلى للفضيلة، وبهذه الطريقة تستحق أن تُشاركه في إكليله، ولا تُفاجأ بأنه يمكن لأي شخص أن يصير كبولس في خدمته لو تمثٌل واقتدى به وليردد في قلبه كلمات بولس: “قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر، الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً” (2 تي 4: 7، 8). رأيت كيف يدعو الجميع لمشاركته في إنجازاته، وبالتالي فالمكافأة أيضاً معروضة ومفتوحة للجميع. فلنجتهد جميعنا لنثبت استحقاقنا للبركات الموعودة لنا، ولننظر ليس فقط لعظمة ومجد الحياة في الفضيلة، لكن نتأمل أيضاً في ثبات الهدف الذي من خلاله نحقق هذه النعمة. ولنعرف أن بولس لم يختلف عن طبيعتنا بأية حال من الأحوال، ولكنه كان مثلنا، وهذا يجعل ما يبدو صعباً ومستحيلاً بالنسبة لنا قد صار سهلاً وخفيفاً، لأنه بعد هذا الوقت القصير من العمل والجهاد سنرتدي إكليل عدم الفساد الأبدي بواسطة نعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والكرامة الآن وكل أوانٍ وإلى أبد الآبدين. آمين.

العظة الثالثة: المحبة تاج فضائل الرسول بولس

اتسع قلب الرسول بولس كسيده، وانفتح بالحب، ليحتضن إن أمكن الكل. كان مشتاقاً بالحب أن يقود كل إنسانٍ إلى اللَّه، مهتماً باحتياجاته الزمنية والروحية. هكذا قدم لنا الرسول نفسه مثالاً نقتدي به، فالمحبة هي سرّ عظمة قداسته.

بالمحبة نتشبه باللَّه

أظهر الطوباوي بولس قوة غيرة الإنسان التي تمكنه من الارتفاع إلى السماء، دون مساعدة ملائكة أو رؤساء ملائكة، أو أيّة قوات سماوية أخرى.

تارة يأمرنا أن نتشبه بالمسيح، مقتدين به كمثالٍ لنا: “كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً أن نتشبه بالمسيح مقتدين به كمثالٍ لنا: “كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح” (1كو1:11)، وتارة يحذف ذكر نفسه ويقودنا مباشرة إلى اللَّه، قائلاً: “كونوا متمثلين باللَّه كأولاد أحباء” (أف1:15). ولكي يوضح لنا أنه لا شيء يماثل هذه القدوة بأن نفكر في الآخرين وفي الصالح العام، أضاف: “اسلكوا في المحبة” (أف2:5). فبعد حديثه الأول: “كونوا متمثلين بي” ينتقل مباشرة إلى الحديث عن المحبة، موضحاً أن هذه الفضيلة تجعل الإنسان متشبهاً باللَّه.

المحبة أعظم الفضائل

لاحظ كمّ الفضائل الأخرى التي تقل في أهميتها عن المحبة، هذه التي يرتكز محورها حول جهاد الإنسان ذاته ضد الشهوات، ومقاومته للنهم، والجهاد ضد محبة المال والغضب. أما المحبة فهي فضيلة يشترك فيها الإنسان مع اللَّه ذاته. لهذا يقول المسيح: “صلوا من أجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات” (مت 44:5-45).

محبة الأعداء كمرضى

[سرّ محبة الرسول لمقاوميه أنه يُمارس حياته كطبيب يترفق بهم كمرضى يحتاجون إلى الحب واللطف كعلاجٍ، أو كأبناء مخبولين في عقولهم يحتاجون إلى من يترفق بهم.]

اكتشف بولس أن المحبة هي تاج الفضائل، فسعى إلى غرسها بعناية فائقة.

لا يمكن لأحدٍ أن يحب أعداءه، ولا أن يحسن إلى مبغضيه، ولا أن يتألم من أجل المسيئين إليه. لكنه إن تذكر الطبيعة البشرية المشتركة بينهم لا يبالي بالآلام التي يسببونها له، فكلما ازدادوا قسوة عليه ترفق بهم. فالأب يحزن بالأكثر ويكتئب على ابنه المختل كلما ازداد جنون الابن وعنفه.

لقد شخّص بولس المرض الذي يسبب تلك الهجمات الشرسة ضده، فازداد اهتمامه بهم ورعايته لهم كمرضى.

نسمعه وهو يخاطبنا بلطفٍ وحنانٍ فائق عن الذين جلدوه خمس مرات (2 كو24:11)، ورجموه وقيدوه وسفكوا دمه، واشتهوا تقطيعه إرباً، فيقول عنهم: “لأني أشهد لهم أن لهم غيرة اللَّه، ولكن ليس حسب المعرفة” (رو2:10). وأيضاً ضيّق على الذين يُسيئون إليهم، قائلاً: “لا تستكبر بل خف، لأنه إن كان اللَّه لم يُشفق على الأغصان الطبيعية، فلعله لا يُشفق عليك أيضاً” (رو20:11، 21). وحينما رأى الدينونة الواقعة عليهم لم يسعه إلا أن يعمل ما يقدر عليه، وهو أنه بكى وناح من أجلهم بلا توقف.

لقد ناح وبكى مراراً عليهم، وقاوم كل رغبة في مقاومتهم، وبذل كل جهده ليجد لهم شبه عذر، ولما فشل في إقناعهم بسبب قسوة عنادهم لجأ إلى الصلاة الدائمة، قائلاً: “أيها الاخوة إن مسرة قلبي وطلبتي إلى اللَّه لأجل إسرائيل هي الخلاص” (رو1:10). ثم منحهم الرجاء في أمورٍ أفضل، قائلاً: “لأن هبات اللَّه ودعوته هي بلا ندامة” (رو29:11)، وذلك لئلا يفقدوا رجاءهم فيموتوا.

هذا كله يبرهن على شخصية اهتمت بخلاصهم واعتنت بهم بدرجة فائقة، فيقول: “سيخرج من صهيون المنقذ، ويرد الفجور عن يعقوب” (إش20:59؛ رو26:11).

كان رؤيته لعقوقهم مصدراً عظيماً لآلامه وحزنه. وكان الملجأ الدائم هو العلاج من الآلام بقوله: “سيخرج من صهيون المنقذ، ويرد الفجور عن يعقوب” (رو26:11). وفي موضع آخر يقول: “هكذا هؤلاء أيضاً الآن لم يطيعوا لكي يُرحموا هم أيضاً برحمتك” (رو31:11).

يفتح باب الرجاء أمام المعاندين

لقد فعل إرميا نفس الشيء، محاولاً التماس المغفرة للخطاة، فقال: “وإن تكن آثامنا تشهد علينا يا رب، فاعمل لأجل اسمك” (إر 7:14). وأيضاً: “عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقه، ليس لإنسانٍ يمشي أن يهدي خطواته” (إر 23:10)، “يذكر أننا تراب نحن” 14:102).

من عادة المتضرعين عن الخطاة، أنهم إذ لا يجدون أمراً صالحاً يقولونه في حقهم، يبحثون عن أي ظلٍ لعذرٍ لهم حتى وإن كان ليس صحيحاً حرفياً أو لاهوتياً، لأن ذلك يُحسب نوعاً من العزاء للنائحين على عناد الخطاة. إذاً لا تفحص الكلام حرفياً، لكن ضع في ذهنك أنها كلمات تصدر عن نفسٍ مرة تسعى أن تجد فرصة لإنقاذ الخطاة، وحكماً عادلاً لحسابهم.

ترفقه بالجميع

هل تظن أن هذه هي مشاعره نحو أعدائه فقط أم أنه يحمل ذات المشاعر نحو الغرباء؟

كان بولس من أكثر الناس عذوبة نحو الغرباء والأقرباء على السواء. لنسمع كلماته لتيموثاوس: “وعبد الرب لا يجب أن يخاصم بل يكون مترفقاً بالجميع، صالحاً للتعليم، صبوراً على المشقات، مؤدباً بالوداعة المقاومين، عسى أن يعطيهم اللَّه توبة لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس، إذ قد اقتنصهم لإرادته” (2تي24:2-26).

أتريد أن تعرف كيف كان مترفقاً بالخطاة؟ اسمع ما يقوله لأهل كورنثوس: “لأني أخاف إذا جئت أن لا أجدكم كما أريد، وأُوجد منكم كما لا تريدون” (2 كو12 : 2). يقول بعد ذلك: “إن يذلني إلهي عندكم إذا جئت أيضاً وأنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا عن النجاسة والزناة والعهارة التي فعلوها” (2 كو21:12). وكتب إلى أهل غلاطية: “يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصوّر المسيح فيكم” (غلا 19:4).

وكما ينوح الخاطئ على خطاياه، هكذا بكى بولس على الرجل الذي ارتكب الزنا، مؤكداً له: “لذلك أطلب أن تمكنوا له المحبة” (2 كو8:2). وحتى حين حرمه فعل هذا آسفاً بدموع: “لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموعٍ كثيرة، لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولا سيما من نحوكم” (2 كو4:2). وأيضاً: “فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس، وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس لأربح الذين بلا ناموس، صرت للضعفاء كضعيفٍ لأربح الضعفاء؛ صرت للكل كل شيئاً لأخلص على كل حالٍ قوماً” (2كو20:9-22). وفي موضع آخر يقول: “لكي يُحضر كل إنسانٍ كاملاً في المسيح يسوع” (كو 28:1).

أبوة عملية لكل البشرية

لقد رأيتم إنساناً جاب الأرض كلها، لأن طموحه وهدفه هما أن يقود كل إنسانٍ إلى اللَّه. وقد حقق بكل ما ادخره من قوة هذا الطموح، وكأن العالم كله قد صاروا أبناءه، لهذا كان على عجلة من أمره. كان دائم التجوال، كان دائم الحماس لدعوة كل البشرية لملكوت السماوات، مقدماً الرعاية والنصح والوعود والصلاة والمعونة وانتهار الشياطين، طارداً الأرواح المصرة على التحطيم. استخدم إمكانيته الشخصية ومظهره والرسائل والوعظ والأعمال والتلاميذ وإقامة الساقطين بجهده الشخصي. فكان يسند المجاهدين ليثبتوا في جهادهم، ويقيم كل من طُرح ساقطاً على الأرض. كان يرشد التائبين، ويعزي المتألمين، ويحذر المعتدين، ويراقب بشدة المقاومين والمعارضين. شارك القائد والطبيب الشافي في الصراع، فمدّ يد المعونة ليهاجم أو يدافع أو يرشد حسب الحاجة في ساحة العمل، فكان كل شيءٍ للمنشغلين بالصراع.

دعوة الآخرين لمساعدة الغير

[لم يقف الرسول بولس عند نزوله إلى حلبة الجهاد ليسند كل المصارعين بوسيلة أو أخرى حتى يحقق الكل النجاح، لكنه دعي الآخرين أن ينزلوا معه ليسندوا اخوتهم، مظهرين الحب العملي لهم.]

بذل عناية فائقة لاحتياجات (المصارعين) الزمنية والروحية. اسمعه كيف يناشد الجميع بخصوص امرأة واحدة، فيقول: “أوصي إليكم بأختنا فيبي التي هي خادمة الكنيسة التي في كنخريا كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين وتُقدموا لها في أي شيء احتاجته منكم، لأنها صارت مساعدة لكثيرين ولي أنا أيضاً” (رو 1:16). وأيضاً: “أنتم تعرفون بيت استفانوس أنهم باكورة أخائية، وقد رتبوا أنفسهم لخدمة القديسين كي تخضعوا أنتم أيضاً لمثل هؤلاء” (1كو18:16).

من خصائص محبة القديسين مساعدة الآخرين في الأمور الزمنية، فإليشع النبي ساعد ماديّاً وروحيّاً المرأة التي استضافته (2مل12:4)، فقال لها: “هوذا قد انزعجتِ بسببنا كل هذا الانزعاج، فماذا يُصنع لكِ، هل لكِ ما يُتكلم به إلى الملك أو إلى رئيس الجيش؟” (2 مل13:4).

اهتمام بولس باحتياجات الآخرين المادية

لماذا تعْجبْ من بولس إن كان يدعو البعض إليه ويهتم باحتياجاتهم المادية، ولا يحسب هذا خارج دائرة مسئولياته، كما يُشير في إحدى رسائله. فقد كتب إلى تلميذه تيطس: “جهّز زيناس الناموسي وأبلّوس باجتهاد للسفر حتى لا يعوزهما شيء” (تي 13:3). فإن كان قد بذل مثل هذه العناية في رسائله فقد ضاعفها بالأكثر حين كان يجد رعاياه في خطر. لاحظ مدى رعايته لأنسيمُس (في10)، وبأي إلحاح واهتمام يذكره في رسالته إلى فليمون. تأمل ماذا كان بولس يفعل للآخرين إن كان قد كرّس رسالة كاملة من أجل عبدٍ هاربٍ بعد سرقة سيده.

اهتمامه بخلاص النفس فوق كل اعتبار

كان يعتبر أمراً واحداً مُشيناً، وهو أن يُهتم بشيء أكثر من الخلاص. لهذا لم يترك حجراً لم يُحركه، ولا ادّخر وسعاً من أجل خلاص الناس، سواء بالوعظ أو العمل، حتى لم يبخل بحياته. لقد عرّض حياته للموت مرات عديدة، ولم يتردد في إنفاق أي مالٍ إن كان يمتلكه! ولماذا أقول: “إن كان يمتلكه”؟ لأنه كان يُعطي بسخاء. ليس في هذا تناقضٍ، لكن اسمعه يقول: “وأما أنا فبكل سرورٍ أُنفِق وأُنفَق لأجل أنفسكم” (2 كو 15:12)، وخاطب أهل أفسس قائلاً: “أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجة الذين معي خدمتها هاتان اليدان” (أع 34:20).

بولس محبة متجسدة!

في عظمته كان أكثر توهجاً وغيرة من أية شعلة نارٍ. ومن جهة إكليل كل الفضائل فقد فاق في المحبة (كل الفضائل). وكما ينصهر الحديد في النار فيصير الكل ناراً ملتهبة، هكذا انصهر بولس في المحبة حتى صار هو نفسه محبة متجسدة. صار كأنه أب عام للعالم كله. نافست محبته محبة الآباء بالجسد، أو بالأحرى فاقهم جميعاً في المحبة الجسدية والروحية، وفي الاهتمام والرعاية باذلاً كل ماله وكلماته وجسده وروحه، بل وكل كيانه من أجل الذين يحبهم.

بولس يهتم بوصية المحبة

لقد دعا المحبة كمال الناموس (رو10:13)، ورباط الكمال (كو14:3)، وأم البركات، وبدء ونهاية كل الفضائل (رؤ6:21). “وأما غاية الوصية فهي المحبة من قلبٍ طاهرٍ، وضميرٍ صالحٍ، وإيمانٍ بلا رياء” (1تي25:1). وأيضاً: “لأنه لا تزنِ لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشتهٍ، وإن كانت وصية أخرى هي مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك” (رو9:13). بالتالي فإن المحبة هي بداية أصل البركات ونهايتها، لنقتدي ببولس في محبته، فإنها سرّ قداسته.

لا تحصوا عدد من أقامهم من الأموات، أو عدد البرص الذين أبرأهم، فإن اللَّه لا يطلب منك تلك الأعمال، فقط اقتنِ المحبة التي لبولس، فتحصل على إكليل الكمال. من قال هذا؟ زارع المحبة نفسه، الذي قدمها بدلائل وعجائب وبركاتٍ لا تحصى. لأنه أكمل دور المحبة بكمال، فعرف قوتها بالتمام. لقد صنعت منه ما كان عليه، ولم يُدعّم صلاحه سوى تلك الفضيلة القوية. لهذا يقول: “جدّوا للمواهب الحُسنى، وأيضاً أُريكم طريقاً أفضل” (1 كو 31:12)، أي المحبة التي هي أسمى السبل وأروعها.

لنحفظ هذا الطريق فنرى بولس أو بالأحرى رب بولس نفسه، فنفوز بالأكاليل غير الفاسدة، وذلك بنعمة ربنا يسوع المسيح ولطفه، الذي له القوة والمجد الآن وإلى أبد الأبد، أمين.

العظة الرابعة: القديس بولس: نور العالم

تزامن العمى الذي أصابه مع دعوة الله له التي أجابها بحرية تامة بينما رفض كثيرون تلك الدعوة في العهد القديم وحتى في الماضي القريب، ولكن المسيحية قضت على جميع العقبات بقوة المصلوب الإلهية.

وقد ساعد بولس على انتشارها بالرغم من محدوديته وفقر سامعيه، ولكن بولس تشارك مع قوة الإنجيل الفريدة في نشر نور هذه البشارة.

كان بولس المطوّب الذي اجتمعنا اليوم لتكريمه نوراً لكل العالم بالرغم من أنه في اللحظة التي دعاه الله فيها فقد نور عينيه، لكن هذا العمى الذي أصابه صيّره نوراً للعالم، فالله في رحمته حرمه من البصيرة المؤقته بسبب قصر نظره السابق حتى يعطيه بصيرة أخرى جديدة وأفضل.

من خلال هذا العمل أعطاه دليلاً على قوته وإعداداً للآلام المقبلة، فأوضح له مسبّقاً حياته في الكرازة، مبيناً له ضرورة ترك حياته السابقة بطرقها وأن يتبعه وهو مغمض العينين، وقد علّمه قائلاً: “لا يخدعن أحد نفسه، إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلاً لكي يصير حكيم بينكم في هذا الدهر فليصل جاهلاً لكي يصر حكيماً” (1 كو 18:3). ولم يكن ممكناً تجديد بصيرته إن لم يفقد بصره أولاً. هذا جعله يدير ظهره لحياته السابقة وأسلوب تفكيره الذي كان مصدراً للقلق ثم تحوّل كليَّة للإيمان.

ولا يظن أحد أن تلك الدعوة سببت له أي نوع من الضغط عليه، ولكنه كان حرّاً في العودة مرة أخرى إلى الطريق الذي جاء منه، فكثيرون ارتدوا بعد معاينة عجائبٍ ومعجزاتٍ أعظم من هذه في كل من العهدين القديم والجديد مثل يهوذا ونبوخذنصر وعليم الساحر وسيمون وحنانيا وسفيرة وكل الأمة اليهودية، ولكن ليس بولس الذي استنار بالنور الحقيقي فسعى نحو رسالته وشقّ طريقه نحو السماء.

وإذا ما درسنا حالته بعد فقد بصره نراه يقول: “فإنكم سمعتم بسيرتي قبلاً يقول الديانة اليهودية أني كنت أضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها وكنت أتقدم في الديانة اليهودية على كثير من أترابي في جنسي إذ كنت أوفر غيرة في تقليدات آبائي” (غلا 13:1-14). وبسبب حماسه وغيرته الفائقة احتاج لقيد أعظم يكبح جماحه حتى لا يضل بسبب حماسه الزائد فينسى ما قد قيل له، وبالتالي اختبر الله حماسه الزائد مستخدماً العمى كوسيلة لإعادة السلام إلى كلماته المسابقة المملوءة غضباً ثم تحدث إليه مبيناً (مقدار) حكمته وفيض معرفته حتى يمكنه إدراك من الذي هو يضطهده الذي لا يمكن تحمل توبيخه أو حتى حينما يتباحث في البركات، وبالتالي لم يكن الظلام سبباً في فقد بصيرته لكنه النور الفائض الذي غمره.

قد نتساءل: لماذا لم يحدث هذا من قبل؟ لا تبحث في ذلك أو تطلق العنان لفضولك، ولكن استسلم للعناية الإلهية الغير مدركة، التي تعمل دائماً في اللحظة الحاضرة، وقد أدرك بولس ذلك لأن الفضول يمتحن المكافأة حينما تنكشف الفضائح، ولنتعلم منه أنه لا يوجد أحد اكتشف المسيح قبل زمن افتقاده ولا حتى بولس نفسه. لذا نجده يقول: “ليس أنتم اخترتموني بل أنا اختركم” (يو 16:15) وربما نتساءل: لماذا لم يؤمن بولس حينما رأى الميت يقوم باسمه؟ ولم ينتفع شيئاً حينما شاهد العرج يمشون والشياطين يخرجون والعسم يصحون؟ لأن فضوله نحو التلاميذ لم يدع تلك المعجزات تلفت نظره أو انتباهه، لقد كان حاضراً عندما رُجم استفانوس ورأى وجهه يشع كالملائكة ولكنه لم يستفيد من ذلك، لماذا؟ لأنه لم يتلقِ دعوته بعد.

لا تستنتج من هذا أن الدعوة كانت إجبارية لأن الله لا يرغم أحداً، فهو يترك للإنسان حرية الإرادة حتى بعد اختياره ودعوته، لقد كشف السيد المسيح عن نفسه للشعب المختار حينما اقتضى الأمر ذلك، ولكنهم رفضوه مفضلين الكرامة التي ينالونها من الآخرين.

وإذا تشكك أحد ما وتسأل: كيف نعرف أن بولس الرسول تلقى دعوته من السماء؟ وكيف قبلها؟ ولماذا لم أتلقَ أنا دعوة مماثلة؟ سنجيب بما يلي: أسألك يا صاحب هل تؤمن حقاً أنه تلقى دعوة؟ فإن كنت تؤمن فذلك علامة كافية لك، وإن لم تؤمن بذلك فلماذا تسأل عن دعوتك أنت؟ آمن أيضاً أن الله يدعوك أنت أيضاً من السماء إن كانت روحك مستعدة لذلك، ولكن إن تمسكت بكبريائك وقسوتك فلن تنفعك أية دعوة لخلاصك حتى ولو من الفساد.

كم مرة سمع الشعب المختار صوتاً من السماء وبالرغم من ذلك لم يؤمنوا؟ وكم من علامة في العهد القديم والجديد أعطيت لهم ولم يقبلوها؟ لقد عبدوا العجل الذهبي بالرغم من معاينتهم لمعجزات وأعاجيب كثيرة، بينما لم تعاين راحاب زانية أريحا أية معجزة، بل أعلنت إيمانها العجيب للجاسوسين، ولقد رأى الشعب المختار في أرض الميعاد العديد من العلامات والأعاجيب ولكنهم بقوا كالحجر الصوان بينما آمن أهل نينوى بمجرد سماعهم كلمات يونان النبي، وقدموا توبة جماعية أوقفت الغضب الإلهي، وفي العهد الجديد نرى أن مجرد رؤية المسيح مصلوباً غيَّر قلب اللص اليمين، بينما عاينه الشعب المختار يقيم أشخاصاً من الأموات، وبالرغم من ذلك رفضوه وصلبوه وماذا عن وقتنا الحاضر؟…

العظة الخامسة

وكمثال لإستفانوس الذي واجهه وأعدائه محيطين به يريدون قتله بل كانوا متحمسين لنهش جسده وعظامه لم يسعَ بولس نحو المخاطر، ولم يسقط أيضاً في الجبن أو يهرب. كانت حياته ثمينة عنده بسبب الفرص الصالحة التي أعطيت له وفي نفس الوقت كانت رخيصة عنده بسبب اشتياقه للسماء والاتحاد مع المسيح هناك. وكما ذكرت عنه ولازلت أقول لا يوجد من هو أكثر تناقضاً في ميوله مثله. فهو مستعد دائماً لأخذ الجانب الذي يمنح المميزات الأكثر، فلا يوجد من أحب الحياة هنا على الأرض مثله وعلى النقيض الآخر ولم يُفكر في الحياة هنا كثيراً حتى ولو قارنته بهؤلاء الذين تخلوا عن هذه الحياة.

لقد جّرد نفسه من كل الشهوات البشرية، فلم يربطه شيء على الأرض، فكان كل كيانه متحداً بمشيئة الله. تارة نراه يفكر في أن الحياة على الأرض والخدمة أكثر حاجة من أن يكون مع المسيح، ومرة أخرى نجده يئن ويطلب اللحظة التي فيها يخرج من الجسد، فكانت أمنيته الوحيدة أن يكون فيما يحقق له الربح الوفير مع المسيح حتى ولو كانت النتيجة عكس ما بدأه.

كان إنساناً ذا نواحٍ عديدة وأوجه كثيرة، ولا أعني بذلك أنه متصنعاً، حاشالله. ولكنه صار لكل الناس كل شيءٍ، وكل ما تتطلبه احتياجات الإنجيل وخلاص البشرية. فصار بذلك مُتشبهاً بمعلمه (السيد المسيح).

الله نفسه ظهر كإنسانٍ حينما تطلب الأمر ذلك، وظهر في العهد القديم كنارٍ عندما اقتضى الأمر. نراه في زيّ المحارب المستعد، أو في إحتياج الرجل المسن، أو في نسمة الريح، أو كمسافرٍ كإنسان حقيقي وفي هذه الحالة لم يرفض الموت.

وإني أجد ضرورة تكرار عبارة “حينما لزم الأمر” لئلا يظن أحد أن الله مُلزم أن يفعل ذلك، بل فعل كل تلك الأشياء من نبع حبه للإنسان. تارة جلس على عرش، وأخرى على الشاروبيم، وعمل الله ذلك حسبما تطلب الأمر في ذلك الوقت.

وبولس إذ تمثل بسيده لا نلومه، إذ نراه مرة كيهودي ومرة أخرى كأممي، مرة يدافع عن الناموس وأخرى ضده، تارة يتمسك بالحياة الحاضرة وأخرى يستخف بها، تارة يطلب مساعدته في الاحتياجات وأخرى يرفض العطايا، تارة يقدم الذبائح ويحلق رأسه وأخرى يعتبر من يفعل ذلك أناثيما (أي محروماً)، تارة يسمح بالختان وأخرى يُحاربه ويمنعه. فما عمله بولس يظهر خارجياً نوع من التناقض، ولكن الهدف والحكمة وراء ما عمله مُقنع جداً حسبما يتطلب الموقف.

كان شغله الشاغل واهتمامه الأوحد هو خلاص من سمعوه ورآهم، وبالتالي مدح مرة الناموس وأخرى قلل من أهميته، ربما كان في أعماله وأقواله بعض التناقض والتعقيد ولكن بقى ذهنه وشخصيته بلا تغيير فاحتفظ بشخصيته وكيانه بل حتى كلامه في كل المواقف. ومن أجل هذا يجب مدحه وتعظيمه.

علاج الطبيب يختلف كل مرة، فهو يُشخص ثم يحدد لو وجب الأمر نظاماً غذائياً معيناً أو يأمر ببعض العقاقير أو يمنع بعض المأكولات والشراب. يترك بعض الجراح بلا تضميد بينما يضمد آخرى. يصف بعض المياة الباردة للحمى فلا يُحاسب الطبيب على وحدة طرق العلاج أو على التغيير المستمر للطرق، بل بالأحرى نمدحه بسبب مهارته حينما نجده يصف العلاج بكل ثقة ويقين ويضمن الشفاء، فنعتبر مثل هذا الرجل خبير ومحنك في مهنته.

 فإذا ما مدحنا طبياً ينوّع طرق علاجه فيجب علينا مدح شخصية بولس الرسول في تعامله مع المرضى، لأن مريض الروح يحتاج لطرق علاج مختلفة لا تقل شأناً عن مريض الجسد، لأنه لو تمّ علاجهم بطريقة واحدة مبرمجة لفقدوا خلاصهم.

نتعجب من الذين يفعلون ذلك، لأنه حتى الله كليّ القدرة يستخدم أساليب عديدة للعلاج، ولا يعتمد على طريقٍ واحدٍ مباشر، فهو يريد صلاحنا النابع عن حرية إرادتنا بلا أي ضغط أو كراهية. ولذا يستخدم أساليب متنوعة للتفرب منا وذلك ليس عن عجزٍ ما في قدرته، بل على العكس من أجل ضعفنا. فإشارة صغيرة منه أو حتى مجرد تحرك الإرادة لديه كفيل بتحقيق كل مشيئاته، لكننا أحياناً لا نسلم حياتنا في يدّى الله بكل تفاصيلها، بل نفضل أن نكون سادة لأنفسنا. فإن أجبرنا على فعل أشياء ضد رغبتنا معناه أنه سيأخذ منا ما أعطاه لنا، أي الإرادة الحرّة، وحتى يتجنب فعل ذلك فهو ينوع من طرقه وأساليبه.

ملاحظاتي هذه ليست عشوائية، بل تشرح صعوبة حكمة بولس الرسول، وبالتالي عندما تجده يهرب من المخاطر ستمدحه بنفس المقدار حينما يواجهها، في الأولى يرى ذلك حكمة وفي الثانية شجاعة. وفي استخدامه الكلام بافتخار يحمل نفس معنى التواضع، في الأولى يتحدث بتمييز وفي الثانية بوداعة، امدحوه في كل الأحوال على أعماله الصغيرة والكبيرة. فمرة تجد نفسه صريحة بلا نفاق وأخرى نجد روحه تحمل كل الحب والعطف، وهدف كل أعماله وميوله هو خلاص نفوس الجموع وبالتالي يقول: “لأننا إن صرنا مختلين فللَّه. أو كنا عاقلين” (2 كو 13:5).

لا نجد شخصاً أخر لديه سبباً للافتخار وفي نفس الوقت خالٍ من أي كبرياء وتمجيد. تأمل في كلماته: “العلم ينفخ” (1 كو 1:8) كلمات يلزمنا جميعاً اقتنائها. ولكن بالتأكيد كان هو أكثر من أي إنسانٍ أخر ذا علم أو معرفة، وهذا لم يجعله متكبراً بل متواضعاً: “لأننا نعلم بعض العلم” (1 كو 9:13)، و”أيها الاخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت” (في 13:3)، “فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئاً فإنه لم يعرف شيئاً بعد كما يجب أن يعرف” (1 كو 2:8).

الصوم أيضاً قد ينفخ النفس بالكبرياء، كما قال الفريسي: “أصوم مرتين في الإسبوع” (لو12:18) ولكننا نجد بولس الرسول يدعوا نفسه لا فقط وقت الأصوام بل وهو في اعياء الجوع “كأنه للسقط” (1كو8:15).

لماذا نتحدث عن الحكمة والصوم؟ فإنه بالرغم من كونه متقرباً من الله خلال الصلاة أكثر من أي من الأنبياء والرسل إلا أنه كان أكثر وداعة وتواضع.

لا تقولوا لي عما كتبه في رسائله لأن ما احتفظ به في داخله أكثر مما أفصح عنه فلم يبوح بكل ما في داخله حتى لا يُتهم بالافتخار، ولكنه أيضاً لم يلتزم الصمت في كل شيء، لأن هذا سيقيم عليه ألسنة الأنبياء الكذبة ضده. فلم يفعل شيئاً بطريقة عشوائية، ولكن كل شيء كان بنظام وتخطيط جيد. فكل أعماله بجوانبها المتعددة تتميز بالمديح (العالمي) من الجميع، دعني أستفيض في ذلك إنه لشيء جيد عدم الافتخار بالنفس ولكن بولس تكلم بتلقائية شديدة حتى أنه مُدح على كلامة أكثر من لو بقى صامتاً، لأنه لو التزم الصمت لاستحق النقد أكثر من هؤلاء الذين يمدحون أنفسهم بخزي، لو لم يتغنى بأعماله لفُقد كل شيء ولقوي أعدائه. لقد عرف كيف ينتفع من كل فرصة متاحة وبالطريقة الملائمة عرف ما هو خطأ، ولذا كسب مجد طاعة الوصية.

اكتسب بولس مجداً بافتخاره أكثر ممن اكتسبه أي شخص آخر أخفي أعماله الصالحة، لأنه لا يوجد شخص أخر أخفي أعماله الصالحة، ونال ما حصل عليه بولس الرسول بالكلام (بالافتخار).

الأمر العجيب ليس في أنه تحدث عن نفسه، ولكن أنه تحدث بالقدر الملائم الصحيح، فلم يستفض في وصف المواقف الصالحة حتى لا يقع في مدح النفس، لكنه عرف متى وأين يتوقف. ولم يفعل ذلك إرضاءً لنفسه، ولكنه وصف نفسه كمختل ليوقف الآخرين عن الانغماس في مدح النفس من أجل المديح فقط، لأنه فعل ذلك فقط في المواقف التي تطلبت ذلك.

كثيرون ممن تطّلعوا إليه أرادوا التمثل به بلا تفكير أو تمييز، هذا يحدث أيضاً في مجال الأطباء فنجد ما يصفه الطبيب بعناية لشخصٍ ما يستخدمه الآخر باستهتار فيفقد تأثيره وفاعليته. ولتجنب المزيد من الصعوبة لاحظ كيف أحاط بولس الرسول ممارساته وأفعاله بحدود عظيمة مؤجلاً مدح النفس لا مرة ولا اثنين بل مرات عديدة قائلاً : “ليتكم تحتملون غباوتي قليلاً” (2 كو 1:11) وأيضاً:” الذي أتكلم به لست أتكلم به بحسب الرب بل كأنه في غباوة في جسارة الافتخار هذه” ( 2كو 17:11، 21) “في غباوة أنا أيضاً أجريء فيه”. ولم يجد هذا القول ملائماً ولكن في رفضه لنزعة الافتخار يخفي شخصيته قائلاً: “أعرف إنساناً في المسيح”، وأيضاً “من جهة هذا أفتخر ولكن من جهة نفسي لا أفتخر إلا بضعفاتي”، وبعد كل ذلك يضيف قائلاً: “قد صرت غبيُا وأنا أفتخر. أنتم الزمتوني” ( 2كو 2:12، 5، 11).

حينما نرى هذا الرجل القديس يرفض ويتردد كثيراً في الافتخار بنفسه حتى حينما يقتضي الأمر ويلزمه بذلك دائماً يلجًم حديثه، كحصان جامح ينحدر من على قمة جبل، مستخدماً أقل الكلمات الممكنة، فمن يمكنه التجاسر والحمق في أن ينغمس في مدح النفس بدلاً من ترشيد هذا الافتخار عند الضرورة القصوى إن اقتضى الأمر؟

أتريد أن أقول لك عن ميزة أخرى فيه؟ إننا نُعجب لا فقط بشهادة الضمير بل في أنه كيف أرشدنا في السلوك في كل تلك الظروف. أنه يعتذر من الافتخار بنفسه لأن الحاجة ألزمته بذلك ولكنه أيضاً ينتهز تلك الفرصة لُيعلمنا أن لا نضيع هذا الموقف لو حدث ذلك ولا أن نجتذبه بالقوة للمدح.

أن هدف ملاحظاته هنا توضيح أنه لشر عظيم الإنغماس في الحديث عن النفس. أيها الأحباء إنها علامة غباوة عظمى مدح أعمالنا بلا ضرورة أو بدون سببٍ ملزمٍ لذلك. فمثل هذا الكلام لا يتوافق مع السيد الرب ولكنه علامة حقيقية تجردنا من كل ما اقتنيناه بتعب وجهاد. فمثل هذا التحذير وجهه لجميعنا وخاصة حينما أُلزم على الحديث بافتخار عندما الزمته الحاجة.

الحقيقة التي تسترعي الانتباه أنه لم يتحدث بصراحة عن كل شيء حينما تتطلب الموقف ذلك ولكنه نجح في إخفاء الجزء الأعظم من إنجازاته. “فإني آتي إلى مناظر الرب وإعلاناته. ولكني أتحاشى لئلا يظن أحد من جهتي فوق ما يراني أو يسمع مني” (2 كو 1:12، 6) هذه الكلمات درس لنا تعلمنا ألا نفصح كل شيء عن أنفسنا حتى لو اضطررنا للكلام، ولكن نتحدث فقط عن ما سيفيد سامعينا.

هكذا أيضاً فعل صموئيل، لأن لا شيء يمنع مدح ذلك الرجل البار حتى نستفيد كلنا منه، فهو أيضاً افتخر في بعض المواقف، وتحدث عن أعماله الصالحة، ولكن بأي طريقة وأسلوب؟ تحدث فقط ليفيد سامعيه، فلم يسهب في الحديث عن الوداعة والتواضع ومسامحة الإساءة. ولكن عما تحدث؟ تكلم عما احتاجه الملك في هذا الوقت عن العدل وعن حفظ النفس من الرشوة.

داود أيضاً افتخر بنفسه في نطاق فائدة سامعيه فقط، فلم يخصص فضيلة معينة، ولكنه قاتل أسد ودب لا أكثر (1 صم 34:17). الحديث بلا داعي يكشف عن طموح وافتخار (كبرياء) ولكن الالتزام بما يتطلبه الموقف يشبه عمل صديق يشبع احتياجات صديقه دائماً.

هكذا فعل بولس الرسول، اتهموه بأنه ليس رسولاً وله قوة خارقة فالتزم الأمر دليل على صحة رسوليته واظهار قيمته لاحظ كيف في حديثه لم يكن هناك أي كبرياء بل لاستنارة سامعيه:

أولاً: وضح انه تصرف هكذا كما استلزم الأمر.

ثانياً: دعى نفسه مختل العقل واستخدم تعابير مماثلة كثيراً.

ثالثاً: لم يفصح عن كل شيء بل احتفظ بالجزء الأعظم وأخفاه.

رابعاً: أخفي شخصيته قائلاً: ” أعرف إنساناً…..”

خامساً: لم يظهر كل فضائله كدليل بل فقط ما تتطلب الأمر إظهاره.

 احتفظ بهذا التوازن بين افتخاره لنفسه وعدم مدحه آخرين، لأن توبيخ الآخر وادانته شيء مرفوض ولكن بولس وبخ في أوقات معينة جديرة بالثناء حتى أنها ظهرت كالمديح مثلاً مرة أو مرتين دعا الغلاطيين أغبياء (غل 1:3) و”الكرتيون كذابون وحوش ضاربة بطون بطالة” (تيطس 12:1) وجعل هذا نصاً في كرازته.

وكقدوة لنا أسس تعريف وانون التعامل مع من هم ضد الله والا يجب الترفق بهم ولكن علينا اختيار الكلمات التي تصيب الهدف. في الواقع بولس وضع قوانين عديدة لكل شيء، فكل كلماته وأعماله مقبولة، سواء كانت مدحاً أم توبيخاً قاسياً أو مترفقاً في افتخار بالنفس أو التقليل من شأنها، في مدح أم ذم، ولماذا نتعجب لو كان التوبيخ يستحق المديح لو كان ضد القتل والخيانة والخطية ونجده مستخدماً في العهد القديم والجديد؟ لنتأمل كل تلك الأمور بعناية ودقة لنمدح بولس الرسول ونمجد الله ونقتدي به لنحصل على البركات الأبدية بالنعمة وبصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة الآن وإلى الأبد وأبد الآبدين آمين.

العظة السادسة: الرد على النقد ضد بولس الرسول

ضعفه البشري الواضح (الخوف من الألم) يزيد من عظمة ما أنجزه روحياً.

قوة الإرادة انتصرت على ضعف الطبيعة – تبرير انفعاله في بعض المواقف رفضه لمرقس كان من أجل ازدياد الكرازة التي هي أهم أعماله.

اليوم أيها الأحباء إنها إرادتكم لنناقش جوانب حياة بولس الرسول الحية التي لاقت الكثير من النقد من قبل البعض، وسنرى كيف أن هذه الإنجازات بالإضافة إلى الأعمال الأخرى زادت من عظمته وشهرته.

ما هو الذي يستحق النقد؟ خوفه من الضربات كان واضحاً كما تقولون من المعروف أنه حينما ضُرب بالعصى، ليس هذا فقط بل وأيضاً في منزل بائعة الأرجوان حينما سبب ضيقاً لمن أرادوا مساعدته للهروب من السجن ( أع 14:16، 35-40) فاهتمامه الأول في كل تلك المواقف. لماذا؟ لأنه حينما تتطلب الموقف كشف لنا عن ثبات “الملاك” الروحي في مواجهة ما قد يبدو تهديدات قاسية بالرغم من أن تلك النقائص طبيعية كنفس تواجه الشيطان في تحدٍ ولا تيأس وجسد انسحق تحت الضربات وارتجف تحت الجلدات.

حينما تجده يرتجف أو يخاف تذكر تلك الكلمات التي قالها ناظراً السماء والملائكة قائلاً: “من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم خطر أم سيف؟” (رو 35:8)

استرجع هذه الكلمات الذي اعبر فيها كل شيء نفاية: “لأن خفة ضيقاتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدي، ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى بل إلى التي لا ترى. لأن التي ترى وقتية وأما التي لا ترى فأبدية” (2 كو 17:4-18). وأضف إلى ذلك الضيقات والميتات اليومية وليكن في الحساب الإعجاب ببولس وثقة في نفسك.

فإن ضعف طبيعته الظاهر لهو أعظم دليل على فضيلته، فواقع انه وصل إلى هذه القوة دون أن يفقد أي ضعف شائع بين بقية البشر.

إن حجم الأخطار التي واجهها ساعدت على زيادة النقد لموجه ضده، وجعلت النقاد يتشككون أن عظمته نابعة من قوة خارقة ما، وبالتالي سمح له بالتألم حتى تدرك أنت أن طبيعته كانت مثل أي شخص آخر ولكن قوة إرادته جعلته ليس فقط إنسان فوق العادة ولكن صار كواحدٍ من الملائكة. بمثل هذه الروح وهذا الجسد تحمل ميتات كثيرة مستخفاً بالأشياء الحاضرة والمستقبلة وجعلته ينطق بهذه الكلمات الرائعة التي ظنها الكثيرون شبه مستحيلة: ” فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل اخوتي أنسبائي حسب الجسد” (رو3:9).

هذا ممكن لو كان لنا فقط الإرادة لمقاومة لكل ضعف طبيعتنا بقوة الإرادة، وبالتالي لن توجد وصية للمسيح مستحيلة لأي إنسان يود تحقيقها. لو استخدمنا مثل هذه القوة كما يجب سيمنحنا الله معونة كبيرة، ويحفظنا من كل المخاطر التي تهددنا وتعطلنا.

لا يجب التوبيخ على الخوف من الضربات، ولكن ما يُلام فعلاً هو ارتكاب الخطية بسبب الخوف من الضربات. فالذي يخاف بدون اضطراب وفزع من الصراع يستحق الإعجاب أكثر من الذي لا يخاف مطلقاً، لأن ذلك يكشف عن قوة إرادته كدليل واضح. الخوف من الضربات أمر طبيعي، ولكن رفض الخطية الناتجة عن الخوف هو انتصار حقيقي للإرادة على ضعف الطبيعة البشرية، الحزن في حد ذاته لا يُلام، ولكن أن نجدف على اسم الله بسبب الحزن خطية يجب التوبيخ عليها.

لو قلت أن بولس لم يحمل طبيعة جسدنا لاعترضتم بوجه حق على الضعفات البشرية فيه لإثبات عدم صحة كلامي. ولكن لو قلت بل أكدت أنه إنسان مثلنا وليس أفضل منا في الطبيعة ولكنه أسمى في قوة الإرادة فقط فإن كل اعتراضاتكم بلا جدوى أو بالأحرى تتحول لصالح بولس، لأنه بذلك تثبت كيف انتصر على الطبيعة بالرغم من كل الضعفات البشرية. وبالإضافة إلى مدحه فإننا نُسكت شفاه من يعيبون فيه، ملتمسين لأنفسهم عذر ضعف الطبيعة البشرية، ونحثهم على ممارسة تقوية الإرادة.

ربما تعترض أنه في بعض الأحيان خاف من الموت، وهذا أيضاً شيء طبيعي جداً. “فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين” (2 كو 4:5) وأيضاً: “نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا” (رو 23:8). نرى كيف أنه وازن بين ضعف الطبيعة وقوة الإرادة، فكثير من الشهداء وهم في طريقهم للاستشهاد امتلأوا من الخوف ارتعدوا، ولكن هذا هو الذي جعلهم متميزين: حقيقة أنهم خافوا الموت، وبالرغم من ذلك تقدموا لملاقاته من أجل المسيح، وهكذا أيضاً بولس… بالرغم من أنه ارتعد أمام الموت إلا أنه اشتاق أن يفنى ويضمحل.

لم يكن هو وحدة فقط هكذا بل أن رئيس الرسول (؟) نفسه مراراً أنه مستعد للتخلي عن حياته بالرغم من خوفه من الموت (مت35:26) واسمع كلمات المسيح له بهذا الصدد:” متى شخت فإنك تمد يديك وآخر يمنطقك ويحملك حيث لا تشاء”. (يو 18:21) بمعنى ضعف الطبيعة وليس الإرادة.تثبت الطبيعة ضعافتها بالرغم عنا ولا يمكننا نزع هذا الضعف مهما اشتاقت نفوسنا لذلك أو حاولنا باجتهاد. لا يمكن لومنا على مثل هذا الضعف على العكس نستخرج (نستنتج) المدح. كيف نوبخ الخوف من الموت؟ أليس من الحسن الامتناع أن ارتكاب أي خطية بسبب الخوف؟ لا شيء يستحق اللوم بسبب ضعف الطبيعة ولكن نلام في الاستلام لتلك الضعفات فتقديرنا لهذا الرجل وعظمته لأنه تغلب على ضعف الطبيعة بقوة الإرادة وبالتالي كشف عن أهمية الإرادة القوية ويسكت هؤلاء النقاد القائلين: لماذا لم نخلق صالحين بالطبيعة؟ فأي فرق يوجد لو صرنا بالطبيعة ما نستطيع تحقيقه بواسطة الإرادة الحرة؟ في الحقيقة أنه من الأفضل أن نصير صالحين بالاجتهاد أفضل عن الطبيعة لأن هذا يجلب لنا مكافآت أعظم ومجد أفضل.

ماذا لو كانت الطبيعة قوية؟ لو أردنا لاكتسبت في قوتها مساندة قوة الإرادة ألم نرى أجساد الشهداء التي تمزقت بالسيوف، خضعت أجسادهم للحديد ولكن إرادتهم أبت أن تُسحق.

قل لي: ألم ترَ في إبراهيم انتصار الإرادة على الجسد (تك 22) حينما أمر بتقديم ابنه ذبيحة؟ فكانت إرادته أقوى من ارتباطاته الطبيعية. ألم ترى نفس الشيء يحدث للفتية الثلاثة؟ (دا3) ألم تسمع عن المثل المشهور: “الإرادة بالتدريب تصبح طبيعة ثانية”؟ بل أقول أنها طبيعة “أولى” كما أثبت من ملاحظاتي السابقة.

رأيت كيف يمكن أن تقوى الطبيعة وتصمد إذا ما تدربت الإرادة جيداً وتهذبت وأن الصلاح الناتج عن الإرادة الحرة يكسب مديحاً أكثر من لو ولدنا صالحين فالصلاح الذي تم إنجازه بحرية هو الصلاح الحقيقي وأنا شخصياً أحيته حينما يقول:”بل أقمع جسدي وأستعبده” (1 كو 27:9) لأني عرفت أنه اجتهد كثيراً حتى يقتني تلك الفضائل وبالتالي أنهى أي جدال ممن ألحقوه حول الكسل ظانين أنه اقتنى الفضيلة بسهولة بلا تعب. أيضاً حينما يقول: “به قد صلب العالم لي وأنا للعالم” (غلا  14:6) أقدر فيه قوة إرادته. القوة الطبيعية يمكن إنتاجها بواسطة قوة الإرادة لو درسنا كل الفضائل كمثال سنجد أنه صارع بكل ما لديه من قوة الإرادة لتقوية القوى الطبيعية.

تألم عندما ضُرب، ولكن استخف بالضربات مثل الملائكة الذين لا يتألمون، وهذا تراه واضحاً في كلماته التي يمكن تطبيقها على طبيعتنا: “الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم” (غلا  14:6) وأيضاً: “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غلا 20:2) فما الذي يقوله عن تركه الجسد: “أُعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا ارتفع” (2 كو 7:12) وهذا دليل على أن الألم يمس الجسد فقط.

هذا لا يعني أنها لا تمس الداخل، بل تُرفض بالقوة الأسمى التي للإرادة. وحينما يقول تلك الكلمات الرائعة مثل بهجته بالجلد ومجده في وثقه، فما الذي يعنيه ذلك غير كل ما سبق ذكره حينما يقول: “بل أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت الآخرين للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً” (1 كو 27:9) فهو يتحدث عن ضعف الطبيعة الذي يصل لسمو الإرادة بالطريقة التي سبق ذكرها.

يؤكد على الناحيتين بهذا الأسلوب حتى لا تظن أن عظمة إنجازاته بسبب طبيعة خارقة للبشرية، مما يسبب لنا اليأس، أو من ناحية أخرى لا تشك في أن ضعفه ينقص من قداسته وهذا يعبر بك من اليأس والشك حول الخلاص فهو أيضاً يؤكد أهمية نعمة الله بتفضيل دقيق ومعرفة جيدة حتى لا تظن أنه نجح من خلال جهوده وإمكانيته فقط.

فهو يذكر الجزء الخاص به حتى لا نترك كل شيء لله ونجلس في تخاذلٍ وكسلٍ بلا عمل أي شيء.

سنجد قوانين وقواعد وضعها بولس الرسول لكل شيء بدقة كبيرة هذا؟ كانت كلماته تصحبها الألم والحزن وليس الغضب مظهره اهتمامه بالحق فقط، لم تكن تلك مشاعره الداخلية التي جُرحت بل شعوره بأنه يقاوم التعليم: “لأنه قاوم أقوالنا جداً” (2تيموا 15:4) لم (يقاومني) بل (التعليم). فتوبيخه عن حبه للحق واهتمامه بتلاميذه لأنه من الواضح افتضاح أمرهم بعد إعلان الحقائق وهروبهم بعد ذلك أكد ضرورية كلمات بولس الرسول.

وأيضاً صلى ضد آخرين: “إذ هو عادل عند الله إن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً” (2تس6:1) وليس عن رغبة في الانتقام -حاشا- بل لجلب تعزية للمتألمين وبالتالي يضيف:” وإياكم الذين تتضايقون راحة” (2تس 7:1) وحينما تألم من أي تجربة لاحظ فلسفته في تحويل كل شر للخير:” نشتم فنبارك نضطهد فنحتمل يفتري علينا فنعظ” (1كو12:4،13). لو قلت أن ما عمله أو قاله ناتج عن غضبه فهل باريشوع الساحر أصابه العمى بسبب غضب بولس (أع11:13) وحنانيا وسفيرة ماتا بسبب غضب بطرس (أع4:5،5) فلا يوجد أحد بمثل هذه الحماقة أو الغباوة حتى يظن ذلك.

سنجد بولس الرسول يقول ويفعل أشياء أخرى تبدو مساقة بذراع عالية فتلك المواقف خاصة تكشف عظم تواضعه، حينما سلم زانٍي كورنثوس للشيطان فعلها بكل الحب والمشاعر الصادقة وكشف عن ذلك في رسالته الثانية.

وحينما هدئ أعدائه بكلماته:” ولكن قد أدركهم غضب إلى النهاية” (1تس16:2) لم تحمل كلماته الغضب (لأنك تسمع صلاته الدائمة من أجلهم) بل هو يشتاق أن يردعهم ويجعلهم أكثر حرصاً وتهذيباً.

ولكنك ستقول أنه وبخ الكاهن قائلاً: “سيضربك الله أيها الحائط المبيض” (أع 3:23) نحن نعلم أن بعض الدارسين يقولون أن هذه الكلمات كانت نبوية، فلا أجد خطأ فيما يقوله هؤلاء، لأن هذا ما حدث بالفعل في موت الرجل. ولكن ربما يعترض ناقد آخر يبحث بعمق في هذا القول أنه لو كانت هذه الكلمات نبوية فلماذا يعتذر عنها بولس: “لم أكن أعرف أيها الاخوة أنه رئيس كهنة” (أع 5:23) في رأيي أن كلماته كانت نوع من النصح والتحذير للطاعة للرؤساء كما فعل المسيح. لأن المسيح نفسه كان لديه كثير من الأقوال عن التوراة والفريسيين ولكنه لم يقلها، بل حدثهم قائلاً: “على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه افعلوه (مت 2:23، 3). هنا أيضاً قام بولس بدور النبي وتنبأ بما سيحدث.

لقد فصل مرقس عنه (أع 38:15) من أجل اهتمامه بالكرازة، فالذي يحمل نير هذه الخدمة لا يمكنه التخاذل أو الضعف، لكنه يجب أن يكون شجاعاً جريئاً. فلا يجب الاقتراب من هذا الخدمة المقدسة ما لم يكن على استعدادٍ تامٍ لمواجهة الخطر والموت مرات عديدة. يقول المسيح نفسه: “من يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مت 24:16) فالإنسان الذي ليس على هذا المستوى يخدع الآخرين، والأفضل له لو التزم الصمت وبقي مع نفسه. فمتى صعد إلى خدمة الكلمة يتحمل ثقل مسئولية أعظم من إمكانية قوته، لأن خلاص سامعيه وخلاصه يكونان في خطر. من السخرية لو أن إنساناً لا يعرف كيف يدير سفينة أو يواجه الأمواج يرفض أن يلتزم في المؤخرة مهما حثه الآخرون على فعل ذلك، ولكن نجد واعظاً يباشر عمله في الخدمة بلا هدف ولا ترتيب ولا إعداد، هذا يتعرض لكل أنواع مخاطر الموت.

فلا يوجد قرصان بحري أو مصارع وحوش يحتاج إلى إعداده فكرياً لما يقابله من موت ومخاطر مثلما يحتاجه الكارز الذي يقوم بالخدمة، فالمخاطر هنا أكبر، والمقاومون أكثر ضراوة، لأن الذبح هنا لا يختص بالتفاهات. فالسماء هي المكافأة والجحيم هو العقاب للذين يُفقدون. فهنا إما خلاص أو هلاك للنفس، هذا هو أساس ليس خادم الإنجيل فقط بل يخص كل إنسان علماني لأن يلزم كل شخص أن يحمل الصليب ويتبعه…

إذ يشير لوقا عن النزاع بينهما فلا نظن أنه يستحق اللوم. فالغضب في حد ذاته ليس خطية، ولكن الغضب بفقدان السيطرة بلا حساب وبلا أي سبب خطية، “الغضب الغير عادل لا يبرر؟؟” (سيراخ 1: 28) وأيضاً يقول المسيح: “كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم” (مت 22:5) وهذا لا يعني الغضب المجرد. “اغضبوا ولا تخطئوا” (مز 5:4، أف 26:4)

لأنه لو لم يرتد الغضب حتى لو تطلب الموقف لذلك فهو بلا نفع أو فائدة. ولكنه لا يمكن أن يكون بلا فائدة لأن العناية زرعته فينا لتصحيح الخطاة والحث على ترك الكسل الروحي والجمود وإيقاظ النائمين ألا مبالين. فحد الغضب أعطي لنا كحد السيف لاستخدامه عند الضرورة.

ولذا فلجأ بولس أحياناً للغضب بالرغم من أن محبته أكثر من الذين تكلموا برفق فقام بعمل كل شيء من أجل نشر الإنجيل حسبما تهيأت الفرصة.

الترفق ليس دائماً صحيحاً ولكنه ضرورة حينما يقتدي الأمر لذلك فقط لأنه لو كان في غير وقته لصار مرفوضاً وصار الغضب والحزم مطلوبين.

في قولي هذا لا أقدم اعتذاراً على لسان بولس لأنه لا يحتاج إلى كلماتنا، لأن مدحه ليس من الناس بل من الله (رو 29:2) فهدفي هو إرشاد السامعين لي لاستخدام مشاعرهم حسبما يتطلب الموقف كما قلت سابقاً. وبالتالي نكسب مهارة من كل مصدر ونبحر آمنين بمصادر غنية كثيرة حتى نصل الميناء بسلامة ونحصل على أكاليل غير مضمحلة التي نستحقها أجمعين بواسطة نعمة ورحمة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة الآن وإلى الأبد وإلى دهر الدهور آمين.

العظة السابعة: القديس بولس حامل لواء المسيح

حمل الصليب ليُعلم آخرين – تنبع عظمته من نعمة الله وتجلو به مع هذه النعمة وتمثله بالسيد المسيح –دعوته الإلهية للعمل الكرازي – شجاعته- دقتّه – حماسه في مواجهة كل العقبات- .

تنسحب انتباه الجماهير عندما تحمل الألوية الملكية في موكب تسبقه الأبواق المدوية وتحرسه كتائب إلى البلاد فهم يعشقون سماع صوت الأبواق ليروا اللواء محمولاً عالياً ويدركوا قوة حامل اللواء.

اليوم في دخول بولس الرسول لا إلى مدينة بل إلى العالم ليسحب انتباهنا لنتأمله لأنه لا يحمل لواءاً لا لملك أرضي بل صليب يسوع المسيح رب السماء وحراسته قوامها ليس بشر بل ملائكة ليكرموا ما يحمله ويكونوا حراس لحامله، إن كانت الملائكة مُكلفة من قبل إله بحراسة هؤلاء الذين يعملون في وظائف خاصة دون الاستغراق في أعمال الرحمة العامة كما هو مكتوب “الملاك الذي خلصني من كل شر منذ صباي” (تك 16:48) فكم يكون لهؤلاء الملائكة الحراس الذين استأمنوا على الاهتمام بالعالم ويحملون أيضاً كم من العطايا والتكريم (الكرمات).

فالذين يعملون في الجيش وينالون ذاك الشرف يلبسون زياً فاخراً ويرتدون حول أعناقهم قلائد ذهبية ومظهرهم بهي. ولكن بولس الرسول يُقيد بسلاسل بدلاً من قلائد الذهب ويحمل الصليب ويُطارد ويُجلد ويجوع، فلا تضطرب لذلك لأن زينته أثمن وأكثر بهاءً وأفضل عند الله، لذلك فإن حمل الصليب لا يعد عبءً.

وهذا هو العجب فهو أكثر بهاءً في السلاسل والجلد والجراح أكثر مما لو كان يرتدي الأرجوان والتيجان، فملابسه هذه تجعله أكثر بهاءً وهذه الكلمات ليست خطبة جوفاء.

إذا كان شخص ما مصاب بالحمى فآلاف من الجواهر والملابس الأرجوانية لا تستطيع أن تخفض من درجة الحمى، ولكن مآزر بولس التي توضع على المرضى كانت تزيل كل الأمراض فإذا رأى اللصوص ألوية الملك لا يقدرون أن يقتربوا بل يهربون فكم بالأكثر الأمراض والأرواح الشريرة التي تهرب حينما ترى الصليب.

حمل بولس هذا الصليب ليس لأجل نفسه فحسب ولكن لكي يعلم الجميع أن يفعلوا مثله لذا يقول : “كونوا متمثلين بي معاً أيها الأخوة ولاحظوا الذين يسيرون هكذا كما نحن عندكم قدوة” (في17:3) وأيضاً “وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيّ عندكم قدوة” (في9:4) وأيضاً ” لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً تتألموا لأجله” (في 29:1) فالكرامات البشرية تظهر بصورة أفضل حينما تجتمع في شخص واحد ولكن في الأمور الروحية الأمر يختلف، الكرامات تكون أكثر بهاءً حينما يشارك فيها أناس كثيرون ولا تكون قاصرة على شخص واحد بل يستمتع كثيرين في مشاركتها. 

القديس بولس حامل لواء المسيح

موكب الصليب

يستدير الجماهير مشدودين عندما ُتحمل الألوية الملوكية في موكب تسبقها الأبواق المدوية، وتحرسها كتائب من جنود البلاد. فالجماهير تشتاق أن تسمع صوت البوق ليروا اللواء محمولاً عالياً، ويتلمسوا قوة حامل اللواء.

اليوم إذ يدخل بولس الرسول لا إلى مدينة بل إلى العالم فلينجذب انتباهنا لنراه حاملاً لا لواء ملك أرضي بل صليب يسوع المسيح رب السماء، قوام حراسته ليسوا بشراً بل ملائكة يمجدون ما يحمله (الرسول) ويحرسون حامل اللواء، إن كانت الملائكة مكلفة من قبل إله الكون بحراسة العاملين في وظائف خاصة دون استغراقهم في الأعمال العامة التي للبنيان، كما هو مكتوب: “الملاك الذي خلصني على الدوام منذ صباى” (راجع تك6:48)، كم بالأكثر يؤتمنون على اهتمامات العالم كملائكة حراس مقدمين الكثير من المواهب والكرامة.

يرتدى الذين لهم شرف العمل في الجيش زياً مزخرفاً ويضعون سلاسل ذهبية حول أعناقهم، ولهم المظهر البهي، أما بولس فمقيد بالسلاسل عوض سلاسل الذهب، يحمل الصليب، وُيطارد وُيجلد وبجوع. لا تحزن لهذا أيها العزيز المحبوب، لأن زينته عند اللَّه أفضل وأكثر جلالاً وأكثر حباً. هذا هو السبب الذي لا ُيحسب حمل الصليب عبئاً.

قوة الصليب!

هذا هو العجيب، فإن (بولس) بقيوده وجلداته وجراحاته أكثر بهاءً مما لو ارتدى الأرجوان ولبس تاجاً. ملابسه هذه تجعله أكثر سموّاً، وليست هذه كلمات بلاغة مجردة.

لنطبق هذا على إنسانٍ مصاب بحمى، فإن الآلاف من الجواهر والثياب الأرجوانية لا تستطيع أن تشفي الحمى، أمّا مآزر بولس فكانت توضع على أجساد المرضى فتزول عنها كل الأمراض، وهذا فقط ما هو لائق  (به كحاملٍ للصليب)! وكما إذا رأى اللصوص لواء الإمبراطور لا يقدرون أن يقتربوا بل يهربوا، كم الأكثر تهرب الأمراض والشياطين إذ يروا الصليب.

كرامة حمل الصليب

حمل بولس هذا الصليب لا لأجل نفسه فحسب، وإنما لكى يعلم الكل أن يفعلوا مثله. لهذا يقول: “كونوا متمثلين بى معاً أيها الاخوة، ولاحظوا الذين يسيرون هكذا كما نحن عندكم قدوة” (في 17:3)؛ وأيضاً “ما تعلَّمتموه وتسلَّمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيّ فهذا افعلوا” (في 9:4)؛ وأيضاً: “لأنه قد ُوهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضَا أن تتألموا لأجله” (في 29:1).

تظهر الكرامات البشرية بصورةٍ أفضل عندما تجتمع في شخصٍ واحدٍ، لكن الأمر مختلف في الروحيات، فإن الكرامات تكون أكثر بهاءً حينما يشترك فيها كثيرون ولا تقتصر على شخصٍ واحدٍ بل يتمتع بها كثيرون.

ها أنتم ترون الجميع حاملي لواء المسيح، كل واحد يحمل اسمه أمام شعوب وملوك، أماّ بولس فحمله أمام وجه الجحيم والعذاب الأبدى. إنه لم يطلب ذلك من كل أحد،ٍ لأنهم لا يستطيعون أن يحتملوا هذا كله! أترون مقدار الفضيلة التي يمكن للطبيعة البشرية أن تبلغها، وأن هذا هو أثمن ما يقتنيه الإنسان في هذه الحياة؟ أتستطيع أن تذكر لي ما هو أثمن من ذلك؟! أيوجد كم من ملائكة ورؤساء ملائكة لا يستحقهم من ينطق بهذه الكلمة؟! بينما كان لا يزال في هذا الجسد المائت الفاسد ضحى من أجل المسيح، بكل ما في قدرته، بل وما لم يكن في قدرته. لقد تخلَّى عن الأمور الحاضرة والمستقبلة، الارتفاع والعمق، بل وكل خليقة. لو أن هذا الإنسان كان في طبيعة لا تفسد فماذا كان لا يقوله؟ وماذا كان لا يفعله؟

نتعجب من الملائكة لأنهم يستحقون هذه الكرامة، ليس لأنهم غير هيوليين، فالشيطان غير هيولى وغير منظور، مع هذا لا يوجد من هو أبأس منه، وذلك منذ عصى الله الذي خلقه: هكذا ُيدعى البشر بائسين ليس عندما نراهم في جسدٍ بشري، وإنما عندما يفشلون في استخدامه كما ينبغي، فبولس أيضاً له جسد بشري.

سر عظمة بولس الرسول

ما هو إذن مصدر عظمته؟ مصدرها مزدوج: من اللَّه، ومن جانبه هو. ما ناله من اللَّه جاء بسبب ما كان هو نفسه عليه، لأن اللَّه لا يقبل الوجوه (أع14:10).

إن كنت تسأل: كيف يمكن أن تتمثل بأولئك الأشخاص؟ اسمع ما يقوله: “كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح” (1كو1:11). لقد تمثل بالمسيح، ألا تتمثلوا أنتم بالعبد رفيقكم؟ لقد تبارى مع سيده، ألا تباروا العبد رفيقكم؟ أي عذر لكم؟

تسألون: كيف تمثل به؟ تأملوا تقدمه منذ البداية. منذ خرج من ماء المعمودية كان ُملتهباً بالغيرة، حتى أنه لم ينتظر معلماً ما. لم ينتظر بطرس، ولا جاء إلى يعقوب، ولا إلى آخر، إنما انقاد بغيرةٍ ُمضرمة ليبدأ حرباً شديدة تقوم ضده، فإنه عندما كان لا يزال يهودياً كان يفعل أكثر مما كان ُيتوقع منه، ُمقيداً وقاتلاً. إنه مثل موسى الذي خرج لينظر في أثقال اخوته ضد الغريب دون أن ُيكلف بأية مسئولية.

هذا دليل على نبل النفس وسمو الروح أن يرفض الشخص الوقوف والنظر إلى آلام الآخرين، حتى وإن كان أحد لم ُيكلف بمساعدتهم”.

أظهر اللَّه باختيار موسى فيما بعد أنه كان ُكفئاً للقيادة. هكذا أيضاً بالنسبة للقديس بولس فقد قدمه اللَّه سريعاً إلى كرامة العمل التعليمي ُمظهراً أنه كان على حق في رغبته في القيام بالعمل التعليمي والكرازي منذ البداية.

لو أنهم قاموا بهذا الدور من أجل الكرامة والريادة لاستحق اللوم بحق. على أى الأحوال، إذ أحبُّوا المخاطر وطلبوا الموت من أجل خلاص الآخرين، فمن يكون غبياً فيلوم تلك الغيرة؟.

أظهر حكم اللَّه أن أفعالهم كانت مدفوعة بالرغبة في خلاص الآخرين، كما فعل الخراب بالذين طلبوا نفعهم الخاص. فقد ادعى آخرون الحكم والقيادة لكنهم انتهوا إلى الموت، البعض أكلتهم نار من السماء وآخرون ابتلعتهم الأرض (عد 16). ُعزِّيا طلب القوة لكنه أُدين وأُصيب بالبرص (2أى26). طلب سيمون الساحر القوة لكنه ُنبذ وأُنقذ من الموت. طلب بولس الرسول القوة لكنه ُكلل لا بالكهنوت والكرامات بل بالخدمة والأتعاب والمخاطر، لأنه بدأ بغيرةٍ شديدةٍ وحماسٍ، لذا كان كارزاً شهيراً منذ البداية.

كما أن الشخص المعين للخدمة منذ البداية يستحق العقوبة إن لم يكمل عمله كما ينبغي، كذلك الشخص الذي يمارس الوظيفة دون تعيين، لست أقول عن الكهنوت، وإنما عن الاهتمام بالجماهير، متمماً إيَّاها بلياقةٍ تستحق كل كرامة.

القديس بولس حامل لواء المسيح

تنسحب انتباه الجماهير عندما تُحمل الألوية الملكية في موكب تسبقه الأبواق المدوية وتحرسه كتائب من جنود البلاد ، فهم يعشقون سماع صوت البوق ليروا اللواء محمولاً عالياً ، ويدركوا قوة حامل اللواء.

اليوم في دخول بولس الرسول لا إلى مدينة بل إلى العالم لينسحب انتباهنا لننظر فهو يحمل لواءً لا لملك أرضى بها صليب يسوع المسيح رب السماء وحراسته قوامها ليس بشر لكن ملائكة ليمجدوا ما يحملوا وليعملوا كحراس للذى يحمل . إن كانت الملائكة مكلفة من قبل إله الكون بحراسه هؤلاء الذين يعملون في وظائف خاصة دون الاستغراق اعمال الرحمة العامة كما هو مكتوب “الملاك الذي خلصني من كل شر عند صباى (1) . فكم يكون لهؤلاء الذين أستؤمنوا على الاهتمام بالعالم يحملون أيضاً مسئوليه مثل هذه المواهب والتكريم.

اولئك الذين يعملون في الجيش وينالون ذاك الشرف يلبسون الزى المزخرف ويرتدون سلاسل ذهبية حول أعماقهم ومظهرهم بهى . ولكن بولس الرسول يقيد بالسلاسل بدلاً من سلاسل الذهب ويحمل الصليب ويطارد ويجلد ويجوع.

لا تضرب لذلك يا عزيزى لان زينته افضل وأكثر جلالاً وافضل عند الله ، لذلك فان حمل الصليب لايعد عبء.

وهذا هو العجب ، فهو اكثر بهاء اً في السلاسل والجلد والجراح اكثر مما لو كان يرتدى الأرجوان والتيجان،, ملابسه هذه تجعله أكثر بهاءاً وليست هذه الكلمات بلاغة جوفاء.

اذا كان شخص ما بحمى فآلاف من الجواهر والملابس الارجوانية لاتستطيع ان تشفي الحمى  ، ولكن مأذر بولس بولس التي توضع على المرضى كانت تزيل كل الأمراض.

فاذا رأى الصوص ألوية الملك لا يقدرون ان يقتربوا بل يهربون فكم بالاكثر المراض والارواح السريره تهرب حيبما ترى الصليب.

حمل بولس هذا الصليب ليس لأجل نفسه فحسب ولكن لكى يعّلم الجميع ان يفعلوا مثله.

لذا يقول كونوا متمثلين بى معاً أيها الأخوة ولاحظوا الذين يسيرون هكذا كما نحن عندكم قدوة (في17:3)  وايضاً ” وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا أفعلواّ (في 9:4) وأيضاً لانه قد وهب لكم لاجل المسيح لا ان تؤمنوا به فقط بل ايضاً ان تتألموا لاجله (في 29:1) الكرامات البشرية تظهر بصوره أفضل حينما تجتمع في شخص واحد. ولكن في الأمور الروحيه الأمر يختلف الكرامات تكون أكثر بهاء حينما يشارك فيها أناس كثيرون ولا تكون قاصرة على شخص واحد بل تستمع بها كثيرون ولاتكون قاصرة على شخص واحد بل تستمتع بها كثيرين.

ها أنتم ترون ان الجميع حاملوا المسيح وكل واحد يحمل أسمه امام شعوب وملوك . أما بولس فحمله أمام وجه الجحيم والعذاب الابدى لم يطلب ذلك من كل واحد لانهم لايستطيعون ان يحتملوا . هل ترى مقدار الفضيلة التي يمكن للطبيعة البشرية أن تصل إليها وانها أقيم ما نملك في هذه الحياة . هل تستطيع ان تذكر لى ما هو أثمن منها ؟ أو حتى مساوٍ لها؟

1.cf Gen. 48;16

 كم ملاءكه ورؤساؤ ملائكه  يستحقها الذي نطق بهذه الكلمات؟ بينما كان مازال في هذا الجسد المائت الفاسد ضحى بكل ما في قدرته للمسيح بل حتى ما لم يكن في قدرته.لقد تخلى عن الأمور الحاضره والمستقبله ، الارتفاع والعمق بل وكل خليقه. لو أن هذا الانسان كان في طبيعه لاتفسد فماذا كان لايقوله؟ وماذا كان لا يفعله؟

نتعجب من الملائكه لانهم يستحقون تلك الكرامه ليس لانهم مجرد غير هيولين. فالشيطان غير هيولى وغيلا مرئى ولكن لايوجد أبأس منه منذ عصى الله الذي خلقه ، هكذا يدُعى البشر  بإنسان ليس عندما نراهم في جسد بشرى وانما عندما يفشلون في استخدامهكما ينبغى ، فبولس أيضاً كان له جسد بشرى.ماذا كان اذن ، مصدر عظمته؟ لقد كان لها جانبين :حانب الله وجزء من جانبه ومانا لهمن الله جاء بسبب كان عليه هو نفسه لان الله لا يقبل الوجوه

وإن كنت تسأل كيف يمكن أن نتمثل باولئك الاشخاص اسمع ما يقوله ” كونوا متمثلين بى كما انا ايضاً بالمسيح “(1كو 1:11) لقد تمثل بالسيد المسيح . ألا أنت بالعبد الذي هو مثلك؟ لقد امتثل بسيده .  ألا يمتثل بالعبد زميلك؟ ما هو عذرك؟

تسأل كيف تمتثل به  تأملوا تقدمه من البداية منذ لحظة البدء . منذ خرج من مياه المعموديه كان مشتعلاُ بالغيره حتى انه لم ينتظر اى معلم. لم ينتظر بطرس ولاجاء إلى يعقوب ولا إلى أى شخص آخر وانما إذا نقاد بغيرته اضرم المدينة ليبدأ حرب ليبدأ حرب شديدة ضد نفسه حينما كان لايزال يهودياً كان يفعل أكثر مما يتوقع منه مقيداًوقاتلاً.

مثل موسى دون ان يكلف بمسئوليه خرج لينظر في اثقال أخوته ضد الغريب. هذا دليل على نبل النفس وسمو الروح أذ يرفض ان يقف وينظر آلام الآخرين حتى لو لم يكلف بمساعدتهم.

اظهر الله باختيار موسى بعد ذلك انه كان كفء للقياده . وكذلك بالنسبه لبولس اطهر الله بتقدمه من قبل في كرامة العمل التعليمى انه كان على حق في دور التعليم والكرازه منذ البدايه.

انه كان قد أخذ هذا الدور لاجل الكرامه والرياده لكن يستحق اللوم . ولكن لأنه احب الاخطار وبحث عن الموت لاجل خلاص الآخرين من يكون احمق فيلوم تلك الغيره؟

اظهر حكم الله ان افعالهم كانت مدفوعه بالرغم في خلاص الآخرين ، كما فعل الخراب الذين كانوا يطلبون الشخصيه . وآخروين أدعوا الحكم والقياده ولكنهم انتهوا إلى الموت، بعضهم اكلتهم النار من السماء  وآخرين  ابتلعهم الارض  لانهم لم يطلبوا مصلحة الآخرين وانما مصالحهمالخاصه . عزيا طلب القوه ولكنه ادين واصيب بالبرص سيمون الساحر طلب القوه ولكنه نبذ وانقذ من الموت . بولس طلب القوه ولكنه نال الاكليلليس لأجل الكهنوت  والكرامه  ولكن لاجل الجدمه والعمل والمخاطره. لانه بدأ بغيره شديده وحماس لذا كان واعظاً شهيراً من البدايه.

كما ان الشخص الذي يكون مختاراً من البدايه يستحق العقوبه بالاكثر ان لم يكمل عمله كما ينبغى ، فكم يكون الشخص الذي يمارس الوظيفه دون تعين -لست اقول عن الكهنوت  وانما عن الاهتمام – ويكمل

3.Acts 10;34                     5.2chron. 26

4.Num 16                           6.Acts 8;18

 فتممها بلياقة فانه يستحق كل كرامه . بناء على ذلك فان هذا الرجل إذ كان اكثر تأججاً من النار ولم يبقى بلا عمل يوم واحد ، فمجرد ان خرج من ماء المعمودية ، اشتعلت نار في داخله. ولم يفكر في المخاطر ولا في سخريه وتهكم اعدائه ورفضهم لرسالته ولا اى من هذه الاعتبارات.

لقد طلب عيون اخرى- أقصد عيون المحبهم وعقل أخر واندفق بقوه دافعه مثل السيل الجارف في هذا الوقت لم يكن مملؤ بفيض من النعمة الإلهية . ولا متمتع بتدفق الروح ، وبالرغم من هذا كان مشتعلاً ويعمل كل شىء بروح الإمانه لعله يعوض ما كانت عليه حياته الأولى كان يعد نفسه بكل اعماله هذه ليواجه بقوه رغم انه كان في ملء لجرأه والاندفاع. والانفعال إلا انه كان دائماُ رقيقاً سهل الانقياد لمعلميه ولم يرفض طاعتهم رغم حماسه المتدفق فعندما ما أتوا اليه واخبروه بانه يجب ان يذهب إلأى طرسوس وقيصريه لم يرفض رغم توقد حماسه بل أقول ” جنونه المؤقت”.قالوا انه يجب ان يدلى من الحائط في سله ووافق … نصحوه بان يحلق رأسه فلم يعترض. قالوا له لاتدخل المسرح فلبى طلبهم. كان هدفه الوحيد أن يتحمل كل شىء ليسند المؤمنين ويعمل من أجل السلام والتوافق.كان دائماً على الاستعدلد للتبشير بالأنجيل.

عندما تسمع انه ارسل ابن اخته إلى الوالى )  tribune ) ليخلصه من المخاطر او انه رفع دعواه الى قيصر فاسرع إلى روما فلا تعتقد ان هذه مخاطر جبنه.

ألم يكن هو الذي حزن عندما كان سيواصل حياته الدينوبه واختار ان يكون مع السيد المسيح ؟ كيف له ان يرغب الحاضر وهو الذي استخف حتى بالسموات وبالملائكه من أجل السيد المسيح؟

لماذا اذا كان يفعل ما يفعله ؟ من اجل الاستمرار في الوعظ وليتول له اتباعاً في العالم وكل قد ربح اكليلاُ. كان يخشى ان يترك الحياه اكثر فقراً اذا ما حرم من خلاص الجموع. وهذا دفعه لانىيقول ” ولكن ان ابقى في الجسد ألزم من اجلكم” (في 24:1).

وبناء عليه فغندما رأى ان محاكمته تجرى لمصلحته وان فستوس قال ” كان يمكن ان يطلق هذا الانسان لو لم يكن رفع دعواه إلى قيصر ” ( اع 32:26) وبالرغم من انه اُخذ مكبلاً بالسلاسل اكثر من اعتى المجرمين مرتكبى الجرائم إلا انه لم يخجل ان يكون مكبلاً قلا مثل هذه الصحبه ، مهتماً بخلاص كل هؤلاء المجرمين معه. لم يكن مهتماً بنجاته لانه كان يعلم انه سيكون بخير. فاخذه مكبلاً في هذا البحر الخضد كان يسعده كمن يكون في موكب امبراطوريه قويه.

 لانها في الحقيقه لم تكن بالمكافأه الهينه التي قدمت له ، الا وهى هدايه مدينه روما. هذه لم تجعله يغفل عن نفس واحده في الموكب لقد هدأ من روعهم معلناً انه رأى رؤيا واكد لهم ان كل من يبحرون معه يبحرون سينجون.

لقد فغل هذا لا لكى يفتخر بنفسه ولكن لكى يجعلهم يقبلون الأيمان . ولهذافقد سمح الرب للبحر بان يضطرب ليعلن النعمه الإلهيه التي لبولس الظاهره منها والخفيه( التي سمع عنها والتي لم يسمع عنها )  .

لانه عندما نصحهم بالا يبحروا رفضوا ان يسمعوا له وواجهوا مخاطر جمه. لم يصطنع الكبرياء من اجل هذه الكنه واتخذ جميع الاحتياطات مثل أب يرعى اولاده خشيه ان يضيع احدهم.  

عندما وصل إلى روما انظر كيف كان يتكلم بكل رقه وبأى شجاعه ابكم فقد الخائنين لم يتوقف هناك بل واصل سيره إلى اسبانيا وازداد شجاعه في مواجهه المخاطر المتزايده واصبح اكثر جرأه ليس هو فحسب بل تلاميذه ايضاً الذين احتذوا به ، وبلا شك لو انهم رأوه جباناً او خاضعاً لو هنت غزيمتهم . ولكن عندما رأوا شجاعته تزداد مبادراً ومصدرا للتعليمات نادوا هم ايضاَ بالانجيل بكل ثقه وقد قال لنا ذلك في كلماته ” واكثر  الاخوه وهم واثقون في الرب بوثقى يجترئون اكثر على التكلم بالكلمه بلا خوف” (في 14:1).

لو ان جزالاً اظهر شجاعه ليس فقط عندما يذبَحَ ويقهر ولكنه ايضاً عندما يجُرح ، فهو يزيد شجاعه اتباعه. فالشجاعه تزداد عندما يجُرح هو نفسه اكثر من ان ينزل الجروح بالآخرين عندما يراه هؤلاء انه مغطى بالدم والجروح ورافضاً الخضوع وواقفاً بتبات ملوحا بسيفه مرسلاً الطلقات على الاعداء رافضاً الاستسلام لالامه حينئذ  ستتأكد من انهم سينقادون لمثل هذا القائد بحماس اكبر. وهذا ما حدث في حالة القديس بولس فعندما ما رأوه مكبلاً بالاغلال وواعظاً حتى في السجن غالباً بكلماته هؤلاء الذين جلدوه- اكتسبوا ثقه اكبر ولهذا فهو لايقول انهم تجرأوا ولكنهم تمكنوا من نطق الكلمات بجرأه وبلا خوف.

واعظين بشجاعه اكثر عن مين كان حراً غير مكبلاً في هذا الوقت قد اكتسب هو ثقه اكبر بنفسه. كان شاهداً حازماً ضد اعدائه. وزياده العقوبه ادت إلى زياده الثقه بالنفس وفي السجن كان غالباً لدرجة ان الاساسات اهتزت والأبواب اندفعت مفتوحة والسجناء تحولوا. حتى الوالى كاد ان يؤمن كما اعترف هو بنفسه بذلك ” بقليل تقنعنى ان اصير مسيحياً” 0(اع 28:26). مره اخرى عندما رجموه بالحجاره دخل المدينه التي رجموه فيها وحولها إلى الايمان. استدعوه للمثول للمحاكمه مره امام الاعداء واخرى امام الاثينين والذي حاكموه اصبحوا له تلاميذ وخصومه صاروا تابعين له.

كما تندلع النيران عندما تلامس المواد المختلفه ةتنتشر كذلك كانت كلمات بولس الرسول تحدث تحولاً لكل من يصادفها بل وتقتنصه . فهؤلاء الذين حاربوه بسرعه تحولوا إلى وقود لنار الروح القدس ومن خلالهم انتشرت الكلمه ووصلت الآخرين ولذلك فقد قال ” الذي فيه احتمل المشقات حتى القيود كمذنب ولكن كلمه الله لا تفيد (2تى9:2).

مرات عديده ساعدوه على الفرار . كانوا كأنهم مطاردين ولكنهم في الحقيقه كانوا تابعين فيما بعد العدو عمل اعمال الاصدقاء والحلفاء فلم يتركوه يبقى في مكان واحد بل جعلوا الطبيب يتجول بسبب مطاردتهم وتهديداتهم ، وكانت النتيجه ان الجميع استمعوا إلى كلماته.

قيدوه ثانيه ولكن هذا جعله اكثر حده في تصميمه – في طردهم لتلاميذه ارسلوهم إلى الناس لم يكن لهم معلمين حتى ذلك الوقت – قادوه إلى محكمه عليا وهكذا منحوا فرصه مباركه العاصمه. وهذا جعل اعداؤه يغتاظون من الرسل قائلين :”ماذا نفعل بهذين الرجلين” ( اع 16:4) بمعنى ان اسلحتنا التي للقمع هى اسلحتهم للفوز

ارسلوه للسجان ليضعه في القيود ولكنه اقتنص السجان. ارسلوه مكبلاً بالسلاسل مع مساجين آخرين حتى لا يهرب. ولكنه كسب المساجين للإيمان ارسلوه  بالبحر في رحله كريهه ولكن تحطم السفينه اعطاه الفرصه لتعليم وارشاد رفقائه في الرحله . حكموا عليه بالعديد من العقوبات ليخمدوا نار الكرازه ولكنها استمرت في الانتشار.

وكما قالوا عن السيد المسيح “ان تركناه هكذا يؤمن  الجميع به فيأتى الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا ” ولكن حدث العكس انهم قتلوه والرومان سلبوا موضعهم وامتهم والذي تصوروه عوائق ساعد في انتشار البشارة وهكذا في وعظ بولس الرسول. الذي ظنه الأعداء انه سيعوق انتشار كلمته ساعد بالأحرى على اتساع مجالها وزيادة هيبتها.

ولكل هذه الأسباب فلنعط الشكر لله الذي يحول كل شيء للاصلح فلنفتخر ببولس الذي جعل هذه الأشياء ممكنة ولنصلى لكي نحصل على نفس البركات من خلال النعمة ومحبة الرحمة التي لسيدنا يسوع المسيح الذي من خلاله وبه المجد  للآب والروح القدس إلى أبد الآباد  آمين.

 

 


(1) Epistle 5:32.

(2) للقمص تادرس يعقوب ملطي: القديس يوحنا الذهبي الفم، 1980، ص 345.

(3) غاية الخدمة هي أن تتحول حياة البشر من أرضٍ إلى سماء، أو من بشر إلى ملائكة!

(4) الحب الرعوى، ص 459.

(5) In Hebr. hom. 23:9.

(6) In Acts hom. 3.

Exit mobile version