Facebook
Twitter
Telegram
Ada apa
PDF
☦︎
☦︎

3. الناموس القديم وناموس ربنا يسوع المسيح

“لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء” [ع17]

لماذا يقول ذلك؟ هل ارتاب أحد في الرب؟! أو من اتهمه حتى يدفع عنه هذا الاتهام؟ وهل ساور الناس الشك بسبب ما قيل قبلاً. كيف هذا؟ وهو يوصي الناس بالوداعة والتواضع والرحمة ونقاوة القلب والجوع والعطش لأجل البرّ. فهل يدل ذلك على مثل هذا الشك، أم أن العكس هو الصحيح، ولأي سبب يا ترى يقول ذلك؟ هناك سبب جدٍ معقول:

فهو مزمع أن يشرِّع لوصايا أعظم من وصايا العهد القديم قائلاً: “قيل للقدماء لا تقتل، أما أنا فأقول لكم لا تغضبوا”، وحتى يمهد لهم الطريق إلى حديث إلهي سماوي، وحتى لا تضطرب نفوس السامعين لغرابة ما يسمعونه ولئلا يتمردوا ضد ما يقوله، اتبعَ هذه الوسيلة ليعدهم إعدادًا جيدًا سلفًا.

 فعلى الرغم من أنهم لم يكملوا الناموس فإن وعيهم مسودٌ من الناموس تمامًا. وبينما يقاومون الناموس كل يوم، كانوا يتمسكون بحرفيته، ولا يبدلونه أبدًا. وحتى لا يضيف أحد إليه أي شيء جديد، فإنهم ربما كانوا يدفعون رؤساءهم أن يضيفوا المزيد لا للأفضل بل للأسوأ. لأنهم هكذا اعتادوا أن يتخلوا عن الكرامة اللائقة بآبائنا بإضافاتٍ من عندهم، بل كانوا يتحررون من كثير من الأمور الموصى بها (مر 7: 11–13)، بإضافات في غير محلها. ولأن المسيح في المقام الأول لم يكن من السبط الكهنوتي، ولأن الأمور التي كان مزمعًا أن يقدمها كانت بمثابة إضافات، لا تقلل بل تزيد من الفضيلة، وإذ كان يعلم بسابق علمه أن تلك الأمور ستزعجهم، وقبل أن يدوِّن في أذهانهم هذه القوانين العجيبة، طرح أولاً ما تراكم عندهم من أمور ماضية، فما هو ذلك الشيء الراكد الذي كان يشكل عقبة؟

 2. لقد ظنوا أنه يتكلم هكذا بغرض إلغاء أو نقض القوانين القديمة، لهذا راح يعالج شكهم هذا في كل مناسبة. فحين حسبوه مقاومًا لله، إذ بحسب ظنهم لم يحفظ السبت، وحتى يعالج ارتيابهم فيه كان يعلل ما يقول بأسباب تليق بشخصه وطبيعته مثلما يقول: “أبي يعمل… وأنا أعمل” (يو 5: 17)، وبعض أعماله تلك كانت أعمال تنازل وعطف، مثلما كان يأتي بالخروف الضال في يوم سبت (مت 12: 11) مشيرًا إلى أن عمله هذا لا يؤثر في حفظ السبت، فذكر لهم الختان كأمر له نفس التأثير (يو 7: 23).

حرصه أن يزيل كل لَبس لديهم أنه مقاوِم لله

لذلك نجده في أحوال كثيرة ينطق بكلمات أدنى من مرتبته، ليزيل كل لَبس لديهم أنه مقاوِم لله. ولهذا السبب فإن الذي أقام آلاف الموتى بكلمة واحدة منه، وحتى قبل أن ينادي على لعازر من القبر، صلى، ولئلا يظهر لهم وكأنه أدنى من الآب، وحتى يصحح هذا الشكل أضاف “قلت ذلك… لأجل هذا الجمع الواقف ليؤمنوا أنك أرسلتني” (يو 42: 11)، ولم يكن يعمل كل الأعمال كواحدٍ يعملها بقدرته الذاتية، حتى يقوِّم ضعفهم بشكل صحيح، ولا كان يفعل كل شيء بالصلاة، لئلا يترك في قلوبهم ارتيابًا شديدًا من جهته، وكأنه مجرد من القوة والسلطان، وكان يمزج هذا بذاك. بحكمة لائقة بشخصه، لأنه وهو يصنع الأعمال العظيمة بسلطانه كان يرفع عينيه نحو السماء.

هكذا حين كان يغفر الخطايا، ويعلن عن أسراره، ويفتح الفردوس ويطرد الشياطين، ويطهر الأبرص ويقيد الموت، ويقيم الموتى بالآلاف. كان يفعل كل ذلك بسلطانه وأمره، لكنه في أمور أقل من هذه بكثير حين كان يبارك الخبزات القليلة لتصبح كثيرة بوفرة، كان يرفع عينيه إلى السماء مشيرًا إلى أنه لم يكن يفعل ذلك عن ضعف، لأن الذي يقدر أن يحقق عظائم الأمور بسلطانه، كيف يصلي في الأمور الأقل؟ ومثلما كنت أقول لكم أنه يفعل ذلك ليخرس خزيهم، وأنا أطلب منكم نفس الشيء حيال كلماته عن الأمور الصغيرة. ومن حيث كلامه أو أعماله فإن هناك أسبابًا كثيرة نُعللها.

فمثلاً لا يليق بنا أن نعتبره غريبًا عن الله من حيث تعليمه وانتظاره للناس كلهم، ومن حيث تعليمه التواضع. ومن حيث أخذه جسدًا، وعدم قدرة اليهود سماع كل ذلك في الحال، وتعليمه لنا ألا نتحدث عن أنفسنا بكبرياء، ولهذا السبب عينه كان في كل الأوقات يتكلم بتواضع عن نفسه، أما عظائم الأمور فكان يترك للآخرين مهمة الحديث عنها. و في حديثه إلى اليهود والرد علي مجادلاتهم كان يقول: “قبل إبراهيم أنا كائن” (يو 8: 58).

أما تلميذه فكتب يقول: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله” (يو 1:1). وأيضًا هو نفسه الذي خلق السماوات والأرض والبحر، وما يُرى وما لا يُرى، فإنه لم يكن يعبر شخصيًا أو بذاته عن ذلك في أي موضع، لكن تلميذه كان يقولها بصراحة، ولم يخفِ شيئًا، وكان يؤكد ذلك المرة تلو المرة أن: “به كان كل شيءٍ، وبغيره لم يكن شيء مما كان، وأنه كان في العالم وكُوِّن العالم به” (يو 3: 1-10).

ولا نتعجب أن كثيرين آخرين قالوا عنه أمورًا أعظم من التي ذكرها هو عن نفسه في كل الأحوال. فما أظهره بأعماله وكلامه لم يجاهر به علانية. فالذي خلق كل البشر أظهر ذلك بكل وضوح مع المولود أعمي، لكن في حديثه عن خلقتنا في البدء لم يقل أنا صنعت بل قال: “الذي خلق من البدء، خلقهما ذكرًا وأنثى” (مت 19: 4). والذي خلق العالم كله بكل ما فيه من موجودات، أظهر ذلك باستخدامه الأسماك والخمر. والأرغفة (أرغفة القمح) وإسكات البحر وشعاع الشمس الذي سلطه علي عود الصليب، وأمور أخرى كثيرة لكنه لم يقل ذلك صراحة في أي موضوع تكلم فيه. مع أن تلاميذه ظلوا يعلنون ذلك باستمرار. هكذا فعل يوحنا وبولس وبطرس. وهم الذين كانوا يسمعون عظاته ليل نهار. ويرونه وهو يصنع المعجزات، وهم الذين شرح لهم الرب كل شيء علي انفراد ووهبهم قوة عظيمة لإقامة الموتى، وجعلهم كاملين، حتى تركوا كل شيء لأجله وتبعوه. فإن هؤلاء وحتى بعد أن مارسوا أعظم الفضائل في إنكار ذات، ولم تكن لديهم القدرة علي الشهادة بذلك، قبل حلول الروح القدس عليهم، فكيف يمكن لليهود العديمي الفهم البعيدين كل البعد عن هذا السمو، أن يقتنعوا بكلامه، ولا يزعمون أنه غريب عن الله، وهم كانوا حضورًا بلا ترتيب وعن غير قصد حين كان يقول أو يفعل شيئًا. إن لم يكن قد قصد هو عمليًا أن يمارس التواضع في كل حين، وكان تواضعه عظيمًا.

وعلى هذا الأساس نرى حتى وهو يبدو لهم أنه يكسر السبت، لم يأتِ بمثل هذا التشريع وكأنه عن عمدٍ مقصودٍ، بل يضع معه العديد من الأسانيد للدفاع عن الحق، فحين كان يوشك أن يلغي وصية ما، كان يتحفظ كثيرًا في كلامه حتى لا يربك السامعين. بل أكثر من ذلك أنه حين كان يضيف إلى الناموس السابق، تشريعًا أو قانونًا آخر كان يريد أن يظهر منتهى الانضباط، والانتباه، وليس فقط بغرض إنذار سامعيه، ولهذا السبب عينه، لا نراه يعلِّمُ في أي مكان بوضوح حول لاهوته، لأنه إن كانت إضافته للناموس تحيرهم كثيرًا – وهذا مؤكد – فكم بالحري إعلانه عن نفسه أنه هو الله.

3. لهذا السبب، نطق المسيح بأمور كثيرة، أدنى بكثير من الكرامة التي تليق به. وهنا وإذ يوشك أن يضيف إلى الناموس، أدخل عددًا وفيرًا من التصحيحات مسبقًا، فهو لم يقل إنه “لا يريد أن ينقض الناموس” مرة واحدة وكفى، بل كان يكرر هذا القول مرات عديدة، بل وأضاف شيئًا آخر أعظم، فعند قوله: “لا تظنوا إني جئت لأنقض”، أردف قائلاً: “ما جئتُ لأنقض بل لأكمل”، وهكذا أوقف عناد اليهود وسد أفواه الهراطقة الذين يقولون إن العهد القديم هو من الشيطان. لأنه إن كان المسيح قد جاء ليحطم طغيان إبليس، فكيف يبيد القديم، بل أن يكمِّله. لأنه لم يقل فقط: “أنا لا أنقضه” وكان يكفيهم هذا القول، بل يقول “بل لأكمل” وهي كلمات إنسان لا يناقض نفسه بل بالحري لديه كل الثقة فيما يقول. ورب سائلٍ: وكيف لا ينقضه؟ وما البرهان على أن الرب قد أكمل بالأحرى كلاً من الناموس والأنبياء!

قد أكمل الرب الأنبياء بقدر ما أكمل من أعمال أيدت كل ما قيل عنه “بالأنبياء”، حيث اعتاد الإنجيلي أن يقول في كل ما يجرى بواسطة الرب، “لكي يتم ما قيل بالأنبياء” وذلك حين وُلدِ (مت 1: 22-23)، وحين ترنم الأطفال له الترنيمة العجيبة عندما امتطى ظهر الأتان (مت 21: 5–16). وفي مناسبات عديدة أكمل أمورًا سبق التنبؤ بها والتي لم تكن لتتحقق كلها لولا مجيئه في الجسد.

أما الناموس فقد أكمله بعده طرق: إنه لم يتعدَّ أية فريضة في الناموس، بل أكمل الناموس كله.

اسمعوا ما يقوله ليوحنا المعمدان “يليق بنا أن نكمل كل برّ” (مت 3: 15) ويقول لليهود أيضًا “من منكم يبكتني على خطية” ( يو 8: 46) ويقول لتلاميذه كذلك “رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيِّ شيء” (يو 14: 30) وقال النبي عنه منذ القديم: “أنه لم يعمل خطية” (إش 53: 9). وهذا كله جانب واحد من جوانب إكماله للناموس.

أما الجانب الآخر فقد أتم الناموس فينا، وهذا هو العجيب في أنه ليس هو نفسه فقط الذي أكمله، بل منحنا هذا بالمثل. وهو ما يعلنه بولس الرسول قائلاً: “لأن غاية الناموس هي المسيح للبرّ لكل من يؤمن” (رو 10: 4)، وقال أيضًا: “دان الخطية في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا، نحن السالكين ليس بحسب الجسد” (رو 3: 8-4)، ثم قال: “أنبطل الناموس بالأنبياء، حاشا، بل نثبت الناموس” (رو 3: 31) لأن الناموس كان يهدف إلى أن يتبرر الإنسان، ولما لم تكن له القدرة على ذلك، جاءنا الرب عن طريق الإيمان، فأسس ما أراده الناموس وما لم يستطعه الناموس حرفيًا، أتمه المسيح بالإيمان، وعلى هذا الأساس يقول: “لم آت لأنقض الناموس“.

4. لكن إذا سأل إنسان بإمعان أكثر، فسنجد معنى آخر في سياق الأمر، خاص بقول المسيح: “ما جئت لأنقض بل لأكمل“، فما هو هذا المعنى وما هو مفهوم الناموس المستقبل الذي يوشك المسيح أن يسلمه لهم؟ لأن أقواله لم تكن نقضًا للسابق، بل امتدادًا له حتى الكمال، فمثلاً وصية “لا تقتل” لم ينقضها بقوله “لا تغضب” بل أكملها بالحري، إذ وضعها في صيغة أكثر أمنًا. وهكذا الحال بالنسبة للوصايا الأخرى.

هكذا ترون أنه كما سبق وطرح بذار التعليم دون ما شك، حتى إذا ما جاء الوقت الذي فيه يقارن بين الوصايا القديمة والجديدة ويتعرض للشبهة أنه وضعها متناقضة! فقد سبق فوضع النتيجة النهائية لصياغة الوصية القديمة بعد تكميلها بالجديدة، فقد نشر الرب قبلاً هذه التعاليم ٍبشكل سري مخفي: فمثلاً عندما قال: “طوبى للمساكين” كانت هي نفسها – وإن كانت بصورة أخرى – عندما طالبنا أن لا نغضب. و”طوبى لأنقياء القلب” تعادل “لا تنظر إلى امرأة وتشتهيها في قلبك”، ووصية النهي عن “كنز كنوزنا في الأرض” تتطابق مع “طوبى للرحماء”. فالحزن وقبول الاضطهاد والطرد والتعيير تتفق كلها مع “الدخول من الباب الضيق”، و “الجوع” و “العطش” من أجل البرّ هو نفس ما قاله الرب فيما بعد: “كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوه أنتم أيضًا بهم” (مت 7: 12).

وعندما أعلن الرب “طوبى لصانعي السلام” كان يعني نفس الشيء عندما أوصى أن يترك المسيحي “قربانه على المذبح” ليتصالح مع أخيه الذي أحزنه، وأن “يتراضى مع الخصم”.

وإذا كان في بداية عظته قد بدأ بوضع المكافأة لمن يعملون الصلاح، فكما قال في ذلك الموضع: “الودعاء يرثون الأرض” هكذا هنا يقول: “من قال لأخيه يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم” وهناك قال: “أنقياء القلب يعاينون الله” وهنا يعتبر كل من نظر نظرة شهوانية بغير تعفف زانيًا بالفعل. وإذ قال هناك “إن صانعي السلام يدعون أبناء الله” فإنه يحذرنا هنا من خطر الوقوع في يدي الخصم لئلا يسلمنا إلى الحاكم.

 وهكذا أيضًا مثلما يبارك ويطوِّب الحزانى والمضطهدين، نراه في المرة التالية وهو يؤسس نفس التشريع، يهدد بالهلاك أولئك الذين لا يسلكون الطريق الضيق، بل يدخلون من الباب الواسع، حيث يلقون في النهاية حتفهم. وحين يقول: “لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” يؤكد نفس المعنى السابق في قوله “طوبى للرحماء” و “طوبى للعطاش والجياع إلى البرّ”.

وكما قلت، ولأن الرب مزمع أن يوضح تلك الأمور لهم أكثر، بل ولكي يضيف إليها المزيد؛ لأنه لم يعد يطلب من الإنسان أن يكون رحيمًا فحسب، بل طالبنا بالأكثر، أن نعطي ثيابنا، ولا يطلب أن يكون الإنسان وديعًا فحسب، بل أن نحول خدنا الآخر لمن لطمنا على خدنا الأول، لهذا يبدأ أولاً في إزالة أي تناقض ظاهري “لا تظنوا إني جئت لأنقض”، ثم يضيف: “ما جئت لأنقض بل لأكمل”.

تكميل الناموس كله

“فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” [ع18]. وكأنه يقول هكذا:

لا يمكن أن يبقى شيء ما من أمور الناموس متروكًا هكذا دون تكميل، بل لابد أن يتحقق ولو أدنى شيء فيه، وهو نفس الشيء الذي فاه به هو ذاته وأكمله بنفسه بمنتهى الدقة. وهو هنا يشير سرًا إلى زوال هيئة العالم كله، وتغييرها إلى الأكمل، وإنه لم يقل شيئًا بغير قصد ولغرضٍ سامٍ يقدم على تشريع عهد آخر جديد طالما أن نظام الخليقة كلها سوف يتغير، وهذا شيء لا يقارن بدعوة البشرية كلها إلى وطن آخر جديد تُمارس فيه حياة أكثر سموًا وكمالاً.

5. “فمن ينقض إحدى هذه الوصايا الصغرى، وعلّم الناس هكذا، يُدعى أصغر في ملكوت السماوات” [ع19]

وإذ يخلصهم من شرور الشك ويسد أفواه المعارضين، يستمر في تحذيراته الشديدة تدعيمًا للوصايا المُقدم على تشريعها. وهو يقول ذلك لا نيابة عن النواميس القديمة بل لأجل الذي يخاطبهم من أجل تفاعلهم معها وتحقيق الوصايا الكاملة. فأنصتوا لما يلي:

“فإني أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات” (مت 5: 20). لأنه إن كان يقصد إلغاء ونقض ناموس العهد القديم، كيف يقول: “إن لم يزد بركم على…” لأن من يفعل نفس ما فعله القدامى لا يمكن أن يكون برّه زائدًا عنهم، فما هو المطلوب؟

ألا نغضب؟!

ألا نشتهي امرأة ما شهوة رديئة؟!

فإنه لأي سبب يا ترى يسمّي تلك الوصايا القديمة “الأصغر” رغم عظمتها وسموها؟ ذلك لأنه هو نفسه كان مزمعًا أن يُظهر لهم تحقيقه لنفس الوصايا. فكما وضع هو نفسه – وكان يتحدث عن ذاته بمقدار – هكذا كان يفعل بالنسبة لما يشرِّعه من قوانين، فحين علمنا أن نتواضع في كل شيء، وإذ استشعر شكًا ما حول هذه الوصية الجديدة، كان يتحفظ في كلامه بعض الشيء. لكن إذا سمعتموه يقول: “الأصغر في ملكوت السماوات” لا تفتكروا في الجحيم والعذابات، لأنه اِعتاد أن يقصد بكلمة “ملكوت” لا التنعم هناك فقط، بل أيضًا ما يحدث في يوم القيامة عند مجيئه المخوف. فكيف يمكن أن يُعقل أن من يدعو أخاه أحمق ويخالف وصية واحدة، ينزل إلى الجحيم؟ بينما من يكسر الوصايا كلها ويخالفها قد يدخل الملكوت؟ كلا، ليس هذا ما يعنيه أبدًا، بل إن مثل هذا الإنسان سيكون بمثابة “الأقل أو الأصغر” في ذلك الزمان. أي يعني أنه سيُطرح في النهاية خارجًا. وبالتأكيد أن الأخير سوف يُطرح في الجحيم: لأن السيد المسيح هو نفسه الله الذي يعرف بسابق علمه رخاوة الكثيرين، ويعرف مسبقًا أن البعض سوف يظنون أن أقواله مغالى فيها!

ولهذا هم يجادلون في الناموس قائلين:

ماذا لو أن أحدًا دعا آخر يا أحمق، هل يُعاقب؟ وإذا نظر شخص مجرد نظرة إلى امرأة، هل يصبح زانيًا؟ ولهذا السبب عينه، وحتى يستأصل كل تمردٍ على وصاياه، يضع مسبقًا أقوى تحذير ضد كل من يتعدى الوصية فيُعثر الآخرين.

من عمل وعلَّم

وإذ نصرف نحن بما يتحدونا إذا خالفنا وصاياه، فلنكف عن هذه المخالفة. وأن نمتنع عن إحباط همم حافظي الوصايا. والرب يقول: “لكن من عمل وعلَّم، فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات“. لأنه لا يليق بنا أن ننفع أنفسنا فحسب، بل أن ننفع الآخرين أيضًا. لأن من يقود آخرين معه تعظم مكافأته، لأنه مثلما يدين المعلم أن يعلم دون أن يعمل بتعاليمه حسب المكتوب: “فأنت الذي تُعلم غيرك، ألست تُعلم نفسك” (رو 2: 21). هكذا من يفعل ذلك دون إرشاد الآخرين تنقص مجازاته جدًا. وعلى الإنسان إذن أن يكون متميزًا في العمل، لكي يصوِّب نفسه بنفسه، ثم يتقدم برعاية الآخرين وخدمتهم. على هذا الأساس شدد المسيح على العمل قبل التعليم، ليؤكد أنه إن كان هناك من يقدر على تعليم الناس كلهم فلا سبيل أن يفعل ذلك، قبل أن يعمل أولاً بما يعلِّمه. حتى لا يقول له أحد: “أيها الطبيب اشف نفسك” (لو 4: 23).

لأن الذي لا يستطيع أن يُعلِّم نفسه، ومع ذلك يحاول أن يقوِّم آخر سيسخر منه كثيرًا، ولن تكون لهذا الإنسان قدرة على التعليم على الإطلاق، فأعماله تناقض كلامه. لكنه إن كان كاملاً في الأمرين معًا “سوف يُدعى عظيمًا في ملكوت السماوات”.

برَ الناموس

6. “فإني أقول لكم، إنكم إن لم يزد برّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات” (مت 5: 20)

يعني الرب بالبرّ هنا كل فضيلة، مثلما كان يتحدث عن أيوب أيضًا فقال: “كان بلا لوم، رجلاً بارًا” (راجع أي 1: 1). وبنفس هذا المعنى، يدعو القديس بولس أيضًا ذلك الإنسان الذي لم يوضع لأجله ناموس بارًا. إذ يقول: “إن الناموس لم يوضع للبار” (1 تي 1: 9). وفي مواضع أخرى كثيرة نجد أن كلمة برّ تشير إلى كل فضيلة عمومًا.

لكن لاحظوا أرجوكم، تسامي النعمة في أن “الرب” يجعل تلاميذه القادمين حديثًا أفضل من معلمي العهد القديم، لأنه يعني “بالكتبة والفريسيين” هنا ليس فقط الذين بلا ناموس، بل فاعلي الصلاح، لأنهم لولا إنهم يعنون الخير ما قال عنهم إن لهم برًا، ولا قارن البرّ الحقيقي بغير الحقيقي.

لاحظوا أيضًا هنا، كيف يأمر بالناموس القديم بعقد مقارنة بينه وبين ناموس آخر حيث يذكر أمورًا تتفق مع نفس السبط ونفس الجنس، حتى يكون تقريبًا على نفس الدرجة، فهو كما ترون لا يجد في الناموس القديم أي خطأ، بل يجعله أكثر حزمًا، لأنه لو كان الناموس القديم شريرًا لما طلب مزيدًا منه، ولا جعله أكثر كمالاً، بل لكان قد نزعه ونقضه. ورُبّ قائل يقول: “فإن كان الناموس بهذا القدر، فلماذا لا يستطيع – أي الناموس – أن يدخلنا الملكوت؟”

نعم لا يقدر الناموس أن يفعل ذلك بعد مجيء السيد المسيح، إذ يصبح الذين يعرفون المسيح أكثر تذوقًا لمزيد من القوة، وأكثر جهادًا لتحقيق مزيد من الصلاح. فكما كان الناموس القديم يصنع بأبنائه السابقين، هكذا الجديد يأتي إلينا بالمسيح الكامل. إذ يقول السيد المسيح: “إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتَّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب” (مت 8: 11). ويقبل لعازر أيضًا الجُعالة العليا، إذ تراه في حضن إبراهيم. وكل الذين أظهروا في التدبير القديم سُموًا ورفعة، يستضيئون بالناموس. فلو كان الناموس شريرًا أو غريبًا عن المسيح نفسه، لما أكمله حين جاء. لأنه لو كان يفعل ذلك لجذب اليهود فقط، وليس لكي يبرهن أنه صاحب الناموس الجديد ومكمله أيضًا، لكان قد تمم نواميس وعادات الأمم ليجذبهم هم أيضًا؟

واضح إذن من كل الاعتبارات أن الناموس فشل في أن يأتي بنا إلى الملكوت، لا لشر فيه أو عيب، بل لأن الوقت الآن هو وقت الوصايا العظمى. وإن كان الناموس أقل كمالاً من الجديد، فليس هذا بسبب شر فيه، وإلا كان الجديد يحسب هذا المبدأ هو شر أيضًا. لأن معرفتنا الآن، إذ ما قورنت بما هو عتيد وآتِ هي في الحقيقة معرفة ناقصة وجزئية، بل وتزول متى جاء الجديد، إذ يقول الرب على لسان بولس الرسول: “متى جاء الكامل فحينئذٍ يبطل ما هو بعض” (1 كو 13: 10). ومثلما يحدث للقديم متى حل الجديد، هكذا نحن أيضًا لا نلوم الناموس الجديد لأنه يدبر لنا أيضًا موضعًا في الملكوت، إذ يقول المسيح: “فحينئذٍ يبطل البعض (أو الجزء)”. لكننا ندعوه عظيمًا لأن المجازاة أيضًا أعظم، والقوة التي يمنحها الروح هي قوة أوفر، وتتطلب أن تكون أعمالنا المُرضية أعظم أيضًا. إذ لم يعد أمامنا الآن “الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً”، ولا العهد القديم المعزِّي والمريح، ولا كثرة النسل والأولاد، ولا القمح والخمر، وقطعان الماشية، بل السماوات بوفرة خيراتها، والتبني الذي لنا بالابن الوحيد، وشركة ميراث المجد والجلوس مع الرب في عرشه. وبتلك المكافآت التي لا حصر لها ولا يُحصى لها عدد، وإذ نقبل عونًا أوفر، فلنسمع بولس الرسول يقول: “لا شيء من الدينونة الآن، على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح…. لأن ناموس روح الحياة… قد أعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو 8: 1-2).

4. الغضب والقتل

6. بعد تحذير الرب للمتعدين علي وصاياه، وبعد كشفه عن المجازاة العظيمة للذين يفعلون الصلاح، وبعد أن أشار إلى أنه يطالبنا بمعايير تفوق تلك المعايير القديمة، يبدأ السيد الرب منذ تلك اللحظة في التشريع لوصايا جديدة، ليس بطريقة مقارنة بسيطة هكذا مع الوصايا القديمة، بل وحتى يحببهم في كلا الأمرين، وحتى لا يتعارض تشريعه مع الناموس السابق، بل بالحري أن يتوافق توافقًا كاملاً. ومن جهة أخرى، أن الوقت كان قد أزف ليضيف وصايا جديدة تكون أكثر وضوحًا. لهذا فلننصت إلي كلمات المشرِّع التي يقولها لنا:

“سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل” [ع21]

كان الرب نفسه هو الذي شرَّع الوصايا القديمة، لكنه لا يصرح بذلك شخصيًا حتى هذه اللحظة، لأنه لم يقل لهم “سمعتم أنني قلتُ لهم في القديم” حتى لا يصعب هذا القول عليهم، وحتى لا يضع عقبة في طريق سامعيه، ولكنه من جهة أخرى لا يقول لهم “سمعتم أنه قيل للقدماء بواسطة أبي”، ولم يقل أيضًا “ولكنني أقول لكم”، حتى لا يبدو وكأنه يفضل نفسه على الآب أبيه. لهذا يقول ببساطة وفي إيجاز إنه في الوقت المحدد جاء يقول لهم هذه الوصايا. لأنه بعبارة “قد قيل للقدماء” قد أشار إلى المدة الزمنية التي انقضت على استلامهم هذه الوصية، وهو يفعل ذلك ليخزي السامع الذي يحجم عن التقدم إلى المقام الأعلى لوصاياه، مثلما يقول لطفل بطيء النمو وكسول: “ألا تعلم كم قضيت وقتًا طويلاً في تعلم مقاطع الكلمات؟” وهذا ما يفعله بتصريحه سرًا بالتعبير “القدماء”. أما بالنسبة للمستقبل فإننا نجده يجمع كل هذه التعبيرات في رتبة أعلى في توجيهاته، وكأنه يقول لقد تعلمتم هذه الدروس بما فيه الكفاية. وعليكم أن تجاهدوا لتتعلموا دروسًا أعلى منها. وقد فعل حسنًا إذ بدأ بترتيب الوصايا، فقدم أولها والتي بدأ بها الناموس أيضًا. مظهرًا ما بينهم من تناغم: “وأما أنا فأقول لكم: إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم” (مت 5: 22). فهل ترون هذا السلطان في تكميل الوصايا. هل ترون مثل هذا التأثير الذي يتلائم مع خصال المشرِِّع؟ فمَن من الأنبياء تحدث بمثل هذا قط؟ ومَن من بين الأبرار فعل هذا؟ ومن وسط الآباء؟ لا أحد.

ولكن – وهذا ما يقوله الرب – ليس الابن كذلك. لأنهم إنما كانوا ينشرون وصايا سيدهم، ووصايا أبيه هو، وحين أقول “أبيه” أعني خاصته، إذ يقول المسيح “لأن ما لي هو لك، وما لك هو لي” (يو 17: 10). فإن كان لهم رفقاؤهم يشرّعون لهم، فإن له خدامه وعبيده الأخصَّاء.

فلنسأل الآن أولئك الذين يرفضون الناموس: هل وصية “لا تغضب” تناقض وصية “لا تقتل”؟ أم إن الثانية تتمم الأولى وتكملها؟ بل أن الثانية أعظم من الأولى: لأن من يكتم غضبه لا يسقط في خطية القتل، ومن يكبح لجام الغضب يتحكم في يديه، فالغضب جذر القتل وأصله. وتعلمون أن كل من يستأصل الجذر يستطيع أن ينتزع الأغصان، بل بالحري لا يجعلها تتكاثر أبدًا.

فالرب لم يضع تلك الوصايا لينقض الناموس بل ليكمله. لأن الكيفية التي يوصي بها الناموس هي هذه: إنه ينص على ألا يذبح الجار جاره، لهذا الذي يناقض الناموس هو من يأمر بالقتل. لكنه إن كان يطالب الإنسان ألا يغضب مجرد غضب، يكون قد أكمل فكر الناموس إلى التمام، لأن من يحرص على تجنب القتل، يسعى إلى الامتناع عنه تمامًا، مثلما يفعل كل من يطرح عنه مشاعر الغضب، فيسلم من السقوط في القتل.

 8. ولننفذ مزاعمهم أيضًا، علينا أن نأتي بكل ادعاءاتهم، فإن كانوا يزعمون أن الله الذي خلق العالم و “الذي يجعل شمسه تشرق على الأشرار والصالحين. والذي يمطر على الأبرار والظالمين” (قابل مت 5: 4) هو إله شرير! وحتى المعتدلون منهم رغم إنهم يزعمون مثلهم، إلا أنهم رغم تأكيدهم إنه إله عادل وبار، يجردونه من الصلاح. وآخرون من بينهم حتى وإن كانوا لا يزعمون مثلهم، بل يجعلون ما للآب خاصًا بالمسيح، إلا أنهم يزعمون أن ذلك الإله الشرير يبقى على ما هو عليه، ويحفظ خاصته، أما الصالح الآخر فإنه يطلب ما للآخر ويرغب هكذا فجأة أن يصبح مخلِّصًا لأناس لم يخلقهم.

هل ترون كيف ينطق أولاد إبليس بما يتفوه به أبوهم. إذ يجردون الله من فعل الخلق، بينما يصرخ القديس يوحنا قائلاً: “إلى خاصته جاء” و “كُوِّن العالم به” (يو 1: 10–11). وفي موضع آخر، نراهم ينتقدون ناموس العهد القديم، والذي يأمر قائلاً: “عين بعين، وسن بسن” فيرتكبون إهانة صريحة بقولهم “كيف يكون صالحًا من يأمر بشيء مثل هذا؟

ونحن نرد عليهم فنقول “إن في ذلك التشريع أسمى مظاهر محبة الله للبشر” فقد شرَّع هذا القانون، لا لكي يقلع أحدنا عين الآخر، بل حتى تمنحنا خشية أذى الآخرين لنا من إيذائنا نحن لهم. فالله قد هدد أهل نينوى بالغرق، لا بغرض إهلاكهم (لأنه لو كانت تلك مشيئته نحوهم، لما تكلم بل صمت وفعل)، بل فعل ذلك ليجعلهم يصيرون أفضل حالاً بسبب مخافتهم، ومن ثم يُهدئ من غضبه ضدهم. ولهذا أيضًا عيَّن عقابًا ضد الذين يقلعون عيون الآخرين عن عمد، حتى إذا لم يرد عنهم مبدأ الصلاح عن إتيان هذه القسوة، قد يمنعهم الخوف عن إلحاق الأذى بأبصار جيرانهم، فإن كان في ذلك قسوة، فإنه من القسوة أيضًا أن يردع القاتل ويعاقب الزاني.

لكن أقوالهم هي أقوال إنسان عديم الفهم، قد بلغ جنونهم حدًا لا يوصف. فحاشا لي أن أقول إن هذه الوصايا فيها قسوة، بل يليق بي القول إن عكس ذلك يناقض الناموس.

وبحسب مفاهيم الناس، قد تقولون إنه قاسٍ لأنه يوصي أن نقلع عينًا بعينًا وسنًا بسنًا. وأقول إن لم يكن أمر بذلك، لكان بحسب حكم الناس قاسيًا كما تزعمون. ولنفترض زوال مثل هذا القانون، فإن لا أحد أصبح يخشى العقوبة التي يحكم بها مثل هذا التشريع، بل حصل للجميع من الأشرار على ترخيص بالسلوك وفقًا لميولهم الشريرة في أمان، ودون رادع، فشمل الترخيص أيضًا الزناة والقتلة والحانثين بالقسم، وقتلة أبويهم، أفلا ينقلب كل شيء رأسًا على عقب؟ ألن تمتلئ المدن وساحات الأسواق والمنازل والبحار والأرض بل والعالم أجمع بنجاسات وقتل بغير حصر؟ إن الجميع يدركون ذلك، لأنه ورغم القوانين القائمة والخوف الذي يعترينا من جراء التهديد بالعقاب، لا تزال ميولنا الشريرة خفية ودفينة يصعب التكهن بها حتى زال الأمان في وسطنا فلا رادع يمنع رذائل الناس، وعمت الفوضى السلوكيات كلها في العالم أجمع وشمل الخراب الإنسانية كلها، بل بالحري، إن القسوة لا تكمن فقط في السماح للأشرار بفعل ما يشاءون، بل في أمر آخر قد يبدوا أكثر مسالمة من ذلك، هو أن تتغاضى عن الذين لم يرتكبوا شرًا، فنهملهم ونتركهم يتكبدون الآلام والمعاناة هكذا دون سبب.

وإلا فاخبروني أنتم، هل نحشد كل أشرار العالم من جميع ربوع الأرض ونسلحهم بالسيوف، ونأمرهم بالذهاب إلى كل أطراف المدينة وذبح الجميع ممن يصادفونهم في طريقهم. فهل هناك حيوان أكثر افتراسًا من الشخص الذي يفعل ذلك؟ لكن لو كان هناك من يقيد في حزم شديد ويضبط أولئك المسلحين، وأن يكبل أيادي الجزارين، لأصبح هذا التصرف في منتهى الإنسانية.

أريدكم الآن تطبيق تلك الأمثلة على الناموس وبنفس القدر، لأن الذي أوصى “عين بعين” قد آثار فينا الخوف كقيد قوي صارم يكبل نفوس الأشرار الأردياء. وهو يشبه الذي يلقي بالقتلة في السجن، بينما الأبرياء من كل عقاب يسلحهم بالأمان، فيقوم بدور من يجزوهم من السيوف التي في أيديهم حتى لا يفتكوا بكل من في المدينة. أرأيتم أن الوصايا بمنأى عن القسوة، بل هي بالحري تفيد بالرحمة. فإن كنتم على هذا الأساس تدعون المشرِّع قاسيًا يصعب التعامل معه، فاخبروني أي وصية أشد وأقسى من “لا تقتل” أو “لا تغضب”؟ ومن يكون أكثر تطرفًا ذلك الذي ينفذ العقوبة بسبب القتل، أم بسبب مجرد غضب؟ ذاك الذي يعاقب الزاني بعد افتضاح أمره، أم الذي يأمر بالعقوبة بمجرد الشهرة وتدوم منه هذه العقوبة؟

 ألا ترون أن تفكيرهم متناقض تمامًا؟ فكيف أن إله العهد القديم الذي يدعونه قاسيًا، يصبح هكذا رقيقًا ووديعًا، وأن إله العهد الجديد، الذي يقرون بصلاحه، يصبح صعبًا ومتشددًا، حسب ظنهم المجنون؟

بينما نؤمن نحن أن المشرِّع لكلا العهدين واحد ولا آخر سواه. وهو الذي شرَّعهما متوافقين معًا بمنتهى الدقة، وجعلهما يتفقان حتى مع اختلاف الزمانين – قديمه وجديدة (مفروضة بدل هيكل) (أو القديم والجديد) – لهذا فلا الوصية الأولى قاسية ولا الثانية مثلها، بل كل الوصايا قد شرَّعتها العناية الإلهية، عناية إله العهد القديم الذي بحسب تأكيد النبي:

“أقطع معكم عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائكم” (قابل إر 31: 31-32)، وإن لم يقبل بهذا من أصابه مرض بدْعة المانويَّة، فليسمع قول بولس الرسول الذي يذكر نفس الأمر في موضع آخر: “كان لإبراهيم ابنان، واحد من الجارية، والآخر من الحرة”. وكل ذلك رمز؟ لأن هاتين ترمزان إلى العهدين (قابل غلا 4: 22)، ورغم أن الزوجتين مختلفتين، لكن الزوج واحد، هكذا أيضًا فإن العهدين وإن اختلفا، لكن المشرِّع واحد، وحتى نبرهن لكم أنهما من نفس الأصل العادل، فإنه يقول في واحد منهما: “عين بعين” ويقول في الآخر: “من لطمك على خدك الأيمن فحوٍّل له الآخر” (مت 4: 39).

لأنه مثلما كان يكبح جماح المخطئ خوفًا من وقوع الألم على آخرين، هكذا الحال أيضًا في هذه الوصية. فهو حين يأمرنا أن نحوِّل الخد الآخر، يجعلنا نسمح لمن يلطمنا أن يبلغ ذروة غضبه. لكنه لم يقل إن هذا الضارب سيفلت من العقاب، بل بالأحرى، لا تعاقبه أنت في الحال، حتى تثير خوف من يلطمك – إن قاوم – ولتنال تعزية من تلقِّيك هذه اللطمة.

9. وما سبق أن ذكرنا، بخصوص الوصايا، يدفعنا إلى الاستمرار في إكمال الحديث عنها. فلنلتقط أول الخيط في قوله “من يغضب على أخيه باطلاً، يكون مستوجب الحكم” هكذا قال السيد المسيح. والإنسان بحسب طبيعته لا يقدر أن يتحرر تمامًا من الشهوات، فنحن قد نتسلط عليها، لكننا لا نقوى على التجرد منها نهائيًا – فهذا مستحيل – وأيضًا لأن هذه الشهوة نافعة، إن عرفنا كيف نوظفها حسنًا.

فمثلاً دعونا نتأمل الخير الكبير الذي نجم عن غضب بولس الرسول، والذي شعر به تجاه أهل كورنثوس، في تلك الحادثة الشهيرة، وكيف حررهم خوفهم من مأزق شديد، وبنفس الأسلوب استرد شعب غلاطية، الذي كان قد انحرف، فأنقذ آخرين أيضًا معهم، فما هو إذن الوقت المناسب للغضب؟

هو حين لا ننتقم لأنفسنا، وحين نكبح جماح وثورة الآخرين بسبب نزواتهم المخالفة للناموس، وحين نحثهم على السهر واليقظة إذا ما أصمدوا.(صمدوا)

لكن ما هو الوقت الغير مناسب للغضب؟

حين ننتقم لأنفسنا، والذي يحذرنا منه القديس بولس أيضًا: “لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكان للغضب” (رو 12: 19). وإن كنا نعتمد على ذواتنا، فقد حذرنا منها أيضًا واِنتزعها من وسطنا بقوله: “لماذا تُظلِمون بالحري؟ لماذا تُسلِبون بالحري؟ (1كو 6: 7). لأنه مثلما يكون هذا الخير الأخير فائضًا عن الحاجة، هكذا يكون الخير الأول نافعًا وضروريًا. لكن معظم الناس يفعلون النقيض! فصاروا مثل حيوانات مفترسة تؤذي نفسها بنفسها، لكنهم حين يرون الأذى يلحق بالآخرين يسامحون ويجبنون. وكلا الأمرين مناقض لناموس الإنجيل، وأن يغضب الإنسان لا يصنع التعدي، ولكنه إن غضب في غير أوان الغضب (المقدس ) فهذا هو التعدي. لهذا السبب يقول المرنم النبي أيضًا: “اغضبوا ولا تخطئوا” (مز 4: 5 س)

10. “ومن قال لأخيه رقًا” (Raca) يكون مستوجب المجمع” [ع22]

 وهو يعني بالمجمع هنا، محكمة العبرانيين، وقد ذكر ذلك الآن، حتى لا يبدو في كل موضع وكأنه غريب أو دخيل.

لكن كلمة “رقًا” ليست من الكلمات التي تسبب إهانة كبيرة، بل بالحري تُظهر بعض الازدراء أو التحقير الخفيف من جانب قائلها، مثلما يحدث حين نصدر أمرًا لخدام البيت أو لأي شخص آخر أدنى رتبة منا، نقول بالعامية: غور من هنا، أو “قل لبني آدم ده” هكذا فإنهم يستخدمون اللغة السريانية فيقولون رقًا وهي لفظة تحل محل الضمير “أنت” لكن الله محب البشر، يريد أن يحذف من قاموسنا حتى أدنى الأخطاء، ويطالبنا بالسلوك اللائق بعضنا نحو البعض، وباحترام واجب، واضعين في الاعتبار التخلص أيضًا من الأخطاء الأكبر “ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم”، وقد تبدو هذه الوصية عند الكثيرين قاسية ومزعجة. أن نجازي لمجرد كلمة، بمثل هذه العقوبة الجسيمة. ويزعم البعض أن هذا الكلام قيل على سبيل المبالغة أو الغلو. ولكنني أخشى أن تُخدع أنفسنا بهذا الكلام، فنعاني فعلاً من عقوبة شديدة. لأنني أريد أن تخبروني كيف تبدو الوصية ثقيلة الحمل؟ ألا تعلمون أن كل العقوبات ومعظم الخطايا تبدأ من الكلام؟ أجل، فالكلام أصل التجديف، وبالكلام ننكر الله ونخاصم الناس ونوبخ ونحلف باليمين ونشهد بالزور، فلا تقولوا إذن إنها مجرد كلمة قلناها، لا تأثير خطير لها، فهذا ما تودون الاستفسار عنه، فهل تجهلون أنه في وقت العداوة، وحين يشتعل الغضب وتتوقد النفس – فتبدو حتى أقل الأشياء فادحة – ومن غير اللائق التهاون في محاسبة الآخرين علي التوبيخ، فإن تلك الصغائر قد تؤدي إلى القتل وتهلك مدنًا بأكملها.

وإذا كانت أثقل الأمور تبدو في وجود الصداقة خفيفة، فإن أتفه الأمور تبدو غير محتملة في وجود العداوة. ومهما بدت الكلمة بسيطة في ظاهرها، فإن قائلها لابد يقصد معنى شريرًا من قولها، ومثلما الحال مع النار، فإن مستصغر الشرر إذا صادف ألواحًا خشبية تعد بالآلاف لأتى عليها كلها، وإذا اشتد اللهب وارتفع فإنه يحرق الخشب والحجر أيضًا معه وكل ما يصادفه في طريقه، ومهما حاولنا إطفاء النار لازدادت اشتعالاً. ويعلم الجميع أن الخشب والكتان والمواد القابلة للاشتعال، بل والماء نفسه يزيد النار اشتعالاً، هكذا الحال مع الغضب، الذي يجعل الإنسان في لحظة طعامًا للشر المُتسيطر. ومن بين كل الشرور التي ذكرها المسيح، فإنه قد أدان الغضوب بلا سبب، وجعله “مستوجب الحكم” وأن من يقول رقًا يكون مستوجب المجمع (أي المحكمة العليا اليهودية). وهي أمور ليست بالجسيمة إذ يكون عقابها هنا، لكن كل من يدعو الآخر رقًا أو أحمقًا فقد صعد إلى نار جهنم، وهي أول مرة يذكر فيها المسيح لفظة جحيم، فقد تحدث طول الوقت عن الملكوت، حتى جاء ذكر الجحيم هنا، ليشير ضمنًا إلى أن الملكوت هو هبة محبته الخاصة لنا، وعنايته الفائقة بنا، أما الجحيم فهو بسبب إهمالنا.

11. انظروا كيف يتدرج الرب شيئًا فشيئًا في إظهار عقوباته، حتى لا يكون أحد له عذر، وليُظهر أن رغبته الأكيدة ليست في تهديده لنا بالعقوبات، ولا بغرض أن نتهمه بأنه دائم التحذير لنا بلا أدنى سبب، إذ يقول كما تلاحظون: “آمركم ألا تغضبوا بلا سبب، حتى لا تجلبوا الحكم على أنفسكم”. لقد احتقرتم الوصية الأولى (القديمة)، فانظروا ما جلبه الغضب، لقد قادكم على الفور إلى التحذير من الشتيمة، لأنكم تدعون أخاكم “رقًا” مرة أخرى، فها أنذا أحذركم من عقوبتها: وهو “حكم المجمع”، فإن أهملتم هذا وفعلتم ما هو أشد، فإنني لم أنزل عليكم تلك العقوبات المحدودة هنا، بل العقاب الأبدي الذي لا يزول في الجحيم. لئلا تنزلقوا أيضًا إلى القتل، لأنه ما من شيء في العالم أكثر إيلامًا من الإهانة، فهي تؤذي نفس الإنسان إلى أقصى حد، وحين تكون الكلمة المنطوقة أيضًا أكثر إيذائًا وجرحًا من الإهانة، فإن ثورة الغضب تصبح أشد أذى وإيلامًا. فلا تظنوا أن دعوتنا للآخر بالأحمق هي من الأمور الهينة، لأنه إن كان العقل والفهم هو ما يميزنا عن البهائم وهو الذي يجعلنا بشرًا عاقلين مدركين، وإن كنا بنفس هذا العقل نسلب أخانا ونجرده من شرفه، فلنهتم لا بالكلمات وحدها، بل بأمورنا التي تؤثر في مشاعر الآخرين، ولنتأكد أن الكلمة الجارحة تسبب جرحًا غائرًا وشرًا مستطيرًا، لهذا يتحدث بولس الرسول عن المطرودين من الملكوت، لا من الزناة والفاسقين وحسب، بل من “الشتَّامين” أيضًا. ولهذا الكلام سبب حكيم: فالشتَّام يفسد جمال المحبة الأخوية ويلحق بجاره آلامًا مبرحة، وعداوات لا نهاية لها. ويمزق أعضاء المسيح إلى أشلاء، ويبدد كل يوم السلام الذي يريده الله، مُمهدًا للشيطان أرضية صالحة بسبله الشريرة، فيجعل إبليس الأقوى. لهذا نجد أن السيد المسيح يمزق أوصال الشيطان، فيشرِّع هذا الناموس بجديد، لأن الرب يهتم جدًا بالمحبة، فهي أم كل صلاح، وهي العلامة أو البادﭺ الذي يعرف به الناس تلاميذه والرابطة التي تجمعنا كلنا معًا. لهذا يشرِّع الرب ناموس المحبة ليستأصل كل جذور الكراهية المفسدة لكل شيء.

فلا تظنوا أبدًا أن هذه الأقوال مغالى فيها، بل بالحري تفكروا فيما تجلبه من خيرات. وتعجبوا من اللطف الذي تحويه. لأن كل اهتمام الله هو باتحادنا وترابطنا معًا.

لهذا يهتم الرب جدًا بهذه الوصية في شخصه الذاتي وفي تلاميذه، وفي العهدين القديم والجديد، بل ويعاقب بشدة كل من يحتقر وصية المحبة لأن نزع المحبة يفتح الباب على مصراعيه أمام كل الشرور بل ويكون جذرًا وأصلاً للشر. لهذا قال أيضًا: “لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين” (مت 24: 12). لهذا صار قايين قاتلاً لأخيه، وهكذا فعل عيسو، كذلك إخوة يوسف، وكل الجرائم التي ارتكبناها والتي بغير حصر، وتسببت في حل أواصر المحبة بيننا – لهذا يؤصل (يستأصل) (رب المجد) للأمور التي قد تضر بالمحبة – ونراه يفعل ذلك في كل أحاديثه وبمنتهى الدقة.

12. فلا هو توقف (فلم يتوقف) عند تلك الوصايا فقط – السابق ذكرها – بل يضيف (أضاف) إليها وصايا أخرى أكثر منها، ليؤكد على أمور يريد الإشارة إليها. أعني بعد أن هدَّد “بالمجمع” و “بالحكم” و “بالجحيم” أو جهنم. أضاف ما يتفق مع قوله السابق قائلاً:

“فإن قدَّمتَ قربانك إلى المذبح، وهناك تذكّرتَ أن لأخيك شيئًا عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعال وقدم قربانك” (مت 5: 23-24) يا لصلاح الرب ومحبته الفائقة للإنسان. فهو لم يهتم بالكرامة الواجبة له، بل بالأكثر اِهتم بمحبتنا لجيراننا، فلم ينطق بالتهديدات السابقة وكأنه عدونا أو كأنه يرغب في عقابنا، بل بدافع عاطفة حب رقيقة جدًا. فهل هناك أقوال تضاهي رقة كلامه الذي يقول: “فلتقاطع خدمتك ليدوم حبك للآخر؛ لأن المحبة ذبيحة أيضًا، حين تتصالح مع أخيك”. أجل.

ولهذا السبب لم يقل “بعد القربان أو التقدمة”، بل والقربان موضوع على المذبح، وليس بعد رفعه، ولا بعد تقديم الذبيحة أو رفع التقدمة، بل بينما هي في وسطنا، يأمرنا أن نسرع إلى المصالحة.

تُرى ما هو الدافع الذي لأجله يوصيكم أن تفعلوا ذلك. وما هي الأسباب؟

يتراءى لي أن هاتين الغايتين يرسمهما لنا سرًا هنا:

أولاً: تشير مشيئته كما قلتُ قبلاً إلى أنه يضع المحبة في أعلى مقام سام، ويعتبرها أعظم ذبيحة، والتي بدونها لا يقبل منا أية ذبيحة أخرى.

ثانيًا: يضع الرب على كاهلنا هذه الضرورة لأجل المصالحة، لأن كل من أمره بألا يرفع تقدمته قبل أن يتصالح سيهرع إلى مَنْ أحزنه ليزيل العداوة إن لم يكن بدافع المحبة نحو جاره، فلكي لا تكون ذبيحة بغير تقديس. لهذا السبب اِهتم المسيح بالأمر اهتمامًا بالغًا، وأنذرنا بإحكام ليوقظنا، وحين (فحين) قال:

“اُترك هناك قربانك” لم يكتف بذلك بل قال “قدام المذبح”. ربما في نفس المكان الذي كان يُروِّع جاره فيه. وقال “اذهب” ليس هذا فحسب، بل أضاف “أولاً” أي على الفور. ثم قال: “وقدم قربانك” معلنًا بكل مجاهرة أن المذبح لا يقبل من هم في عداوة مع آخرين.

فليسمع المعمَّدين هذا أيضًا – أجلّ، لأن الأمر متعلق بهم – فهم بالمثل يقدمون قربانًا وذبيحة، أعني صلاة وصدقة – فهذه أيضًا ذبائح – فالنبي يقول في المزمور: “تمجدني ذبيحة تسبيح، وأيضًا الذبيحة لله “ذبيحة تسبيح” و”رفع يديَّ ذبيحة مسائية” (مز 141: 2).

فالصلاة إذن ذبيحة ترفعونها في تعقل، ومن الأفضل أن تتركوا صلاتكم لأنه لهذه الغاية قد صارت كل الأمور، بل لهذه الغاية قد صار الله إنسانًا وعمل كل ما عمله ليجمعنا في واحد. لهذا وفي هذا الموضوع يرسل فاعل الشر إلى المظلوم.

وفي صلاته يعتاد المظلوم إلى الإثم ليصالحهما معًا. ومثلما يقول: “اغفر للناس زلاتهم” هكذا أيضًا يقول: “إن كان قد فعل شيئًا ضدك، اذهب إليه” أو بالحري يبدو لنا هنا وهو يرسل المتألم من الأذى. ولسبب ما لم يقل “صالح نفسك مع أخيك”، بل “تصالح مع أخيك” وبينما يبدو هذا القول موجهًا إلى المعتدي، فإن القول كله يتناول المتضرِّر.

هكذا يقول السيد المسيح: إن تصالحت معه بمحبتك له، سأكون مسامحًا لك أيضًا. وتكون قادرًا على تقديم ذبيحتك بثقة كاملة، لكن إن كنت لا تزال مضطربًا، فتذكر إنني وإن كنت قد أمرت أن تهتم بأموري الخاصة اهتمامًا طفيفًا، لتصيروا أصدقاء وتلطِّفوا من غضبكم. (الجملة ناقصة) ولم يقل: إذا عانيتم من الأخطاء الأشد، تصالحوا، بل حتى وإن كان ما أساء إليك به تافهًا ولم يضف سواء كان بحق أو بغير حق، بل قال فقط: “إن كان لأخيك شيء عليك” لأنه إن كان بحق، فحتى في هذه الحالة لا يليق ولا يجب أن نرجئ المصالحة. لأن المسيح أيضًا قد غضب منا بالحق. ورغم ذلك فقد بذل نفسه ذبيحة لأجلنا. “غير حاسب تلك الخطايا” (2 كو 5: 19). وللسبب عينه، يحثنا بولس الرسول أيضًا وبطريقة أخرى على المصالحة “لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف 4: 26).

ومثلما فعل المسيح بحديثه عن تقديم القربان على المذبح، هكذا بولس في حديثه عن ذلك النهار، يحضنا على فعل نفس الأمر، لأنه في الحقيقة يخشى أن يُخيم الليل على المضروب وحده، فيجعل جرحه أشد إيلامًا. لأننا في النهار يتشتت فكرنا مع كثيرين غيرنا – فنبتعد بعيدًا عن مشاكلنا – لكن في الليل وحده يشتد التفكير في النفس، وترتفع الأمواج وتثور العواطف أكثر، وحتى يمنع بولس الرسول حدوث ذلك، ألزمه أن يمضي الليل في التصالح فلا يصبح النهار إلا ويكون قد تصالح، وحتى لا تتوفر للشيطان فرصة بعد علينا، وهو بعد في وحدته، فيشعل أتون غضبه بدرجة أشد.

هكذا السيد المسيح، طلب أن يؤجل تقديم القربان دون تأخير ولو بسيط، حتى لا يصير هذا الشخص أكثر إهمالاً، فيؤجل المصالحة يومًا بعد يوم، لأن الرب يعلم أن الأمر يتطلب علاجًا سريعًا وحاسمًا، وكطبيب ماهر لا يعالج أمراضنا فقط، بل ويقيمنا منها ويشفيها(ويشفينا). وحتى يمنع المناداة بكلمة يا أحمق وقاية لنا من العداوة، يأمرنا بالمصالحة كوسيلة لاستئصال الأمراض التي تسبب نفس العداوة.

ونلاحظ أنه وصف كلتا الوصيتين بمنتهى الحزم والدقة. فمثلما كان الحال في السابق، حين توعد المخالفين بالجحيم، هكذا أيضًا هنا لا يقبل القربان قبل المصالحة، مؤكدًا على عدم رضاه الكامل إن لم نتصالح أولاً، وبهذا يجتث جذر الشر وثماره معًا، وأول كل شيء يقول: “لا تغضب”، ثم، “لا تخاصم”، لأن الواحدة إنما تسند الأخرى: فمن العداوة يأتي الخصام، ومن الخصام تأتي العداوة. ولهذا يعالج جذر العداوة ثم ثمرتها، مانعْنا من ثورة الشر. وحتى إن استفحلت العداوة وأتت بثمارها الشريرة كلها، فإنه يحرقها ويخمدها بكل الوسائل.

13. وبعد أن تحدث المسيح عن الحكم ثم المجمع فالجحيم. وبعد أن تحدث أيضًا عن قربانه الخاص. يضيف أمرًا جديدًا فيقول: “كن مراضيًا لخصمك سريعًا ما دمت معه في الطريق” (مت 5: 25).

وحتى لا تقول عن خصمك، وماذا لو تضررت منه؟ “ماذا لو كنت قد طُرحت في السجن بسببه وقتلت أمام المحكمة”؟ لقد أبعد المسيح هذا العذر أيضًا؛ إذ يأمرنا ألا نعادي أحدًا. ولما كانت هذه الوصية عظيمة، فإنه يقدم نصحه من واقع الحياة، ومن الأمور الحاضرة أكثر من المستقبلية، وكأنه يقول: “لماذا تقولون إن خصمكم أقوى وإنه يدفعكم إلى ارتكاب الخطأ؟

بالطبع، إنه سوف يدفعكم إلى مزيد من الأخطاء إن لم تنهوا الأمر، وقد يجبركم على المثول أمام المحاكم، لأنه في الحالة الأولى. إذا دفعتم بعض المال لحفظتم أنفسكم أحرارًا. لكنكم تحت طائلة القانون بحكم القاضي، سوف تقيدون وتنالون عقوبة أشد، لكنكم إن تجنبتم المواجهة والخصام، لجنيتم ثمرتين صالحتين:

أولاً: أن تتخلصوا من معاناة الألم.

ثانيًا: أن يكون العمل الصالح من نصيبكم أنتم، وليس كنتيجة قهرية مجبرون أنتم عليه من جانب خصمكم. لكن إن لم ترتدعوا بهذه الأقوال، فإنكم لا تخطئون في حقه بقدر ما تخطئون في حق أنفسكم.

ترون هنا أيضًا كيف يُعجل السيد بإثارة (؟)، فهو يقول: “كن مراضيًا لخصمك” ثم يضيف على الفور “سريعًا” ولا يكتفي بهذا الأمر، بل بالسرعة المقررة لإنهاء المصالحة. ولهذا يضيف قائلاً أيضًا: “ما دمت معه في الطريق” هكذا فإنه يحثه ويدفعه بشدة وبحزم على ذلك. لأنه ما من شيء يقلب حياتنا رأسًا على عقب، مثل التأجيل والتسويف في إنجاز أعمالنا الصالحة، فقد يتسبب التأجيل فعلاً في خسارتنا لكل شيء. لهذا يقول القديس بولس “لا تغرب الشمس على عداوتكم”.

وكما يقول المسيح قبلاً: “تصالحوا قبل تقديم قرابينكم”.

هكذا يقول هنا أيضًا، تصالح سريعًا ما دمت مع خصمك في الطريق؛ قبل أن تبلغ أبواب المحكمة، وقبل أن تقف خلف القضبان، وتصبح في قبضة الحاكم. لهذا وقبل أن تبلغ هذا الحد، دع السيطرة في يدك أنت. لكن إن وطأت قدماك عتبة القضاء، ما عدت تقدر على ترتيب أمورك بإرادتك، حتى لو بذلت جهودًا مضنية، ما دمت في قبضة الآخرين. لكن ما معنى “كن مراضيًا لخصمك”؟ إن الرب يعني الاتفاق مع خصمك حتى لا تُعاني مُعاناة مُرة. أو أن تلتمس العذر للآخرين وكأنك في محله، وحتى لا تفسد العدل بمحبتك لذاتك – بل بالحري – أن تتعامل مع قضية الآخرين على أنها قضيتك، فتحرر نفسك وتنجو بذاتك من الأمر.

فلا تندهش لهذا الأمر العظيم، فقد أطلق برأيه هذا كل بركاته، حتى إذا ما أعد نفوس سامعيه ولطفهم يجعلهم أكثر استعدادًا لقبول وصاياه. ويقول البعض إن الرب يرمز سريًا إلى الشيطان نفسه بإطلاق اسم “الخصم” عليه، بينما أمرنا ألا نتعامل معه؛ بألا تكون لنا معه شركة.

الآن هذا هو معنى “كن مراضيًا له”؟ فلا مساومات ممكنة بعد رحيلنا عنه، ولا ننتظر منه شيئًا، إلا العقوبة التي لا يمكن لأية صلاة أن تنجينا منها. لكن يبدو لي أنه يتحدث عن قضاة هذا العالم، والطريق إلى محكمة العدل، والسجن الذي نعرفه. لأنه بعد أن أنذر الناس بشتى الطرق والوسائل، فإنه ينذرهم أيضًا بأمور تحدث في هذه الحياة. وهو نفس ما يفعله بولس الرسول في حديثه عن الحاضر والمستقبل، للتأثير في سامعيه، ومثلما حين يردعه عن الشر، يشير إلى ذاك الذي يميل إلى الشر، وهو الخادم المتسلح، إذ يقول: “ولكن إن فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثًا، إذ هو خادم الله” (رو 13: 4).

وإذ يربطنا أيضًا بالقضية التي تشغله، فإنه لا يعوض خوف الله فقط، بل الوعيد أيضًا للفريق الآخر، وعنايته وسهره. “لذلك يلزم أن يُخضع له، ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضًا بسبب الضمير” (رو 13: 5)، لأنه كما قلت سابقًا فإن الأكثر انحرافًا عن التعقيل سرعان ما تقوِّمهم هذه الأمور. وهي أمور ظاهرة ومتاحة. لهذا السبب فإن المسيح لم يذكر الجحيم فقط، بل ذكر أيضًا محكمة العدل، وذكر الجر إلى السجون، وكل ما يلاقيه الإنسان من معاناة. وبهذه الوسائل كلها، يستأصل جذور القتل، لأن الذي لا يخاصم ولا يَمثل أمام القضاء – ولا يطيل العداوة – لا يمكن أن يقتل أبدًا. من هنا نعرف أن منافع جيراننا هي منافعنا، لأن من يتصالح مع خصمه ويتراضى معه ينتفع هو بالأكثر جدًا؛ إذ يصبح حرًا بفعل إرادته من محاكم القانون، والسجون والبؤس الذي يلاقيه هناك.

14. إذن فلنطع أقواله، ولا نناقض أنفسنا، ولا نكثر من الخصام، لأن تلك الوصايا، حتى وإن كانت قبل كل شيء وصايا بمجازاة، فإنها في حد ذاتها لها نفعها وبهجتها. حتى وإن بدت في معظم الأحوال ثقيلة الحمل، وما تسببه من متاعب جمة، فإنه من الواجب عليكم أن تنفذوها لأجل خاطر المسيح. حينئذٍ يتحول الألم إلى فرح، فلو كان هذا هو فكرنا دائمًا لما شعرنا بثقلها أبدًا، بل نجني لذة عظيمة من كل جانب؛ إذ لن يبدو تعبنا تعبًا بعد، بل كلما زاد زادت مسرتنا وصارت أكثر حلاوة مع الأيام. فإن لازمتكم عادات شريرة وشهوة الغنى وحاربتكم، قاوموها بالفكر القائل: “ما أعظم المجازاة التي ننالها، إذا ما احتقرنا الملذات الزائلة التي لا تدوم إلا فترة”. قل لنفسك: “لماذا تكتئبين يا نفسي لأنني حرمتُكِ من اللذة” أجل، افرحوا وتهللوا لأنني آتي بكم إلى السماء. أنتم لا تفعلون ذلك لأجل خاطر إنسان، بل لأجل خاطر الله. كونوا إذن صابرين بعض الشيء، وسترون كم هي عظيمة أرباحكم. تحملوا في هذه الحياة الحاضرة؛ وستنالون ثقة لا يُنطق بها. لأننا إن كنا نخاطب أنفسنا هكذا. فلا نهتم فقط بأثقال الفضيلة، بل نفكر أيضًا في أكاليلها، لانسحبنا فورًا من مجالات عمل الشر. لأن الشيطان إن كان يخدعكم بلذة زائلة، فإنه يجلب عليكم آلامًا أبدية تدوم طويلاً، أما نحن فإننا إن كنا نتعب يسيرًا ونتألم قليلاً، فإن مسرتنا ونفعنا يدومان إلى الأبد.

فأي صفح نناله إن كنا بعد هذا التشجيع لا نعمل الصلاح؟! نحن نعلم أن أتعابنا وأعمالنا تكفي لمقاومة الشر، ونحن موقنون أننا نفعل ذلك لأجل الله. لأن الإنسان إذا علم أن الملك مدين له، يعتقد أنه في مأمن مدى حياته؛ إذ جعل الله المُنعم الأبدي مدينًا له. وهو عمل عظيم بما لا يُقاس، يفوق كل الأعمال الصالحة مهما صغرت أو كبرت.

فلا تتذرع بأنك مثقل بالمتاعب والآلام، عالمًا أنك بسبب رجاء الأمور العتيدة، ومعونة الله لنا في كل مكان – إذ سهل لنا طريق التقوى – يضع يده في كل عمل نعمله. فإن بذلتم ولو أقل جهد من الغيرة والحمية، لأصبح كل شيء بعده سهلاً. إذ جعلكم السيد المسيح تتعبون قليلاً أيضًا لهذا الغرض، لتظفروا بالنصرة. ومثلما يتوقع الملك حضور ابنه بين صفوف المحاربين، هكذا يسمح له أن يطلق سهمه ويضرب ليكون النصر حليفه. بينما الملك (الرب) يفعل كل شيء بنفسه. هكذا يفعل الله في حربنا ضد الشيطان، وهو يطلب منكم شيئًا واحدًا فقط: أن تظهروا كراهية صادقة ضد هذا العدو. فإن فعلتم أنتم ذلك لصالح الرب، فإنه ينهي الحرب كلها بنفسه.

حتى وإن اشتعل فيك الغضب، واشتهيت الغنى، وثارت فيك عاطفة الاستبداد والسيطرة، فإن رآك تتجرد بنفسك وتستعد للعدو، فإنه يأتيك سريعًا، ويسهل عليك كل شيء، بل ويرفعك الله فوق ألسنة اللهب والنار. مثلما فعل مع الفتية الذين طرحوا في أتون النار في بابل؛ أولئك الذين لم يحملوا معهم شيئًا في النار إلا مشيئتهم الصالحة. ولكي نطفئ نحن أيضًا أتون اللذة المضطربة هاربين من الجحيم المعد هناك، وحتى نجتذب إلينا إحسانات الله بمشوراتنا واهتماماتنا وأعمالنا الصالحة، وبمقاصدنا الكاملة في الأعمال الحسنة، وبصلواتنا كل حين، وإن بدت لنا بعض الأعمال أنها فوق الاحتمال الآن، فإنه سرعان ما يجعلها سهلة لطيفة هينة ومحبوبة للغاية. وطالما نحن تحت نير الشهوة، نظن أن الفضيلة بعيدة المنال ومرهقة وبالية. ونعتقد أن الرذيلة هي مشتهانا ومصدر مسرتنا البالغة، لكننا لو ابتعدنا قليلاً عنها، لظهرت لنا كريهة تعافها النفس، ولرأينا الفضيلة سهلة لطيفة ومشتهى نفوسنا حتى المنتهى.

وهذا ما يمكنكم أن تتعلموه من الذين عملوا أعمالاً صالحة؛ فمثلاً انصتوا إلى قول القديس بولس وكيف كان يخجل من شهوات تخلَّص منها: “فأي ثمر كان لكم حينئذٍ من الأمور التي تستحون بها الآن” (رو 6: 21)

لكنه رغم تعبه، كان يؤكد أن الفضيلة خفيفة، لهذا كان يدعو مشقة وتعب ضيقاتنا بأنها وقتية وخفيفة. وكان يتهلل في آلامه ويتمجد في ضيقاته ويتفاخر بالضربات التي يتلقاها لأجل المسيح (قابل 2 كو 4: 17، 12: 10، رو 5: 3، غلا 6: 17، كو 1: 24)

فلكي نثبت نحن أيضًا في هذه العادة، فلنضبط ذواتنا كل يوم بتلك الأقوال: “ننسى ما هو وراء ونتقدم إلى ما هو قدام، ونسعى نحو الغرض لأجل جُعالة دعوة الله العليا” (في 3: 13-14)، التي يهبها الله لنا بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للإنسان، الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين آمين.

Facebook
Twitter
Telegram
Ada apa
PDF
id_IDIndonesian
Gulir ke Atas