إخوتي وآبائي
في الموعظة السابقة، كنا نناقش ماهية السهر على النفس وقد تركنا موضوعنا ناقصاً لكي نتلافى إطالة الحديث. والآن، في هذه الموعظة، نجيء إلى دفع دين الحديث المتوجب علينا لكم. فنحن في هذه المسؤولية من أجل هذا الأمر ونحن ملزمون دائماً بإمداد محبتكم ما هو مستحق[1] من الكلمة.
ما هو الانتباه للنفس والسهر عليها كما ذكرنا سابقاً؟ أن ينتبه كلٌ إلى نفسه يعني التالي: “أن يقول لنفسه “هل هناك أي شهوة لا تسود عليّ؟ لأني كما أسمع في الكتاب المقدس، أن ذاك الذي له شهوة واحدة لا يدخل ملكوت السماوات. لأنه مكتوب “لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرماً في الكل”. وبالشكل نفسه، الانتباه للنفس يعني أن يقول المرء لنفسه “أما أهملت هذه الوصية و تلك؟ ألست مستخفاً بها، ألا أتجاهلها ولا أطبقها؟” لأن ربنا المسيح يقول: “لا يزول حرف واحد ونقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل”[2]. أيضاً هو يقول: “فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلّم الناس هكذا يُدعى أصغر في ملكوت السماوات”[3].
ولكن ينبغي أن نكون أكثر انتباهاً حين تُقرأ الكتابات المقدسة. فعلى المرء أن ينظر إلى نفسه ويفتكر في داخله كما في مرآة [4]. في أي حال هي نفسه؟ ماذا أعني؟ فيسمع الرب قائلاً: “توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات”[5]. عندها عليه أن يتذكر كيف يقضي أيامه. إن كان تائباً فعلاً فهو سوف يضاعف عمله ويطيله، أما إن كان متوانياً فهو سوف يصحح طرقه.
وأيضاً هو يسمع الرب قائلاً: “طوبى للمسكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات”[6]. عندها عليه أن يمتحن نفسه[7] في كل فرصة عن تواضعه، أعني عندما أُهين وأُذل وعومل بازدراء. عليه أن ينظر إلى نفسه هل عنده فضيلة التواضع أم لا، لأن من امتلكها يحتمل كل الأشياء بدون ألم وانزعاج. ما من شيء يجرح قلبه إن حصل له. أما إن تأثر قليلاً من ذلك دون أن يتأذى، فعلى العكس إنه يحزن في ذاته ويعتبر نفسه غير مستحق بسبب ذلك الجرح في قلبه، لأنه حزن بدل أن يتقبل ما جرى له بفرح. إنه يحزن ويندب عندما يدخل إلى مخدع[8] نفسه وإلى قلايته. فهو ينطرح أرضاً أمام الله ويعترف له وكأنه خسر حياته كلياً.
عندها أيضاً يسمع: “طوبى للحزانى”[9]. لاحظوا أن الرب لم يقل “الذين حزنوا” إنما “أولئك الحزانى بشكل ثابت ومستمر”. هنا أيضاً علينا أن نفحص إن كنا نحزن كل يوم. لأننا إن تذللنا من التوبة فمن الواضح أنه لن يمر علينا يوم واحد وليلة واحدة بدون دموع وبكاء وندم.
وأيضاً: “طوبى للودعاء”[10]. هل هناك من يحزن كل يوم ويستطيع أن يستمر في حالة من الغضب من دون أن يكتسب الوداعة؟ فكما الماء تطفئ النار، كذلك غضب النفس يطفؤه الحزن والدموع. وهكذا يرى مَن كان غضوباً منذ زمن طويل أن مزاجه تغيّر وتحوّل إلى هدوء شامل. عندها على المرء أن ينظر إلى نفسه في هذه الطريقة أيضاً ليرى إن كان فعلاً وديعاً. مَن هو على هذه الحال لا يستطيع أن يرى انتهاك وصايا الله، إنما ينوح على الذين يرتكبون الخطيئة وكأنه هو مَن ارتكبها.
وبالطريقة نفسها، على المرء أن يمتحن نفسه إن كان يجوع ويعطش إلى البر[11]. فمن الممكن أن يبحث المرء فيجد شخصاً باراً لكنه لا يجوع ولا يعطش إلى البر. الله هو البار[12] تماماً كما تسمعون اسمه “شمس البِر”[13]. هكذا هو مَن يجوع ويعطش اليه، فهو يحسب العالم كله والأشياء التي فيه خسارة[14]. أما شرف الأمراء فهو يعتبره خزياً ولا ينظر إلى الأمجاد البشرية.
ومرة أخرى “طوبى للرحماء”[15]. مَن هم الرحماء إذاً؟ هم أولئك الذين يعطون مال و يطعمون الفقراء؟ لا. إذاً من هم؟ هم الذين افتقروا من أجل الرب الذي افتقر لكي نستغني[16]. ليس لديهم ما يعطونه لكنهم منتبهين بشكل دائم للفقراء والأرامل واليتامى[17]، إضافة إلى المرضى. فهم يشفقون عليهم ويذرفون من أجلهم دموعاً حارة لأنهم يفتقدونهم دائماً. هكذا هم مثل أيوب عندما قال: “ألم أبكِ لمَن عسر يومه”[18]. إنهم يعطونهم بسخاء[19] وفرح عندما يمتلكون أي شيء، وأيضاً بسخاء يذكرونهم بالأشياء النافعة لخلاص نفوسهم، بإطاعة الذي قال: “وما تعلمته بإخلاص أشرك فيه بسخاء”[20]. هؤلاء هم الذين يطوبهم الرب. هؤلاء هم الرحماء حقاً، لأنهم من هذه الرحمة يتسلقون، كما على سلم، للوصول إلى طهارة النفس الكاملة.
وبعد هذا وعلى الأساس نفسه، يطوّب الرب أصحاب القلوب النقية بقوله: “طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله”[21]. إن لم تصل النفس إلى هذه الوضعية، لن تستطيع الوصول إلى الحزن المستمر ولا إلى الوداعة الكاملة، ولن تعطش الى البِر، وفوق هذا لن تكون كمرآة. هذا ما يعرفه ربنا وصاحب الشريعة. وفوق هذا، إن فشلت النفس في أن تكون على هذا الحال فلن تعاين وجه السيد بنفسها. إذ إن النفس التي وصلت إلى هذه المرحلة ترى الله في كل وجه وتتصالح معه[22]. فالسلام يعم بين ربنا وخالقنا من جهة والنفس التي كان تعاديه فيما مضى من جهة أخرى. وبالتالي يطوّبها الرب لأنها صنعت السلام، إذ إنه يقول “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون”[23]. فهم قد تصالحوا مع الذي أتى ليمنح السلام للبعيدين والقريبين[24]. لقد أتى إلينا نحن الذين كنا أعداء[25] ليصالحنا مع أبيه وليجمع المتباعدين إلى واحد[26] وليمنحنا روحه القدوس. واضح إذاً أن الذين يرون الله هم فعلاً مصالَحين معه، إذ أنهم وجدوا السلام الذي كانوا يتوقون إليه وأصبحوا أولاداً لله[27]. “الله الذي يبرر. من هو الذي يدين”[28]. ولكن إن كنت تبغض أخاك الذي تراه، كيف تستطيع أن تحب الله الذي لم تبصره؟[29] إن كنت لا تستطيع أن تحب الله، ولا ترغب في ذلك، فهذا يعني بوضوح أنك لم تتصالح معه. إذاً أيها الإخوة فلنتشوق “من كل نفوسنا”[30] إلى رؤيته وللمصالحة معه ولمحبته كما أمرنا هو.
من جديد يسمع المرء الرب قائلاً: “طوبى للمطرودين من أجل البِر”[31]. القصد هنا هو أن يفحص المرء نفسه إن كان اضطُهد من أجل أي وصية من وصايا الله، لأنه كما يقول الرسول “وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون”[32]. لهذا يُضيف السيد المسيح هذه الكلمات ويقول: “طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السماوات”[33]. إذاً لماذا وضع المُضطَهَدين والمطرودين في النهاية وأمرهم “كمن له سلطان”[34] بأن يفرحوا ويتهللوا؟ لأن من أظهر توبة مستحقة عن خطاياه ومن ثم تَواضع ووُجد كل يوم مستحقاً للنوح ووديعاً، ذاك الذي يجوع ويعطش بنفسه من أجل شمس البر، يكون مباركاً ورحيماً. فهو يتبنى كل أهواء الناس وأحزانهم وضعفاتهم. وهو إذ يبكي ويتنقى، يرى الله ويتصالح معه ويصبح بالحقيقة صانع سلام ويستحق أن يُدعى ابناً لله. هذا الشخص يستطيع أن يحتمل كل شيء بفرح وسعادة لا تُوصف حتى لو كان مُضطهداً ومضروباً ومُهاناً ومظلوم وحتى لو كان يسمع كل باطل ضده. فالرب سيدنا إذ يعرف هذا أعلن بوضوح “افرحوا وتهللوا”. لكن مَن لم يصل إلى هذه الحالة ولا يمتلك الفرح الجوهري الوافر في داخله، كيف له أن يحتمل كل هذه الأمور بدون أفكار حاقدة؟ إنه غير ممكن.
إذاً أيها الآباء والإخوة، لا نتوقفنّ عن فحص أنفسنا وامتحانها[35] بحماسة شديدة، يوماً بيوم، وحتى ساعة بساعة إن أمكن. لا بل، كما قلنا، فلنمر بالوصايا ونرَ أنفسنا من خلال فحص ذواتنا ومراقبتها في كل منها. إذا وجدنا أننا نستوفيها، فلنعطِ شكراً للرب سيدنا ومن تلك اللحظة وصاعداً فلنحفظها بلا خطأ. أما إن كنا إلى الآن قد نسينا وفشلنا في حفظها، فأنا أرجوكم أن نسرع ونغمرها ونتمسك بها، خشية أن نُحتقر وندخل كالأصغر في ملكوت السماوات[36]. إذاً نحن نصل إلى مدينة الملكوت، كما أعلم جيداً، من خلال صعودنا السلم درجةً درجة. هناك، كما ذكرت سابقاً، يقف ربنا ملوّحاً وقائلاً لنا “تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”[37]. وعندما نصل إلى هناك نراه، بحسب قدرة الإنسان على أن يرى، ونأخذ من يديه الملكوت، الذي هو الروح القدس ويكون فينا بشكل ثابت[38]، كما يعلن الرب نفسه. إذاً علينا أن نعيش كالملائكة على الأرض وبالأحرى كأبناء لله. علينا أن نكون مقدَّسين، وفي كل شيء لله[39] أبينا. على رجاء أن نتمتع بالرؤية الأكثر عذوبة الآن وكل آن وإلى دهر الداهرين. آمين.
عظة للقديس سمعان اللاهوتي الحديث
ترجمة الأب أنطوان ملكي
引自东正教遗产杂志
الهوامش:
[1] لو42:12. في هذه العبارة إشارة الى الآية: “من هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم العلوفة في حبنها”. هذه الإشارة أوضح في النص اليونانية إذ يستعمل عبارة sitomeJtrion الواردة نفسها في الآية، لكن الصياغة في الترجمة العربية غير ممكنة باستعمال العبارة نفسها.
[2] مت18:5
[3] مت19:5
[4] يع23:1
[5] مت17:4
[6] مت3:5
[7] 1كو28:11
[8] مت6:6
[9] مت4:5
[10] مت5:5
[11] مت6:5
[12] 1كو30:1
[13] ملا2:4
[14] فيل8:3
[15] مت7:5
[16] 2كو9:8
[17] يع27:1
[18] أي25:30
[19] رو8:12
[20] حك13:7
[21] مت8:5
[22] رو10:5
[23] مت9:5
[24] أف7:2
[25] رو10:5
[26] أف13:2
[27] يو12:1 ومت9:5
[28] رو33:8-34
[29] 1يو20:4
[30] مر30:12
[31] مت10:5
[32] 2تيم12:3
[33] مت11:5-12
[34] مت29:7
[35] اكور3:4
[36] مت19:5
[37] مت28:11
[38] لو21:17
[39] أف1:5