قبيل نشوء الإسلام كان الكثير من العرب يشركون بالله، وكانت المسيحيّة منتشرة في قبائل العربيّة. ويبدو من الآثار الأدبيّة التي وصلت إلينا أنّ تأثير المسيحيّة في الأدب والشعر الجاهليّين كان كبيراً، بحيث أنّ الشعر الجاهليّ يكاد يخلو من الإشارات إلى العبادات الوثنيّة، وهو أقرب إلى التوحيد منه إلى تعدّد الآلهة. والمدهش أنّ الشعر الجاهليّ مليء بأسماء الله الحسنى التي عُرفت فيما بعد في الإسلام.
إنّ اسم الجلالة “الله” في اللغة العربيّة مركّب من لفظ “إله” مسبوق بأل التعريف “الإله”، فصار “الله”. أمّا علماء اللغات الساميّة فيجمعون على أنّ هذا الاسم مشتقّ من أصل آراميّ “إيل” مفخّم بزيادة الهاء. وقد جاء هذا الاسم الكريم في الكتابات المسيحيّة النبطيّة. ولمّا كانت المسيحيّة قد دخلت إلى الجزيرة العربيّة عن طريق بلاد الشام، شاع اسم “الله” فيها بفضل المسيحيّة. لذلك تكرّر هذا الاسم كثيراً وخصوصاً في الشعر الجاهليّ الذي كان معظمه لشعراء مسيحيّين. وسوف نعرض سريعاً بعض الأشعار التي تتحدّث عن الله وصفاته وأسمائه.
يقول الشاعر زيد بن عمرو:
إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا وقولاً رصيناً لا يني الدهرَ باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه إلهٌ ولا ربٌّ يكون مدانيا
رضيتُ بك اللهم ربّاً فلن أُرى أدين إلهاً غيرك الله ثانيا
ويقول الأعشى:
وذا النصُب المنصوب لا تسكنَّنه ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
وقال الشاعر أميّة بن أبي الصلت:
إلهُ العالمين وكلّ أرضٍ وربّ الراسيات من الجبال
تبرز أسماء الله الحسنى التي ورد ذكرها في القرآن في الشعر العربيّ الجاهليّ. وهذه الصفات قد عرفها المسيحيّون في عصر الجاهليّة واستعاروها من الأسفار المقدّسة من العهدين القديم والجديد. وهي تدلّ على وجود الله الواجب وقيامه بذاته وجلاله وعلمه وحكمته وغناه وأبديّته. ومن ذلك قول أميّة بن أبي الصلت:
لك الحمد والنعماء والملك ربَّنا فلا شيء أعلى منك مجداً وأمجدُ
مليكٌ على عرش السماء مهيمن لعزّته تعنو الوجوه وتسجد
عليه حجاب النور والنور حوله وأنهار نورٍ حوله تتوقّد
فلا بشرٌ يسمو إليه بطرفه ودون حجاب النور خلقٌ مويَّد
(تعنو الوجوه أي تخضع) وفي موضوع وحدانيّة وقدرته وبقائه وصمدانيّته وملكه المتعالي، يقول الشاعر نفسه:
سبحان ذي العرش سبحاناً يعادله ربّ البريّة فردٌ واحدٌ صمدُ
مسخَّرٌ كلُّ ما تحت السماء له لا ينبغي أن يناوي ملكَه أحدُ
ما يلفت الانتباه في هذا الشعر الذي قيل قبل الإسلام ما ورد فيه من صفات لله وأسماء له يردّد ذكرها القرآن في مواقع عدّة. وقد سمّاه أميّة مقدّساً وذا الجلال والباقي:
فكلّ معمّر لا بدّ يوماً وذي الدنيا يصير إلى الزوال
ويفنى بعد جدّته ويبلى سوى الباقي المقدَّس ذي الجلال
وفي السياق عينه يقول الشاعر زيد بن عمرو:
ألا كلّ شيء هالك غير ربّنا ولله ميراثُ الذي كان فانيا
وقد دعاه زيد أيضاً بالعزيز والواسع:
إنّ الإله عزيز واسع حكم بكفّه الضرُّ والبأساءُ والنِّعمُ
ومن بديع أبيات أميّة بن أبي الصلت قوله يصف خالق البريّة:
هو الله باري الخلقَ والخلقُ كلّهم إماءٌ له طوعاً جميعاً واعبدُ
وأنّى يكون الخلقُ كالخالق الذي يدوم ويبقى والخليقة تنفد
ونفنى ولا يبقى سوى الواحد الذي يميت ويحيي دائباً ليس يهمد
وهذا الشاعر نفسه يتحدّث عن الخلق ويصفه، وكأنّه يستعيد المزمور المائة والثالث الذي تقرأه الكنيسة في كلّ صلاة غروب، فينشد:
وسوّاها وزيّنها بنور من الشمس المضيئة والهلال
ومن شُهب تلألأ في دجاها مراميها أشدّ من النصال
وشقّ الأرض فانبجست عيوناً وأنهاراً من العذْب الزُّلال
وبارك في نواحيها وزكّى بها ما كان من حرثٍ ومال
ويصف زيد بن عمرو الله بالرحمن، فيقول:
ولكن أعبد الرحمن ربّي ليغفر ذنبي الربُّ الغفور
ما نستنتجه من هذه الأبيات هو أنّ أهل العربيّة قبل الإسلام لم يفُتهم شيء من معرفة الإله الحقّ، وقد تأثّروا بدون ريب بالمسيحيّة والمسيحيّين، وهذا ما نجده في أشعارهم وأقوالهم والألفاظ المستعملة في لغتهم. وتالياً، نستطيع القول بأنّ الجاهليّة لم تكن “جاهليّة” مطلقة، بل كان فيها الكثير من الإطلالات الإلهيّة على البشر.
عن نشرة رعيتي 2001