1- الله ثالوث
المسيحية تؤمن بالبشارة الشفوية التي بشَّر بها المسيح ورسله ثم دوَّنها بعض الرسل خطيا في أسفار اسمها “العهد الجديد”. عهد اليهود عهد قديم ولَّى. عهد يسوع عهد جديد يدوم حتى الأبد.
فشل اليهود وسواهم في تشويه تعليم الكنيسة. صمدت كجبل اشمّ في وجه اليهود والرومان والفلسفة اليونانية. كتابها يوناني، إنما طعن الفكر اليوناني في الصميم. الإنجيل صدمة واضحة وشديدة على رقبة علماء الدين اليهودي. قال يسوع: “أحمدك، يا أبتِ، رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال… ” (متى 11: 25-26). الأطفال هم تلاميذه صيَّادو السمك. والحكماء والفهماء هم علماء الدين اليهودي. بولس الرسول على هذا أيضاً (جهالة الكرازة 1 كو 18: 1-23). في أثينا هزأ الفلاسفة بجلّهم من خطاب بولس الرسول (أعمال 17). ومع هذا طأطأت أثينا رأسها. بولس قال: “فإنه إذ كان العالم وهو في حكمة الله لم يعرف الله لم يعرف الله بالحكمة، حسن لدى الله أن يخلص بجهالة الكرازة الذين يؤمنون- أما نحن فنكرز بالمسيح مصلوباً شكاً لليهود وجهالة للأمم” (1 كو 1: 21-23). ما بالى بولس بالفلسفة اليونانية ولا باليهود. بشّر في مناطق يونانية اللغة والفلسفة والفكر. صدمهم ولم يبالِ لأنه مؤمن بأنه رحل حقيقة لا تُقهر، ومؤمن بأن الله يدعمه (31). وصدمت المسيحية الفكر اليوناني، فصرعته كما صرعت اليهودية.
المسيحيون واثقون من صحة كتابهم وسلامته، ومن تشدّد أجدادهم كابرا من كابر منذ البداية في كل الدنيا. وتمت ترجمته باكراً إلى اللاتينية والسريانية. وبالنسبة للعهد القديم، حافظ اليهود عليه بدقة عجيبة. وفي مخطوطات البحر الميت نسخ تعود إلى ما قبل الميلاد القديم. والعقلانيون المعاصرون الكفّار فشلوا في مضمار الطعن في ارتقاء كتاب العهد الجديد إلى القرن الأول (32). الطبعات اليونانية الصادرة في شتوتغارت بألمانيا خضعت لأدقّ تدقيق في أوربا. والباقي تخرّصات متخرصين.
بموجب المضمون الشفوي والكتابي، بشَّر الرسل بيسوع المسيح وعَمَّدوا باسم الثالوث القدوس: “وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 19). وكتب المسيحيون خلال القرون الثمانية الأولى باليونانية وحدها 96 مجلداً (33)، فضلاً عما فُقِد في الاضطهادات الرومانية وسواها. والكتابات تدور في معظمها حول الكتاب المقدس. والمخطوطات القديمة عديدة. وهي معروضة لكل باحث عليم في أوربا وأميركا وسواهما. ويرحّب المختصون بكل وافد كريم. باب البحث مفتوح.
ماذا في العهد الجديد؟ يسوع صدم اليهود إذ أشار إلى ألوهته فهمّوا برجمه: “كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضاً أن الله أبوه معادلاً نفسه بالله” (يوحنا 5: 18). “قال لهم يسوع: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن. فرفعوا حجارة ليرحموه” (يوحنا 8: 58-59). “أنا والآب واحد فتناول اليهود أيضاً حجارة ليرجموه… أجابه اليهود: لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف. فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً” (يوحنا 30: 10-34). اعتبره اليهود مجدِّفاً يستحق الرجم لأنه قال عن نفسه أنه الله. وقيافا رئيس الكهنة اعتبره مجدفاً بمثل هذا الكلام، فحكم المجمع اليهودي برئاسته على يسوع بالموت (متى 26: 64 – 67). من محاكمة يسوع يبدو جلياً أن المجمع اليهودي ما كان جاهلاً بشارة يسوع. لذلك طرح رئيس الكهنة عليه السؤال التالي: “استحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله؟ قال له يسوع: أنتَ قلت” (متى 26: 63-64). وقرر المجمع الحكم بالموت. “حينئذ بصقوا في وجهه ولكموه وآخرون لطموه قائلين: تنبَّأ لنا أيها المسيح من ضربك؟” كانوا عارفين أنه قال في نفسه أنه المسيح. وواقع المحكمة يلقي نوراً على محاصرة يسوع للفريسيين حين أجابوه أن المسيح هو ابن داود. قال لهم: “كيف يدعوه داود بالروح رباً؟” (متى 22: 41-42). لولا عمى بصيرتهم لفهموا من هنا أن المسيح ليس إنساناً فقط بل هو إله وإنسان، وهان عليهم الإقبال على المسيحية.
هكذا جاء في كتاب المسيحيين وهم يعرفون أن المسألة مسألة إلهام لا مسألة منطق. قبلوا شخص يسوع الذي شغف قلوبهم وقبلوا إنجيله، فقبلوا المضمون. تمسكهم بشخص يسوع هو الأساس ولو أحرق الحكام الظالمون كل كتبهم. الكتب هي كتب يسوع. يتعلقون بيسوع أولاً وبكلامه ثانياً. ديانتهم ديانة شخص إلهي حي، لا ديانة كتاب جامد.
اليهود حرفيون يحلّون كتابهم منزلة كبرى من التقديس، فعاب عليهم بولس الرسول تمسكهم بحرفية الكلام لا بروحه (2 كورنثوس 3: 3-18).
2- يسوع في الكتاب المقدس
يسوع في الكتاب المقدس هو إله وإنسان. سنطرق الآن البند الأول أي ألوهته.
كتب المسيحيّون في لغاتهم آلاف المجلدات. العربية تخلو من طرق واسع للموضوع. كنَّا في العام 1975 أصدرنا “يهوه أم يسوع” فسدّ بعض الثغرة. إلا أنيّ حصرت نفسي في الردّ على بدعة “شهود يهوه”، فلم يبق لدي متسع من الوقت لاستنفاد الموضوع. ولكن نقطة الانطلاق وجيهة جداً.
يوحنا فم الذهب قال أن لفظتي “上帝” و”主” مترادفتان في الكتاب المقدس دون أي امتياز للواحدة على الأُخرى. فبعض الهراطقة في أيامه كان يميز لفظة “رب“. شهود يهود ميزوا لفظة “耶和华“. الكنيسة الناطقة باليونانية لم تستعمل قط الأصل العبري. ولما ترجم ايرونيموس إلى اللاتينية (عن الأصل العبري) العهد القديم راعى استعمال الترجمة اليهودية اليونانية. ترجمَ “耶和华” برب. وهكذا فعلت السريانية وسواها. (الموعظة 14: 2 على التكوين والموعظة 5: 2 ضد أنوميين).
العهد القديم استعمل أكثر من 6000 مرة لفظة “耶和华” (أو “رب“). والعهد الجديد استعمل لفظة رب للآب والابن والروح القدس. كما استعمل لفظة 上帝 للثلاثة. واستعمل لفظة “رب” 120-125 مرة ليسوع وحده أي أكثر مما استعملها للآب. في الكنيسة الأولى كانت القراءة والصلاة تتم باليونانية، حتى في روما إلى أواسط القرن الثالث. فالذي يقرأ أكثر من 6000 مرة لفظة “رب” في العهد القديم و 120-125 مرة في العهد الجديد، لا يستطيع أن يرى في يسوع رباً أدنى من الآب. من مراجعة فهرس الكتاب المقدس تحت لفظة “رب” يلحظ المرء ال 6000 مرة أو ما إليها ترد لفظة رب 任何 耶和华 في العهد القديم العبري واليوناني.
الأب برا Prat أورد في الصفحة 138-140 من الجزء الثاني (الطبعة 38) احصائية نقلتها في “يهوه أم يسوع؟”) في حاشية الصفة 32: دعي يسوع رباً في العهد الجدي حوالي 120-125 مرة. وخُصَّ الفصل التاسع منه بعنوان “الدعاء باسم يسوع”. في الصفحة 119 لاحظتُ أن أسم يسوع ورد في الفصل التاسع هذا 46 مرة، بينما ورد أسم الآب 8 مرات وأسم الله 8 مرات.
عدا ذلك أطلق العهد الجديد على يسوع أسم الله:
1. هوذا العذراء تحبل وتلد أبنا وتسميه عمانوئيل” (متى 1: 23). عمانوئيل اسم جلالة بالعبرية. ترجمته: الله معنا.
2. في إنجيل يوحنا جاء أن يسوع هو الله (1: 1) وهو الله الرب (يوحنا 20: 28).
3. بولس اسماه 上帝 (رومية 5: 9 وتيطص 2: 13).
4. الرسالة إلى العبرانيين 1: 4 و6-8.
5. بطرس الثانية 1: 1.
6. رسالة يوحنا الأولى 5: 20.
7. في أعمال الرسل خطاب بولس يسمي الكنيسة المفتداة بدم يسوع “كنيسة الله” (28: 20).
كما جاء في رؤيا يوحنا عن لسان يسوع أنه يهوه الرب الإله المهمين كما مر معنا (1: 8).
وفي التثنية 17: 10 يهوه هو ملك الملوك ورب الأرباب، بينما في العهد الجديد الله هو ملك الملوك ورب الأرباب (تيموثاوس الأولى 6: 16) ويسوع كذلك (رؤيا 17: 14 و19: 16).
إن كان يهوه والله ويسوع ملك الملوك ورب الأرباب فيسوع هو يهوه والله. وفي كتاب “يهوه أم يسوع؟” فيض من الشواهد. وفي العربية الآن كتاب كيرللس الأورشليمي المتوفي في العام 387. عنوانه “عظات كيرللس الأورشليمي”. فيه شواه من الكتاب المقدس على ألوهة يسوع وبشريَّتَه.
3- ألوهة الروح القدس
منذ الآية الثانية من العهد القديم يرد أسم “روح الله” (تكوين 1: 2) روح الرب (عدد 11: 29). ومثل ذلك كثير جداً. يمكن الرجوع إليه في فهرس الكتاب المقدس (الصفحة 224 بالنسبة إلى “روح الرب” فضلاً عن أمثاله تحت لفظتي إله والله (34)).
وفي العهد الجديد كثرة. عبارة “الروح القدس” وحدها وردت 90 مرة في الفهرس العربي (254-255).
يسوع وعد تلاميذه بأن يرسل إليهم معزياً آخر الروح القدس (يوحنا 16: 14 و26 و15: 26 و16: 7 و12). فالروح القدس نظيره. وجاء في أعمال الرسل أن الروح القدس هو الله (5: 2 و4). وفي كورنثوس الثانية (3: 17) الروح هو الرب. فمن الواضح أنه الله والرب ونظير يسوع المعزّي. الكنيسة آمنت به إلهاً له جوهر الآب والابن.
4- عقيدة الثالوث في التاريخ
لا نستطيع أن نُجعل هنا مجلدات. فالآب الفرنسي ثيؤفيل دي رينيون de Regnon اصدر في مطلع القرن 4 مجلدات دراسة على سر الثالوث الأقدس. جمع نصوص آباء الكنيسة القدامى وترجمها إلى الفرنسية ومحَّصها وحللها، وقارن بينها. وكتب لوبريتون Lebreton مجلدين كبيرين عن تاريخ عقيدة الثالوث الأقدس قديماً. في العربية الآن ترجمة “الآباء الرسوليين”، حيث رسائل اغناطيوس الأنطاكي (المتوفي 107) تذكر كثيراً الثاوث. وأيضاً كتاب كيرللس الأورشليمي المذكور آنفاً. وفي كتاب “سر التدبير الإلهي” استشهادات عديدة من آباء الكنيسة القدامى. كتاب “المئة مقالة” (يوحنا الدمشقي) تلخيص لتعليم الكنيسة والمجامع المسكونية الستة السابقة لرقاده (649/650). في طبعة لوكوين للنص اليوناني تشير الحواشي الكثيرة إلى نصوص الآباء والمجامع السابقين له. في الترجمة الإنكليزية شيء جيد من ذلك أيضاً.
وفي العربية أيضاً كتاب باسيليوس الكبير في “الروح القدس” غريغوريوس اللاهوتي وكيرلس الإسكندري (وباسيليوس على ما اذكر) قالوا في الروح القدس ما قالوه في الابن omoousios الذي له وللآب الجوهر الواحد بعينه.
(31) راجع خطابه في أثينا (أعمال 17).
(32) مجموعة مين اليوناني تبلغ 161 مجلداً ضخماً. واللاتيني 221، فضلا عن السرياني والأرمني والقبطي والحبشي والجيؤورجي قديماً. ومنذ 1943 تصدر في باريس (ولآن في المانيا) مجموعة “الينابيع المسيحية. صدر منها حتى الآن (1995) أكثر من 410 أجزاء. معظمها تقريباً نصوص آباء الكنيسة الذين كتبوا باليونانية منذ تعليم الرسل (القرن الأول) واغناطيوس الأنطاكي (حوالي 107) والحبل على الجرَّار. فمن يستطيع أن يزور هذا التراث الضخم ويجعله مقبولاً من قبل عمالقة النقد الأدبي والتاريخي في أوربا؟ في شتوتغارت (ألمانيا) تصدر أدق طبعات الكتاب المقدس على أيادي فحول مشاهر الاختصاصيين. والعمل الدؤوب متواصل بلا انقطاع. فمَن كان ذا عقل جبَّار وذا رغبة صادقة فليخض ميدان البحث العلمي ويصر عالماً لا متطفلاً”.
باختصار، صحة العهد الجديد فوق كل نقاش اليوم. وهو من القرن الأول المسيحي بدون أدنى شك (كما مرَّ منا).
(33) وهنا استلمتُ (19/11/95) كتاباً هاماً يحدد تواريخ تدوين أسفار العهد الجديد: متى الآرامي-اليوناني (54), متى اليوناني ولوقا وأعمال الرسل (63-64). مرقس (66-67). رسائل بولس (50/51-61). العبرانيين (61 أو 62)…
Philippe Rolland L’Origine et la date des Evangiles, ed. St Paul, Paris 31, 1994, p. 163-4.
(34) هذا مع العلم أن الفهرس العربي مختصر لا كامل. قد لا يعادل 1/4 الفهرس اليوناني أو الإنكليزي. فاليوناني مجلدان ضخمان للعهد القديم ومجلد كبير للعهد الجديد. أما الإنكليزي فمجلد واحد ضخم جداً. وهنا فهارس فرنسية وسواها.