لا يوجد تشويه لمعاني الخدمة الليتورجيّة (القدّاس الإلهيّ) ومفاعيلها الخلاصيّة نظير ما تقرأه في كتابات بعض الفرق المسيحيّة، ولا سيّما المعمدانيّين. وهذا ما سنعتني بأن نبيّنه في ما يلي.
في كتابه “عقيدة المعمدانيّين ورسالتهم”، يرى هيرشل هوبس: أنّه “كان للكنيسة في العهد الجديد فريضتان، هما المعموديّة وعشاء الربّ، وكانتا تتمّان وفقاً لهذا الترتيب (أعمال 2: 41 و42). وكلتا الفريضتين ذات معنى رمزيّ لا سرّيّ مقدّس” (صفحة 133؛ أنظر أيضاً: فنلي م. جراهم، اللاهوت النظاميّ، صفحة 223 و295؛ ج. م.، كارول، تاريخ الكنائس المعمدانيّة، صفحة 18). ويخصّص “هوبس” العشاء السرّيّ، فيحدّد “العنصرين اللذين استُعملا فيه”، بقوله: “كانا الخبز الفطير ونتاج الكرمة” (م.ن.، صفحة 139؛ أنظر أيضاً: عوض سمعان، الكهنوت، صفحة 149). ويفسّر “نتاج الكرمة” بأنّه: “هو عصير عنب نقيّ غير ملوَّث بأيّ تخمير” (هيرشل هوبس، م.ن.، صفحة 140). وينكر على القرابين أن تقدّم للمشتركين فيها “أيّة فاعليّة للخلاص”، مبيّناً أنّ المعمدانيّين: “يؤمنون بأنّ العنصرين إنّما يصوّران رمزيّاً جسد المسيح ودمه” (م.ن.، صفحة 140 و141)، وأنّ المؤمن ينبغي أن يأخذ الخبز والكأس “لذكري” (م.ن.، صفحة 141؛ وأيضاً: بيلي غراهام، العالم يحترق، صفحة 158)، وأن يقوم بهذه “الفريضة” على “فترات محدّدة طيلة عمره” (هيرشل هوبس، م.ن.، صفحة 141؛ وأيضاً: فنلي م. جراهم، م.ن.، صفحة 303 و304). ويجاريه روبرت أ. بايكر بمزاعمه، ويزيد: “والرأي القائل إنّ المسيح يقدّم ذبيحة كلّما مورس العشاء يناقض مباشرة قول الكتاب إنّ المسيح مات مرّة واحدة (رومية 6: 10؛ عبرانيّين 7: 27)” (سير المعمدانيّين في التاريخ، صفحة 27 و28؛ وأيضاً: عوض سمعان، الكهنوت، صفحة 32 و80).
هذا هو، عموماً، مختصر تعليم المعمدانيّين المتعلّق بسرّ الشكر. غير أنّ الصفات المشوّهة تظهر بنعتهم الخدمة الإلهيّة بأنّها “سرّ سِحْريّ”، وليست “واسطة النعمة”، أو “السبيل للحصول على مغفرة الخطايا”، أو “الحياة الأبديّة”، وبأنّ سرّيّة الخدمة هي الأساس الذي “حوّل الاهتمام عن القلب إلى البطن” (روبرت أ. بايكر، م.ن.، صفحة 17، أنظر أيضاً: صفحة 27 و33؛ وعوض سمعان، م.ن.، صفحة 251 و252، 371- 379). وهذا يؤكّده “بايكر” الذي يرفض استحالة القرابين، ويرى أنّها دخلت مع الوثنيّين الذين اعتنقوا المسيحيّة. نقرأ: “إنّ معظم المهتدين إلى المسيحيّة في القرون الأولى كانوا وثنيّين بالغين. (…). ولذلك انتخب قادة الديانة الجديدة من رجال أمميّين معظمهم كانوا قد نشأوا في أحضان الوثنيّة. وبغير وعي، نقلوا معهم إلى المسيحيّة بعض الآراء والعادات الوثنيّة. وممّا لا ريب فيه أنّ تفسيرهم الفرائض المسيحيّة على أساس محيطهم الخرافيّ المادّيّ السابق هو الذي غيّر بسرعة فريضتي المعموديّة والعشاء الربّانيّ من فريضتين رمزيّتين روحيّتين إلى سرّين سحريّين” (م.ن.، صفحة 22؛ أنظر أيضاً: عوض سمعان، م.ن.، صفحة 246- 250، و259- 269). ويرى آخرون منهم أنّ “أسلوب (توما) الإقويني المزدوج بالاعتماد على العقل ثمّ على الإيمان، أدخل مبادئ فلسفيّة غريبة إلى العقيدة المسيحيّة، ولم يعتمد معايير العهد الجديد الكتابيّة لقياس كلّ عقيدة إيمانيّة. مثالاً على ذلك “عقيدة الاستحالة (transubstantiation)، أي تحوُّل الخبز والخمر في العشاء الربّانيّ إلى جسد المسيح ودمه بعينهما. ولقد استعار الإقويني هذا المبدأ من فلسفة أرسطو” (الموقف الكتابيّ، العدد 3). وأنّ هذه العقيدة أقرّها، العام 1215، البابا إنوسنت الثالث، في مجمع لاتيران (الموقف الكتابيّ، العدد 8؛ والعدد 14؛ ج. م.، كارول، م.ن.، صفحة 59).
يعوز الردّ على هذه المزاعم مجلّدات عديدة. ولكنّنا سنحاول دحض بعضها بما تبقّى من هذا المقال (1).
وسنوزّع ردّنا على خمس نقاط، هي:
- 1) الخدمة في العهد الجديد
- 2) اصنعوا هذا لذكري
- 3) الاستحالة
- 4) فاعليّة الخلاص
- 5) معنى أنّ المسيح مات مرّة واحدة
ولقد اخترنا هذه النقاط الخمس، لتجنّب تكرار ما قلناه في ردّنا على “السبتيّين” (2)، وتالياً لإظهار مخالفة هذه التعاليم المجحفة بوجوه جديدة.
1) الخدمة في العهد الجديد
لا يسمح المجال بأن نتكلّم، بإسهاب، على هذه النقطة. لكنّ بعض الثوابت تنفع لتبيان خطأ من نردّ عليهم، ودحض مزاعمهم.
لبّ تشويه المعمدانيّين أنّهم ينسبون إلى العهد الجديد ما لم يقله. فالخدمة الإلهيّة، عندهم، “رمز”، وهذه اللفظة لم ترد فيه، قطعاً، وصفاً للخدمة الإلهيّة ولأيّ سرّ آخر. وإذا عدنا إلى الترتيب، الذي يفترض “هوبس” أنّه وارد في (أعمال 2: 41 و42)، لا نجد دليلاً على مزاعمهم. وإذا كان قصده بالترتيب أنّ المؤمنين المعمّدين هم الذين يشتركون في عشاء الربّ (بمعنى أنّ المعموديّة تأتي قبل سرّ الشكر)، فهذا هو نهجنا، ولو أنّنا نخالف المعمدانيّين كثيراً في تعليمهم حول هذين السرّين، ويكاد لا يكون لنا وإيّاهم نقاط مشتركة. فالعشاء، عندنا، سرّ، لا بمعنى السحر المقيت الذين ينعتون به الخدمة جهلاً. لكن بمعنى أنّ الروح القدس، الذي يقود الكنيسة ويحقّق أسرارها (رومية 15: 16)، هو الذي ينقل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، ويعطي المؤمنين أن يتذوّقوا “الآن وهنا” طعام “الحياة الأبديّة” (أنظر: يوحنّا 6؛ المضحك أنّ عوض سمعان، في كتابه “الكهنوت”، يفسّر قول الربّ الوارد في يوحنّا 6: 54، “من يأكل جسدي ويشرب دمي له الحياة الأبديّة وأنا أقيمه في اليوم الأخير”، بقوله: إنّ المسيح “لا يتحدّث عن العشاء الربّانيّ، بل عن الإيمان بشخصه”، صفحة 253- 254). وفي قراءتنا العهد الجديد نجد أنّ الربّ جعل هذه الخدمة تذوّقاً للمائدة الأخيرة التي هي استباق لملكوت الله (متّى 26: 29؛ مرقس 14: 25؛ لوقا 22: 16- 18 و29- 30). هذا هو تأكيد الربّ. وعليه نبني كلّ تعليم قويم يبعد عن الخدمة كلّ رمزيّة. وذلك بأنّ الرمز يناقض الحقيقة التي كشفها يسوع بموته وقيامته. فالخدمة قبول لتدبير الله الآب يمدّنا إلى الآتي (1كورنثوس 11: 26)، أو يسقط الآتي علينا في حيّز هذا الوجود.
2) اصنعوا هذا لذكري
هذه العبارة، التي لفظها يسوع يوم تأسيسه “سرّ الشكر” (لوقا 22: 19؛ 1كورنثوس 11: 24)، لا تعني تذكّر حدث مضى بانقطاع عنه، أو العودة بالذهن إلى ما جرى في علّيّة صهيون. فالذكر، كتابيّاً، مرادف للآنيّة المستمرّة (أنظر مثلاً: خروج 12: 14، 13: 9؛ تثنية 16: 3). معنى ذلك أنّ الربّ، في هذه الوصيّة، لم يرد أن تذكر كنيسته ما جرى فحسب. لكن، أيضاً، أن تشارك فيه كلّما اجتمعت، وأن تلتقط بركاته في حيّز لقائها، على أنّه يتمّ، “الآن وهنا”، من أجل خلاصها. وهذا ما يخالفه المعمدانيّون بتفريغ الذكر من معناه. فهم يقزّمون المعنى الذي كشفه الربّ يسوع وتعيش ببركاته الكنيسة الملتقية حول جسده ودمه المباركين، أي يقزّمون “أنّ المسيح حوّل، في العشاء السرّيّ، النهاية إلى بداءة، والعهد القديم إلى جديد”. كلّ آيات العهد الجديد، التي ربطت بين المائدة والملكوت (ومنها: متّى 26: 29؛ مرقس 14: 25؛ لوقا 22: 16- 18 و29- 30)، هي أساس معنى الذكر. ومن يتتبّع، بانتباه، صلوات التقديس، في الخدمة الأرثوذكسيّة، لا يفوته أنّنا نتذكّر كلّ التدبير الإلهيّ بما فيه مجيء المسيح ثانيةً. وهذا من معانيه أنّنا، في الخدمة، لا نقعد حصراً إلى مائدة زمنيّة (ولو أنّها تتمّ في زمان ومكان معيّنين). لكنّنا نتربّع حول مائدة الله الأخيرة. والمعمدانيّون، إذا أحسنوا قراءة الآيات الإنجيليّة المذكورة في هذا المقطع، لا يشكّون في أنّ هذا المعنى هو قصد الكتاب.
3) الاستحالة
يتماهى المعمدانيّون، ولو جزئيّاً، مع رفض مارتن لوثر Martin Luther (1483- 1546) استحالة القرابين، أو “إظهارها”، باستدعاء الروح القدس وحلوله عليها، جسد المسيح ودمه، كما تنصّ خدمة القدّيس باسيليوس الكبير. ولوثر هو راهب ألمانيّ رفض بعض عقائد الكنيسة اللاتينيّة، وانشقّ عنها، وحرمه البابا لاون العاشر في 15/6/1520. ونجد أنّ عودة سريعة إلى تعليمه، المتعلّق بسرّ الشكر، تساعدنا على توضيح بعض أقوال المعمدانيّين في هذا السياق. وهذا لا يمنع الإشارة، قبلاً، إلى أنّ المعمدانيّين يخطّئون لوثر لاعتبارات عديدة، ومنها، في موضوعنا، اعتباره أنّ العشاء الربّانيّ سرّ، وأنّ المسيح يقدّم “بواسطة الخبز جسده الحقيقيّ، وبواسطة الخمر دمه الحقيقيّ (حضوره الحقيقيّ)”، وغيرهما. غير أنّهم جاروه برفضه الاستحالة. وفي الواقع أنّ لوثر، في سياق رفضه اللاهوت الكاثوليكيّ، ولا سيّما مفهوم “التحوّل الجوهريّ” أو “الاستحالة الجوهرية” (أي أنّ ما يتحوّل في الإفخارستيّا هو فقط جوهر الخبز والخمر، فيما أشكال الخبز والخمر تبقى على ما هي عليه)، استعمل، تجنّباً لاستعماله لفظة استحالة، ثلاثة أحرف (في، مع، تحت In, With, Under)، ليعبّر عن اتّحاد جسد المسيح ودمه بخبز القربان وخمره)، ليصبح، عنده، أنّ جوهر الخبز والخمر لا يتحوّلان، بل يضاف إليهما جوهر جسد المسيح ودمه. وهذا التعليم وذاك يأباهما اللاهوت الأرثوذكسيّ لأسباب عديدة. وسنبيّن بعضها بردّنا المباشر على المعمدانيّين.
أوّل تأكيد، لنا، أنّ “الاستحالة” (والأفضل “الإظهار” كما أشرنا أعلاه) لم تدخل الكنيسة بتأثير وثنيّ، وليست هي سحراً، أو وليدة القرن الثالث عشر، ولو أنّ المدرسة السكولاستيكيّة هي وراء مفهوم “التحوّل الجوهريّ”. فهذا نقض للحقّ وتزوير للتاريخ. الاستحالة يؤكّدها الربّ في العشاء السرّي، ويثبتها العهد الجديد الذي كشف أنّ الرسل، في اجتماعهم الأوّل، يوم العنصرة، كسروا الخبز (أعمال 2: 42). ما معنى هذا؟ معناه أنّ الروح القدس الحالّ عليهم هو الذي أرشدهم إلى هذه الخدمة التي تعطيهم أن يتيقّنوا أنّ الربّ الحيّ في وسطهم وفيهم، أي أنّ الروح نفسه هو الذي يحقّق الخدمة، و”يظهر” الخبز والخمر جسدَ المسيح ودمَهُ. وهذا ما أكده الرسول بطرس في رسالته الأولى، بقوله: “كيما تقرّبوا ذبائح روحيّة يقبلها الله عن يد يسوع المسيح” (2: 5).
فالإفخارستيّا، التي تأسّست في العشاء السرّيّ، تحقّقت في العنصرة، أي اكتملت بالروح، وأصبحت “روحيّة”. وهذا عينه ما تعتني الكنيسة بأن تتمّمه في كلّ خدمة تقيمها. وفي السياق عينه، لا بدّ من القول إنّ الكنيسة أدركت، بفعل الروح الإلهيّ، ما لا يدركه عقل، ولا يحتجزه منطق، وهو أنّ الروح الذي يعطيها جسد المسيح ودمه الحقيقيّين يجعلها، أيضاً، الكنيسة في حيّز هذا الوجود. فاللاهوت الأرثوذكسيّ، المستند إلى تعليم العهد الجديد، كشف أنّ القرابين المرفوعة إلى الله الآب يقبلها بروحه، ويردّها إلى رافعيها، ليغدوا هم جسد المسيح أيضاً. هذا ما أكّده الرسول بولس في غير موضع: “فلمّا كان هناك خبز واحد، فنحن على كثرتنا جسد واحد، لأنّنا نشترك كلّنا في الخبز الواحد” (1كورنثوس 10: 17)؛ وأيضاً: “فأقوم بخدمة المسيح يسوع لدى الوثنيّين وأخدم بشارة الله خدمة كهنوتيّة، فيصير الوثنيّون قرباناً مقبولاً عند الله قدّسه الروح القدس” (رومية 15: 16؛ أنظر أيضاً: رومية 12: 5؛ 1كورنثوس 12 و13 و20 و27؛ أفسس 2: 16، 4: 12؛ كولوسي 3: 15). الذي يتحوّل، في الخدمة، ليس فقط الخبز والخمر، بل الناس المبعثرون، الذين يلمّهم الله ويجمعهم بنعمته، يغدون هم كنيسة الله أيضاً.
مشكلة المعمدانيّين، الذين يستعملون الكتب المقدّسة ويدّعون أنّها مصدر تعاليمهم وحدها، أنّهم يسقطون عليها أفكاراً مسبقة، أي مشكلتهم أنّهم لا يستوحون تعاليمهم من الكتب، لكنّهم يلملمون أفكاراً رُفضت في التاريخ، ويتبنّونها، ويعتبرون أنّها، وحدها، الحقيقة، وأنّ كلّ ما هو غيرها خطأ وانحراف.
قبل الدخول في 4) فاعليّة الخلاص؛ 5) معنى أنّ المسيح مات مرّة واحدة, لا بدّ من التأكيد، بدءاً، أنّه ليس، في الواقع، من فرق جوهريّ بين معنى هاتين النقطتين. إذ ليس من خلاص ممكن لا يبنى على تدبير الله المحيي (أفسس 5: 2). ولكنّنا فصّلناهما للوقوف على المعنى الواحد من زاويتين لا تختلفان في شيء.
4) فاعليّة الخلاص
يعرف المعمدانيّون أنّ أحد تلاميذ الرسل، وهو القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ، قال في المناولة المقدّسة: إنّها “دواء الخلود” (روبرت أ. بايكر، سير المعمدانيّين في التاريخ، صفحة 25). وقوله الكامل هو: “تكسرون الخبزة الواحدة التي هي دواء للخلود، تقدمة معدّة لتحفظنا من الموت، وتؤمّن لنا الحياة الدائمة في المسيح” (رسالته إلى أهل أفسس 20: 2). ويعرف من قرأ كتاباتهم أنّ هذا القول يزعجهم كثيراً باعتباره، برأيهم، دخيلاً على المعنى الكتابيّ. أجل، المعمدانيّون يقرّون بأنّ الله هو مخلّص العالم، وأنّه خلّصنا ليس بما قاله فحسب، بل، أيضاً، بدم ابنه الذي سفكه على الصليب حبّاً بنا. خطأهم ليس هنا. خطأهم أنّهم ينكرون أن تقدّم القرابين للمشتركين فيها “أيّة فاعليّة للخلاص”. هم يعرفون أنّ الآيات، التي تتكلّم على محبّة الله وحمل ابنه خطايانا، هي عصب العهد الجديد. ولكن، ألم يقل المسيح لتلاميذه: “فهذا هو دمي، دم العهد يراق من أجل جماعة الناس لغفران الخطايا” (متّى 26: 28). هل تكلّم رمزيّاً، أو أنّه ضمّن القرابين معنى فدائه الأبديّ؟ المسيح لم يكن يتسلّى في عشائه الأخير!، بل كان واعياً كلّ ما سيحدث له. ولقد تكلّم من وعيه الذي يدلّ على قبوله مشيئة أبيه قبولاً كاملاً (متّى 26: 42). نحن لا ندّعي أنّ المعمدانيّين لا يفهمون هذا. ولكنّهم قرّروا أن يناقضوه! ولا يجهل القارئ المدقّق تأكيد الربّ، في إنجيل يوحنّا، أنّ جسده المبذول يعطي الحياة الأبديّة (6: 22- 58). وهل من خلاص آخر، أو فاعليّة أخرى للخلاص تقدر على أن تؤمّن ما تؤمّنه أسرار الكنيسة؟ وهذا التأكيد عينه هو مستند القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ المدوّن قوله أعلاه، ومستند الكنيسة في كلّ جيل.
5) معنى أنّ المسيح مات مرّة واحدة
كان يمكن أن نردّ على قولهم: “والرأي القائل إنّ المسيح يقدّم ذبيحة كلّما مورس العشاء يناقض مباشرة قول الكتاب إنّ المسيح مات مرّة واحدة”، بقولنا: هاتوا نصّاً واحداً قالت فيه المسيحيّة القويمة إنّها، في الخدمة الإلهيّة، “تذبح” ابن الله مرّة ثانية! ولكنّنا وعدنا بتبيان معنى عبارة “أنّ المسيح مات مرّة واحدة”.
من المعروف، بدءاً، أنّ هذه العبارة، أو مضمونها، وردت في العهد الجديد، في غير موضع (رومية 6: 10؛ عبرانيّين 7: 27؛ 9: 26 و28، 10: 2 و10؛ 1بطرس 3: 18). ومن غير المعقول أن تكون الكنيسة المقدّسة غضّت الطرف عن هذه الآيات جملةً، وبنت لاهوت الخدمة الإلهيّة على ما يخالفها. إذاً، لها، في الخدمة، قصد. ولا قصد لها إلاّ ما قصده ابن الله في إتمامه “التدبير الذي من أجلنا”. فبولس، في كلامه على هذا السرّ، قال: “فإنّكم كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تعلنون موت الربّ إلى أن يأتي” (1كورنوثس 11: 26). ومن تابع نصّ الخدمة، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، لا يشكّ في أنّها وعت أنّ المسيح نفسه هو “المقرِّب والمقرَّب والقابل والموزّع” (قابل مع 1بطرس 2: 5). فما يجري لا تجريه قدرة بشر، ولا يجري في حدود الزمن. لكن، وبكلام دقيق، “يتجاوز الزمن من دون أن يلغيه”. فالكنيسة المجتمعة، التي تستعيد لقاء الربّ ورسله في العشاء السرّيّ، لا تذبح المسيح مرّة ثانية. بل إنّما تؤمن بأنّ المسيح يحيي هو نفسه، معها وفيها، ما أسّسه في علّيّة صهيون. فالمسيح هو مخلّص العالم. وهذا لا يعني أّنه مخلّص الذين كانوا في زمنه، بل جميع الناس في كلّ زمان ومكان. هذا، في السرّ، يكشفه الروح على أنّه يتمّ، “الآن وهنا”، للذين جمعهم الله في “لقاء الأبد”. والمؤمنون المتّحدون يعلنون قبولهم “موت الربّ” في لقائهم، وفي كلّ لقاء. ولا يشكّ فاهم في أنّ الخدمة الإلهيّة، في لاهوت الكنيسة الأرثوذكسيّة، خدمة واحدة لا تتكرّر (وهذا يعني أنّ ذبيحة المسيح لا تتكرّر)، ولو أنّها تجري في كلّ أحد وعيد. هي خدمة واحدة يقبل الذين يجمعهم بركاتها موت الربّ المحيي وقيامته المجيدة كلّ مرّة يلتقون فيها. فلاهوت الخدمة مبنيّ على الحدث الخلاصيّ الواحد، ولا يضيف شيئاً إليه. وهكذا يقدر كلّ مؤمن، يجمعه هذا اللقاء، على أن يردّد مع بولس: “وقد صُلبت مع المسيح، فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ” (غلاطية 2: 19 و20). أي أن يقول إنّ المسيح، الذي أحيا العالم، أحياني أنا شخصيّاً، ويحييني، الآن ودائماً، بدمه. الخدمة الإلهيّة تجمع الأزل والأبد في آن واحد، وتحمل المشتركين فيها إلى مرتع المجد الذي هو صليب الربّ الذي قال فيه المسيح حبّه مرّة وإلى الأبد.
هذه الردود الثلاثة، التي نشرناها بتتابع، تختصر بعض ما تعلّمه الكنيسة الأرثوذكسيّة التي فهمت، بإرشاد الروح الحيّ، ما لم يفهمه الذين غرفوا من ماء التاريخ العكر، وتركوا الماء الحيّ المتدفّق، بغزارة، في ربوع الأسرار المقدّسة.
(1) من أجل معلومات أكثر راجع الأقسام التالية في الشبكة “المكتبة، الإيمان والعقائد، البدع والهرطقات”… (الشبكة)
(2) تجده في مكتبة الشبكة>> Ajaran sesat dan ajaran sesat>> Posisi kami mengenai Gereja Masehi Advent Hari Ketujuh… (الشبكة)