الأصوام الكنيسة الكبرى التي حدّدتها الكنيسة المقدسة أربعة، وهي:
- صوم الفصح (وهو الاكثر شهرة وممارسة عند مسيحي بلادنا)
- صوم الرسل (يبدأ بعد عيد العنصرة بثمانية ايام وينتهي بعيد الرسلين بطرس وبولس في 29 حزيران).
- صوم السيدة (من 1 الى 15 آب).
- صوم الميلاد (مدته 40 يوما تنتهي بعيد اليملاد).
تاريخية الصوم:
يعود تاريخ التعييد لميلاد الربّ بالجسد، في بعض الكنائس الشرقيّة، إلى أواخر القرن الثاني، بحسب ما ورد في بعض النصوص للقدّيس اكليمنضس الإسكندريّ أوّل من ذكر هذا العيد. هذا التعييد كان يتمّ في يوم عيد الظهور الإلهيّ في السادس من شهر كانون الثاني. استمرّ ذلك إلى القرن الرابع؛ والقرن الخامس في كنيسة الإسكندريّة. استند الاحتفال بهذين العيدين في اليوم ذاته إلى ما ورد في إنجيل لوقا 3: 23، مباشرة بعد معموديّة يسوع من يوحنّا في الأردن، “ولمّا ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة”. من هنا افتُرض أنّ يسوع اعتمد من يوحنّا في اليوم ذاته الذي وُلد فيه بالجسد قبل ثلاثين سنة. أمّا كنيسة روما فكانت تعيّد لميلاد الربّ بالجسد، لكن في الخامس والعشرين من شهر كانون الأوّل. أقدم شهادة على ممارسة كنيسة روما تعود إلى العام 336.
شهد القرن الرابع اعتماد التاريخ الغربيّ في الشرق لعيد الميلاد، وقد تمّ ذلك في أنطاكية خصوصاً بمبادرة من القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم. دخل هذا التاريخ أيضاً كبادوكيا على زمن القدّيس باسيليوس الكبير(+379)، والقسطنطينيّة على زمن القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ (379-385)، وأورشليم السنة 431. يبدو أنّ التاريخين الأوّلين لتعييد الميلاد في الشرق والغرب ارتبطا بأعياد وثنيّة. في الغرب كان الخامس والعشرون من شهر كانون الأوّل يصادف في يوم عيد ميلاد الشمس الوثنيّ؛ بينما في الشرق كان السادس من شهر كانون الثاني يصادف في يوم عيد الميلاد العذريّ للإله ديونيسوس. فكان اختيار هذين اليومين في سبيل محاربة التأثير الوثنيّ على المؤمنين المسيحيّين، وخصوصاً الممارسات التي كانت ترافق الأعياد الوثنيّة (كالحفلات والسكر والدعارة).
نجد في القرن الرابع فترة تهيئة (صوم) لعيد الظهور الإلهيّ مدّتها ثلاثة أسابيع، وذلك عند القدّيس هيلاريون أسقف بواتيه، وبعد ذلك في مجمع ساراجوسا في إسبانيا. في الإسكندريّة يذكر القدّيس ثيوفيلس الإسكندريّ صوماً ليوم واحد في هذه المناسبة، وذلك في نهاية القرن الرابع. امتدّت هذه الفترة حتّى أصبحت أربعين يوماً (تشبّهاً بالصوم الكبير) في القرنين الخامس والسادس، وارتبطت في هذين القرنين بعيد الميلاد. ومن هنا عُرف أيضاً بصوم القدّيس فيلبّس الرسول لأنّه أصبح يبدأ في 15 تشرين الثاني، أي مباشرة بعد عيد القدّيس فيلبّس (14 تشرين الثاني). في بعض الأماكن أصبحت العظات، في الآحاد التي تسبق عيد الميلاد، تكرّس لموضوع العيد. بربيتيوس أسقف مدينة تور في فرنسا (461-490) يذكر صوماً يسبق عيد الميلاد ويبدأ في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني. انتقلت هذه الممارسة إلى بعض الكنائس الفرنجيّة الأخرى في مجمع عُقد السنة 581.
بقيت هذه الممارسة (الصوم والتهيئة) محلّيّة وغير موحّدة، غير أنّها انتشرت خصوصاً في الأوساط الرهبانيّة في أديرة سوريّة وفلسطين خلال القرن السادس. نجد في هذه الفترة تبايناً كبيراً في ما يختصّ بتبنّي مختلف أعضاء الكنيسة لصوم الميلاد. غير أنّ الكنيسة رأت في هذا الصوم منفعة روحيّة كبيرة وقصداً إلهيّاً ملهماً من الروح القدس (القدّيس يوحنّا الدمشقيّ) فحاولت تعميمه على كلّ أعضائها. في هذا الإطار لم يعرف صوم الميلاد الصرامة التي للصوم الكبير بل كان منذ البدء مثلاً يُسمح فيه للرهبان الذين يعملون خارج بناء الدير أن يتناولوا وجبتين في اليوم (ظهراً ومساءً) وليس وجبة واحدة فقط، وكان يسمح أيضاً بأكل السمك باستثناء يومَي الأربعاء والجمعة (الأصوام في البدء كانت تتبع نظام وجبة واحدة فقط يوميّاً عند المساء مع امتناع عن الحيوان ومنتوجاته). الممارسة الحاليّة تسمح بثلاث وجبات لمن يريد.
أهمية صوم الميلاد:
إنّ هذا الصوم ملزم لمن وعى التزامه وكان قادراً، جسديّاً على ممارسته. فقبول الأصوام، في المسيحيّة، ليس استنسابيّاً. هذا يعطينا أن نعي أهمّيّة ارتباطنا بالأبرار الذين سبقونا وببرّهم، وأيضاً يعطينا أن نختبر أنّنا معاً فقراء إلى الله ومشدودون إلى ميلاده المجيد الذي نرجو حدوثه في قلوبنا.
بالاضافة الى بعض الايام المتفرقة التي نعفّ فيها عن أكل الزفَرَيْن (اللحوم والبياض) وهي يوما الاربعاء والجمعة من كل اسبوع (باستثناء الاسبوعين اللذين يليان الفصح والعنصرة، وما بين عيد الميلاد وبرامون الظهور الإلهي، والاسبوع الذي يلي احد الفريسي والعشار)، عيد رفع الصليب الكريم (14 ايلول)، ذكرى قطع رأس السابق يوحنا المعمدان(29 آب). وكأن هذه الأصوام مجتمعة تشير الى طبيعة الكنيسة الارثوذكسية التي تتطلع الى الانسان بكلّيته نفسا وجسد، إنها صائمة في العالم وعنه وشاهدة لملكوت الله الذي ليس هو “طعاما وشرابا” وقداستِهِ الآن وهنا.
قلة من المسيحيين اليوم هم الذين يرتضون الصوم نمطَ حياةٍ، هي واحدة من الإشكالات العديدة التي قد لا يُبَرّأ احد إن وقع فيه، والتي تبريره، في أغلب الاحيان، دليل برودة في الالتزام او تغرُّب كبير. اول ما يلفتنا في العظة على الجبل (متى، الإصحاحات 5، 6، 7) هو تعليمُ الرب المركَّز وتحذيرُهُ الكنيسة الفتيّة من السقوط في الوثنية المتمثلة في محبة المال والطعام واللباس، مما جعل أن يكون شرط تبعيّة المسيح هو ترك “كل شيء” في هذا العالم، وابن الانسان “ليس له موضع يسند اليه رأسه”، فإن من شاء أن يكون مع المسيح اختار المسيح ومشيئته حياتَهُ كلها.
يرتضي بعض الناس صوم الفصح، او قسما منه، لأنه يحملهم على تذكُّر السيد الذي تألم ومات عن، ويصومون هم لأنهم يريدون أن يعبّروا بطريقة الجوع – الذي هو صورة عن الموت – عن مشاركتهم في هذا الألم، وقد يكون سببُ تجاهلم الأصوام الاخرى تجاهلا تام، على الغالب، اعتقادهم بأنها غير مرتبطة بهذا الحدث. واذا تركنا الطاهرين على حدة يمكننا القول – من دون أن ندين احدا – إن الناس تجنبا لوخز الضمير يلتزمون بأحد الأصوام او ببعض ايام منه. نعم، الكثيرون يصومون رغبة بالتألم، والصوم فرح وحرية. هو فرح إن استطت أن تقبله كمرقاة الى الآب او ك”خلوة”، كما يقول السيد في العظة على الجبل “امّا انت متى صمت…لا تظهرْ للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء” (متى 6: 17 و18). ففي هذا الخفاء يراك الرب في جواره، انت تصعد او هو ينزل لا فرق، حضوره معك هو كل الفرح. والصوم حرية، لانه يعتق الذين يتقبّلونه من شهوة الجسد. فلنلاحظ، ليس الصائم هو عبدا للجسد بل المكبَّل بشهوة الطعام هو العبد، الصائم حرّ طليق يعلو عمّا هو ارضيّ لا كرها به بل حبا بالوصية وطاعةٌ لها. وهذا عينه ما اعتنى أن يقوله أدبنا النسكيّ عندما وصف الصلاة والصوم بالجناحَيْن اللذين يساعدان المؤمن في التحليق والارتفاع الى الله.
ربّ قائل إن الصوم غايته الأعياد التي تُنهيه، قد يكون هذا الرأي – اذا اخذنا بعين الاعتبار الاسباب التاريخية التي أدت الى ارتباط الأصوام بالأعياد – على شيء من الصحة.غير ان غاية واحدة، بلا شكّ، تجمع الأصوام كلّها وهي الرغبة في الاتحاد بالله. ولأجل هذا نادى قديسنا العظيم يوحنا الذهبي الفم بالصوم بعد انتهاء الصوم، وذلك لأن الصوم وإن انتهى بأحد الأعياد الا أن شهادتَنا لله ومحبتِه ِ وموقفَنا من العالم ثابتان لا ينتهيان ولا يتغيّران.
صوم الميلاد – على سبيل المثال – لا ينتهي معناه بحلول عيد الميلاد، لأن كل الجهادات الروحية التي يعملها المؤمن الحقيقي تنتهي عندما لا يبقى شيء يُنتظر، اي عندما يصبح الله ” الكل في الكل”، وذلك لأن مجيء الله الى العالم ليس حدثا وقع مرة في التاريخ ومرّ عليه الزمن فطواه. إن الرب أتى وهو الآتي، هذه هي فرادة المسيحية انها تقيمنا في شركة مع الله الآن وهن، وتجعلنا من جهة اخرى في حالة انتظار مستمرة له حتى يكتمل كل شيء في أبدية نرجوها. وهذا يعني أنّ ارتضاءنا حضور الرب لا نعبّر عنه فقط خلال اربعين يوما نقضيها في شكل روحيّ خاص تنتهي بالتعييد، ولكنا في ما نحن ننتظر الرب في مجيئه الأخير نعلنُ – في صوم الميلاد- اننا قابلون ميلاده المجيد ومجيئه دائما. كيف يمكننا أن نصرّح بأننا راغبون بأن يحلّ ملكوت الله الأخير إن لم نرتضيه ذاته ونتهيأ لبدء إعلانه؟
بيد أن الرب الذي “يأتي كلصٍّ في عشية حياتنا ويأتي كغالب وديان في اليوم الاخير هو نفسه يقف على أبواب قلوبن، كما قال يوحنا الحبيب في رؤياه: “هاءنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب ادخل اليه وأتعشى معه وهو معي ” (3: 20)؛ هذه الكلمات الأخيرة تكشف لنا رغبة عند الرب ثابتة لا تتغيّر لأن يكون معنا ونكون له. الروح القدس وحده هو الذي يعطينا أن نتحسّس هذه الرغبة الإلهية في جلسات الودّ. صوم الميلاد واحد من هذه الجلسات الذي نستطيع فيه أن نتمم صَبْوَنا الى حضور الله الدائم والأخير.
بتصرف عن نشرة رعيتي
الأحد 25 تشرين الثاني 2001 العدد 47
والأحد 17 تشرين الثاني 1996 العدد 46