الفصل الأول: المفهوم اللاهوتي لبقايا (ذخائر) القديسين
أ- مفهوم عام لعبارة بقايا (ذخائر) القديسين:
كلمة بقايا باللغة اليونانية وباللغة اللاتينية الكلاسيكية RELIQUIAE، في الأصل تعني أن أي شيء من بقايا الأموات، ولكنها مع الوقت أخذت معنى دينيًا إذ خصصت الكنيسة هذه اللفظة لبقايا القديسين وما يختص بهم: كالأجساد والأدوات التي استعملها القديس خلال حياته الأرضية وكل ما تبقى من الأدوات التي تألم بها وأدّت إلى استشهاده.
والبقايا هي جلد القديس، هيكله، ثيابه وكل شيء مادي استعمله حتَّى موته، وفي كثير من الأحيان الأواني المقدسة والأدوات التي كانت لها علاقة مع جسده.
ب- تقديس المادة:
لقد أتى الإله ليقدّس المادة ويطهرها ويرفعها عندما َقبِل أن يصير جسدًا. لأن جسدنا نحن البشر هو من مادة هذا العالم، ولكن هذه المادة بعكس ما يقوله بعض الفلاسفة اليونان القدماء، مثل أفلاطون، الذين يعتبرون الجسد كسجن للنفس والمادة بحدّ ذاتها فاسدة، أو كالهرطقة الغنوسية التي تؤكد أن المادة هي شرّ.
فهي بحد ذاتها جيدة، لأنَّها خليقة الله. لكننا يمكن أن نعتبرها قد فسدت بعد السقوط مع فساد طبيعة الانسان. ولكن هذا لايعني انها لا يمكن أن تتقدس من جديد، لأن المسيح قد أتى ليقدسها. لذلك عندما يتقدس الإنسان نفسًا وجسدًا، “أجسادكم هي أعضاء المسيح ( 1 كو 6: 15 ) وهيكل الروح القدس” ( 1 كو 6: 19 )، وهذه هي دعوتنا أن نتقدس بكليتنا.
نرى في معموديتنا عندما يقدّس الماء ويعاد إلى طبيعته الأصلية، انه يتجاوز طبيعته نفسها: فالمسيح بنزوله إلى الأردن، وباعتماده؛ حوّل الماء إلى قوة الفداء لكل البشر، وجعلها تحمل نعمة الفداء في العالم.
وفي المنظار نفسه، الإنسان المسيحي الذي يلتصق كليًا بالمسيح تتحول مادة جسده بنعمة المسيح فيمتلئ جسمه من الروح القدس ويكون انعكاسًا ونق ً لا لقوة المسيح في العالم، وجسده كّله يصير إلهيًا لأنه ملتصق بالاله المتجسّد.
لقد صار الإنسان عبدًا للقوات الشيطانية عندما صار عبدًا للعالم ومادّته. وتحرير الإنسان يبدأ بتحرير المادة، أي تطهيرها وفدائها، وباعادتها إلى وظيفتها الأصلية: وسيلة لحضور الله، وحماية ودفاعًا ضد الواقع الشيطاني المدمّر.
فالمادة، بالمنظار المسيحي للعالم، ليست محايدة أبدًا. لأنَّها إذا لم “تربط بالله” أي إذا لم ينظر إليها وتستعمل بمثابة وسيلة للشركة معه والحياة فيه، تصبح حاملة لما هو “شيطاني”، بل مكان وجوده بالذات.
وليس من قبيل الصدفة أن رفض الله والدين في عصرنا قد تبلور في المبدأ القائل بالمادية، وبأن المادة هي الحقيقة العلمية المطلقة، وأن لا بد من خوض حرب ضد الله باسم “المادية”، هذا الرفض لم يسبق له مثيل وهو مستمر في أجزاء تتسع باستمرار في عالمنا الذي يفترض أنَّه متحضر.
ولكن ليس من قبيل الصدفة أيضًا أن الدين الكاذب والروحانية الكاذبة غالبًا ما يقومان على رفض المادة، وتاليًا رفض العالم نفسه، وعلى جعل المادة مرادفة للشر أي التجديف على خليقة الله.
ورفض التدخل الإلهي في المادة كان من الأسباب التي أدّت بمحاربي الأيقونات إلى هرطقتهم واحتقار بقايا القديسين، فهم لم يرفضوا عقيدة التجسد من الناحية النظرية، بل على العكس فقد بنوا عقيدتهم بناءً عليها، أمّا من الناحية التطبيقية فرفضوا تقديس المادة بشكل عام وتأله الإنسان بشكل خاص، وبكلام آخر رفضوا قبول نتائج التجسد: تقديس الأشياء المنظورة، العالم المادي، وبالتالي لم يفهموا كل التدبير الخلاصي.
إن الكتاب المقدَّس والايمان المسيحي ينفردان باختبار المادة واظهار أنها صالحة في جوهرها، مع امكانية تحوّلها إلى اداة ناقلة لسقوط الإنسان وعبوديته للموت والخطيئة، ووسيلة يسرق بها الشيطان العالم من الله. ولكننا نستطيع “في المسيح” وبقوّته أن نحرّر المادة ونستعيدها كرمز لمجد الله ووجوده، وكسرّ لفعله وشركته مع الانسان.
إن التقديس سواء أكان تقديسًا للماء أو للخبز والخمر في سر الشكر لا يكون أبدًا معجزة ظاهرة و “مادية”، ولا تحويلاً يمكن أن تتفحصه حواسنا أو تبرهنه. فالواقع أنَّه في “هذا العالم” أي بحسب مقاييس هذا العالم وقوانينه “الموضوعية” لن يحصل شيء للماء، ولا للخبز والخمر.
كما أن فحص هذه المواد مخبريًا لن يؤدي إلى ملاحظة أي تغيير أو تحوّل فيها. وقد اعتبرت الكنيسة دائمًا أن انتظار تحوّل كهذا أو محاولة البحث عنه هما خطيئة وتجديف. فالمسيح لم يأت ليستبدل المادة “الطبيعية” بمادة “تفوق الطبيعة” بل ليستعيدها ويحققها باعتبارها وسيلة للشركة مع الله.
إن الماء المقدَّس في المعمودية والخبز والخمر المقدسين في سر الشكر تمّثل كامل الخليقة، لكنها تمّثلها كما ستكون في النهاية، أي عندما تتمّم في الله، ويملأ الله كل شيء بنفسه. فالتقديس إذًا، هو تجّلي تلك النهاية وظهورها، أي تلك الحقيقة النهائية التي من اجلها خلق العالم، فتحققت بالمسيح عن طريق تأنسّه وموته وقيامته وصعوده، ويعلنها الروح القدس في الكنيسة الآن، وستتم في الملكوت “الآتي”.
ولأن التقديس هو دائمًا تجّلي نهاية كل الأشياء فإنه لا يكون “نهاية بحدّ ذاته”. فالانسان يرى أن الخبز والخمر هما حقًا “جسد المسيح ودمه” لكي يحصل على شركة حقيقية مع الله. وليس في الكنيسة الأرثوذكسية عبادة للقرابين المقدسة ذاتها أو من اجل ذاتها، لأن تحقق سرّ الشكر يكمن في شركة الإنسان وتحوّله. ومن اجل هذا بالضبط، اعطي هذا السر.
والماء المقدّس حتَّى يظهر ويكون غفرانًا للخطايا وفداء وخلاصًا، أي حتَّى يكون ما هو مقصود لكل مادة أن تكون: وسيلة لغاية، أما الغاية فهي تأله الإنسان ومعرفته الله وشركته معه.
ج- تحوّل الجسد:
تقدّر الكنيسة الجسد الانساني تقديرًا كبيرًا. ويشهد على ذلك تجسّد المسيح، أي قاعدة خلاص الإنسان والعالم بأجمعه. ويوضح الرسول بولس: “ففيه يحلّ كمال الألوهة حلولاً جسديًا” (كول2: 9، انظر فيل 2: 5-11، عب 2: 13-18، اش 8 : 18، أع 8 : 9). قد اختبر التلاميذ ذلك على جبل التجّلي وبعد القيامة. فجسد الرب لم ينحلّ داخل القبر، بل أُنهض ولمسه الرسل حتَّى الجروح (مز 15: 9-10، لو 24: 39، يو 2: 21، 20: 27، أع 31-32، رؤ 5: 6).
في خليقة المسيح الجديدة يصير الجسد الانساني “عضو المسيح” و “هيكل الروح القدس” ( 1 كور6: 15-19)، ويُدعى الإنسان إلى تمجيد الله “بجسده” ( 1 كو6: 20 )، وإلى تقديمه “ذبيحه حية مقدسة مرضية عند الله” (رؤ12: 1) “لكي تظهر في أجسادنا حياة المسيح أيضًا ( 2 كو 4: 10). : فإنسان الخليقة الجديدة هو “ذرية الله” (أع 17: 18) ومساهم في مجد الله الذي يعكسه بجسده ( 2 كو 3: 18)
حرب الكنيسة إذًا ليست ضد الجسد بل ضد أهوائه. فإذا تحرّر انسان الخليقة الجديدة من اهوائه الفاسدة، صارت حوّاسه وكامل جسده نقية منيرة، وشعّ كل شيء حوله بمحبة الله ومجده.
د- تأله الجسد:
بشركة الروح القدس يتأله الإنسان بكليّته ( 1 تس 5: 23) أي بالروح وبالقوى (بالأفعال) وكذلك بالجسد.
من أهم نتائج التأله هو تقديس الجسد وتأّلهه. الجسد ليس سجنًا للنفس كما يعّلم افلاطون وليس له هدف ارضي فقط “أما الجسد فليس للزنى بل هو للرب والرب للجسد” ( 1 كور 6: 13). فكما قلنا سابقًا، الجسد يجب أن يكون جسدًا له وهيكل لله مقدس. اذا فالجسد يجب أن يتقدس بالكلية بالتأله، وبالتأله فقط يصل الجسد إلى كامل قيمته وليس في النظريات الانسانية الحديثة.
يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث عن تأله الجسد: “ان النفس التي أصبحت بتقديسها أهلاً لأن تكون شريكة في النعمة الالهية، تستمر بالضرورة بتقديس كامل هيكلها. لأنها حيث تكمن في هذا الهيكل و توجد في كاّفة أعضائه. لذلك فنعمة الروح القدس، عندما تسكن في النفس، تسكن أيضًا في هيكلها. ولكن طالما بقيت النفس في هذا الهيكل فان الروح القدس لا ينقل هيكلها بالكامل إلى مجده لأنَّهُ من الضروري أن تكون لها حريتها وأن تبدي رغباتها وتظهر ارادتها إلى أن تنتهي حياتها الأرضية. وعندما تنفصل النفس عن الجسد يتوقف الجهاد. فان انتصرت النفس وانفصلت عن الجسد حاملة اكليل عدم الفساد. حينئذ تسكن نعمة الروح القدس وتقدّس بالكلية هيكل هذه النفس. ولذلك نجد عظام القديسين وبقاياهم تفيض أشفية تداوي كل ضعف.
إن انفصال النفس عن الجسد يحرّر الاثنين معًا من حاجة كل منهما إلى الآخر ومن تأثير أحدهما على الاخر. وبذلك فإن النعمة الالهية تفضل في كليهما دون أي عائق حيث يصبح الاثنان بكليتهما لله تسكن فيهما النعمة الالهية بعد أن قضيا حياة لائقة بالالوهة عندما كانا معًا. أمّا عند الدينونة العامة فان الجسد أيضًا يكتسب عدم الفساد الذي منحه الله للنفس عند تقديسها.
القديس اثناسيوس يقول في ذلك أيضًا: “ان النعمة الالهية توجد في نفوس وأعضاء القديسين” (شرح المزمور 117). كذلك القديس مكاريوس يقول: “كما تمجد جسد المسيح عند التجلي على الجبل بالمجد الإلهي وبالنور الذي لا يغرب، كذلك تتمجد أجساد القديسين وتلمع. وكما أن المجد الكائن في جسد المسيح أشرق مضيئًا، كذلك أيضًا تفيض قدرة المسيح في ذلك اليوم وتشع خارج أجسادهم ” (الكلمة 15،38 ). وكلما كانت المساهمة في شركة الروح القدس أغنى كلما ازدادت قداسة الأجساد أيضًا. القديس يوحنا الذهبي الفم يقول: “بالموت لا تتغرب أجساد القديسين عن النعمة التي كانوا يحيون بها، بل تزداد بها” (في مديح أحد الشهداء).
هـ – نتائج التأله:
1- لمعان الوجه:
أول انسان لمع وجهه كان موسى (خروج 34: 29-35 )، ثم القديس أنطونيوس، سيسوى، موسى الحبشي و آخرون…
2- انتقال نعمة القديس باللمس:
هكذا نجد أن ما مسّ جسد القديس بولس لم يكن مقدسًا فحسب بل كان ينقل النعمة أيضًا إلى الآخرين (أع 19: 21 ). و القديس باسيليوس الكبير أيضًا يقول: “انّ الذي يلمس عظام الشهيد تنتقل إليه نعمة التقديس الموجودة فيها”.
3- افاضة الطيب:
تفوح من الذخائر المقدسة لبعض القديسين رائحة ذكية لا توصف. ونقرأ في استشهاد القديس بوليكاربوس (+ 156 ) أن جسده كان يفيض رائحة ذكية في حين استشهاده. “….كان الشهيد يقف في الوسط لا كلحم يحترق بل كخبز يشوى أو ذهب أو فضة، وضعت في البوتقة وكّنا نتنسّم رائحة كأّنها البخور أو عطور نادرة ثمينة”.
ونقرأ في السنكسار أن جسد العظيم في الشهداء القديس ديمتريوس المفيض الطيب، “كان ينضح بكثرة، إلى حد أن السكان المحليين وأشخاصًا آخرين قادمين من أمكنة بعيدة كانوا يأخذون منه دون أن ينضب، وبالأحرى أنَّه كان يزداد بشفاعة القديس. وكانت لهذا الطيب قوة العلاجات والأشفية العظمى” .
وكذلك حال عدد من القديسين، مثل القديس نكتاريوس أسقف اجينا، والقديس سيرافيم ساروفسكي. فيمانيا الذي أسس دير خيلانداريوس، والقديس اغناطيوس وغيرهم…..
إن”عبير المسيح” ( 2 كور 10: 2 ) ونعمة الروح القدس يحلان على القديسين ابان حياتهم الأرضية ويملآن اجسادهم. وهذه هي معمودية النار وختم موهبة الروح القدس، كما نقول في سر المسحة المقدسة. وتستمر المعمودية في القديسين فتجعلهم يحسون بحرارة لا يعبر عنها وبشذا غير معروف، وهما من ثمار الروح القدس ولهذا السبب يحضّر الميرون في الكنيسة من عناصر عطرية .
4- عدم فساد الذخائر المقدسة:
لدى الكنيسة الارثوذكسية العديد من بقايا القديسين التي لم ينل منها الفساد بالرغم من الزمن الطويل الذي مرّ عليها . نذكر مثلاً ذخائر القديس اسبيريدون من جزيرة “كركيرة” في اليونان. هناك يوجد جسده الذي يعود إلى القرن الرابع . ليس محنطًا أو ممنوعًا عنه الهواء بل موضوعًا في تابوت، مكشوف دون غطاء. وكذلك جسد القيسة ثيدورا، في اديرة “كييف” وغيرها من المناطق الروسية هناك أجساد ألف راهب لاتزال محفوظة بدون فساد، وكذلك في رومانيا مثلاً القديس يوحنا الجديد والقديس ديميتري سارابوف وغيرهم……
“أحيانًا عدم انحلال أجساد القديسين يعتبر مؤشرًا على قداستهم (وأحيانًا العكس صحيح). ولكن عدم انحلال الأجساد ليس قاعدة عامة توجب التطويب”.
5- العجائب التي تجري بواسطة البقايا المقدسية:
إن قدرة القديسين العجائبية لاتعود إلى قدرتهم الخاصة، بل إلى القوة الالهية الساكنة فيهم، اذ لهم ولله نفس القوة، وبحسب الواهب التي اعطاها الروح القدس لهم، تظهر فيهم العجائب المختلفة التي تجري على ايديهم المباركة. فمنهم من يشفي المرضى، ويقيم الموتى، ومنهم من كان متحررًا من سيطرة قوانين الطبيعة في حياته المتقدسة بحضور النعمة الالهية. فنرى منهم من يتنبأ، أو يتكلم بألسنة، أو يشاهد رؤى، ومنهم من تظهر في جسده سمات الرب يسوع وجراحاته… ومنهم من يشع من جسده نور عجائبي لدرجة تبهر الناظرين إليه، ومنهم من تبعث من جسده رائحة طيب ذكية، كالبخور، سواء قبل رقاده أو بعده. وكل هذا بفعل النعمة الالهية.
فالنعمة الالهية لا تفارق القديسين قبل رقادهم أو بعده. انها لاتقدس أرواحهم فقط، بل أجسادهم أيضًا.
فالقديسون هم أدوات النعمة الالهية الفاعلة فيهم. هم ليسوا على غرار آدم القديم، قبل الخطيئة، بل على صورة آدم الجديد يسوع المسيح، ومثاله. هم يفوقون آدم قداسة ومرتبة، لقد صاروا آلهة – كما اشتهى لآدم أن يصير – انما آلهة بالنعمة بملء حريتهم وحرية الله، وليس بالتجاوز على الله. لقد ملكوا الحياة الالهية، النعمة غير المخلوقة، القوى غير المخلوقة، فتجاوزوا الطبيعة بعجائبهم وذلك بمقدار ما يسمو الإنسان كأقنوم مخلوق (على صورة اقنوم يسوع) على الطبيعة كمادة غاشمة عمياء لا أقنوم لها.
“إن قدرة القديسين العجائبية، التي هي خاصة بجميع المعمودين، وانما في حالة كمون، هي قدرة غير مخلوقة والا كّفت عن أن تكون إلهية، وصارت مجرّد اعتلان طبيعي. فحين دهننا الكاهن بالميرون أخذنا الروح القدس كنعمة للحياة، وكمواهب يظهرها هو متى شاء للمنفعة ( 1كو 12: 13: 1-13)”.
وتذكر سير القديسين عددًا كبيرًا من العجائب التي حصلت بواسطة الذخائر المقدسة. ونقرأ في سيرة القديس نكتاريوس الحادثة التالية: “يوم رقاد القديس الطاهر أمسك أحد الأشخاص بيمينه، وكان عديم الإيمان والتقوى، إلا أن زوجته كانت امرأة ورعة فما أن أمسك بها حتَّى شعر أنها حارة وطرية. فتعجب كثيرًا ثم تاب وغدا، بنعمة القديس، مؤمنًا ورعًا”.
6- تمجيد الجسد في الحياة الحاضرة وبعد القيامة العامة:
يقول الأب رومانيدس في مقالته حول تمجيد الانسان: “لم يعد التمجيد محدودًا فقط في القلب، ظاهرًا كالأنبياء، بل ممتدًا إلى كل جسد من أجساد هؤلاء الممجدين ومستمرًا في القديسين بشكل دائم، فيلهمون بواسطة تمجدهم الثابت ويصبحون ذخائر مقدسة”.
ونقول أيضًا في خدمة الجناز أن جسد المسيحي هو “صورة مجد الله الذي لا يوصف” على الرغم من أنَّه “يحمل آثار الزلات”.
“إن عقيدة تكريم رفات القديسين (وكذلك تكريم الايقونات) مؤسسة على الإيمان بوجود ارتباط روحي ما بين الروح القدس ورفات هؤلاء القديسين التي لم يستطع الموت الجسدي أن يحّلها إلى التراب الذي أخذت منه. الرفات هذه بقيت تعيش مع النفس الحية إلى حدّ ما. هناك نعمة روحية في أجسادهم وحتى في أصغر بقايا أجسادهم. هذه النعمة الروحية حافظت وتحافظ على هذه الأجساد أن تبقى بعدم انحلال وتلف. بقايا أجساد القديسين هذه انما هي أجساد ممجدة قبل الأوان أي قبل القيامة العامة للأجساد الراقدة التي تنتظر هذا اليوم. انها تشبه جسد الرب عندما كان في القبر، والذي وان كان مائتًا بدون نفس حيّة ولكنه لم يكن مطروحًا من الروح الالهي، بل كان ينتظر القيامة”.
الفصل الثاني: البقايا المقدسة في الكتاب المقدَّس
أ- البقايا المقدسة في العهد القديم:
نجد في الكتاب المقدَّس دلائل على تكريم ذخائر القديسين، حتَّى في العهد القديم. فقد ورد فيه أن عظام يوسف الصدّيق حفظت بعناية واهتمام (يشو 49: 15 ). وهذا أمر غريب فعلاً، ففي العهد القديم اعتبرت ملامسة جسد الإنسان الميت “نجاسة” (لاو 21: 1-9، خر 44: 25). لكن الاسرائليين نقلوا عظام يوسف باحترام عظيم، ولم يتنجسوا (تك 50: 25، خر 13: 19) و”عظام يوسف التي أصعدها بنو اسرائيل من مصر ودفنوها في شكيم في الحقل الذي كان يعقوب قد اشتراه من بني حمورابي شكيم بمائة قسيطة فضة وصارت ميراثًا لبني يوسف”(يشوع 24: 32).
إن كثيرين ماتوا في مصر ولم تنتقل إلاَّ ذخائر يوسف وحدها لأنه كان صدّيقًا وقديسًا معروفًا وعظيمًا وصفيّ الله كما تنطق بذلك ترجمة حاله.
والله نفسه كرّم جسد صفيّه موسى بشرف عظيم إذ دبّر أن تدفنه الملائكة في أرض الموآبيين. فلم يعلم أحد من الناس حتَّى الآن كيف وأين دفن موسى “وقال الرب (لموسى) هذه الأرض التي أقسمت من أجلها لابراهيم ولاسحق وليعقوب قائلا إني أعطيها لنسلك إني أريتك بعينيك ولكن لاتعبر إلى هناك، فمات موسى عبد الرب هناك في ارض موآب بموجب كلمة الرب، فدفنه في : واد بأرض موآب قبالة بيت فعور ولم يعلم إنسان بقبره إلى اليوم…” (تك 34: 4-8).
والمشهور عن ذخائر القديس اليشع هو أنَّه ما كاد جسد أحد المتوفين يمسّ عظام النبي في قبره حتَّى عاش الميت وقام. “فمات اليشع فدفنوه وجاءت غزاة موأب إلى الأرض عند دخول العام وحدث عندما كانوا يدفنون رج ً لا، أنهم رأوا الغزاة فطرحوا الرجل عند قبر اليشع فنزل الرجل ولمس عظام النبي وعاش وقام على قدميه” ( 4 مل 13: 21).
وأيضًا “وتوارى إيليا في العاصفة فامتلأ اليشع من روحه وفي أيامه لم يتزعزع مخافة من ذي سلطان ولم يستول عليه أحد، لم يغلبه كلام وفي رقاد الموت جسده تنبأ، صنع في حياته الآيات وبعد موته الأعمال العجيبة” (سير 13: 15).
قال القديس كيرلس الأورشليمي: “إن أليشع وهو في الأحياء فعل معجزة القيامة بروحه”. “فلما دخل اليشع البيت إذا بالصبي ميت ملقى على سريره، فدخل وأغلق الباب عليهما وصّلى إلى الرب، صعد على الصبي واضطجع عليه ووضع فمه على فمه وعينيه على عينيه ويديه على يديه وامتدّ عليه إلى أن دفئ لحمه، فرجع ومشى في البيت فترة هنا وفترة هناك ثم عاد ثانية فامتد عليه فعطس الصبي سبع مرات وفتح عينيه ودعا جيحزى وقال: ادع هذه الشونميّة دعاها فدخلت إليه فقال: خذي ابنك، فصعدت وخرّت عند رجليه وانحنت إلى الأرض وأخذت ابنها وخرجت”( 4مل: 37-32).
فضلاً عن ذلك فكي لا تبقى أرواح القديسين مكرّمة وحدها فقط بل ليؤمن الناس بأن لأجساد الأبرار أيضًا تلك القوة عينها فالميت الذي سقط في رمس أليشع حيي إذ مسّ جسد النبي الميت.
فجسد النبي الميت فعل المعجزة عوص روحه فإذا كان ميتًا وملقى في القبر منح الميت الحياة والمانح الحياة نفسه بقي ميتًا كما كان. ولماذا؟ لكي لا يعزى هذا العمل للروح وحدها فيما لو قام أليشع. بل ليرى أّنه وفي حال عدم وجود الروح في الجسد تضمن في أجساد القديسين قوة فاعلة للمعجزات إذ في أمد سنين سكنت فيها روح بارزة خاضعة لها.
ولمّا كان ملك اليهودية يوشيّا يستأصل العبادة الوثنية، وحينئذ أحرق كثيرًا من عظام الأموات فحوّلها رمادًا. إلا أنَّه أمر مع ذلك بأن يحفظ ذخائر النبي انسان الله القديس الموجود هناك بالاكرام كاملة سالمة “…ولتفت يوشيا فرأى القبور التي هناك في الجبل فأرسل وأخذ العظام من القبور وأحرقها على المذبح ونجّسه حسب كلام الرب الذي نادى به رجل الله الذي نادى بهذا الكلام. وقال ما هذه الصورة التي أرى؟ فقال له رجال المدينة: هي قبر رجل الله الذي جاء من يهوذا ونادى بهذه الأمور التي عملت على مذبح بيت ايل. فقال دعوه، لا يحركن أحد عظامه. فتركوا عظامه وعظام النبي الذي جاء من السامرة…” (انظر 4 مل 23: 4-25).
وأخيرًا يروي الكتاب أيضًا أن أحد “رجال الله” صّلى ولم يحافظ على الوصايا، فعوقب على ذلك بأن لقيه أسد وهو خارج من بيت ايل على ظهر حماره، فقتله”. وبقي ملقى على الطريق والحمار مقابله، والأسد قائم إلى جانب الجثة”. أي أن الوحش الذي صار أداة للعدل الإلهي، لم يمزّق جسد رجل الله، بل تصالح مع الحمار ووقف بقربه يحرس الذخيرة المقدسة. ثم مرّ بعض الناس من هناك ورأوه، فأسرعوا إلى المدينة وأذاعوا النبأ. أما النبي الشيخ الذي تسبّب في ضلال رجل الله فذهب إلى ذلك الموضع ووجد جّثته ملقاة على الطريق والحمار والأسد قائمان بجانب الجثة، ولم يأكل الأسد الجثة ولا افترس الحمار. فأخذ النبي جثة رجل الله وجعلها على الحمار ورجع بها. ودخل النبي الشيخ المدينة ليندبه ويدفنه، ووضع جثته في قبره، وندبوه قائلين: أواه يا أخي. وبعد أن قبره كّلم بنيه قائ ً لا: إذا م ّ ت فادفنوني في القبر الذي دفن فيه رجل الله، بجانب عظامه ضعوا عظامي” ( 3 مل 13: 25-31).
يشهد هذا المقطع الأخير على ثقة ذلك النبي بالقوة العجائبية الكامنة في ذخائر الإنسان القديس، ولو خالف ذلك وصايا الله برهة فعوقب. وكذلك موقف الحمار والأسد اللذين صارا أداة في يد الله فوقفا باكرام وورع إلى جانب الذخائر.
ب – البقايا المقدسة في العهد الجديد:
فإن كانت عظام وبقايا أنبياء العهد القديم – الممسوحين من الخارج – قد أقامت الميت، فكم بالحرى ذخائر قديسي العهد الجديد، الذين سكن فيهم يسوع من الداخل ومسحهم بالروح القدس القاطن فيهم، جاعلاً أجسادهم هياكل له ( 1 كور 6: 19).
إن من لا يكرّم ذخائر القديسين هو بعيد عن روح الانجيل، لأن الإنجيل يأمرنا أن نقدم اجسادنا ذبيحة حيّة مقدسة (رو 13: 1). وهذه الذبيحة لاتقدم إلا بالروح القدس، جاعلاً الجسد للرب والرب للجسد ( 1كور 6: 13)، : فإن كانت حياة الرب يسوع تظهر في أجسادنا ( 2كور 4 : 10) فكم بالحرى نعمة روحه القدوس.
وجاء في انجيل متى أن قبور الانبياء في أيام المسيح كانت مبنية في أورشليم ومدافن الصدّيقين مزيّنة تكريمًا لذخائرهم المقدسة: “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتزيّنون مدافن الصدّيقين وتقولون لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء” (متى 23: 29-30).
وربما تقول : إن المسيح لم يثن على عمل أهل أورشليم هذا بل الأمر بالعكس لأنه أنبهم قائلاً: “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتزيّنون مدافن الصديقين”. ولكن ثيوفيلكتوس المغبوط يجيب على هذا بقوله: “إن الرب لم يؤنبهم لأنهم بنوا للأنبياء قبورًا، عملهم هذا عمل جيد، بل لأنهم عملوا هذا رياء أو منافقة أنبهم على نفاقهم ورداءتهم ضد المسيح. إنهم قالوا (لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في سفك دماء الأنبياء) مع أنهم في الوقت عينه كانوا ينوون قتل ابن الله الذي تنبّأت عنه الأنبياء. ولذلك قال لهم الرب: “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون فاملأوا أنتم مكيال آبائكم”، فمن هنا نرى جليًا أن تكريم الذخائر المقدسة كان عند الاسرائيليين ليس قبل مجيء المسيح فقط بل وفي أيام حياته على الأرض أيضًا.
إن المرأة نازفة الدم إذ لمست ذيل ثوب المخلص لن تسمّ عابدة أصنام بل بالعكس لأنَّها بسبب ذلك نالت الشفاء والمديح “وإن امرأة مستحاضة منذ اثني عشرة سنة، وقد كابدت كثيرًا من اطباء كثيرين وصرفت جميع ما عندها من أموال ولم تستفد شيئًا بل صارت إلى أسوأ حال، فلمّا سمعت بيسوع جاءت في المجمع من خلفه ولمست ثوبه، لأنَّها قالت إني إذا لمست ثيابه شفيت.
وللوقت كفَّ مجرى دمها وأحسّت بأنها برئت من دائها، عندئذٍ علم يسوع في نفسه بأن قوة قد خرجت منه فالتفت إلى الجمع وقال: من لمس ثيابي؟ فقال له تلاميذه: أنت ترى الجمع يزاحمك وتقول من لمسني، فنظر حوله ليرى التي فعلت هذا، فخافت المرأة وارتعدت لعلمها بما حصل لها وجاءت فركعت أمامه واخبرته بالحقيقة كّلها فقال لها: “يا بنية، قد شفاك إيمانك فانطلقي بسلام واسلمي من دائك” (مر 5: 25-43، مت 9: 20-22، لو 8 : 43-48).
ولم ينبذ أولئك الذين كانوا يأتون بايمان وحمّية إلى ظلّ الرسول القديس بطرس، بل الأمر بالعكس، لأنهم كانوا يكافأون بالشفاء من أمراضهم لا بل “كان المؤمنون يزدادون للرب جماعات من رجال ونساء، حتَّى أن الناس كانوا يخرجون بالمرضى إلى الأسواق ويضعونهم على أسرّة وفرش لعلّ بطرس إذا مرّ، يظّلل بعظهم بظّله، وقد اجتمع أيضًا في أورشليم من المدن التي حولها جماعات يحملون مرضى ومن عذبتهم الأرواح النجسة فبرئوا جميعهم واحدًا فواحدًا” (أع 5: 14-16).
ولم يسمّ أولئك الذين وضعت عليهم العصائب والمناديل المأخوذة عن جسم القديس بولس ومن شفيوا بذلك رقاة ومعوذين. “وصنع الله على يد بولس قوات عظيمة، حتَّى أنهم كانوا يأخذون عن جسمه إلى المرضى مناديل أو عصائب فتزول عنهم الأمراض وتخرج منهم الأرواح الشريرة”. (أع 19: 11-12). فإذا كان للظلّ والمناديل الرسولية هذا المقام من الكرامة عند المؤمنين فبالأحرى أن يكون تكريم ذخائر الرسل المقدسة ولا ريب أعظم مقامًا عندهم. وإذا كانت لتلك قوّة شفائية فبالأحرى أن تكون لهذه أيضًا.
ونستنتج أيضًا أن أجساد جميع المسيحيين يجب أن تكون، وكذلك اجساد القديسين، هياكل الروح القدس. وهذا ما يؤكده القديس بولس الرسول في كلماته: “أما تعلمون أنكم هياكل الله وروح الله يسكن فيكم” ( 1 كور 3: 16-17)، “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وانكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي الله” ( 1 كور 6: 19-20).
والرسول ذاته يقول أيضًا: “فإن طهّر نفسه من هذه يكون اناء للكرامة مقدسًا نافعًا للسيد مستعدًا لكل عمل صالح” ( 2 تيمو2: 21) بكل تأكيد فإن اجساد القديسين هي هياكل الروح القدس و “آنية للكرامة” وان كانت النفس قد فارقتها بالموت.
الفصل الثالث: إكرام بقايا القديسين بحسب التاريخ المسيحي
أ- قدم تكريم الذخائر المقدسة:
لا يقتصر تكريم الذخائر المقدسة على الكنيسة الأرثوذكسية فحسب، وإنما تشاركها في هذا كل الكنائس القديمة التقليدية بما فيها الكنيسة الكاثوليكية. إذ يعود هذا الاكرام إلى أقدم الزمان. يشهد على ذلك كما رأينا سابقًا الكتاب المقدَّس بعهديه: القديم والجديد، وكذلك التقليد الشريف. فاكرام ذخائر القديسين ليس عادة جديدة لدى المسيحيين وإنما يعود إلى الأزمنة المسيحية الأولى، وهو تقليد مستمر في كنيستنا. ودليلنا من التقليد هو الشهيد بوليكاربوس (حوالي 156-157 ) فبقاياه توصف بأنها “أغلى من الأحجار الكريمة وأثمن من الذهب” (انظر استشهاد بوليكاربوس فصل18: 1)، فكان المؤمنون يحرصون على جمعها بكل انتباه ويكرمونها أجلّ إكرام يليق بالقديسين.
وإليك هذا النص الذي يؤكد كلامنا:
“عندما رأى الشيطان الشهيد وهو يتكلل بإكليل عدم الفساد، حاول منعنا من أخذ جسده، على رغم رغبة الكثيرين في القيام بذلك، تقرّبًا من جسده المقدَّس، فدفع نيكيتا، أبا هيرودوس وأخا آليكس، إلى مقابلة الحاكم والطلب إليه ألاَّ يسّلم الجسد، زاعمًا أننا قد نترك المصلوب، ونشرع في عبادته، وكان كلامهم بتحريض من اليهود الذين راقبونا وخافوا من أن نخطفه من النار، ولم يعلموا أننا لايمكن أن نترك المسيح الذي تألم من أجل خلاص العالم كله، حتَّى الأثمة، ولا أن نعبد أحدًا سواه. فالذي نسجد له هو ابن الله، أما الشهداء، تلاميذ المسيح المقتدرون به، فنحبّهم بسبب محبَّتهم غير المحدودة لملكهم ومعلمهم… وأمام إلحاح اليهود وضع كنديريوس الجسد في وسط الساحة وأحرقه حسب العادة. فجمعنا عظامه التي هي أكرم من الحجارة الكريمة وأثمن من الذهب، ووضعناها في مكان مناسب، راجين أن يساعدنا الرب على الاجتماع فيه كلما استطعنا لكي نحتفل، فرحين ومبتهجين بتذكار شهادته، حتَّى يكون أولئك الذين جاهدوا قبلنا بمثابة معّلمين ومدربين لكل من سيجاهد في المستقبل”.
نستنتج من هذا المقطع عدة استنتاجات أوَّلها: أن المؤمنين كانوا يميّزون بين اكرام القديسين وبين عبادتهم، لا كما يّتهم البعض الكنيسة الأرثوذكسية بأنها تعبد الذخائر، فواضح أن الكنيسة تعبد المسيح فقط وتكرّم الذخائر. ثانيهما : يشهد هذا النص أن تقليد كنيستنا القاضي بإقامة القداس الإلهي على مائدة تضم ذخائر مقدسة، هو تقليد مسيحي قديم جدًا.
ب- تطور إكرام الذخائر المقدسة:
خلال الاضطهاد المسيحي ازداد إكرام ذخائر الشهداء بشكل سريع بحيث أن الليتورجيا لم تكن مرافقة لهذا التطور حتَّى القرن الثالث، فذخائر الشهداء كانت تجمع وتدفن لكل تقي. في منتصف القرن الثالث أثبت كبريانوس القرطاجي اكرام أدوات تعذيب الشهداء بقوله: إن اجساد السجناء من أجل المسيح تقدّس سلاسلهم (الرسالة 13 )، وفي القرن الرابع خبّر باسيليوس القيصري عن الاحتفال الرسمي الذي كان يحصل في تذكار يوم استشهاداتهم. وفي روما -وخلال الاضطهاد- ارتبطت الذخائر فورًا بالطقوس الليتورجية، حيث أن اكرام الأموات كان الطقس الوحيد الذي كان المؤمنون يقدرون أن يمارسوه بحرية في روما خلال الاضطهاد في الاجتماعات المسيحية قرب القبور لتقديم الاكرام الواجب تجاه أمواتهم، وما لم يكن معروفًا حتَّى آخر القرن الثالث أن الافخارستيا كانت تقام فوق قبور الشهداء.
خلال القرنين الرابع والخامس نما اكرام ذخائر الشهداء كطقس ليتورجي وثبت لاهوتيًا في الغرب بواسطة مكسيموس التوريني (Turin) الذي اعتمد الجسد السري كمرجع للعقيدة “Mystical Body” (الوعظ 77 ). وفي نفس الوقت فتحت قبور الشهداء، والبقايا أو الأشياء التي لامست هياكلهم أو أجسادهم الحقيقية ووزّعوها بشكل بركات.
1- ممارسة اكرام الذخائر في الشرق:
اختلفت ممارسة اكرام ذخائر القديسين والشهداء بشكل عام في الشرق عنها في الغرب. ففي الشرق كانت أجساد القديسين “تنبش” (تكشف) وتقسم أجزاء وتنقل من مكان إلى آخر، كانتقال ذخائر القديس “بابيلاس” سنة 351، وفي القرن الرابع كان نقل البقايا يتم باحتفالات مهيبة.
وفي كنيستنا الارثوذكسية من القديسين من احُتفل بعيد نقل بقاياه بالاضافة إلى الاحتفال بعيد ميلاده أو موته.
ونذكر على سبيل المثال نقل بقايا القديس نيقولاوس إلى “بارى” في 9 أيار ونقل بقايا القديس يوحنا الذهبي الفم إلى القسطنطينية في 27 كانون الثاني.
ومن الجدير بالذكر العجائب التي تحصل في نقل الذخائر المقدسة ومنها هذه: “كان على قرب من الاسكندرية موضع اسمه مانوفين (Manufin) ففي هذا الموضع وجد معبد قديم مسكون من الشياطين وكان ذلك الموضع مخيفًا جدًا لأن أرواحًا شريرة كثيرة كانت تستوطنه. لكن ما أن نقل إليه القديس كيرلس بطريرك الاسكندرية ذخائر القديسين كيروس ويوحنا حتَّى ذهب عنه فجأة القوات الشيطانية جمعاء ( 9 حزيران). ولما نقل القديس لوقا الانجيلي من سبسطية إلى مدينة انطاكية يد القديس يوحنا السابق ككنز ثمين مكافأة له على تهذيبه فيها. ومنذ ذلك الحين حفظت يد السابق المقدسة عند مؤمني انطاكية في تكريم عظيم وتمّت بها معجزات خطيرة وفيرة (7كانون الثاني).
2- ممارسة اكرام الذخائر في الغرب:
“اختلفت ممارسة اكرام الذخائر في الغرب لأن قانون الثيودوسيان (الذي أصدره الامبراطور ثيودوسيوس الثاني في العام 435 م) كان يعاقب وبقساوة من ينبش القبور لأنه يعتبر أن نقل البقايا وكشفها هو انتهاك وتدنيس لحرمة القبور. والبابوات دافعوا عن هذا الرأي بقوة واعتقدوا أن نقل بقايا القديس أمر شاذ ولايسمح به إلا لأسباب قاهرة وجوهرية، ولكن هذه القساوة ما لبث أن خّفت في القرن الثامن حتَّى سمح البابا بولس الأول ( 757- 567 ) وباسكال الأول ( 817 – 824 ) بنقل عدد كبير من البقايا وازدادت هذه الممارسة بشكل سريع ونتيجة ذلك بدأوا في ايطاليا بتقسيم أجزاء من أجساد القديسين وتوزيعها. وفي عهد شارلمان تقرّر إكرام البقايا وهذا الأمر الأخير أثر في الاقتصاد والتطور الاجتماعي في Pilgrinages ” وأصبح مرفقًا “بزياح عالم الغرب”.
3- ممارسة اكرام الذخائر بعد حرب الأيقونات:
في الشرق، وبعد الصراع بين مؤّيدي الأيقونات ومحاربيها تطور اكرام بقايا القديسين والأيقونات كذلك. فالقديس يوحنا الدمشقي دافع عن عقيدة اكرام بقايا القديسين في الشرق مستندًا إلى تعليم: أن الله أعطى بقايا القديسين للكنيسة كمعنى خلاصي وهذا السبب ضروري جدًا لنقدّم لها الاكرام كممثلة القديسين، أصدقاء المسيح، أبناء ووراثي الله. فلذلك اكرام البقايا هو بالحقيقة إكرام لله. وهذا الرأي أصبح نقطة انطلاق جديدة في الفكر الأرثوذكسي بشكل عام مع العلم أن بقايا القديسين تأخذ اكرامًا ثانويًا من الاكرام المعطى لله.
أما الهراطقة كالمانويين (Manichianism) فحاربوا هذا الاكرام. في القرن الحادي عشر أصبح اكرام الايقونات أهمّ من بقايا القديسين بينما تحوّل لاهوت بقايا القديسين إلى شيء تقليدي (احتفالي). أما في القرن السابع عشر فاهتم اللاهوتي الأرثوذكسي استفانوس يافورسكي اهتمامًا شديدًا بهذه المشكلة.
4- ممارسة اكرام الذخائر بعد الحروب الصليبية:
نما في الغرب أيام الصليبيين بشكل خاص اكرام الذخائر وخاصة في السنة 1204 بعد احتلال القسطنطينية إذ وقع عدد كبير من البقايا بيد القوات اللاتينية واستولوا عليها وكذلك الحال في انطاكيا، أورشليم وآديسا، وأرسلوا هذه البقايا لإغناء كنائس اوروبا الوسطى، ويبرر اللاتينيون هذا التصرف بأنه لم يهدف التجارة بل الاغتناء بها لقيمتها الباهظة.
ج- تحديدات المجمع المسكوني السابع وبعض الآراء المحلية في ذخائر القديسين:
إن المجمع المسكوني السابع الذي أقيم في سنة 787 يسمي ذخائر القديسين “ينابيع الشفاء” ويسوم الذين لا يكرمونها القصاص. فقد قال: “إن ربنا يسوع المسيح منحنا ذخائر القديسين ينابيع خلاصية فائضة بمختلف الاحسانات على الضعفاء. ولذلك فالذين يجرؤون على رفض ذخائر الشهداء، وقد عرفوا صحّتها وحقيقتها، فاذا كانوا أساقفة أو إكليروسًا فليحطوا، وإذا كانوا رهبانًا وعالميين فليحرموا المناولة (اعمال المجمع الثالث والسابع).
وهذا المجمع المسكوني السابع عينه حدّد أن توضع الذخائر المقدسة في الكنائس وتبخر متوعدًا بالحط من الرتبة الاسقفية في حال عدم القيام بذلك إذ قال في قانونه السابع: “إننا نحدد أن يتمم بالصلاة المعينة وضع ذخائر الشهداء المقدسة في تلك الكنائس التي تكرست بدون أن توضع فيها يوم تكريسها. والأسقف الذي يحتفل من الآن بتكريس كنيسة بدون ذخائر مقدسة فليحط كمتجاوز التسليمات الكنائسية).
إن مجمع غنغرة المكاني الذي أقيم في سنة 343 في قانونه العشرين ابسل للحرم أولئك الذين كانوا يستنكفون عن ذكرى الشهداء فلم يكونوا يجتمعون للاحتفال بالصلوات تكريمًا للشهداء في تلك الاماكن الموضوعة فيها ذخائرهم المقدسة. إن أمثال هؤلاء المبتدعين عرفوا باسم الافستاتيين وكانوا يزدرون بالذخائر الشريفة ولا يأتون إلى تلك الكنائس الموضوعة فيها. ولمّا دحض آباء المجمع القديسون مزاعم الافستاتيين الكاذبة وفّندوها وأبسلوهم للحرم مع جميع من ضارعوهم بالآراء الملتوية شرعوا في اجتماعاتهم: “إن من هفت به الغطرسة فكره وازدرى اجتماعات تكريم الشهداء والصلوات وذكرياتهم التي تحتفل بها: فليكن تحت الحرم” (القانون العشرون).
أما المجمع القرطاجّني المكاني الذي أقيم سنة 401 فقد أمر في قانونه السابع والثمانين بنقض المذابح (الهياكل والكنائس) التي لم توضع فيها ذخائر الشهداء. وهكذا تشهد بتكريم الذخائر المقدسة المجامع التي اجتمعت في الشرق وتشهد به أيضًا مجامع الغرب. وقد صدفنا عن ايراد شهادتها لأن في ما ذكرناه غاية للمؤمن أما لغير المؤمن فمضاعفة الشهادة إنما هي عقيمة لاتفيد.
الفصل الرابع: تعليم الآباء عن أهمية الذخائر المقدسة
أ – لمحة عن النقاط الأساسية في تعليم الآباء عن البقايا المقدسة:
إن هذه العقيدة أي “تكريم الذخائر المقدسة” تطورت وأخذت شكلها في الشرق مع باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم، أما في الغرب فمع القديس امبراسيوس وأغسطينوس المغبوط.
هؤلاء القديسون كان لهم اعداء وأولهم هو فيجيلانتيوس (Vigilantios) في “غاوول” الذي نقد أهم الأسس فيما يتعلق بطقس البقايا المقدسة إذ صرّح أن المسيحيين هم عبدة اصنام، نتيجة لذلك بدأ كّتاب المسيحيين الدفاع في كتاباتهم عن الفرق بين الإكرام والعبادة وعن الأسس اللاهوتية فيما يتعّلق ببقايا القديسين. القديس جيرانيموس (Jerome) (420-347) أجاب فيجيلانتيوس معترضًا بشكل أساسي ومدافعًا عن طقس إكرام بقايا القديسين مستندًا إلى الكتاب المقدَّس وتقليد الكنيسة، والعجائب التي عملها الله بواسطة البقايا. وبعد جيرونيموس وضّح الآباء أكثر وأكثر العلاقة بين الله والقديسين وبقاياهم الأرضية مشدّدين على أربعة نقاط أساسية لتثبيت عقيدتهم:
1) – المؤمنون يرون القديسين في البقايا التي يكرّمونها، وهذه هي نقطة الانطلاق عند افرام السرياني وثيودورس (القوطي) ومكسيموس (Turin) وغيرهم.
2) – بما أن الشهداء كانوا قديسين على الأرض، فأجسادهم أيضًا مقدسة. يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير أكدا أن في دم الشهداء والتاريخ الشخصي لآلامهم ما يحرّك شجاعة المؤمنين، وثبات الشهداء جعل بقاياهم ثمينة، والبقايا المقدسة هي تذكار لنا إذ يجب أن نتمثل بهم (بالشهداء).
3) – غريغوريوس النيصصي، أوغسطينوس المغبوط وباولينوس (of nola)والبابا لاون الأول (440-461) أثبتوا إكرام بقايا القديسين استنادًا إلى دليل أو شهادة من العجائب الالهية – من خلال أدواتهم، وإننا نعطي المجد فقط لله، وبقدر ما يظهر قوته في البقايا نكرّمها.
4) – التبرير الرابع يستند إلى أن بقايا القديسين هي بقايا من أصدقاء قربهم إلى الله جعلهم قديسين. غريغوريوس النيصصي وأوغسطينوس المغبوط هما من أكدا هذه النظرة حول بقايا القديسين.
وأخيرًا نقول أن فترة ظهور محاربي الايقونات كانت مهمة للغاية إذ برز فيها لاهوت القديس يوحنا الدمشقي الذي دافع عن إكرام الايقونة رابطًا باكرام بقايا القديسين.
ب – شهادة من الآباء عن البقايا المقدسة:
1- القديس باسيليوس الكبير:
كتب القديس باسيليوس رسالة إلى الأسقف أركاديس بمناسبة بنائه كنيسة جديدة، جاء فيها: “لقد سررت للغاية عند سماعي أنك منهمك بمسألة تشييد بيت لمجد الله – وهذا يَدَهِيِّ كونك صرت مسيحيًا – وأنك بالمحبة العملية، احببت “جمال بيت الرب” كما هو مكتوب، أنك بهذا، قد أعددت لنفسك ذلك القصر السماوي الذي أعده الرب في راحته للذين يحبونه. إذا تيسّر لي أن أجد أيّا من بقايا الشهداء، رجائي أن تكون لي مساهمة في محاولتك المحبة”. وفي مناسبة تذكار يوم استشهاد القديس برلعام يقول القديس باسيليوس “كان موت القديسين يكرّم قديمًا، بالدموع وقرع الصدور فبكى يوسف بمرارة عندما مات يعقوب، وناح اليهود كثيرًا عندما مات موسى. أما اليوم فإننا نبتهج ونتهّلل في موت القديسين بالمراثي بعد الموت، بل نطوف حول قبورهم طوافًا إلهيًا. ذلك أن موت الأبرار صار رقادًا بل هو صار حياة….”.
وبتفسيره كلمات مرّنم المزامير (كريم أمام الرب موت أبراره) يقول: “عندما كان يموت أحد في الشريعة اليهودية كان الميت يعدّ نجسًا. أما عندما يموتون في المسيح ولأجل المسيح فذخائر قديسيه كريمة. وكان يقال قبلاً للكهنة وللنذراء ألا يمسّوا الأجساد الميتة لكيلا يتنجسوا: “وكّلم الرب موسى قائلاً: كّلم بني اسرائيل وقل لهم إذا أراد رجل أم امرأة بأن ينذر نذرًا نسكا للرب، فليعتزل عن الخمر المسكر ولا يشرب خلّ خمر أو خلّ مسكر ولا يشرب عصيرًا من العنب ولا يأكل عنبًا رطبًا أو يابسًا، وكل أيام اعتزاله لايأكل شيئًا مما عمل من كل الخمر من اللب حتَّى القشر، وكل أيام اعتزاله لا يمرّ على رأسه موسى حتَّى تتم الأيام التي يعتزل فيها الرب فيكون مقدسًا ويربى شعر رأسه، وكل الأيام التي يعتزل فيها الأب لا يأتي إلى جثة ميت، ولاينجس نفسه لأبيه أو أمه أو لأخيه أو لأخته إذا ماتوا لأن اعتزال إلهه على رأسه، فكل أيام اعتزاله هو مقدس للرب” (عدد 6: 8-6). أما الآن فمن يمسّ عظام الشهداء ينضم إلى القدسيات. وفي عظة على الأربعين شهيدًا قال عن ذخائرهم الموزعة في تلك الجهة كلها: “إنها هي التي تسوس منطقتنا كلها وهي لنا كحاجز ودعائم ضد الهجمات العدائية”.
وفي خطابه عن القديس الشهيد مامانتوس يقول: “إن العجائب التي منح بها القديس الشهيد العافية للبعض والحياة للبعض الآخر إنما هي مشهورة لدى الجميع”. وفي خطابه عن الشهيدة القديسة يوليطا كتب: “إنه لمّا نقلت ذخائرها المقدسة إلى مكان خال من الماء تفجّر من الأرض نبع ذو ماء فرات حتَّى أن سكان تلك الجهة سمّوا القديسة يوليطا مغذيتهم كالأم التي تغّذي أولادها باللبن”.
2- القديس يوحنا الذهبي الفم:
يقول هذا القديس في كلمته عن الشهيدة ذروسيذا: “حيث لاينفع ذهب ولاغنى هناك تفيد بقايا القديسين .لأن الذهب لايشفي من مرض ولاينجي من موت ولكن عظام القديسين تفعل الاثنين” (طبعة ميني 50،689 ). كذلك يشهد القديس نفسه أن بقايا القديسين مخيفة للشياطين. ويذكر أن بقايا القديس بابيلا أبطلت افعال أبولون حيث امتنع عن اجابة الامبراطور يوليان الجاحد إلى طلبه واعترف ابولون نفسه بسبب صمته وهو لأن بقايا القديس دفنت إلى جانب معبده. عندئذٍ أمر الامبراطور بنقل البقايا إلى مكان آخر ليحرر أبولون ويستنتج القديس يوحنا الذهبي الفم من ذلك: “إن المخادع الأول (الشيطان) لم يجرؤ أن ينظر قبر بابيلا. هذه هي قوة القديسين الذين وهم أحياء لم تحتمل الشياطين ظّلهم ولاثيابهم وهم أموات ترتجف حتَّى من قبورهم”.
يشهد القديس ذاته بأن المسيحيين الحسني العبادة معتادون على:
- أن يصّلوا أمام البقايا المقدَّسة.
- أن يقيموا الاجتماعات والاحتفالات حولها.
- أن يقبّلوها قبل المناولة الإلهية.
- أن يتمّنوا أن يدفنوا إلى جانبها.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في تقريظة للقديس اغناطيوس الحامل الاله: “ليست أجساد القديسين وحدها ملأى نعمة بل ونفوسهم ذاتها أيضًا لأنه إذا كان في زمن أليشع قد تمّ شيء من هذا القبيل، إذ مسّ الميت النبي انحل من قيود الموت وعاد إلى الحياة. فبالأحرى الآن النعمة أغزر وفعل الروح القدس أخصب؟ فمن يمسّ نعش (القديسين) ذاته عن ايمان لا بدّ وأن يجتذب منه منفعة كبرى. ولذلك أبقى الله لنا ذخائر القديسين رغبة منه أن يقودها إلى تلك الغيرة التي كانت فيهم ويمنحنا ميناء وتطبيبًا حقيقيًا ضد الشر المحيط بنا من جميع الجهات”. وأيضًا في الخطاب على كورنثوس الثانية: “ان عظام القديسين تخضع تعذيبات الأبالسة وتزدريها وتحلّ المكبّلين بقيودها القاسية… أن الغبار والعظام والرماد هي تعذيب الكائنات الخفية”. فلا تنظرن إلى جسد الشهيد العاري والفاقد العمل النفساني والملقى أمامك بل إلى أن فيه تستقر قوة أخرى أعظم من النفس ذاتها وهي نعمة الروح القدس التي تحقق لنا بفعلها العجائبي حقيقة القيامة. لأنه إذا كان الله قد أولى الموتى والأجساد المتحوّلة غبارًا مثل هذه القوة التي لا يملكها أحد من الأحياء فبالأحرى أن يعطيهم يوم القيامة حياة أفضل وأهنأ من السابقة” (خطابه بخصوص الشهيد بابيلا).
3- القديس إيرونيموس (Jerome):
حاول هذا القديس في جوابه إلى فيجيلانتيوس أن يبرهن له أننا نكرّم بقايا القديسين لأننا نعبد المسيح، ولا نعبد الأصنام، والأهم من ذلك أن أجساد المائتين في المسيح يسوع ليست منجّسة كما يقول البعض كاليهود والسامريين الذين يعتبرون الجسد غير طاهر (منجّس) ويبرهن ذلك مستندًا إلى الكتاب المقدس. أما نص رسالته فإليك به: “نحن بالحقيقة نرفض العبادة لا لبقايا الشهداء فقط بل أيضًا للشمس والقمر والملائكة ورؤساء الملائكة والشاروبيم والسارافيم وكل اسم من المسميات، لا في هذا العالم فحسب، بل في العالم الآتي أيضًا، فلذلك نحن لانخدم مخلوقًا أكثر من الخالق المبارك إلى الأبد، نكرّم بقايا الشهداء، ونعبد الرب، الشهداء هم شهداء للرب. إذا نحن نكرّم خدّام الرب الذين يعكسون ربّهم الذي قال: “من يستقبلكم يستقبلني أنا أيضًا”. ويتابع القول: أنا أريد أن أسأل فيجلانتيوس هل بقايا بطرس وبولس منجّسة؟ هل كان جسد موسى منجّسًا، الذي نحن نقول فيه أن الرب نفسه هو الذي دفنه؟.
هل في كل وقت ندخل فيه كنائس الرسل والأنبياء والشهداء نعبد صناديق ذخائر الأصنام؟. دعوني أوجّه هذا السؤال إليه هل كان جسد الرب منجّسًا عندما وضعوه في القبر؟!.: إذا كانت بقايا الشهداء لا تستحق الإكرام، فكيف نقرأ في المزمور ( 116: 110 ): “كريم لدى الرب موت قديسيه”؟ إذا كان الرجال المائتون ينجّسون من يلمسهم فكيف حدث أن الميت أليشع أقام الرجل الذي كان أيضًا مائتًا؟ فهذه الحياة أتت بعد موته (موت النبي) الذي هو بنظر فيجيلانتيوس يجب أن يكون منجّسًا.
انطلاقًا من هذا الرأي – رأي فيجيلانتيوس – يستنتج القديس “إن كل مخيّم من مخيّمات اسرائيل وشعب الله كان منجسًا لأنه حلّ فيه جسد يوسف وجسد البطاركة في الصحراء، وحمل أيضًا رقادهم المنجّس).
ويستمر القديس في طرح الأسئلة ويقول: “أنا أريد أن أسأل: هل بقايا الشهداء منجسة؟ ويجيب إن كان هذا صحيحًا فلماذا سمح الرسل لأنفسهم أن يسيروا وراء (جسد منجّس) استفانوس بموكب جنازي؟ ولماذا أقاموا له رثاء عظيمًا؟ (أعمال الرسل 8: 2).
4- القديس كيرّلس الأورشليمي:
يقول القديس في موعظته التعليمية الثامنة عشرة: “ليست أرواح القديسين فقط مستحقة للتكريم، ففي أجسادهم الميتة أيضًا قوة واقتدار، أن جسد أليشع كان في القبر ميتًا ومع ذلك فإذا لمس الميت حيي” ( 2 ملوك 13: 21) فقام جسد النبي الميت بعمل النفس. ذلك إن ما كان ميتًا منح الحياة لميت، وظل هو بين الأموات. ولم ذلك؟ خوفًا من أنَّه لو كان أليشع حيًا لعُزيت المعجزة للنفس وحدها. ولكي يبرهن على أنَّه عندما تكون النفس غائبة، تكمن في جسد الأبرار بعض القوة بسبب النفس البارة التي سكنت فيه مدة سنوات، وكان أداة لها.
فلا نكن منكرين يا أبنائي، وكأن ذلك لم يحدث. لأنه إذا كانت “المآزر والمناديل” (أعمال 19: 12) التي هي من الخارج، تشفي المرضى عندما تلمسهم، فكم بالحري يستطيع جسد النبي نفسه أن يقيم المائت”.
5- القديس امبروسيوس:
القديس أمبروسيوس الذي كان أسقفًا على “مديولان” يقول في خطابه حول كشف رفات القديسين: غريفاسيوس وبروتاسيوس وكيليسيوس: “إذا قلت لي: ماذا تكرّم في الجسد الفاني؟ أقول لك: إّني أكرّم في جسد الشهادة الجراح المقبولة لأجل اسم المسيح. أكرّم ذكرى الفضيلة الخالدة أبدًا. أكرّم البقايا المقدسة بالاعتراف للسيد. أكرّم في التراب بذرة خلود. أكرّم الجسد الذي علمني أن أحب الرب وان لا أرهب الموت لأجل الرب. ولماذا لا يكرّم ذلك الجسد الذي يرتجف منه الأبالسة الذين جرحوه في العذابات ويمجدونه في القبر؟ فكرّم اذًا الجسد الذي مجّد المسيح على الأرض تملك مع المسيح في المجد”.
ويتحدّث هذا القديس عن انتقال القداسة إلى ما يخص القديس أيضًا فيقول يوم الكشف عن ذخائر القديسين غير فاسيوس وبروتاسيوس وكيليسيوس: “أنتم اعترفتم بل عاينتم بأنفسكم أن كثيرين تحرّروا من رتبة الأبالسة. وأكثر من هؤلاء أولئك الذين ما كادوا يمسّون بأيديهم ثياب القديسين حتَّى شفيوا فورًا من أدواتهم. إن معجزات الزمان القديم تجددت منذ فاضت النعمة على الأرض بأكثر غزارة بواسطة مجيء الرب يسوع: فأنتم تشاهدون أن كثيرين قد شفيوا بظلّ القديسين.
إن المؤمنين يتساءلون: كم من المناديل تسلم من أيد إلى أيدي. وكم من الثياب قد وضعت على الذخائر الفائقة القداسة فأصبحت شافية من لمسة واحدة. إن الجميع يتسابقون للمسها ومن مسّها أصبح صحيحًا معافى.
6- القديس أفرام السرياني:
يقول في تقريظة للشهداء: “وبعد الموت يفعلون وكأنهم أحياء، فيشفون المرضى ويطردون الشياطين، وبقدرة الرب يدفعون كل تأثير شرير لسيطرتهم في العذاب والتنكيل لأن نعمة الروح القدس الفاعلة المعجزات انما هي ملازمة أبدًا للذخائر المقدسة”.
7- القديس ابيفانيوس:
أسقف قبرص كتب في ترجمة حال الأنبياء القديسين: “أشعياء وأرميا وحزقيال. أن قبور هؤلاء القديسين كانت مرعيّة بإكرام عظيم بداعي العجائب العديدة التي فعلها الله عندها لكثيرين بصلوات الأنبياء والقديسين”.
8- القديس يوحنا الدمشقي:
كتب القديس يوحنا: “ان القديسين هم كنوز الله ومساكنه النقية.ان الله يقول: “اني أسكن فيهم وأسلك بينهم وأكون إلههم ويكونون شعبي”. ( 2كور 6: 16)، والكتاب الإلهي يقول: “ان نفوس الصديقين في يد الله فلا يمسهم عذاب”. إن موت القديسين هو بالاحرى نوم لا موت فإنهم تعبوا في الامر وسيحيون بلاانقضاء. و “كريم أمام الرب موت ابراره”. وأي حال يمكن أن يكون أسمى واشرف من الكيان في يد الله؟ إن الله نور وحياة . والذين هم في يد الله إنما هم في الحياة والنور. لان الله سكن في عقولهم واجسادهم كما يقول الرسول: “أو ً لا تعلمون أن اجسادكم هيكل الروح القدس الساكن فيكم؟ والروح القدس إنما هو الرب، “ومن يفسد هيكل الله يفسده الله”. فكيف لاتكرم هياكل الله الروحية؟ إنهم في حياتهم انتصبوا امام الله بجرأة. إن السيِّد المسيح منحنا بقايا القديسين ينابيع خلاصية، ألا فلا يكفرن أحد لأن (الذخائر) تفيض إحسانات متنوعة وتصب “ميرونًا” طيب العرف. وإذا كان الماء قد انفجر بمشيئة الله من الصخرة الصماء وفي البيداء وفي فلك الحمار (لما عطش شمشون) (اخر 17: 6، قض 18: 15-19). فكيف لايؤمن بأنه كان يجري “ميرون” طيب العرف من بقايا الشهداء أو ذخائرهم؟ فليس بينهم من لا يعرف قدرة الله وشرفه الذي يهبه سبحانه وتعالى للقديسين. نعم ليس احد منهم لايؤمن بهذه الاعجوبة.
إن كل من لمس ميتاعدَّ نجسًا بموجب الشريعة القديمة. ولكن لم يكن الاموات حينئذ كهؤلاء .فنحن لانسمي أمواتًا أولئك الذين توفوا وهم مؤمنون برجاء القيامة ولكن كيف يمكن للجسد الميت أن يفعل العجائب؟ وكيف تطرد الشياطين بهذه الاجساد ويتداوى الضعفاء ويبصر العمي ويطهر البرص وتنتفي التجارب بغير ارتياب. كم كنت تجاهد لتظفر بإنسان يسعى لك لتمثل بين يدي ملك مائت وينوه بك أمامه؟ إذا أفلا يستحق الأكرام اولئك المتشفعون بالجنس البشري كله والمصلون إلى الله من اجلنا؟. في الحقيقة انهم لجديرون بكل تكريم وتبجيل”.
9- القديس غريغوريوس بالاماس:
يقول القديس بالاماس في الذخائر : “إن النور الإلهي هو عطية التأله… هو نعمة الروح القدس، هو نعمة بها يشعُّ الله، فقط، عبر وساطة نفوس أولئك المستحقين حقًا وأجسادهم. إنما هنا يكمن المثال الحقيقي لله، أي في إظهار الإنسان له عبر ذاته، وفي إتمام الأعمال التي هي مخصوصة به، فالحياة الإلهية التي تصير الميراث الخاص لكيانهم برمته، لاتفارق القديسين في لحظة وفاتهم، بل (الحياة الإلهية) تستمر في الاعتلان حتَّى في أجسادهم، وهذا أساس تكريم ذخائر القديسين”.
وكذلك يقول: “مجّدوا قبور القديسين المقدسة. وإذا كانوا هناك، وإن كانت ذخائر (بقايا) عظامهم، فلأن نعمة الله لاتتركهم، كما أن اللاهوت لم يتخلّ عن جسد المسيح المكرّم بعد موته، والذي يمنح الحياة”.
وفي وجوب السجود للذخائر: “نسجد أيضًا للذخائر المقدسة، لأنَّها لم تتجرد من القوة المقدسة، كما أن الألوهة لم تنفصل عن جسد الرب في موته الثلاثي الأيام”.
تحرير وتجميع الشبكة عن رسالة مطرانية اللاذقية
من الأحد 13 / 9 / 1998 حتى الأحد 24 / 1 / 1999
ما عدا الأعداد التي صدرت في
20 + 27 / 12 / 1998
و3 / 1 / 1999 بسبب أعياد
الميلاد، الختان، رأس السنة والظهور الإلهي.