من أجل الفهم الأفضل لمعنى الليتورجيا ولأبعادها الحقيقيّة الشاملة، علينا أن ننطلق من مفهومها كعلاقة بين الله والإنسان. لذلك من الحسن في البداية أن نجيب إذن على السؤالين: الأوّل ما هي نظرة الإنسان إلى الله؟ أي من هو الله بالنسبة للإنسان؟ والثاني هو عكسه، ما هي نظرة الله إلى الإنسان؟ أي من هو الإنسان بالنسبة لله؟
يتمتّع الله بالنسبة للإنسان بالمبدأين والميزتين الأساسيّتين. الأولى أنّه الخالق، فهو علّة الكون ومسبِّبُه ومَن أوجدَه. والثانية أن الله هو محبّة، فهو المعتني والراعي والمحامي والسميع، وأخيراً هو الأب في التعريف المسيحيّ المطلق. لذلك جاء الابن يؤاخينا لندعو معه الآب أباً.
ويتمتّع الإنسان بالنسبة لله بميزتين أساسيّتين. الأولى أنّه سيّد هذا العالم، وأعطي له أن يستخدمه “ويتسلّط على طير السماء وسمك البحر…”. ولقد خلق الله العالم كلّه ليضعَه في تصرّف الإنسان وخدمته، “فله” أوجد اللهُ كلّ شيء. والميزة الثانية، أنّ الإنسان، وكما ينتظر الله، يتناول هذه الهديّة –العالم- من الله شكرياً. فكما أنّ الله هو الخالق كذلك الإنسان هو المستخدِم، وكما أنّ الله هو الواهب والمحبّ كذلك الإنسان هو الشاكر والافخارستـيّ.
لذلك لا يمكن أن نفهم علاقة الله بالإنسان أو علاقة الإنسان بالله أفلاطونيّاً وفلسفيّاً وفكريّاً، وإنّما الأساس في فهم العلاقة هي طريقة تعاطيهما الواحد مع الآخر من خلال العالم! كيف يتعاطى الإنسان مع العالم هو الأمر الذي يحدّد نجاح أو فشل علاقته مع الله. العالم ليس كياناً مستقلاً عن علاقة الإنسان بالله، بل العكس تماماً، إنّه الموضوع والمادّة التي يعبّر فيها الإنسان وبواسطتها عن مفهومه للعلاقة مع الله. إيماننا ليس ما ورائيّاً بل ليتورجيّاً. وتعاطي الإنسان مع العالم كعلاقة مع الله يجعله يأخذ دوره الافخارستـيّ الكهنوتـيّ، وهذه هي الليتورجيا.
الليتورجيا هي غير الطقوس، الطقوس هي وسائل وتعابير لاحياء الليتورجيا. الليتورجيا هي تبادل العالم مع الله في “علاقة افخارستيّة”! لذلك إذا كانت كلمة ليتورجيا بالأصل اللغويّ اليونانـيّ للكلمة يعني “عمل الشعب”، فهذا يريد أن يقول، كما أنّ “عمل الله” كان وما زال الخلق والمحبّة فإنّ “عمل الشعب” هو الشكر على عطيّة الله في شكر أي إفخارستيّة.
الليتورجيا عمليّة تقدمة العالم بواسطة الإنسان لله وتحويل الكون كلّه وبكل مسائله إلى “ذبيحة تسبيح”.
من هذا المفهوم لليتورجيا، نستطيع أن ندرك لماذا التقليد الأرثوذكسيّ هو ليتورجي، وهل يمكن أن يكون غير ذلك؟ إن الكنيسة تحيا بالليتورجيا وفي الليتورجيا. الليتورجيا هي “عمل الشعب” أي عمل الكنيسة وحياتها وغاية وطبيعة وجودها. إذن، من هذه النظرة إلى الليتورجيا، نقول إنّ كلّ اللاهوت وبكلّ أجزائه ما هو إلاّ تعبير وتسبحة افخارستيّة، تريد أن تشكر وتفسّر المحبّة الإلهيّة.
إنّ تبدّل النظرة إلى علاقة الله بالإنسان من جهة، والإنسان بالله من جهة أخرى، واختلاف الرؤيا نحو العالم بسبب الفلسفات المعاصرة وسيطرة العلمنة (secularization) في الكنيسة في الغرب، كلّها أسبابٌ أدّت وتؤدّي إلى انحسار المثُل المسيحيّة في العالم. وبدأت الكلمة الإلهيّة وحضرة الله في العالم تبدوان منفصلتين عن الحياة. وصار يسود جو التمييز، وأحياناً بشدّة، بين ما في العالم وما في السماء.
وفُرزت أمور الكون إلى فئتين، فئة ما هو “مقدّس”، وفئة ما هو “دنيويّ”! وصار وكأنّ على الحياة أن تجمع بين “الدين” و”الدنيا”، وأحياناً يظهر ذلك مستحيلاً، إمّا عملانياً أو أيضاً مبدئيّاً، من حيث أنّ التناقض لا يأخذ وجه المنافسة أحياناً وإنّما وجه التعارض العقائديّ مرّات عديدة. من هنا أصيبت الليتورجيا بتحوير معنويّ تاريخيّ أثناء عصور السخولاستيك في الغرب. واقترب معناها من معنى “بعض الطقوس التقديسيّة” المنعزلة عن الدنيا.
لذلك قُسّمت الأسرار الكنسيّة إلى سبعة، ومنها سرّ الشكر. وهكذا تبدو هذه الأسرار معزولة عن بعضها البعض وعن الخريستولوجيا وتفقد حقيقتها الاكليزيولوجيّة، فيبدو كأنها جملة أسرار يحمل كلّ سرٍّ فيها نعمتَه الخاصّة (الكهنوت- الزواج- المسحة-…). بينما السرّ الحقيقيّ هو حدث محدّد، وهو سرّ استخدام الكون شكرياً في علاقة متبادلة بين الله –النعمة والإنسان- الطقوس. وهذه هي الليتورجيا. الليتورجيا هي طريقة عمل وحياة تعني أن يقبل الإنسانُ العالمَ والكونَ إيجابياً من الله. لذلك “الافخارستيا” – سرّ الشكر هو سرّ الأسرار، إذا صحّ القول! وهو تاج الليتورجيا ونهايتها.
تريد الطقوس أن تحافظ على هذا الجوهر، فإنّ القرابين المقدّسة التي نقدّمها في القدّاس (التقدمات) تعني تماماً أنّ الإنسان لا يأتي إلى الكنيسة والقدّاس الإلهيّ حاملاً خطاياه وحاجاته وحتى توبته وحسب، إنّما كلّ مؤمن يأتي إلى القدّاس وهو يحمل العالم كلّه معه. هذا ما تعنيه التقدمات من “الخبز والزيت والخمر”. إنّها حركة إعادة العالم (في رموزه) إلى الله تسبحةً شكريّة. إنّها الليتورجيا. ليس القدّاس الإلهيّ لحظة ننسى فيها العالم، بل تماماً اللحظة التي نقدّم فيها العالم. لذلك نصلّي من أجل اعتدال الأهوية، وخصب ثمار الأرض وطقس هادئ وسليم.
إنّ استبدال هذه الرموز الشكريّة (القرابين- الزيت- الخمر-…) بتمرير “الصينيّة” لجمع التقدمات -الماديّة- يحاول أن يحافظ على هذه الحركة والروح الشكريّة ولكن بشكل عمليّ جديد. إنّنا إذن نقدّم العالمَ هنا بتلك الرموز أو التقدمات ثم “نخرج وننطلق بسلام” بعد القدّاس لنعود في القدّاس التالي ونعيد تقديم هذا العالم، وهذه هي حركة تطهير للعالم، كي نتناوله ونتعاطى معه دوماً افخارستياً، وهذا هو الكهنوت العام الملوكيّ الذي يحمله كلّ إنسان معمّد. لذلك في الدخول الكبير في القدّاس يتمّ نقل هذه التقدمات بشكل احتفالـيّ لكي تعطى ليد الأسقف (أو الكاهن) ليرفعها عن الشعب إلى العرش الإلهيّ.
وحين نحمل عالمنا كلّه إلى القدّاس لنقدّمه، هذا يعني أنّنا نقدّمه لله كما هو، أي نقدّم عالمنا المجبول بالفساد والأمراض والحاجات ونقدّم ذواتنا معه حاملة خطايانا وضعفاتنا. لا ينتظر الله منّا تقدمات مقدّسة، بل ينتظر عالمنا ذاته. يقبل الله أن نعطيه عالمنا هكذا كما هو، وهل يمكننا أن نقدّم غيره؟ وهل يريد الله أن نقدّم سواه؟ لكن الأساسيّ في الليتورجيا (كحياة وعلاقة) أنّ هذا العالم الذي نقدّمه مع أوهاننا يصير مقدّساً من الله بالليتورجيا. لا يرفض الله تقدماتنا وعالمنا لكنّه لا يتركه كما هو! فالأشياء عندما تقدّم في الليتورجيا تقدّم كما هي لكي لا تبقى كما هي بل لتتحسّن. نقدّم “ما هو” ليصير بالتوبة والنعمة “ما يجب”، وهكذا في الليتورجيا “يتجلّى العالم”! إنّ العالم هو خليقة الله الحسنة، الحسنة جدّاً، والخطيئة هي الدخيل.
لا يتجدّد العالم بتحطيم القديم وإنّما بتقديسه. فليس في الدنيا شيء دنس. كلّ شيء يمكنه -ويجب- أن يصير تقدمةً، وذلك ما دام كلّ شيء يمكنه أن يتقدّس، ونحن مدعوّون لنكهن هذه القداسة. كلّ شيء هو مادّة للتقديس. وتريد النعمة أن تحلّ على كلّ شيء. ليس المطلوب أن نقدّس حياة الإنسان بمعنى أن نحرّره من جسده ومن عناصر هذا العالم. قداسة الإنسان تتحقّق حين يلعب هذا الأخير دوره الكهنوتي هذا في تقديس العالم. القداسة للإنسان ليست حالة طوباويّة لا يشعر بها بشيء من الألم الروحيّ أو الجسديّ! القداسة تعني تماماً أن يصير الإنسان كاهناً وليس إلاّ. كلّ عمل غير كهنوتـيّ هو خسارة وهو شيء من الخطيئة. وعمل الإنسان الأساسيّ هو أن يكهن العالم، والقداسة هي حالة الكهنوت هذه في بهائها. لن تتحقّق قداسة الإنسان خارج العالم، تماماً لأن العالم هو الواسطة والمادّة الوحيدة التي ستحقّق له قداسته.
إذا كنّا نلاحظ هنا وهناك في العالم عناصر وحالاتٍ وظروفاً غير مقدّسة، فيجب ألاّ يقودنا هذا إلى رفض العالم في سبيل الذهاب إلى عالم آخر “طوباويّ” نجد فيه قداسة! عالمنا كما هو، هو أداتنا وهو مادتنا التي نقدّسُها فتقدِّسنا. لا تقبل المسيحيّة بأيّ فصل بين ما هو “أمامنا” وما هو “ورائيّ”، بين هنا وهناك. أليست هذه هي عثرة الإنسان اليوم في الكنيسة، حين يظنّها أو يراها تختصّ بما هو “هناك” وكأنها مؤسسة تهتمّ بما هو “فوق طبيعيّ” وبما هو غير منظور، وبالتالي هي ليست لحياته هنا. تنقذنا الليتورجيا، التي لا تستخدم أيّ شيء من خارج هذا العالم إلاّ النعمة الإلهيّة، من خطر الفصل بين ما هو “مقدّس”وما هو “ماديّ”. لذلك:
1- تلغي الليتورجيا الخطر الذي يفصل في أيّامنا هذه بين “الزمن” و”الأبديّة”:
كان الزمن والتاريخ شرّاً لا بدّ منه. لذلك لطالما تاه الناس بطلب الخير في عالم آخر خارج هذا التاريخ. لكنّ الزمن والأبديّة يلتقيان في الليتورجيا. ليست الأبديّة زمناً قبل أو بعد التاريخ بل هي خميرته. الأبديّة هي التاريخ حين يتوسطه الله، وحين تتحقّق إرادته الإلهيّة، أي حين يصير العالم قرباناً بواسطة الإنسان. الأبديّة هي التاريخ المختمر بالإرادة الإلهيّة. لذلك يمكننا أن نكون في التاريخ بين بين! أي بين الزمن وبين الأبديّة.
فالزمان والمكان اللذان نعيش فيهما هما تماماً العالم الذي ينتظرُ تقديسَنا له! المسيحيّة لا ترفض عناصر الحياة المكانيّة والزمنيّة بانتظار زمانٍ ومكانٍ آخر. وهي أيضاً لا تحتقرها! هذه هي المادّة التي على الإنسان أن يكهنها ليقدّس ذاته من خلال هذه الرسالة ويقدّسها أيضاً.
2- ترفع الليتورجيا النـزاع بين المادّة والروح:
إن أكثر ما يعذّب الفكر الإنسانـيّ اليوم هو الفصل بين الجسد والنفس، وتهويل الصراع بين المادّة والروح. ويبدو أنّ الجسد عدوّ الروح، والعكس بالعكس! وعلينا أن نقهر جسدنا “لكي نحيا بالروح”. وهذا الفصل لا بل الصراع بين ما هو روحيّ وما هو ماديّ يزداد في أيّامنا. وذلك بسبب من ازدياد التخصّص والميكانيكيّة في الأعمال. لقد فقدت طبيعة أغلب الأعمال كلّ علاقة إنسانيّة أو جماليّة أو روحيّة. كانت الأعمال قديماً تصل الإنسان بالطبيعة (الزراعة) وتبني له علاقات (تجارة)، أمّا اليوم فإنّ ضخامة الأعمال وتخصّصها غالباً ما تنـزع الإنسان من هذا الجوّ الروحيّ! حتّى وقت الفراغ الذي كان يُنتظر أن يُخصَّص للأمور الروحيّة، تعويضاً عن تلك الخسارة الحاصلة، فإنّه بدوره بدأ يفقد بألوان تسلياته كلّ ما هو روحيّ، أو أحياناً ينقلب إلى وقت يقتل كلّ ما تبقّى من روحانيّة عند الإنسان، الذي يخرج من عمله المرهق منهكاً.
يبدو وكأنّه لا يوجد مكان لقاء في حياة الإنسان اليوميّة والعاديّة بين الروح والعمـل، وبين الـروح والـمحيط! ويزداد الشعور أنّ الروح يتطلّب منّا البعد والخروج من أطر حياتنا هذه!
الليتورجيا هي ساحة اللقاء الحقيقيّ بين المادّة والروح. تُشرِكُ الليتورجيا الجسدَ والمادّة في التقديس مع كلّ ما هو من الروح. تستخدم الليتورجيا مواد هذا العالم، التي اعتاد الإنسان أن يراها ماديّة، تستخدمها فتصير مقدّسة. الخبز والخمر يصيران أقدس ما في الوجود، جسداً ودماً إلهيَّين. وليس هذه فقط، بل كلّ مواد الحياة والعمل اليوميّة التي تبدو أنّها لخدمة المادّة، تأخذها طقوس الليتورجيا لتستخدمها في التقديس. لذلك نستخدم الخشب، والماء، والأغصان، والألوان، والأطياب. هكذا تبرهن الليتورجيا أن لا خطيئة في المادّة. إنّما الخطيئة هي في الاستخدام. المادّة هي عنصر هوان وخطيئة كما هي عنصر قداسة وبرّ. العالم ليس شريراً، بل على العكس! لذلك في المعموديّة لا نغطّس الذهن والرأس بل الجسد كلّه! وفي سرّ مسحة الميرون ندهن الأعضاء كلّها من الأقدام إلى الرأس. كلّ شيء يصير مقدّساً عندما يتقبّل النعمة الإلهيّة.
هذا التقليد الليتورجي بطقوسه يجعل العبادة تصير بأعين مفتوحة على العالم الماديّ كما هو أمامنا وبعناصره ذاتها التي نستخدمها في حياتنا اليوميّة، وليس كما في الغرب بإغلاق الأعين ومحاولة الانسحاب من هذا المكان والزمان لملاقاة الله في حيّز ليس هنا وزمن خارج زمننا.
3- تلغي الليتورجيا النـزاع بين الفرد والجماعة:
رغم أن كلّ التيّارات الاجتماعيّة والمدنيّة تذهب إلى تعميق الحياة الفرديّة، فإنّ الليتورجيا هي التيّار المعاكس في الحياة. لا يوجد في الليتورجيا شيء فرديّ. لأنّ العلاقة مع الله ليست بين فرد وإلهه بل بين الله وشعبه. الإنسان ليس فرداً يهتمّ بشؤونه، إنّما هو الإنسان الذي يهتمّ بالإنسان. الآخر ليس أداة للحياة نستهلكه وإنّما غاية حياتنا التي نضعها لخدمته. هكذا يحقّق الإنسان ذاته في الليتورجيا.
إنّ حركة العالم، وفي أفضل مجتمعاته تطوّراً وتنظيماً، تريد أن تؤمّن الأنظمة التي تحافظ للإنسان على حريّته واستقلاله وفرادته وفرديّته. وتجد العلاقاتُ السعادةَ في ترتيب استقلاليّة الفرد في مجتمعه وتحديد واجباته وحقوقه ضمن المجتمع الذي يحيا فيه. لذلك “المجتمع” في الأدب الغربيّ هو تجمّع (society) وليس شركة (community) كما هو في تقليدنا الأرثوذكسيّ. فالشركة غير المجتمع عموماً. تتعامل الليتورجيا مع الإنسان على أنّه عضو في شركة القدّيسين.
وإنْ كان هناك شركات وروابط اجتماعيّة في مجتمعاتنا، إلاّ أنّها في العمق تقوم على أساس الفرز والانتخاب من بين الجميع (collection). هذه الطريقة “الفرديّة” على مستوى مجموعات وليس الفرد تطبع الحياة الاجتماعيّة، فهذه “النخبة” ضروريّة بقدر ما تؤمن سعادة الفرد وتكمل له جوانب حياته التي تُعوزه. أَلا نلاحظ هذا التيّار حتّى في حياتنا الكنسيّة؟ حين تظهر فئات نخبويّة تريد أن تبرّر في تجمّعها فرادتها أي فرديّتها ونرجسيّة حبّ الذّات وتطويبها لـ “التجمعات والجماعات” تحت أسماء في الكنيسة. وتجعل هذه الجماعات فوق الكنيسة. هذه كلّها مظاهر تدلّ على تأثير الطابع الاجتماعيّ وليس الروحيّ وعلى غياب فاعليّة الليتورجيا في حياة هذه “الجماعات”. فلا يوجد أيّ مبرّر للفرز في “الشركة” المسيحيّة وفي شركة القدّيسين، لا على أساس اجتماعيّ ولا على أساس ماديّ ولا حتّى على أساس معرفـيّ أو إيمانـيّ. في شركة القدّيسين كلّنا أعضاء جسد المسيح والعضو الضعيف يسنده القويّ. وأكثر الأعضاء هواناً أكثرها كرامةً. ولا يوجد عضو، مهما كان مريضاً أو ضعيفاً، غير ضروريّ للجسد كلّه.
طريقة التعبير عن التقوى خارج الليتورجيّة هي طريقة فرديّة. لكنّ الليتورجيا تعبّر عن عبادة الكنيسة كلّها مع بعضها البعض فليست هي عملاً فرديّاً لكلّ مؤمن تجاه ربّه أو حتّى تجاه الكنيسة. لذلك لا يعرف التقليد الأرثوذكسيّ “قدّاساً شخصيّاً”، لعائلة مثلاً أو لـ”جماعة”. كما أنّه لا يعرف ممارسة “السجود للقربان” كما في الغرب. لأنّ العبادة ليست تقوى شخصيّة أبداً، بل هي حدث تقديم شركة القدّيسين للعالم إلى الله. القربان ليس موضوعاً للتأمّل الفرديّ. القربان الإلهيّ هو حدث يحقّق شركة القدّيسين كجسد للمسيح حيّ. لذلك باستثناء حالات طارئة مرضيّة وحالة الصوم الليتورجيّ لأيّام الصوم الكبير، لا يجري تناول القربان المقدّس دون إقامة القدّاس الإلهيّ. ليست الليتورجيا، وخاصّة سرّ الشكر، لحظات نستمدّ منها قوّة لحياتنا اليوميّة وحسب، إنّما هي حدث يُحي شركة الناس ببعضهم ويُصلح الروابط ويعيد بنيتها الصحيحة. ليست الليتورجيا إذن عملاً فرديّاً إنّما حدث شركويّ -جماعي. ولا يستطيع الكاهن وحده مثلاً أن يقدّس القرابين ولو قرأ نصوص القدّاس كلّها عشر مرّات، وذلك دون وجود “شركة”. الشركة هي التي تستمد النعمة في الليتورجيا.
الذي جعل الأخلاقيّات المسيحيّة تُصاب بالضعف والهزل هو عزلها عن الليتورجيا. وذلك حين تُدرَس بمعزل عنها كمادّة “تشريع” أو “مثاليّات” مسيحيّة. حيث تبدأ الأخلاقيّات المسيحيّة تهتمّ بتحديد الفضائل المسيحيّة، وتعطي للتعليم المسيحيّ طرقاً وأمثلة ومُثُلاً للحياة ليقلّدها إنسان اليوم ويلتزم بها، وعلى أساس ذلك يتمّ تقييمه والحكم عليه. وصارت هناك نماذج للحياة ثابتة لا تتبدّل عبر الزمان ولا باختلاف المكان… وهذه تدين العالم، كما شاع هذا في الغرب. لا تسمح الحياة الليتورجية باستقلاليّة الأخلاق والحياة المسيحيّة ولا تدعها تتمحور حول نواميس محدّدة. الحياة المسيحيّة المثاليّة هي الحياة اليوميّة بعد “تجلّيها” ليتورجيّاً.
المعلّم الأخلاقيّ المسيحيّ الأوّل في الكتاب المقدّس هو بولس الرسول. وعند بولس التعليم الأخلاقيّ هو ليتورجيّ. لذلك نجد في كلّ عباراته الشهيرة الصيغ الليتورجيّة. “فإذا قمتم مع المسيح… أميتوا أعضاءكم التي على الأرض… اخلعوا الإنسان القديم وأعماله والبسوا الإنسان الجديد…” هذه كلّها صيغ ليتورجيّة (موت المسيح وقيامته- المعموديّة خلع اللباس وارتداؤه). الوصايا الأخلاقيّة عند بولس – على كثرتها وقوّتها – هي أسباب ونتائـج لـسرّ المعموديّة والتجديـد وسرّ الشكر. فأخلاقيّاتنا هي أخلاق تلك الشركة الليتورجيّة حين نودع أنفسنا مع والدة الإله وجميع القدّيسين ونجعل حياتنا كلّها للمسيح الإله.
أخلاقيّاتنا ليست شرائعاً جديدة أو قديمة، إنّما هي طبيعة حية “لشركة مقدّسة”. لا تعتمد الكنيسة إذن “مجموعةَ وصايا” أخلاقيّة ثقيلة تفرضها على الناس، وأحياناً نحن لا نحفظها، لتقود الناس مقيّدين إلى تصرفات خلقيّة محدّدة. وإنّما “تجلّي” الكنيسة الناس “كأولاد الله” الأحرار وتنقيهم وتحرّرهم من الروابط والميول الخاطئة. لعلّ السبب الأساسيّ لمظاهر الإلحاد اليوم هو تلك الأخلاقيّات المسيحيّة المنعزلة عن الليتورجيا التي سبق وصفها. حين تظهر كشرائع “مسيحيّة” على الإنسان حفظها وتطبيقها من قرون ولقرون عديدة دون الشعور منه بأنها تطابق حياته فعلاً وأنها ضروريّةٌ لها. لذلك تبدو هذه الأطر والوصايا الأخلاقيّة “سجناً”. وهذا ما يجعل هذه المبادئ تسقط. عندها يسرع المهتمّون والغيورون إلى إيجاد حلول جديدة معتمدين على تقوية الوعظ والتعليم الدينـيّ والتأليف وغيرها مثلها؛ وكأنها ستكون رادعاً أمام تدهور الأخلاق. بينما الحلّ الحقيقيّ هو إحياء الحياة الليتورجيّة. حيث الوعظ والتعليم… كلّه يشكل أداةً فيها وليس غاية. فإنّ “الكلمة” في المسيحيّة ليست فنَّ الكلام بل هي “الشخص” الذي سوف يمسّ قلب كلّ إنسان ويتّحد به. فالكلمة تخدم حدث وحدة الله بالإنسان وهذا ما تحقّقه الليتورجيا، حيث هناك نلاقيه. يقودنا الوعظ والتعليم إلى إدراك أهميّة أن نكون “شركة ليتورجيّة” ويجعلنا نمارس هذه الحياة الليتورجيّة التي تجعل “التجلّي” حدثاً دائماً وتخمّر بالنعمة العجين كلّه. يجب ألاّ يأخذ التعليم مكان الليتورجيا وهو، في تقليدنا، ما يقود إليها. إنّ بشارتنا ليست وعظاً وإنّما محاولة لبناء “شركة” ليتورجيّة. الكنيسة تسير إلى المذبح وليس إلى المنبر، هذا الأخير يشير إلى الأوّل. الاجتماعات جيّدة ولكنّ الليتورجيا هي الاجتماع الحقيقيّ. الجماعة ليست حكماً كنيسة كلّما اجتمعت، وإنّما فقط عندما تكون في عنصرة وفي تقديس وفي ليتورجيا.
4- تلغي الليتورجيا الفارق بين الدهر والإسْخَتا (έσχατα):
إذا كنّا نؤمن أنّ الأبديّة تلتحم بالزمن بواسطة الليتورجيا، فهذا يجب ألاّ يقودنا للاعتقاد بحركة نحو حلمٍ بـ “فردوس أرضيّ”! تقدّس الليتورجيا التاريخ، نعم. لكنّها لا تجعل الأبديّة محصورة في التاريخ. لذلك كما من صلب الليتورجيا هو تقديسها للزمن، كذلك هو روح السهر والانتظار للأبديّة. ففي الليتورجيا يتحقّق التذوّق المسبق. ولكن هذا التذوّق لا يلغي مسبقاً انتظار “الكلّ”. يتحقّق في الليتورجيا العربون عن الأبديّة. لذلك تقودنا الليتورجيا إلى الأبديّة والاسختا، وتهيّئُنا إليها.
تطهّر الليتورجيا المعركة الروحيّة الداخليّة وتغذيها بالروح من ناحية. لكن خارج لحظاتها ينتظرنا عالم يحرّك هذه المعركة ويطاردها، من ناحية أخرى. ولن تتمّ الغلبة إلاّ “في منتهى الأيّام”. لذلك لا تنمّي الليتورجيا فينا الحلم بعالمٍ فردوسي هنا، إنّما تفتح طريق الجهاد والسعي والمحاولة لتخمير عالمنا هنا بخمير العالم الآتي، إلى حين يأتي المنتهى ويخمّر العجين كلّه.
إلى ذلك الحين تعطي الليتورجيا شبه غلبة، وتذوّقاً وعربوناً. لذلك تحافظ الليتورجيا في طقوسها وصلواتها ونصوصها على ابراز حقيقة هذا الصراع وعلى التذكير بالمعركة القائمة بين الله والشيطان، فنحن نسعى فيها وينمو فينا الانتظار إلى جانب الغلبة. هناك حوار تقديسيّ نقيمه في الليتورجيا بيننا وبين العالم، وهو في مدّ وجزر، لكن الكلمة الفصل ستكون في “المجيء الثاني” الذي تريد الليتورجيا أن تنمّي فينا انتظاره.
خاتمة
إنّ أزمة الحياة الروحيّة اليوم، وصعوبة لقاء الإنسان بالكنيسة اليوم هي تماماً هذه الازدواجيات المرهقة، التي تخلق نوعاً من الانفصام في الشخصيّة. تسعى وتحاول بعض الحلول والشرائع أن تقلّص الهوّة بينها ولكن نراها بالواقع تزيدها. إنّ الحياة الدينيّة بالأسلوب القديم لم يعد ممكناً لإنسان اليوم، الذي يرفض كلّ سلطان لأي مبدأ أو إله لا يراه يمسّ حياته ويغذّيها! من حقّ العالم اليوم ألاّ يكون متديّناً (بالمعنى الظاهريّ للكلمة)، ما دام الدين لون من ألوان علم الاجتماع أو التعليم والوعظ. ولكن من واجبنا أن نُحيي الحياة الليتورجيّة كطريقة تواجد وحياة “شركة” كنسيّة لا تؤزّمها هذه المتناقضات، حيث يجد فيها الإنسان ذاته وعلاقته مع الله والقريب في حريّة الروح.
الليتورجيا هي ميزة الكنيسة الأرثوذكسيّة وهي التي ستحفظنا من العلمنة، وهي بالنهاية الحلّ للإنسان والعالم كلّه.
المتروبوليت بولس يازجي
نقلاً عن الموقع القديم لمطرانية حلب