الدينونة

تشكّل الدينونة الموضوع الرئيسي لهذا الأحد المعروف ب”مرفع اللحم”. ترتبط الدينونة، كما تُُظهر لنا التلاوة الإنجيلية لليوم، بمجيء الرب الثاني المجيد الذي سيتم في اليوم الأخير، حيث يفصل الرب الأبرار عن الخطأة فيقيم الأوّلين عن يمينه والآخرين عن يساره، “فيذهب هؤلاء إلى العذاب الأبدي والصدّيقون إلى الحياة الأبدية” (متى 25: 46).

الكنيسة لم تعش الحالة الأخروية وكأنها حالة مستقبلية فقط لا علاقة لها بالحاضر، بل على العكس عاشت الكنيسة هذه الحالة كواقع مدرَك من خلال الحياة في المسيح والروح القدس. المجيء الثاني، مع حصوله في اليوم الأخير انما هو مدشَّن في الأسرار والعبادات في الكنيسة حيث نجد أن القديس يوحنا الذهبي الفم يتذكر في قداسه أحداثاً جرت في الماضي مع حدث (وهو المجيء الثاني) من المفترض أن يتم في المستقبل: “ونحن بما أننا متذكرون هذه الوصية وكل الأمور التي جرت من أجلنا، الصليب والقبر والقيامة ذات الثلاثة الأيام، والصعود إلى السماوات، والجلوس عن الميامن، والمجيء الثاني المجيد أيضاً”.

في وجودها التاريخي تنتظر الكنيسة مجيء الرب الثاني بقوة وعلانية، ذلك أن هذا المجيء سيكون بمثابة تجلي الخليقة كلها وإعلان الملكوت المرئي نهائياً. المجيء الثاني الذي دُشّن سوف يظهر علانية في اليوم الأخير، ليس ثمة تناقض بين هذين التأكيدين.

تُرافِق إذاً هذا التجلي الأخير دينونة، المقياس فيها هو المسيح، ذلك أنه هو الحق، وتالياً هو الديّان: “لأنه لا بد أننا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع، خيراً كان أم شراً” (2كورنثوس 5: 10). كلٌّ يُدان بحسب أعماله، لكن الدينونة مرتبطة أيضاً بالإيمان بيسوع المسيح، هذا ما يبشر به اللاهوتي يوحنا في إنجيله: “لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلّص العالم، الذي يؤمن به لا يُدان والذي لا يؤمن قد دِينَ لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد” (3: 17-18). وفي مكان آخر يؤكد المسيح أن: “من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه، الكلام الذي تكلمتُ به هو يدينه في اليوم الأخير” (يوحنا 12: 48).
المسيح قد أتى ليخلّص العالم لا ليدينه، الإنسان هو الذي يدين نفسه برذله تعاليم المسيح وبابتعاده عنه. الدينونة ليست حدثاً مؤجَّلاً، بل هي حاصلة الآن في هذه الحياة، إذ إن صيغة الماضي المستعمَلة في إنجيل يوحنا “قد دين” تعني أنها قد تمَّت. كما أن الخلاص ليس مشروعاً مؤجلاً، بل هو يتمّ فعلاً الآن إذا أراد الإنسان، ذلك ان الإنجيلي نفسه يقول في موضع آخر: “الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله الحياة الأبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة” (5: 24).

ليس ثمة عقيدة كنسية حول الحياة بعد الموت، الأخروية متمحورة عندها حول المسيح، الذي عندما يظهر سوف يُظهر معه الكل، لذلك يقول الرسول الإلهي: “لأنكم قد مُتّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهر المسيحُ حياتُنا فحينئذ تُظهَرون أنتم أيضاً معه في المجد” (كولُسي 3: 3-4). الكنيسة تتألف إذاً من أحياء وأموات فقدَ الموت عليهم كل سلطان، لأنهم راقدون “في المسيح”.

يبقى سؤال حول اعتقاد بعض الآباء، مثل باسيليوس وغريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيصصي [1] وقبْلهم اوريجانس، بأن الناس كلهم سيخلصون ويدخلون في حياة الله، مستندين الى قول بولس الرسول: “ومتى أُخضع له الكل فحينئذ الابن نفسه ايضاً سيخضع للذي أخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل” (1 كورنثوس 15: 28). حجة هؤلاء الآباء الرئيسية هي ان رحمة الله أعظم من خطيئة الانسان الذي خلّصه المسيح وافتداه. يقف القديس مكسيموس المعترف ضد هذا “الخلاص الكلّي”، معتبراً أن الانسان ليس مُكرَهاً على الاتحاد بالله، فهو حرّ وحريته “التي هي صورة الله فيه” تعطيه الامكانية بأن يرفض الله وبأن يذهب الى الجحيم.

” الخلاص الكلّي في اليوم الأخير” ليس عقيدة، انمّا هو، كما يقول لاهوتي ارثوذكسي معاصر، أمر “يجب ان يكون موضوع صلاتنا، ومحبتنا العاملة، ورجائنا”.

عن نشرة رعيتي 1995


[1] جاء في كتاب سألتني فأجبتك، س 108، بقلم الأب منيف حمصي حول مصير الأطفال غير المعمّدين، التالي: أما القديس غريغوريوس النيصصي فيرى أنهم ينالون حالة من البركة في السماء يمكنهم أن ينعموا بها (التعليم/الكلمة 28).
وهنا نسأل كيف يرى القديس غريغوريوس النيصصي بأن الجميع سيخلصون بالمقارنة مع تعليمه في خلاص الأطفال غير المعمّدين؟ نعتقد أن ما يقوله القديس غريغوريوس النيصصي يندرج تحت شرح 2 بط 2: 20 لأَنَّهُ إِذَا كَانُوا، بَعْدَمَا هَرَبُوا مِنْ نَجَاسَاتِ الْعَالَمِ، بِمَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَالْمُخَلِّصِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، يَرْتَبِكُونَ أَيْضًا فِيهَا، فَيَنْغَلِبُونَ، فَقَدْ صَارَتْ لَهُمُ الأَوَاخِرُ أَشَرَّ مِنَ الأَوَائِلِ. 21 لأَنَّهُ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ لَوْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ الْبِرِّ، مِنْ أَنَّهُمْ بَعْدَمَا عَرَفُوا، يَرْتَدُّونَ عَنِ الْوَصِيَّةِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُسَلَّمَةِ لَهُمْ.
وهذا هو الذي تكلم عنه القديس أمبروسيوس أسقف ميلان في كتابه “Repentance”، إذ يقول:
إن كان حديثنا السابق يكشف عن ميل الرب يسوع إلى الرحمة فلنتركه الآن يحدثنا بنفسه… فإنه عندما قال: “فكل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضًا به قدام أبى الذي في السماوات” (مت 10: 32، 33).
عندما تكلم عن المعترفين به قال: “كل من” أما عند حديثه عن حالة الإنكار فلم يذكر كلمة “كل”… ففي حالة الجزاء المفيد وعد به جميع المعترفين به، أما عند العقاب فلم يهدد الكل…
هذا لم يكتبه إنجيل ربنا يسوع المسيح الذي لم يسجله “متى” فقط، بل وسجله “لوقا” أيضًا (12: 8، 9) حتى نتأكد أن ما كُتب لم يكن بمحض الصدفة…
لنتأمل الآن معنى قوله “كل من يعترف بي قدام الناس”. إنه يقصد من يعترف به أيّا كان عمره، وأيّا كان حالة، دون أي استثناء. أما في الإنكار فلم تذكر عبارة مشابهة…
يقول داود النبي: “هل إلى الدهور يرفض الرب؟!… هل انتهت إلى الأبد رحمته؟!… هل نسى الله رأفته أو نزع برجزه مراحمه؟!” (مز 77: 7-9). هذا هو ما يعلنه لنا النبي بينما يصر أولئك عن إنكار مراحم الله!

هذا وتبقى الدينونة في يدّ الديّان وحده. يسوع المسيح. وأيّة محاولة منا لندين بها الآخرين فإننا بهذا ندين ونحكم  أنفسنا … فطرقه ليست كطرقنا، وأفكاره ليست كأفكارنا.

الشبكة

id_IDIndonesian
Gulir ke Atas