الحروب الصليبية
1098-1204
وليس لنا أن نبحث في آثار الصليبيين الفنية الكنسية في هذا التاريخ العام ولا أن نصف جميع الكنائس الصليبية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا (تاريخ وضع المؤلَّف) في بعض أبرشيات أنطاكية لأن وصفها يتطلب استعداداً فنياً خصوصياً لسنا من أهله. وجل ما نريده هو أن نذكر أهم الكنائس الصليبية القائمة وأن نخص دير البلمند بكلمة مفصلة نظراً للمكانة التي يحتلها في قلب كل أرثوذكسي أنطاكي.
وأهم الكنائس الصليبية التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا في أبرشيات أنطاكية كاتدرائية طرطوس وكاتدرائية جبيل وكاتدرائية بيروت. وبدأ الصليبيون بإنشاء كاتدرائيتهم في طرطوس بعد السنة 1123 فأقاموها فوق مزار السيدة والدة الإله الذي فاخرت به طرطوس منذ أوائل المسيحية وادعت أنه أول كنيسة أُنشئت باسم السيدة. وأنشأوا في جبيل في السنة 1115 كنيسة باسم يوحنا المعمدان. ولا يزال نصفها الشرقي الشمالي قائماً حتى يومنا. أما نصفها الغربي فإنه انهدم فأعيد بناءه في العصور الحديثة. وبابها الشمالي حديث العهد أما الجنوبي فإنه من أثار القرن الثاني عشر. وقبة المعمودية صليبية أيضاً وتعود في الأرجح إلى حوالي السنة 1200. وأمر بودوان ملك أورشليم ببناء كنيسة كبيرة في بيروت على طراز الكنائس اللاتينية. فبدأ إنشاؤها في السنة 1113 وانتهى في السنة 1150. وشيدت على اسم القديس يوحنا المعمدان على شكل مصلب ذي ثلاثة أسواق. “لوما قَدَّرَ الله بنزع بيروت من يد الإفرنج استقرت كنيستهم جامعاً. وكانت تعرف عندهم بكنيسة مار يوحنا. وكان بها صور فطلاها المسلمون بالطين وبقي الطين إلى أيام الجد فبيّضه وأزال آثار تلك الصور. وكان المسلمون يجتمعون لصلاة الجمعة فلم يكلموا في بعض الأوقات أربعين شخصاً” (تاريخ بيروت لصالح ابن يحيى، ص 58. والجد المشار إليه هو جد صالح في أواخر القرن الرابع عشر).
والإشارة في هذا كله إلى الجامع العمري الكبير. وقد بقي عند بابه الشرقي بقرب المدخل كوة مكتوب فيها باليونانية: “إن صوت الرب على لامياه”.
وفي الثلاثين من أيار من السنة 1157 تولى رهبان القديس برناردوس المعروفون بالكيستركيين بناء دير على التلة المشرفة على البحر وبين أنفة والقلمون. وجعلوه على اسم البتول الطاهرة سيدة بلمونت Abbatia Belimontis. وهو لفظ لاتيني منحول من كلمتين معناهما الجبل الجميل. وتم البناء فيما يظهر في السنة نفسها التي استولى فيها الصليبيون على قيصرية فيليبوس (بانياس) أي في السنة 1169. وخص أساقفة روما هذا الدير بعنايتهم فأصدروا باسمه عدداً من البولات الرسمية منها بولة غريغوريوس التاسع في السنة 1238 وبولة انوشنتيوس الرابع في السنة 1250 وبولة اروبانوس الرابع في السنة 1262. ويظهر من هذه البولات أن دير البلمند كان أكبر أديار الإفرنج في إمارة طرابلس وأنه في منتصف القرن الثالث عشر كان خاضعاً لأسقفية بيروت. ومن رؤسائه الأولين بطرس الألماني. وهنالك إشارات إلى الأخ اسطفانوس وإلى الأخ سمعان الطرابلسي. وخرج الرهبان اللاتين منه في السنة 1289 ولعلهم ذبحوا ذبحاً.
ويرى الأثري الكبير الاختصاصي في الفن الصليبي كميل انلار أن بناء الدير الصليبي قام في الأرجح على آثار بيزنطية أقدم منه ويستدل على ذلك بدليلين أولهما تخطيط كنيسته ووجود تاج عمود بيزنطي في البناء والثاني خروج رهبان برناردوس عن المألوف عندهم وتشييد بنائهم هذا على ارتفاع مئتي متر عن سطح البحر. وكنيسة سيدة البلمند تتجه نحو الشرق الشمالي وتتضمن حنية كبيرة وسوقاً واحداً ومذبحاً واحداً. والاكتفاء بمذبح واحد خروج على تقاليد هؤلاء الرهبان الرجال.
ويلاحظ أن اعتماد العلامة أنلار رواية الأب ملاتيوس وقوله أن الدير أُعيد إنشاؤه منذ أربعمئة سنة جاء ضعيفاً. فقد رأى صديقنا (أي صديق الدكتور أسد رستم) المرحوم جرجي يني في دير البلمند كراساً قديماً بخطوط كثيرة تدل على افتتاح الدير مجدداً في السنة 7111 لآدم وهي تعادل السنة 1603 بعد الميلاد. ومن هنا في الأرجح قول مكاتب المنار أن الدير بقي خراباً حتى السنة 1603 وأن يواكيم ابن الخوري جرجس متروبوليت طرابلس جدد بناءه. ويلاحظ أيضاً أن لا قيمة لقول البطريرك الدويهي أن اللفظ بلمند مشتق من اسم الأمير بوهيموند صاحب طرابلس الذي أنشأ هذا الدير منتزهاً له في السنة 1287. فبوهيموند هذا قضى السنوات الأخيرة من عهده منحصراً في طرابلس لا يستطيع الخروج منها لما كان يلاقيه من مضايقة على يد قلاوون. وبوهيموند توفي منكمشاً في طرابلس في التاسع عشر من تشرين الأول سنة 1287.
ويلاحظ هنا أن بعض ما يرى من نقوش وتيجان أيونية وكورنثية ومعظم الرخام المفروشة به ارض كنيسة القديس جرجس وقفه المشايخ آل زخريا حامات في حوالي السنة 1840 ونقلوه بحراً إلى البلمند من آثار كنيسة قديمة كانت لا تزال باقية قرية حنوش بالقرب من حامات وعند ساحل البحر.
ولعل هذه الآثار هي من بقايا مدينة كوشار البيزنطية. ولا يزال اسم كوشار يطلق على مضيق صغير يؤدي إلى قرية حنوش.
شاهد لقاء للأب اسحق بركات يتكلم فيه عن دير البلمند