عندما يفقد الإنسان كل أمل في الشفاء من مرض مستعصٍ تَحكَّم بأعضاء جسده، فيتمنّى أن تقصر أيامه لكي يخفف من آلامه ومعاناة أقربائه وأصدقائه المحيطين به في ساعات عذابه، فيضع حدّا لحياته إمّا بالانتحار أو بمساعدة طبية ما. هذا ما يُسمّى بالقتل الرحيم، وهو يُمارس في مجتمعنا المعاصر ومُتَرف به قانوناً في أكثر من بلد، وبخاصة في الغرب. وقد أُنشئت جمعيّات عديدة تطالب بتشريع “الموت بكرامة”، وباللجوء إلى الانتحار تحت إشراف طبيب، وذلك لأن أعضاء هذه الجمعيّات باتوا يعتبرون أن للإنسان الحق بأن يرفض الألم ويختار الموت لوضع حدّ له. ما رأي الكنيسة من هذه المسألة؟ وماذا تقول بالقتل الرحيم؟.
ترقى فكرة القتل الرحيم إلى مجتمعات العصور القديمة، فقد أقدمت بعضها على وضع حدّ لحياة العُجّز، إما بالقتل الجماعي وإما بوقف كل أشكال المعالجة الطبية، كما يقول أفلاطون: “أما أصحاب الأجساد العليلة، فلنتركهم يموتون؛ وكذلك أصحاب النفوس المنحرفة والفاسدة. ومما لا شك فيه أن ذلك يعود بالخير على المرضى أنفسهم وعلى المدينة“. وإبان الحرب العالمية الثانية، مارس النازيون القتل الرحيم على عشرات الألوف من المعوقين والمسنّين، رحمةً بهم على حد زعمهم…
لا بد من القول بأن القتل الرحيم جريمة قتل، ولو كانت له صفة “الرحيم” أو “الهنيء” بحسب الأصل اليوناني Euthanasia. فعلّة الحياة هي الله، وهو رب الحياة ومحورها. وعندما يرفض الإنسان هذا المحور معتبرا نفسه محور حياته والكون، فيشعر بأن فكره هو القياس والمعيار لذاته وليس الله ولا مشيئته، فيقرر تاليا أنه سيد حياتَه وموته. في هذه الحالة يكون القتل الرحيم انتحاراً. والانتحار في نظر الكنيسة قتل، ومخالفة للوصيّة الإلهية. لقد طغت هذه المحورية الفردية على العالم المعاصر، بحيث غدا الإنسان، بحكم حكم الأكثرية والاستفتاءات الديمقراطية، يخضع لقوانين تناقض الإرادة الإلهية بالحياة كالإجهاض والقتل الرحيم. فتصبح، إذاً، الأكثرية المحكومة بالخطيئة والابتعاد عن الله هي المرجعية بدلا من الله نفسه. وهكذا لا يعود ثمّة قواعد أدبية إلهية يُبنى عليها المجتمع، بل شرائع تتغيّر بتغيّر الأكثريات والأمزجة البشرية.
من جهة أخرى، يلعب البُعد الاقتصادي دوراً هاما في ممارسة القتل الرحيم. وهذا ما يسيء إلى الإنسان الذي يشعر بعدم أهميته، إذا ما أقعده المرض أو الإعاقة. ففي مجتمعنا الاستهلاكي الذي تتحكم فيه الإنتاجية والروح الانتفاعية، يقاس الإنسان بمدى فاعليته المادية، فيغدو مجرد آلة تُستَخدم في خدمة الآخرين، ثم تُرمى حالما تُستَنزف طاقتها. وثمة في الغرب مَن يقف ضد التجارب الطبية التي تسعى إلى إطالة عمر الإنسان، وذلك لأن هذا الأمر يرهق دافعي الضرائب من العمّال لصالح المتقاعدين المتزايد عددهم وأعمارهم، كما أن المجتمع أمسى يستثقل زيادة عدد المسنين والمعوقين. في هذا السياق يكون الإنسان قد تجرّد من أهم ما يميزه عن غيره من المخلوقات، فقد تالياً قيمته الإلهية كونه يحمل صورة الله. فبدلا من مرافعة المسنّ والاعتناء به قبَل أهله وأصدقائه والفريق الطبي الذي يعالجه، نرى البعض يدعو إلى التحرر من عبئه، والتساؤل الدائم من جدوى استمراره في الحياة.
إذا كان القتل الرحيم جريمة في حالة لإنسان يتألم ويعاني من العذاب، فإعطاء المسكّنات والمهدّئات والأدوية المخففة أمر لازم، ذلك إن الكنيسة لا تعتبر الألم بحد ذاته أمراً مجيداً أو طريقاً توصل إلى الله. ولكن الأهم أن المريض بحاجة إلى من يرافقه بحبّه ورعايته واحتضانه. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أهمية التكافل الاجتماعي والمادي في المجتمع، لكي يشعر مَن هو فقير وغير قادر على تكاليف استمرارية أحد أحبائه في الحياة بأنه غر وحيد في مواجهة خيارات كلها أليمة ومقلقة لضميره. ويمكن دور الجماعة المؤمنة في دعم ذوي المريض المتحضر أو الساقط في غيبوبة، ليس فقط ماديا بل معنويا وروحيا، وذلك لإخراجهم من حالة التشنج والقلق النفسي الذي حلّ بهم بسبب حالته.
ينبغي القول، ختاماً، إن الإنسان كيان خُلق على صورة الله ومثاله، وليس آلة أو مضخّة متى عجزت أو أُصيبت تُرمى في سلّة المهملات. كيف نفهم استفاقة أحد الشبان في الولايات المتحدة بعد مرور أكثر من سبع سنوات على سقوطه في الغيبوبة؟ لا يجوز اليأس وفقدان الرجاء. هذه قمّة الخطيئة. بدلا من تشجيع “حضارة الموت”، المطلوب أن نحب المريض، أيّا تكن حالته، كي يشعر حقّا بالفرح والطمأنينة والكرامة، فيحيا ويموت بتسليم كامل.
نقلاً عن: نشرة رعيتي
أبرشية جبيل والبترون
الأحد 8 آب 1999
العدد 32