نعود من جديد إلى الموضوع مزودين ببعض الفهم على ضوء ما سبق.
أرسطو استعمل لفظة أقنوم hypostasis بالمعنى العام لا الفلسفي (سقراط، التاريخ الكنسي، الكتاب 3: 7 في مين 67: 395 ولوسكي، ص49): القائم حقيقة، “القوام”، من فعل “قام” (لوسكي).
استعمل أرسطو عبارة “بحسب الأقنوم” بمعنى “واقعياً، حقيقة” (العالم، 4: 25)، وكلمة أقنوم بمعنى “ترسُّب ثقيل” (الفضاء، الكتاب 2 الفصل2: 14)
فهي تعني في اللغة “القائم حقيقة”، “القوام”.
واستعملها الرواقيون كمرادف للفظة “ماهية”، “جوهر” ousia.
واستعملها افلوطين في شأن ثالوثه: الواحد، العقل، النفس. وأيضاً بمعنى: “الشكل الخاص” (التاسوعية الخامسة، الكتاب الأول، الفصل 7)
ووردت في الكتاب المقدس اليوناني القديم والجديد كما مرّ معنا.
واستعملها آباء الكنيسة قبل مجمع نيقية وبعده كما سيجيء.
فهي ذات معانٍ عديدة. ترد مرادفاً لكلمة “جوهر، ماهية” ousia. إلا أن فارقاً أصلياً يميّزهما: كلاهما يحددان وجوداً موضوعياً جوهرياً. يحدّدان ما هو موجود، ما هو قائم.
ولكن تميل “الماهية، الجوهر” ousia بالأحرى إلى أن تعني العلاقات والمميزات الداخلية أو الواقع الميتافيزيكي، بينما يشير “الأقنوم” إلى الطابع الواقعي الخارجي للجوهر.
كان على آباء الكنيسة أن يواجهوا الآريوسية بجبروت.
استعمل المجمع المسكوني الأول (325) الكلمتين كمترادفين. وظل أثناسيوس الكبير على ذلك. إلا أنه في مجمع الإسكندرية (362) بدَّد الخلاف وأوضح الاتفاق في صلب العقيدة: جوهر واحد للثالوث في ثلاثة أقانيم شخصية لها الجوهر الواحد بعينه homoousios.
إن المجمع الأول المسكوني استعمل اللفظتين كمترادفين.
اوريجنيس هو أول من أطلق لفظة أقانيم على الثالوث. واستعمل لفظة شخص. واطلق هيبوليتوس روما المتوفي 235 لفظة شخص prosopon على الآب والابن. ترتليانوس المتوفي بعد 220 استعمل لفظة شخص اللاتينة persona كثيراً (سر التدبير، ص 202-203).
مر معنا أن أرسطو فرّق بين الجواهر الأولى والجواهر الثانية. الأولى تعني القوامات الفردية، الأفراد القائمون. وضرب مثلاً: “هذا الإنسان، هذا الحصان” على الأولى. والثانيات “الجواهر” لا كفكرة مجردة، بل كواقع جوهري موجود في الفرد وضرب مثلاً: “الإنسان والحيوان”.
ولكن هذا لا يوصلنا إلى المفاهيم المسيحية، ولا إلى الإيمان بالأقانيم كأشخاص. مفهوم الشخص دخل الفكر عن طريق المسيحية، بينما غلبت فلسفة “الماهيات” و “العموميات” في الفكر اليوناني. وإن كان أرسطو قد ذكر الفرد إلا أن ذلك يبقى بعيداً جداً عن: 1- مفهوم الشخص 2- مفهوم احدية الجوهر في الأقانيم الثلاثة. مفهوم الفرد لديه قابل لأن ينطبق على الإنسان والحيوان والأشياء. فأين الشخص إذاً؟
وبما أن الكائن الموجود واقعياً هو وحده موجود، فمفهوم أحدية الجوهر بين الأقانيم بدون انقسام الجوهر أو تعدّده غائب أيضاً لدى أرسطو.
تولّى الآباء الكبادوكيون (44) التعبير عن إيماننا: إله واحد هو الآب والابن والروح القدس. ليس الثلاثة وجوهاً أو أسماء للواحد الأحد. وليس الأحد وحدة عددية مجردة أي 1، 2، 3.
الآب إله قائم بذاته. والابن إله قائم بذاته. والروح القدس إله قائم بذاته. ولكنهم ليسو 3 آلهة، بل إلهاً احداً غير منقسم (سر التدبير، ص203 – 204).
لفظة أقنوم تعني “القوام الشخصي” لكل من أشخاص الثالوث.
الثالوث يحوي الجوهر. ولا وجود للجوهر خارج الأقانيم.
الجوهر قائم في الأقانيم.
الأقنوم هو الموجود في الحقيقة والواقع.
الجوهر هو كائن l`etre الله نفسه، كما يقول باسيليوس (ضد افنوميوس، ص206 من العدد 96، من الينابيع). الأقنوم يحوي الجوهر. هو الحاوي والجوهر هو المضمون، المحتوى.
الجوهر موجود في الأقنوم. الألوهة موجودة في الأقنوم.
آباء الكنيسة يركزون جداً على فكرة الأقنوم كمقتنٍ وعلى الجوهر كمُقتَنى.
الأقنوم لا يتجزّأ. ولا يقبل التأليف مع أقنوم آخر. الجوهران (النفس والجسد) موجودان في شخص الإنسان. التأليف بينهما واقع. ولكن يستحيل تأليف شخص من شخصين، لأن كل شخص كلّ. الأقنوم لا ينتقل إلى الغير، إذ أنه هو الحاوي الجوهر كلياً. يوحّد كل ما هو فيه.
وهو مستقل تمام الاستقلال عن كل أقنوم آخر (45).
يُمسك تحت سلطانه كل ما هو فيه.
الأقنوم يقتني، يسود. أما الطبيعة فتفعل.
الأقنوم هل كل حقيقي concret يحوي جميع ما فيه.
هذا اللاهوت وجودي شخصاني. بالنسبة لله الموجود سرمداً لا تُطرح مسألة الوجود والماهية لأنه الموجود سرمداً، لأنه الحاوي جوهره سرمداً. لم يَسبق الجوهرُ الوجودَ ولا الوجودُ الجوهرَ لأنهما سرمديان أي بلا بداية ولا نهاية.
وغني عن البيان أن التفريق واقعياً بين الأقانيم مستحيل إلا في مجال الفكر الصرف.
قال الآباء القديسون أن الألوهة برمتها موجودة في كل من الأقانيم (سر التدبير، ص185-187).
إن قلنا أن الابن والروح القدس ليسا إلهين زال التثليث.
ترتيليانوس المتوفي بعد 220 قال إن الشيء الجديد الذي آتت به المسيحية فتميزت عن اليهودية فيه هو الإيمان بأن الآب والابن والروح القدس هم الإله الأوحد (ضد براكسيئاس 31). فالخلاف الاهمُّ بينهما هو ألوهة الابن والروح القدس التي لا يكون المرء مسيحياً أن لم يؤمن بها.
باسيليوس الكبير على هذا. ويعتبر من ينكر ألوهة الابن هو غير مسيحي: قد جحد الإيمان (ضد افنوميوس 22: 2 ص91 من العدد 305 من الينابيع المسيحية). وعلى هذا الرأي اثناسيوس وكل آباء الكنيسة كما قال دي رينيون.
أما القول بأن الأقانيم الثلاثة هم 3 آلهة منقسمون فهو سقوط في الوثنية، سقط فيه يوحنا فيلبون الآفامي في القرن السادس (سر التدبير، ص 30 و204).
المجمع الأول المسكوني (325) استعمل لفظة “homoousios” للتعبير عن آن الآب والابن جوهراً واحداً بعينه.
استعملها دستور المصالحة (433) والمجمع الرابع المسكوني (451) للقول بأن جوهر الابن مساوٍ لجوهر أبيه لاهوتياً، ومساوٍ لنا بشرياً. سنبحث ذلك لاحقاً. إنما نلاحظ منذ الآن:
مساواة الابن للآب هي غير مساواته لنا. يملك الآب والابن والروح القدس جوهراً أحداً بذاته، لهم الجوهر الواحد بعينه بالتمام، جوهر لا يتجزّأ فيما بينهم، بدون أن يكون بينهم أي انفصال أو فراغ، لأن كل منهم موجود حاضر قائم في الآخرين دون امتزاج. فكل ما في الثالوث جوهر (باسيليوس) وليس فيه عَرَض البتة.
أما نحن البشر فافراد منفصلون بعضناً عن بعض.
الطبيعة البشرية موجودة فينا. ولكن يمتلكها كل واحد منا على حدة.
لا يسكن أحد منا في الآخر سكنى تامة ولا جزئية (سر التدبير 204 و 205).
الشرك يقول على تعدد الجواهر. الألوهة واحدة لأن الجوهر واحد.
الألوهة هي جوهر كما قال الكبادوكيون الثلاثة (سر التدبير 30).
كان دور الكبادوكيين كبيراً في التفريق بين الجوهر الواحد الأحد المشترك بين الآب والابن والروح القدس (وبين) أشخاص الثالوث.
علَّم الكبادوكيون ما يؤمن به المسيحيون حتى اليوم:
الألوهة واحدة قائمة بتمامها في الآب والابن والروح القدس بدون أن تكون منقسمة بينهم أم مركّبة أو متعددة.
هي برمتها للآب وبرمتها للابن وبرمتها للروح القدس.
واطلقوا على الجوهر الواحد اسم ousia و physis طبيعة. واطلقوا على القوام الشخصي لفظة “أقنوم”.
الجوهر ousia هو الكائن الصميمي لله غير المقترب إليه وغير المدرك. وأما الطبيعة فللصفات. والأقنوم للكيفيات الشخصية: كيف الوجود.
“وقولنا هذا لا يعني أبداً أننا نقول إلهاً أولاً وإلهاً ثانياً وإلهاً ثالثاً. فدائماً في الثالوث، الواحد = ثلاثة. ليس العدد هنا كما في الحساب. فالله غير قابل للزيادة لنقول: 1+1+1 =3. يقول باسيليوس: “نعترف بفردية الأقانيم دون قسمة الطبيعة إلى جمع”. فليس العدد 3 كمية”، بل يعبّر عن الترتيب الذي لا يوصف في الألوهة”.
فبحق قال غريغوريوس اللاهوتي: “واحد هم الثلاثة بالالوهة. الواحد الأحد هو ثلاثة بالشخصيات.”
مكسيموس المعترف المتوفي في 662 قال: إن الله هو “بصورة متعادلة وحدة وثالوث”.
التمييز بين الأقانيم محدود بعدم ولادة الآب، وبولادة الابن، وبانبثاق الروح القدس.
ما عدا ذلك كل شيء مشترك: كائنهم واحد، جوهرهم واحد، ربوبيتهم واحدة، الوهتهم واحدة، إرادتهم واحدة، فعلها واحد، سلطتهم واحدة، مجدهم واحد…
ولا وجود مجرداً للألوهة عن الأقانيم، إنما هي قائمة فعلاً في الأقانيم. لا وجود لها خارجاً عنهم.
فإن ذكرنا الله خطر لذهننا الثالوث. وإن ذكرنا الثالوث خطر ذهننا الله.
قال غريغوريوس اللاهوتي: “حينما اتكلم عن الله عليكم أن تشعروا أنكم مغمورون بنور واحد وثلاثة أنوار”.
وقال أيضاً: “عندما اسمّي الله اسمّي الآب والابن والروح القدس. “فالأقانيم هم الحقيقة الواقعة للألوهة. الأقانيم “متحدون في التمييز ومتميزون في الوحدة” (باسيليوس واللاهوتي).
فكل ما هو للآب هو للابن وللروح القدس ما عدا عدم الولادة، والولادة، والانبثاق.
فهذه غير مشتركة. هذه خاصيات شخصية.
والجوهر أيضاً ركيزة سكنى كل من الأقانيم في الأقنومين الآخرين بدون اختلاط أو انقسام، في محبة تفوق كل عقل ووصف. كل منهم حاضر للآخر من الأثنين. أي وحدة الجوهر تعني تواجد كل أقنوم في الأقنومين الآخرين.
وليست الولادة والانبثاق حادثاً عرضيا وقع في زمن معين.
الولادة والانبثاق سرمديان: أي أن الابن مثلاً لم يُولد من الآب منذ كذا مليار سنة.
وإنما هو دائماً مولود من الآب ومتحد به كشعاع سرمدي صادر سرمداً من النور البهي.
الولادة روحية سرمدية قبل أن تكون الخلائق جميعاً. وكذلك الانبثاق.
والآب منتشر ومتمدد في الروح والابن وإليه معادهما. وهو منبع، مصدر الوحدة والألوهة في الثاوث.
يمنح الابن والروح طبيعته التي تبقى واحدة، وغير متجزّئة، وغير مقسومة، ومعادلة لنفسها في الثلاثة (سر التدبير، 204-206 و31).
الابن والروح نابعان من شخص الآب: الابن بالولادة والروح القدس بالانبثاق. الآب هو العلة. شخص الآب يلد ويبثق. شخصه هو العلة (46).
ما الفرق بين الولادة والانبثاق؟ لا ندري. الله يعلم (اللاهوتي والذهبي ويوحنا الدمشقي وسواهم: لوسكي، ص 54 ودي رينيون 124-126 والدمشقي ص 68 وصر التدبير ص26).
ما هو الأقنوم؟
قال ثيئوذوريتوس أسقف قورش المتوفي 457:
“في الفلسفة الدنيوية لا يوجد أي فرق بين ال ousia والأقنوم، لأن ال ousia تعني “ما هو”، والأقنوم يعني “ما هو قائم”. ولكن بحسب رأي الآباء (القديسين) يوجد بين ال ousia والأقنوم الفرق نفسه الموجود بين العام والخاص.
وعرف الدمشقي “الجوهر” ousia بما يلي:
“إن الجوهر هو الشيء الموجود وغير المحتاج إلى شيء آخر من أجل تخثُّره. أو أيضاً: الجوهر هو كل قائم بذاته، ولا يحوي كائنه في آخر”.
فهو، إذاً، ما ليس لآخر، ما ليس له الوجود في آخر، ما لا حاجة له إلى آخر من أجل تخثُّره، ولكن ما هو بذاته. وفيه يحوي العرضُ الوجود”.
أرسطو فرَّق بين الجوهر والعرَض. هنا العرَض موجود في الجوهر. هذا ردّ على أرسطو.
وغرَّف ثيئوذوريتوس المذكور الأقنوم فقال:
“إن لكلمة “الأقنوم” معنيين: فتارة تعين الوجود فقط، وبحسب هذا المعنى الجوهر والأقنوم مترادفان. ولهذا قال بعض الآباء: “الجواهر” أو “الأقانيم”.
و ” تارة يعني ما هو موجود بذاته وفي تخثره الذاتي. وبحسب هذا المعنى يعني: الفرد المختلف عددياً عن كل آخر كبطرس وبولس وهذا الحصان مثلاً.
“الأقنوم هو الخاص القائم بحسب ذاته: إنه جوهر مع اعراضه (47) يتمتع بوجود مستقل ذاتي ومنفصل عن الأقانيم الاخرى بالقوّة وفعلياً”. يجب الإنتباه إلى لفظتي “بالقوة وفعلياً”. المسألة ليست نظرياً فكرياً، بل فعلياً.
وعرف الدمشقي الشخص:
“هو الذات الذي تظهر نفسها بافعالها وخواصها كمتميزة عن الكائنين الآخرين الذين لهم (نفس) الطبيعة بعينها”.
إذاً: يؤكد الدمشقي على الوجود الذاتي والمنفصل والمستقل الخاص بالأقنوم.
فالجوهر واحد في الأقانيم
ولكن لك أقنوم وجود ذاتي مستقل خاص به يميّزه عن الآخرين. له فرديته واستقلاله ووحدته.
هو يحوي الجوهر والخواص الأقنومية أو الشخصية. لا يوجد شيء خارجه.
فالجوهر هو العام والأقنوم هو الخاص. وليس خاصاً بمعنى أنه بملك قسماً من الجوهر وليس له الباقي. إنما هو خاص بمعنى عددي وذلك بما أنه فردي.
فالفرق بين الأقانيم يكمن في العدد لا في الجوهر.
“فيستحيل تأليف مركّب من أقانيم كاملة. فالجنس لا يتألف من أقانيم، بل هو موجود في الأقانيم”.
فليس للجوهر وجود مستقل، بينما للأقنوم وجود مستقل. وتتميز الأقانيم بعدم قابليتها للانتقال
فالطبيعة مشتركة بين أفراد الجنس نظرياً.
وأما الأقنوم فخاص بصاحبه، فلا ينتقل إلى الغير، ولا يشترك معه الغير في خواصه الأقنومية المميزة (سر التدبير 206 – 208)
فالآب مختص بعدم الولادة, لم تنتقل خاصته هذه إلى الابن والروح القدس. الابن مختص بالولادة. إنما هو ابن وحيد لا ثاني له ولم ينقل خاصّة ولادته إلى آخر. والروح القدس مختصّ بالانبثاق. الآب آب. والابن ابن. والروح القدس منبثق. هذه الخواص خاصة لا عامة بين الأقانيم.
وقد شرح باسيليوس الكبير العلاقة والفرق بين الأقنوم والجوهر في رسالة بعث بها إلى أخيه غريغوريوس النيصصي، وفي كتابه ضد افنوميوس. فاعطى مثلاً الإنسان وافراد الناس كبطرس وبولس وسلونوس.
“الإنسان” عام قابل لأن ينطبق على عدد لا يُحصى من افراد البشر. أما بطرس أو بولس أو سلوانوس فخاص.
فلا بدّ من “علامة تمييز نستطيع بواستطها ان نفهم لا الإنسان بصورة عامة، بل بطرس أو يوحنا بصورة خاصة”.
فبطرس ويوحنا خاصّ. فلا امتداد، إذاً، إلى ما هو عام في الطبيعة. فإذا أردنا تحقيقاً عن جوهر البشرية فلا نعطي في امر بطرس تعريفاً للجوهر، وتعريفاً آخر في امر بولس، وتعريفاً ثالثاً في أمر سلوانوس. فالكلمات عينها تستعمل في الحالات الثلاث وذلك لأن لهم جوهراً واحداً.
ولكن بعد أن يعرف المحقق “ما هو مشترك ويلتفت إلى الخواص الفارقة التي بواستطها بميّز الواحد من الآخر، فلا يتقابل تعريف كل منهما على تعريف الآخر في جميع المميّزات، وأن وُجد اتفاق في بعض النقاط”.
فما يقال “بصورة خاصة وذاتية يشار إليه باسم أقنوم. افترض أننا نقول “رجل”. فالطبيعية معينة، ولكن الذي يقوم موجوداً والذي هو معيَّن بصورة خاصة وذاتيه ليس واضحاً.
وافترض اننا نقول “بولس”. أننا نعلن بذلك الطبيعة القائمة الموجودة التي يشير إليها الاسم”.
وتابع قائلاً: “ليس الأقنوم بالمفهوم غير المحدَّد للجوهر الذي لا يجد أي مقرّ ثابت بسبب عمومية الشيء المعني. ولكن هو ما يقيَّد ويحصر المشتركَ وغيرَ المحدد، في كائن ما، وذلك بخاصيَّات ظاهرة”.
ويتابع باسيليوس في رسالته استنباط المميزات والخواص الذاتيه والصفات والظروف التي تحدد الطابع الفردي للإنسان، وتفصله علن الفكرة العامة والمشتركة ولا تدخل في تحديد الطبيعة.
ثم يقول: “انقل إلى العقائد الإلهية نمط التفريق نفسه الذي تقرّه في حالة الجوهر والأقنوم في المسائل البشرية، فلا تنحو نحواً ضالاً”.
فهناك ما مشترك في الثالوث وما هو مميَّز. “فالمشترك يعود للجوهر، والأقنوم هو العلامة الفارقة المميزة” (الرسالة 38: 2-5 وضد افنوميوس 1: 10 و2: 28 في العدد 299 ص 204 و 206 من الينابيع وص 20 من العدد 305 و4: 1… في مين اليوناني).
إن الخاصيَّات، كمميزات واشكال ملاحظَة في الجوهر، تقيم تمييزاً فيما هو مشترك بفضل المميزات التي تجعلها خصوصية، ولكنها لا تحطم مساواة الطبيعة (48). مثلاً، الألوهة مشتركة، ولكن الابوة والنبوَّة هما خاصتان” (أي تخص كل منهما أقنومها). “الولادة وعدم الولادة هما خاصتان مميزتان” (ضد افنوميوس 2: 28 و29 ص120 و122 من العدد 305 من الينابيع المسيحية).
وقال في الرسالة 236:
“إن التمييز بين الجوهر والأقنوم هو عين ما بين العام والخاص، كما هو مثلاً بين الحيوان والإنسان الخاص… فإن لم يكن لنا إدراك متميِّز للخواص الفارقة أي الأبوة والبنوَّة والتقديس، ولكن ألّفنا مفهومنا عن الله (انطلاق) من فكرة الوجود العامة، فلا نستطيع أن نعطي تقريراً سليماً عن إيماننا. فعلينا، إذاً، أن نعترف بالإيمان بإضافة الخاصة إلى المشترك. فالألوهة مشتركة، (إما) الأبوة فخاصة.
“فعلينا، إذاً، أن نمزج الاثنين ونقول: “أومن بالإله الآب… أومن بالإله الابن… ” وهكذا نجد حماية مرضية للوحدة (وذلك) باعترافنا بالوهة واحدة، بينما في تمييز الخواص الفردية الملاحظة في كل واحد (من الأقانيم) يوجد الاعترف بالخواص الخاصة للأقانيم”.
وأنا أخوه غريغوريوس فيبرز استقلال الأقنوم وعفويته وقيامه بذاته وتحركه انطلاقاً من ذاته، وتمتعه بالعقل والإرادة والفعل الدائم والقدرة الكلية، وتميُّز كل أقنوم عن الآخر.
ويقول في الابن كلمة الله إن له “حياة مستقلة، وليس اشتراكاً في الحياة ” (التعليم المسيحي، فصل 1-2).
ويؤكد أن الجوهر الإلهي لا ينقسم، ولا يتوزع بين الأقانيم بصورة يكون فيها 3 جواهر كما هناك 3 أشخاص (سر التدبير 210)
أما غريغوريوس اللاهوتي فقال: “يعبدون الآب والابن والروح القدس الألوهة الواحدة، الله الآب والله الابن والله والروح القدس طبيعة واحدة في ثلاث خواص عاقلة، تامة، قائمة بذاتها، متميزة بالعدد، ولكن غير متميز بالألوهة” (العظة 33: 16 في الينابيع المسيحية، العدد 118 ص 192-194) . ولما علّق على قول الرب لموسى: “أنا هو الكائن” (خروج 3: 14) قال: “إن (الله) يجمع ويحوي في ذاته كل الكائن، إذ ليس له إبتداء في الماضي أو نهاية في المستقبل… متعالياً عن كل مفهوم زمن وطبيعة” (العظة 45: 3).
وردّد ديونيسيوس المنتحل (السوري الذي كتب بين 500-510) هذا فقال:
“لما كان الله يناجي موسى لم يقل: أنا الماهية بل : “أنا الكائن”. هو العلة الجوهرية لكل وجود، صانع الكائن والقوام والماهية والجواهر” (الأسماء الإلهية 5: 4)
إذاً: الأباء الكبادوكيون ألحوا على الوجود الشخصي للأقانيم. فالأقانيم هم الحقائق الواقعية للألوهة. هم حاملوا الألوهة.
فلا وجود اللألوهة خارج الأقانيم، بل هي موجودة فيهم. هم الألوهة، هم الجوهر الإلهي. للشخص الإلهي وجود مستقل. هو مصدر للطبيعة وليس منتوجها أو إشراقها أو إشعاعها الداخلي. أنه شخص الإله الحيّ الذي يمتلك كيفية وجود وحيدة.
فظهر الله لموسى ك “كائن” موجود شخصي لا كماهية. وعبر عن ذلك بأكثر جلاء غريغوريوس بالاماس المتوفي بالعام 1359، فقال:
حينما كان الله يناجي موسى لم يقل: “أنا الماهية”، بل “أنا الكائن”.
إذاً ليس “الكائن” هو الذي يصدر من الماهية، بل الماهية هي التي تصدر من “الكائن، لأن “الكائن” يشمل في ذاته الكائن الموجود برمته”.
“إن الكنه l`entité يسبق لا الماهية فقط، بل جميع الكائنات، لأنه الوجود الأول”.
“فالماهية هي بالضرورة كائن. ولكن الكائن ليس بالضرورة ماهية” (عن مايندروف، المسيح في اللاهوت البيزنطي، ص 292 – فرنسي).
وهكذا لم يقرّ بالاماس معادلة كل الكائن مع الماهية.
لذا يمكن لله أن يظهر في كينونته نفسها مع بقائه غير قابل لان يُساهَم في جوهره. من حيث الجوهر: الله غير قابل لأن نقترب منه. إنما يتصل بنا بنعمته، بقواه. وبذلك يفيض كائنه عن جوهره. قواه كيفية وجود خاصة. هو موجود فيها. بها نتحد به.
فالله غير مقترب منه جوهرياً، ولكنه حاضر وجودياً بقدرته الكلية في الكون المخلوق (عن مايندورف، ص 293). بتعبير آخر ورد سابقاً: الله غير مقترب إليه كجوهر ولكن قواه تهبط إلينا، فنحوز نعمته التي هي قوة صادرة منه. فالمجمع السادس المسكوني (680-681) وما تلاه من لاهوتيين حتى بالاماس وقبلهم، قرّروا وجود فعل وقوى لله كشرط أساسي لوجود الماهية.
فتبقى كل ماهية تجريداً صرفاً أن لم تعتلن واقعياً ووجودياً في الفعل: الله يظهر لأنه يفعل (باسيليوس، الرسالة 189: 76 و … سر التدبير، ص 211): واقعية وجودية رائعة.
ومرّ معنا إن اوغسطينوس يقول مثل بالاماس بأن النعمة غير مخلوقة.
هذا الموقف اللاهوتي الشخصاني الوجودي دفع مايندروف إلى ذم ميتفافيزيكا الماهيات اليونانية وامتداح الميتافيزيكا الشخصانية والوجودية المسيحية (ص 289-310 وبالاخص 310)
وسبق أن قلنا أن الآب يختص بالأبوة والابن بالبنوة والروح بالانبثاق، وإن كلاً منهم يقيم في الآخر وحاضر للاخر. كل منهم شفَّاف للآخر. ولا يحجب أحد منهم الآخر، بل يسكن فيه ويحبه حباً يفوق كل حد ووصف.
والآن، ما هي العلاقة بين الأقانيم؟
نقول: إن الابن مولود من الآب.
هذا يعيّن: كيفية قيام ” (49) أقنوم الابن، ولكن لا يستنفد حقيقة شخصه. فالشخص غير قابل لأن يتموضع inobjectivable، ولا لأن يُستنفد، ولا للتبديل بادنى وابسط منه.
لذا فالحقيقة الشخصية تتجاوز الامر الانتولوجي (أي علم الكائن)، وتضحي ما وراء الانتولوجي méta-ontologique. فمفهوما “الطبيعة” و “الكائن” لا يحدّانها ولا يحيطان بها، لأنها ابعد من هذا كله وتعني فرادة originalité مطقة وفارقاً صرفاً.
حين نسأل عن الشخص لا نقول: “ما هو”؟، بل نقول: “من هو؟” ليس شيئاً أو موضوعاً. ليس موضوعاً لنعرفه، ونحدّده.
لذلك يشار إليه ولا يُعرف ويُحدّد لدرجة أنه ليس موضوع معرفة. فالزمن الشخصي، حيث كل انتولوجيا محتواة ومحددة، يؤلف “ما وراء انتولوجيا”. فسرّ الشخص هو خارج افق الانتولوجيا. يرى لوسكي وبردياييف أن “صورة الله هي الإنسان كشخص” (لوسكي 52 و 114-123 واوليفييه كليمان، ص 152- 174 وبردياييف ص 166، 174، 180).
فهذا الافق الجديد في اللاهوت والانثروبولوجيا كسر طوق الفلسفة اليونانية القديمة التي ركّزت على الماهية والعقل والمنطق والشيء العام (بيردياييف، ص 181 ومونييه، ص10-16).
لذلك المسيحية هي بحق، مؤسسة الفلسفة الشخصانية بالمعنى الحديث للموضوع (لوسكي، ص 52).
ويبقى ليدنا قسم عن شخص يسوع في باب التجسد الإلهي (راجع سر التدبير).
(44) هم باسيليوس (379) واخوه غريغوريوس النيصصي (395) وصديقهما غريغوريوس اللاهوتي (389/390).
(45) الأقنوم البشري هو مركز إتحاد جوهرين مختلفين تماماً: الروح والجسد. هو بمثابة مركز نشاط بواسطتهما. يتجلى فيهما وعبرهما. هو فيهما وهما قائمان فيه. هو المالك السيّد وهما المملوكان. يفعل بكليهما. الشخصانية لا تطرح الأمر مثل أرسطو وديكارت والفلسفة الغربية، ولا تطرح التضادّ: الروح والجسد. الشخص واحد في جوهرين. وكنا قد رددنا رداً محكماً (لم ينشر) على حديث الدكتور الشهير بولس شوشار لمجلة “الصفر”، لأنه متأثر بأرسطو. من هو الشخص؟ هو “أنا”. ومن “أنا”؟ لا أدري، الله يدري: سرّ. يا لمجد الله في بنية الإنسان! كل ما فيه يمجدّ الله.
(46) ننسب الولادة البثق إلى شخص الآب لا إلى الجوهر المشترك وإلا كان كل من الآب والابن والروح القدس غير مولود ومولود، ومنبثق. الآب ولد جوهرياً وطبيعياً الابن. الابن مولود جوهرياً من أقنوم الآب. الآب بثق جوهرياً وطبيعياً الروح القدس. الروح القدس منبثق جوهرياً وطبيعياً من الآب. لم يلد الآب الابن من فعله أو إرادته وإلا كان جوهره غير جوهر الآب. لقد ولده من جوهره سرمدياً بدون بداية أو نهاية. يسوع يولد منذ الأزل وإلى الأبد. الآب والد كذلك. الروح القدس منبثق كذلك. الولادة سرمدية. الانبثاق سرمدي: هما دائماً مستمران. لم يحدثا في الزمن وإلا كان الابن والروح القدس مخلوقَين لا خالقَين. كانا صادرّين من إرادة الآب لا من جوهره (الكبادوكيون وكيرللس الإسكندري و…).
(47) نقض لأرسطو.
(48) opophyés باليونانية. صياغة مشابهة ل onoousios. المعنى: الذي له الطبيعة الواحدة بعينها.
(49) الدمشقي 1: 8 ص68. أي أن الولادة هي كيفية وجود الابن، كما أن الانبثاق هو كيفية وجود الروح القدس: “mode d`existence”. التمييز يكون في الآب والابن والروح، وفي غير المعلول والمعلول، وفي غير المولود والمولود والمنبثق. فإن هذه لا تدل على الجوهر، بل على علاقة أحدهم بالآخر، وعلى كيفية وجودهم” (الدمشقي، ص 75، الترجمة الإنكليزية وضعت حاشيتين هامتين لمصادر الدمشقي، ص 12 العمود 2 في مجموعة post-Nicene. المترجم العرب استعمل لفظة “نسبة”بدلاً من علاقة sxesis. فمعانيها جميعاً تفيد وضعاً لا نسبة شيء إلى شيء آخر. فعلاقة الآب بالابن أبوة والابن بالآب بنوة والروح القدس بالآب انبثاق. هذه روابط أقنومية بين الأقانيم. الآب هو العلة. الابن والروح معلولان. النبوَّة تدل على كيفية وجود الابن وعلى علاقته بالآب. لكنّها لا تعرِّف شخص الابن الذي هو فوف كل تعريف وحدود. وكذلك الانبثاق. كشف الله لنا بصيصاً منه.أما حقيقته فمجهولة. كشف لنا ما هو ضروري لخلاصنا بدم ابنه ونعمة روحه القدوس.