هذه المقالة ليست لإقناع القارئ بصوابيّة ما بُنيت عليه من معطيات. يقتنع أو لا يقتنع هذا شأنه! ولكنْ لا بدّ للكلمة من أن تُقال! هذه، بصورة إجماليّة، قراءة لواقع يتكشّف، تدريجًا، وفقًا لمسار تكاد معالمه الأساسيّة، لكاتب هذه الأسطر، أن تكون بديهيّة. معطياتنا استمددناها من ملاحظات ودراسات وتقارير باتت في متناول مَن يرغب في مطالعتها، هنا وثمّة، في المكتبات أو عبر الإنترنت. هذه نكتفي، في هذا المقام، بالإشارة إليها. تركيزنا هو على قراءتها قراءة شاملة دونما دخول في تفاصيل إلاّ ما يُجدي في إيضاح معالم الصّورة المعروضة، والّتي هي، في نظرنا، واقعيّة جدًّا من منطلق إيمانيّ.
“يوم المسيح” (2 تسا 2: 2)، أو يوم “مجيء ربّنا يسوع المسيح واجتماعنا إليه” (2 تسا 2: 1) آت. متى؟ لا أحد يعرف بدقّة! ليس معطًى لنا أن نعرف! الإصحاح 24 من متّى يتكلّم على أمرَين: خراب أورشليم، الّذي حصل في العام 70 م، ومجيء الرّبّ يسوع وانقضاء الدّهر. بالنّسبة للأمر الثّاني، الكلام صريح: “أمّا ذلك اليوم وتلك السّاعة فلا يعلم بهما أحد ولا ملائكة السّموات إلاّ أبي وحده” (مت 24: 36). على أنّ الرّبّ يسوع يعطي تلاميذه علامات بشأن قرب تلك السّاعة: “من شجرة التّين تعلّموا المثل. متى صار غصنها رخصًا وأخرجت أوراقها تعلمون أنّ الصّيف قريب. هكذا أنتم أيضًا متى رأيتم هذا كلّه فاعلموا أنّه قريب على الأبواب” (مت 24: 32 – 33). لذلك يؤكّد يسوع لتلاميذه ضرورة أن يسهروا، أي أن يكونوا مستعدّين، لأنّهم لا يعلمون في أيّة ساعة يأتي ربّهم، فإنّه في ساعة لا يظنّونها يأتي ابن الإنسان (مت 24: 42، 44).
السّؤال: “مَتَى؟” يبدو أنّه استمرّ مطروحًا بين المؤمنين جيلاً بعد جيل. صدى ذلك تردّد في رسالة الرّسول بولس إلى أهل تسالونيكي الأولى والثّانية. في الرّسالة الأولى، يعيد الرّسول بولس تأكيد الطّابع المباغت لحلول يوم الرّبّ ويدعو أهل تسالونيكي إلى السّهر والصّحو. هكذا عبّر عن ذلك: “أنتم تعلمون بالتّحقيق أنّ يوم الرّبّ كلصّ في اللّيل هكذا يجيء. لأنّه حينما يقولون سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلاك بغتة كالمخاض للحبلى فلا ينجون… فلا ننمْ إذًا كالباقين بل لنسهر ونصحُ” (1 تسا 5: 2 – 3، 5). أمّا في الرّسالة الثّانية فيزوّد الرّسولُ أهل تسالونيكي بمعطيات أوفى: يوم المسيح لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد، أي ارتداد الكثيرين من الّذين كانوا محسوبين من المؤمنين بيسوع، أو منحدرين من عائلات كانت للمسيح. الارتداد سبّاق (2 تسا 2: 3). هؤلاء يؤخذون بـ”خديعة الإثم”. يعمل فيهم “سرّ الإثم”. لماذا؟ “لأنّهم لم يقبلوا محبّة الحقّ حتّى يخلصوا”. ولأنّهم يفعلون ذلك عن إصرار يرسل إليهم الله “عمل الضّلال حتّى يصدّقوا الكذب”. بكلام آخر، لأنّهم سُرّوا بالإثم ولم يصدّقوا الحقّ يحرمهم الله من معرفة الحقّ ويجعلهم يصدّقون الكذب كأنّه حقّ (راجع 2 تسا 2)!
من جهة أخرى يكشف الرّسول بولس، ولأوّل مرّة بعد صعود الرّبّ يسوع إلى السّماء، أنّ حلول يوم المسيح سيسبق استعلان مَن يسمّيه “إنسان الخطيئة ابن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كلّ ما يُدعى إلهًا أو معبودًا” (2 تسا 2: 3 – 4). هنا يتكلّم الرّسول على أمر يعتبره حاجزًا لاستعلان إنسان الخطيئة هذا. ويكلِّم أهل تسالونيكي باعتبارهم عارفين بما يشكّل هذا الحاجز. لكنّه يؤكّد أنّ لاستعلان ابن الهلاك ميقاته. آنذاك يُرفَع الحاجز ويُستَعلَن مَن يصفه الرّسول بـ”الأثيم”، الّذي سيكون “مجيئه بعمل الشّيطان بكلّ قوّة وبآيات وعجائب كاذبة” (2 تسا 2: 9). فقط متى استُعلن إنسان الخطيئة، الأثيم، لا قبل ذلك، “يبيده الرّبّ بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه”، أي بظهور مجيء الرّبّ يسوع (2 تسا 2: 8). إنسان الخطيئة، عمليًّا، كلُّه خطيئة. هو ابن الشّيطان بامتياز، ولا أثر فيه للصّلاح! الّلافت اللاّفت في إنسان الخطيئة هذا ليس أنّه تجسيد للشّرّ وحسب، بل أنّه “يجلس في هيكل الله (كإله) مُظهرًا نفسه أنّه إله” (2 تسا 2: 4). إذًا إنسان الخطيئة هو إنسان وسيدّعي الألوهة! وهو سيأخذ النّاس، الّذين لم يقبلوا محبّة الحقّ، بالخدعة. من هنا الكلام على “خديعة الإثم”. وطالما هناك خدعة فهناك تظاهر بما ليس إنسان الخطيئة عليه في عمقه. هو خادم الظّلمة المدّعي بأنّه خادم النّور!
هذا ينقلنا إلى الكلام على الوحش الآخر، في الإصحاح 13 من سِفر الرّؤيا، الّذي يعمل بكلّ سلطان مَن يُعرف بـ”الوحش الأوّل” (رؤ 13: 12)، الّذي سلطانه، بدوره، من التّنين (الشّيطان) (رؤ 13: 4). ثمّة ما يبيِّن أنّ “الوحش الأوّل” هو مجموعة دول و”الوحش الآخر” هو إنسان. “الوحش الآخر” له ثلاث صفات: له قرنان، أي إنّه ذو سلطان لأنّه يعمل بكلّ سلطان “الوحش الأوّل”. وهو شبه خروف. الخروف هو رمز المسيح. فإذا كان “الوحش الآخر” شبه خروف فهذا معناه أنّ مظهره خدّاع، إذ له هيئة المسيح الخارجيّة، لكنّه الوحش، الأثيم، لأنّه يتكلّم كتنّين (رؤ 13: 11) أي كشيطان. إنّه، إيّاه، بكلام آخر، إنسان الخطيئة الّذي تكلّم عليه الرّسول بولس في رسالته الثّانية إلى أهل تسالونيكي.
يؤكّد ذلك أنّ “الوحش الآخر” عدد اسمه عدد إنسان. هذا العدد هو 666. ما يؤخذ في الاعتبار هنا هو نظام ترجمة الحروف إلى قيم رقميّة. لو كانت الإشارة في هذه المقاربة إلى إنسان ما كنَيرون، مثلاً، كما يميل قوم، لكان من المفترض القول إنّ عدد هذا الإنسان هو عدد اسم “الوحش”، من قبيل نسبة عمل نيرون إلى روح “الوحش” فيه، لا العكس كما ورد في الآية 18 في السِّفر عينه أعلاه. هذا “الوحش الآخر”، أي إنسان الخطيئة، هو الّذي أُعطي أن يجعل الجميع، الصّغار والكبار، والأغنياء والفقراء، والأحرار والعبيد، تُصنَع لهم سمةٌ على يدهم اليمنى أو على جبهتهم، وأن لا يقدر أحد أن يشتري أو يبيع إلاّ مَن له السِّمة (أو) اسم الوحش أو عدد اسمه (رؤ 13: 16 – 17).
لو قرنّا صورة “الوحش الآخر”، في سِفر الرّؤيا، بصورة “ضدّ المسيح” في رسالة يوحنّا الثّانية (1: 7)، بصورة “روح ضدّ المسيح” في رسالة يوحنّا الأولى (4: 3)، كما مال العديد من آباء الكنيسة (راجع كتيِّبنا في سلسلة أوراق ديريّة: المسيح الدّجّال، واقع أم خيال؟)، فإنّ إنسان الخطيئة يكون هو إيّاه لا “الوحش الآخر” وحسب بل ضدّ المسيح، أو المسيح الدّجّال أيضًا. كذلك إذا كان الرّسول بولس في رسالته الثّانية إلى أهل تسالونيكي قد تكلّم على “سرّ الإثم” الّذي “الآن يعمل”، في زمانه، على حدّ تعبيره (2 تسا 2: 7)، وإذا تكلّم يوحنّا الحبيب، بالقياس عينه، على “روح ضدّ المسيح” الّذي هو “الآن في العالم”، في زمان يوحنّا، أيضًا، على حدّ تعبيره، فإنّنا نرى هذه الآنيّة، اليوم، قد بلغت ذروتها، وأنّ ظهور إنسان الخطيئة، الوحش، ضدّ المسيح، قد حان!
ثمّة، اليوم، أكثر من مؤشِّر إلى أنّ غصن التّين صار رخْصًا، وقد أخرجت الشّجرةُ أوراقَها. لذلك نعلم أنّ تمام ما تكلَّم عليه الرّسول بولس إلى أهل تسالونيكي، وما تكلّم عليه الرّسول يوحنّا في رسالته الأولى والثّانية وفي سَفر الرّؤيا، بات قريبًا على الأبواب!
أوّل ما يلفت، هذه الأيّام، إثارة الأوساط الرّهبانيّة الأرثوذكسيّة، لا سيّما في أشخاص أكثر وأبرز وأهمّ رموزها، كالأب بائيسيوس الآثوسيّ، والأب يوسف فاتوبيذي، والأب صفروني أسّكس (لندن) والأب كليوبا الرّومانيّ، أقول إثارة الأوساط الرّهبانيّة الأرثوذكسيّة موضوع قرب حلول الزّمن الأخير. هؤلاء آباء ذوو وزن روحيّ كنسيّ ليس بقليل. صحيح أنّ ثمّة مَن يُؤْثِر، بينهم، اجتناب الكلام على دلالات العدد “666”، اليوم، كالأب بورفيريوس الرّائيّ، ولكنْ من باب الرّعاية، تبديدًا لموجة الهلع المثار، وتأكيدًا لأوّليّة الاهتمام بالإيمان في القلب والحرص من الانجرار وراء هوس الأرقام. المَوقفان، في نظرنا، يلتقيان ويتكاملان من حيث إنّ أحدهما يؤكِّد الحثّ على التّوبة وتكثيف الحياة في المسيح، والآخرُ قُرْبَ حلولِ الزّمان الأخير، باستقراء ما هو جار الآن، وصولاً إلى ظهور ضدّ المسيح والمجيء الثّاني للمخلِّص!
من جهة أخرى، يُلاحَظ أنّ عدد الأيقونات الباكية، هنا وهناك، في العالم الأرثوذكسيّ، هذه الأيّام، في تزايد مطّرد. لا شكّ أنّ لهذا الأمر دلالته. كأنّما الرّبّ الإله ينبّهنا إلى حدث رهيب، شامل وغير عاديّ، على وشك أن يأتي، وأنّ علينا أن نُعِدّ أنفسنا لمواجهته، اليوم قبل الغد، بالتّوبة الصّدوق والصّوم والصّلاة! الختن يأتي في نصف اللّيل حين لا يكون متوقّعًا! “حينما يقولون سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلاك بغتة كالمخاض للحبلى” (1 تسا 5: 3)!
هذا سياق موضوع الـ”666″ كما نراه. ولكنْ، عند غيرنا كلام آخر في شأنه. إذا كان عندنا مؤشِّرَ خراب، فهو، عند سوانا، العكس تمامًا، مؤشّر بناء!