1- الأب بولس وصبر أحد الاخوة
بعد أيام قليلة اتخذنا طريقنا مرة أخرى بنشاط عظيم، يحفزه الرغبة في التمتع بتعاليم أكثر. فبلغنا إلى مجمع شركة الأب بولس حيث كان هناك أكثر من مائتي أخ. كانوا يحتفلون بعيد تذكار انتقال أب سابق كان رئيسًا على نفس الدير، وقد اجتمع كل الرهبان وتجمعات أخرى من رهبان مجمع آخر.
ذكرنا هذا الاجتماع حتى نتمكن أن نتحدث باختصار بخصوص صبر أحد الاخوة الذي كان يتميز بالثبات العظيم… فأنه عندما جلس جميع الرهبان في مناطق مختلفة بلغ عددها اثنا عشر غير القاعة الكبيرة المفتوحة، كان هذا الأخ قد أبطأ في إحضار طبق طُلب منه، فأسرع الأب بولس واخترق مجموعات الاخوة الذين كانوا يخدمون، وبملء كفه ضربه ضربة قوية، حتى أن صوت اللطمة بلغ آذان من كانوا معطين ظهورهم، والذين كانوا يجلسون بعيدًا.
أما الشاب ذو الصبر الملحوظ فتلقى الضربة بكل هدوء قلب، ولم يتفوه ببنت شفة (بكلمة) ولا أظهر أية علامة من علامات التذمر البسيطة على شفتيه، ولا تغير لون وجهه. إنما كان الاتضاع والسلام يرتسمان على شفتيه. قوبل هذا الموقف بإعجاب ليس منا نحن الذين أتينا من دير في سوريا حيث لم نتعلم الصبر بهذه الصورة الصارخة، بل وكان موضع دهشة الجميع… هكذا تعلم من هذه اللطمة حتى المتقدمون روحيًا درسًا نافعًا. لأن هذا التأديب الأبوي لم يزعج سلامه، ولا دفعه وجود الكثيرين إلى تغيير ملامح وجهه.
2- اتضاع الأب يوحنا
وجدنا في مجمع الرهبان هذا شيخًا متقدم الأيام جدًا يدعى الأب يوحنا، لا يمكننا أن نعبر على كلماته واتضاعه صامتين، لأن بهما فاق جميع القديسين… وقد علمنا عنه أنه كان جادًا في هذا الكمال (الاتضاع)، الذي يراه أُم كل الفضائل، وأساس البناء الروحي الراسخ. ومع هذا فقد كان كماله هذا غريبًا عن نظامنا. فلا عجب فإننا لم نقدر نحن أن نصل إلى علو هؤلاء الرجال، كما لم نقدر أن نحتمل تدريب المجمع لمدة طويلة، إنما بالكاد أمكننا أن نحتمل نير الخضوع لمدة سنتين… في هذه الفترة كنا خاضعين لمن هم أكبر منا ليس اضطرارًا بل بمحض اختيارنا.
حينما رأينا هذا الرجل المسن في مجمع الأب بولس، انتابتنا دهشة، أولا بالنسبة لشيخوخته وتقدمه في الأيام جدًا، وبسبب النعمة التي كانت تحيطه. وبنظرات مثبته تجاه الأرض بدأنا نستعطفه أن يوضح لنا لماذا ترك انطلاق الصحراء، ذلك العمل الممجد (أي حياة التوحد) حيث نال هناك صيتًا ذائعًا وشهرة فوق كل الذين كانوا يعيشون مثله في حياة التوحد.
سألناه لماذا اختار أن يدخل تحت نير المجمع، فقال لأنه لم يكن مستحقًا لحياة المتوحدين ولا مستوجبًا لعلو كمالهم، لذلك عاد إلى مدرسة الأطفال، حتى يتعلم فيها الدروس اللازمة…
ولما لم نقتنع بهذه الإجابة، رفضنا أن نقبل هذه الإجابة المتواضعة، وأخيرًا بدأ يتكلم هكذا:
3- سبب تركه الصحراء
نظام المتوحدين الذي تستغربون لتركي إياه، أنا لا أرفضه بل أحبذه وأنظر إليه بكل إجلال… فإنني بعدما قضيت 30 سنة في مجمع، سُررت بأن أقضي 20 عامًا أخرى في التوحد حتى لا أكون متراخيًا… ولكن نقاوة هذه الحياة – التي اختبرت منها القليل – كان يفسدها وجود بعض الأمور المادية، فكان من الأفضل لي الرجوع إلى المجمع… لبلوغ هدف اسهل مع خطورة اقل بدلا من اقتحام الحياة الأعلى للوحدة، لأنه من الأفضل تحقيق وعود صغيرة باهتمام عن وعود عظيمة مع الإهمال.
إن كنت أتحدث معكم الآن في شيء من الكبرياء، لكن بالحقيقة أتحدث في شيء من الحرية. أتوسل إليكم ألا تفكروا أن ما أقوله هو من قبيل المباهاة، لكن بالأحرى من أجل تثقيفكم، لأنكم سألتموني بشغفٍ شديدٍ، فلا يليق بي أن أخفي عنكم شيئًا من الحقيقة. وإنني إذ أكشف الحقيقة كما هي… أظن أنكم تتقبلون هذا التعليم بروح المحبة لا المباهاة…
4- بخصوص عظمة نظام التوحد
إذا كان أي إنسان يُسر بانطلاقه في البرية لينسى كل تعامل مع الناس، ويقول مع إرميا: “ولا اشتهيت يوم البلية، أنت عرفت” (إر16:17)، فإنني اعترف إنني بفضل بركات نعمة الرب عليّ قد تمتعت بهذه الانطلاقة. هكذا بعطية ربنا الرحيم، أتذكر إنني غالبًا ما تمتعت بهذا الانجذاب الروحي، حتى إنني كنت أنسى إنني متسربل هذا الجسد الضعيف. بغتة كنت أنسى كل الأفكار الخارجية، وكانت نفسي تنعزل عن كل الأمور المادية، حتى توقفت عيناي وأذناي عن عملهم الطبيعي. كانت روحي تتمتع بالتأمل المقدس والأفكار الروحية، حتى إنه غالبًا ما يأتي المساء وأنا لا أعلم إن كنت قد تناولت أي طعام اليوم أم لا. ويأتي اليوم التالي وأنا غير متأكد إن كنت قد أكلت البارحة بعد الصيام أم لا. كنت أضع مئونة سبعة أيام من الخبزات جانبًا ابتداء من يوم السبت لكي ما إذا انتهت المئونة أعلم أن الأسبوع قد انتهي وقد حان موعد الخدمة في يوم العيد (الأحد)…لكن كنت أحيانًا ألاحظ عدم تذكري للأكل عن طريق الخبزات الباقية…
الآن لنتغاضى عن مميزات البرية (لأن هذا ليس موضوعنا أن نعددها ونصنفها) بل بالأحرى أشرح الأسباب التي دفعتني لتركها حسب طلبكم. لكن في حديث سريع أشير إشارة عابرة بخصوص ثمار الوحدة التي ذكرتها ومميزاتها…
5- مميزات الصحراء (الوحدة)
عندما كان عدد القاطنين في البرية قليلين، كنا نتمتع بحرية واسعة في انطلاق النفس… وطالما كنا في الخلوة في عزلة أكبر، كنا مأخوذين بالسماويات المذهلة، ولم يكن عدد كبير من الأخوة يقوم بزيارتنا مما دعانا إلى ضرورة إظهار كرم الضيافة وهذا بالتالي ثقل أفكارنا في هموم كثيرة…
هذه الحياة التي يميل إليها قلبي، والتي تقارن بنعيم الملائكة جاء إليها كثيرون… مما حّد من حرية انطلاقة النفس في البادية الواسعة، وأطفأ من لهيب التأمل الإلهي المقدس، وتكبل الذهن بطرق مختلفة في قيود الأمور المادية، فقررت أن أوجه هدفي تجاه هذا النظام خير لي من أن أفتر في هذه الحياة السامية خلال اهتمامي بالأمور المادية (اللازمة للغرباء)…
يمكنني هنا (في الدير) أن أواسى نفسي بتنفيذ وصايا الإنجيل متجنبًا كل اهتمام بالغد، وعوض ما فقدته من سمو التأمل (في حياة الوحدة) يمكن تعويضه بالخضوع والطاعة. لأنه أمر شرير أن يدعي إنسان معرفة أي فن أو حرفة ولا يبلغ أبدًا إلى اقتنائها.
6- مميزات حياة الشركة
لذلك سأوضح باختصار ما أتمتع به هنا في هذا النظام من مميزات. ويجب عليكم أن تتأملوا كلماتي وتحكموا ما إذا كانت مميزات الصحراء تعادل هذه الراحة، ويمكنكم أن تتحققوا ما إذا كنت قد اخترت معيشة المجمع الضيقة اضطرارًا أم رغبة في نقاوة حياة الوحدة.
هنا لا يوجد انشغال بالعمل، ولا تفكير في شراء أو بيع ولا اهتمام بخصوص طعام السنة، ولا قلق حول الأشياء الجسدية، ليس من أجل احتياجات الراهب نفسه لكن من أجل أي عدد من الزائرين. وهنا أيضًا نحن غير معرضين للاستكبار بمديح الناس، الذي هو أشر شيء، وبسببه نخسر حتى الصلاح الذي نلناه بمجهود في البرية. وإن تجاهلنا الكبرياء الروحي أو المجد الباطل الفاسد التي قد تثور في حياة التوحد، نرجع إلى ذلك الثقل الذي لا يقدر أن يتخلى عنه أي شخص، أي الاهتمام بإعداد الطعام… إذ لم يعد الطعام كالمقياس القديم الدقيق حيث كان يعد الطعام بغير زيت… مكتفين طوال العام ببنت pint[2] زيت وقليل من العدس لأجل الزائرين، أما الآن فإن المتوحد يحتاج على الأقل إلى ضعف أو ثلاثة أضعاف تلك الكمية. هكذا تزايد التراخي في حياتهم حتى صاروا يخلطون الخل بالشوربة… ويكسرون الجبن بالزيت أكثر مما ينبغي من أجل مذاق لذيذ…
بمثل هذا الانحدار الذي هو التزايد في طلب الأمور المادية تحت مظهر كرم الضيافة والاهتمام بالغرباء، بدأ المتوحدون يحتفظون في قلاليهم بأغطية… منشغلين بالالتقاء مع الاخوة والاهتمام باستقبال الغرباء… وتكون النتيجة أن تُعاق حرية حياة المتوحدين بهذه الرباطات، فلا تكون لهم تلك الحذاقة القلبية القوية، وهكذا تفسد حياة الرهبنة…
7- سؤال بخصوص ثمار حياة الشركة وثمار البرية
الآن وقد صار واضحًا أنك لست مثل الكثيرين تلمس مجرد المظهر الخارجي لهذين النوعين من الحياة، بل اختبرت أعماقهما، لهذا نود أن تخبرنا ما هي غاية حياة الشركة؟ وما هي غاية حياة التوحد؟ لأنه ما من شكٍ في أنه لا يستطيع أي إنسان أن يناقش هذا الموضوع بصورة كاملة وقوية إلا من تدرّب على هذه الحياة لفترة طويلة.
8- الأب يوحنا
بالحقيقة إن الهدف من حياة المجمع أن يصلب الراهب جميع رغباته ويتمثل بالكمال… ولا يهتم بالغد. وواضح تمامًا أن هذا الكمال لا يبلغه الجميع بل راهب الشركة… ولكن كمال المتوحدين هو أن يُخلي ذهنه عن كل الأشياء الأرضية، وأن يربطه بالمسيح قدر ما يسمح ضعف الإنسان. ويصف النبي إرميا مثل هذا الرجل قائلاً: “جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ، يجلس وحدهُ ويسكت لأنهُ قد وضعهُ عليهِ” (مرا 27:3، 28). ويقول داود أيضًا: “سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح” (مز7:102).
9- عن الكمال الحقيقي
لكن هذا ليس بتمام الكمال، بل هو جزء منه. فالكمال بصورته التامة نادر، يمنحه الله لقليلين جدًا…لأن الكامل هو من يحتمل في صبر متاعب البرية (التوحد)، وفي نفس الوقت وبنفس الدرجة يقدر أن يحتمل ضعف الاخوة في نظام الشركة. لهذا من الصعب أن تجد إنسانًا كاملاً في كلا النظامين، ولو أننا نعلم أن الأب موسى والأب بفنوتيوس ومن على مثليهما قد بلغوا قمم الكمال في كلا النظامين. فمع كونهم قد توغلوا أكثر من الآخرين في الصحراء، ولا توقفوا عن التمتع بالانفراد في القفر، ومع أنهم لم يتحدثوا مع الآخرين إلا أنهم يحتملون حضور الآتين إليهم وضعفاتهم، حتى أن عددًا كبيرًا من الاخوة كانوا يبحثون عن هؤلاء الآباء ويستفيدون منهم، ويحتمل الآباء مشقة استقبالهم بصبر لا ينفذ…
لهذا ظن الناس أن جميع أيام حياتهم التي يقضونها لا يتدربون ولا يتعلمون شيئًا إلا كيف يستضيفون الذين يأتون إليهم…
10- عن الذين لم يبلغوا الكمال ويتوغلوا في الصحراء
لكن البعض يغريهم سكون الصحراء، ويبقون طوال اليوم كله يخشون التحدث مع الناس، وعندما يقطعون صمتهم بسبب زيارة أحد الاخوة لهم يرتفع قلبهم بالغضب وتظهر علامات المضايقة عليهم بوضوح.
هذا يحدث مع الاخوة الذين ألزموا أنفسهم بحياة الوحدة بهدف غير ناضج وقبل أن يتدربوا في المجمع تدربًا حسنًا. هؤلاء يكونون دائمًا غير كاملين، ويتقلبون سريعًا، تارة يميلون إلى ناحية وتارة إلى ناحية أخرى، ويمكن لعواصف التعب أن تهلكهم، وذلك بثورتهم وعدم صبرهم في محادثتهم مع الاخوة، كذلك بعجزهم في حياة الوحدة، فلا يحتملون السكون الذي يتدربون عليه (لأنه مبني على أساس غير سليم)…
11- سؤال عن معالجة الذين تركوا شركة المجمع
جرمانيوس: ما هو العلاج الذي يمكن أن يُقدم لمثل هؤلاء الضعفاء؟… هؤلاء الذين تعلموا القليل في نظام المجمع، لأننا نحن اشتقنا إلى حياة الوحدة قبل أن نتخلص من أخطائنا؟
أو كيف يمكن أن نحتفظ بفكر راسخ وصبر ثابت نحن الذين تركنا حياة الشركة في المجمع وأهملنا المدارس والأرض المهيأة للتدريب عليها تدريبا متقنًا؟
كيف يمكننا الآن ونحن نعيش منفردين أن نبلغ إلى قوة الاحتمال والصبر؟ أو كيف نكتشف إن كنا قد اقتنينا هذه الفضائل أم لازالت تنقصنا، لأننا لا نتحدث مع أناس ولا ننزعج من إثارتهم؟…
12- يوحنا
أولئك الذين يبحثون عن علاج شاف من طبيب الأرواح الحقيقي بالتأكيد سينالون طلبهم ولا يعوزهم شيء، خاصة الذين لا يتجاهلون حالتهم المرضية، ولا يخفون ما يلاحقهم من جرحهم، ولا يرفضون بقلوب عابثة تأديبًا للعلاج، إنما بقلب متضع وباهتمام يهربون إلى الطبيب السماوي من أجل شفاء أمراضهم التي لحقتهم عن جهل أو خطأ أو ضرورة.
هكذا يجب أن نعرف اننا إذا جنحنا إلى الوحدة أو الأماكن الخفية بدون أن نكون قد تخلصنا من أخطائنا، فإنها تُكبت في داخلنا ونشعر بها. لأن جذورها تكون مختبئة فينا أو بالأحرى تزحف فينا، بهذه العلامات نعلم أنها لا تزال تعيش فينا. مثال ذلك إن كنا نعيش منفردين في وحدة وتقبلنا زيارة بعض الأخوة بقلق، عندئذ نعرف انه لا يزال يحيا فينا دافع عدم الصبر. وإذا كنا ننتظر زيارة أخ، ولسبب ما تأخر قليلاً، فنلومه في داخلنا متضايقين، قلقين في انتظاره، فهذا يكشف لنا أن خطية الغضب ما زالت راسخة في داخلنا. أيضًا إذا سألنا أحد الاخوة كتابا يقرأه، أو أي شيء يستعمله، فضايقنا هذا الطلب، أو لم نستجب لطلبه فبلا شك نحن لا نزال نتعثر في شباك الطمع. وإذا خطر علينا فكر مفاجئ أو نصًا من الكتاب المقدس يذكرنا بامرأة، و نشعر أننا منجذبون نحوها، بجدر بنا أن نعلم أن نار الرذيلة (الشهوة) ما زالـت تعيش فينا. وإذا كنا نقارن دقتنا بتراخي إنسان آخر فثار كبرياء في فكرنا، فمن الواضح أننا مصابون بطاعون الكبرياء المُخيف.
عندما نكتشف علامات الأخطاء هذه في قلبنا، يلزمنا أن نأخذها كفرصة للإصلاح لا للحزن (اليأس) على الخطية التي تجردنا منها (لكن جذورها قائمة). وبالتأكيد هذه الانفعالات الداخلية متى وجدت الفرصة في سلوك الإنسان العادي تظهر في عقلنا الباطن، لا كأمرٍ جديدٍ خُلق في الحال، إنما هو كشف لما كان مختبئًا فينا لمدة طويلة.
هكذا فإنه حتى في الوحدة يمكن للإنسان أن يكتشف بعلامات واضحة جذور الخطأ المزروعة فيه، هذه التي يمكنه أن يخفيها عن الناس، لكنها لا تختبئ عن الله فاحص أسرار القلب.
13- سؤال: كيف يمكن للإنسان الذي توحد، بدون أن يتخلص من أخطائه، أن يُشفى؟
Germanius … لقد عرفنا كيف نكتشف الأخطاء المختبئة في داخلنا، لأن خبرتنا اليومية وعواطفنا المستمرة تكشف لنا عن جميع ما قد قيل، وإذ عرفنا أسباب أمراضنا وعلاماتها بطريقة واضحة وصريحة بقي لنا أن نعرف العلاج. لأنه لا يشك أحد في أنه يلزم على من يكتشف المرض من البدء بعلامات واضحة أن يعالجها. هكذا كشف لنا تعليم قداستكم عن غوامض جراحاتنا، ونحن نأمل في العلاج، لأنه من الواضح أن تشخيص المرض يعطي أملاً في الشفاء. لأنك كما تقول أن أسس الخلاص الأولى تُكتسب في حياة الشركة، وأن الإنسان لا يستريح في الوحدة ما لم يكن قد شُفي أولا بدواء الشركة.
14- يوحنا… يجب أن يكون العلاج بنفس الطريقة التي بها نكتشف الخطأ… فعندما يكتشف أي إنسان بهذه العلامات التي شرحناها سابقا أنه ينقصه الصبر أو عدم الغضب، يلزمه أن يتدرب على الأمور المضادة واضعًا أمام عينه كل العيوب والأخطاء، كما لو كان هناك شخص آخر يكشفها له. ويعّود تفكيره أن يزيل كل ما يجلبه عليه الشر في اتضاع تام. ويقدم لنفسه كل أنواع القسوة والأمور غير المحتملة… ناظرًا إلى عذابات جميع القديسين وآلام الرب نفسه. وبهذا يقتنع بأن كل أنواع التأنيب المختلفة والتأديبات أقل مما يستحق، وفي نفس الوقت لا يهيئ نفسه للكآبة (الغم).
وإذا ما استدعاه أحد لحضور اجتماع الاخوة، وهذا نادرا ما يحدث في البرية، ووجد أنه منزعج داخليًا… يلزمه أن يراقب عواطفه الداخلية ويدين نفسه عن أخطائه… موبخُا نفسه قائلاً: “يا رجل، يا صالح، هل أنت الإنسان الذي تدربت على الوحدة، وظننت أنك قد تخلصت من الصفات الرديئة، وعذبت نفسك بآلام وتأديبات لا تحتمل؟”
هل تصورت أنك قادر على الصمود أمام كل العواصف؟!
كيف انهزم صبرك الذي لا يُقهر في أول تجربة من مجرد كلمة بسيطة؟!
كيف اهتز بيتك من نسمة خفيفة، يا من تصورت أنه مؤسس على الصخر الصلد؟
أين هذا الذي كنت تقوله في وقت سلامتك بثقة غبية؟… “أنا مستعد ولست مضطربا”[3]. وما كنت تقوله مع النبي: “جرّبني يا ربُّ وامتحنّي. صفِّ (امتحن) كليتيَّ وقلبي” و”اختبرني يا الله واعرف قلبي، امتحني واعرف أفكاري. وانظر إن كان فيَّ طريق باطل، واهدِني طريقًا أبديًا” (مز2:26؛ 23:139، 24).
بمثل هذا التعنيف والتبكيت يمكن للإنسان أن يضبط نفسه، ولا يسمح لتجربة مفاجئة تقلب كيانه أن تعبر هكذا بدون تأديب. إنما يلزمه أن يتأدب بشدة بالصوم والسهر، معاقبًا نفسه من أجل جنوح الفكر…
[حاشية مرتبطة بالعنوان] ترجمة: نادية أمين.
[2] وحدة تساوى 125 درهم تقريبا.
[3] مز2:26.