في التجسد الإلهي

1- العجب

ما هي العلاقة بين الله والإنسان؟ وكيف وإلى مدى يتصلان الواحد بالآخر؟ لقد تنوعت النظرات الفلسفية والدينية كلها في الكلام عن ذلك. لكن الجواب المسيحي على هذا الموضوع هو فريد جداً. وهو شخص يسوع المسيح. إن الله والإنسان لا يتصلان وحسب بل قد اتحدا!

كما قسم اسمُ المسيح التاريخَ إلى شطرين. فقد قسم شخصُ يسوع المسيح الفكرَ الإنساني حوله إلى فكرين. لقد صار تجسّد المسيح صخرة عثرة تكسرت عليها الأفكار والأديان، وكما سماها بولس الرسول “جهالة” للأمم و”عثرة” لليهود.

إن الذهنية العلمية متمثلة بالهيلينية في زمن المسيح، وبالعلوم التطبيقية في عصرنا، تعتمد بالأساس على تحديد الأمور وتعريفها بجوهرها وصفاتها. هكذا مثلاً لكي تكون السنبلة سنبلة يجب أن تتألف من جذر وساق وحبات قمح. فإذا ما دخلها مثلاً عين وأنف وقدمان… لا تعود سنبلة، بل هي شيء ما آخر. وهكذا الله بالنسبة للأديان والفلسفات، يجب أن يكون غير محدود مطلقاً كليَ المعرفة وكليَ القدرة وكلي القوة. فإذا ما دخل على الله هذا شيء آخر كالجسد لا يمكنه أن يبقى الله. هذا بالنسبة للأديان والفلسفة. فإله يأكل ويشرب ويجوع ويعطش ويحمل أوهان جسدنا البشري الضعيف، والأفظع من ذلك أن يُلطم ويبصق في وجهه، يبكي ويتألم، هذا ليس إلهاً. وحالة كهذه هي غير ممكنة. الفكر الديني عموماً والفلسفي لا يتقبّل فكرة الإله- الإنسان. وذلك تِبعاً لطريقة تحليله الفكرية.

ولما جاء يسوع المسيح الإله والإنسان معاً، ارتطمت به الأفكار البشرية. وأمام مأزقها الفكري وبحسب خلفياتها الفكرية انشطرت الحلول إلى اتجاهين. فمادام اتحاد الله بالإنسان مستحيلاً إذن يسوع الإنسان هو الحقيقة، لكن يمكن أن تضيف على صفاته بعض الصفات والطاقات والنعم الخاصة وتبلور هذا التيار في الفكر النسطوري. وهناك حلٌّ ثانٍ أن يسوع هو الله لكنه مادام لا يتحد بالجسد البشري فقد حمله بالظاهر وليس بالحقيقة. وهذا تبلور عند دعاة الطبيعة الواحدة. كلا الطرفين ينطلقان من مبدأ إنكار إمكانية التجسد الإلهي، أي اتحاد الإنسان بالله.

ولقد جاهدت الكنيسة مدة قرون أربعة لتثبيت حقيقة إمكانية التصاق واتحاد الإلهي بالإنساني. المسألة ليست مجرد نظرية! ولكهنا حقيقة انثروبولوجية تفسر كل نظرتنا إلى الإنسان وحياته.

بالتجسد الإلهي بَطُلت النظرياتُ الدينية التي تعتبر أن اتصال الإنسان بالله يتم فقط في حيّز الشريعة. فالله بالنسبة لهم متعالٍ جداً، والإنسان في بشرته صغير جداً. ويقوم العهد بين الطرفين كصلة وصل. “تحفظون وصاياي فأكون لكم إلهاً وتكونون لي بنيناً”. وبالتجسد الإلهي بطلت الأفكار الفلسفية التي تجعل الله في حيّز المبدأ وتربطه بالإنسان تعاليم أخلاقية فقط، فهو المثال والمثل. ومازالت الهوة في الفلسفات والأديان قائمة وكبيرة بين الإلهي والإنساني.

إلاّ أن يسوع في العهد الجديد أعلن أنه “حيث هو سنكون نحن”، و”المجد الذي له سيعطينا”! فما النسطورية والمونوفسيتية (دعاة الطبيعة الواحدة) إلاّ وجهين لعملة واحدة. وهي أنه لا يمكن أن يتحد الله بالإنسان. وهما يمثلان التيارين الفكريين الأساسيين حول الإنسان، وما تلك البدع إلاّ نتيجة اصطدام هذين التيارين الفكريين على شخص يسوع وحقيقة التجسد، أي على صخرة الإيمان المسيحي.

فالتيار الفكري الأول- النسطورية تراه حياً في تيار المنطق والدقة العلمية والعقلانية الصرفة وحرفية الشرائع والوصايا وتقدير المعطيات العلمية أكثر من حقها حين تأخذ بعداً مطلقاً وهي حقيقة بحثية. وأيضاً في تحليل وتفكيك الماورائيات وتأليه الإنجازات الإنسانية والنظم الاجتماعية والاعتماد المطلق على التقديم الاقتصادي الذي يشكل مفتاح وغاية كل شيء.

بينما التيار الفكري الثاني- الطبيعة الواحدة، نراه يحيا في تأليه الأفكار، فالفكرة هي الله والله مجرد فكرة. وفي احتقار ما هو طبيعي حتى في الإنسان ذاته، دون أن يعني ذلك عدم التهافت عليه. فالجسد هنا مهان وضعيف فيصير “السقوط” في الجنس واقعاً مفروضاً والجسد بضعفاته شرّاً لا بد منه. ويتطرّف هذا التيار من جهة أخرى بالمقابل أمام هوان ما هو طبيعي، بتأليه القيم والروابط والقيادات فينتقل من الطرفين إلى حيّز اللاواقعية.

وتبقى حياة الإنسان في كلا التيارين هي هي خاضعة للموت، ولكن تتمسك ببعض الحلول الأخلاقية الدينية وتصبو إلى إنسان Superman بصفات إلهية.

وهكذا وكأنه قد قُدِّر لهذا الجسد البشري أن يبقى في هوانه فلا يستطيع الله أن يحمله، ولا يستطيع من يحمله أن يتحد بالله. فلقد اتحد هذا الجسد بالموت من لحظة ولادته، بحيث يكبر الموت فيه كلما كبر، ليقضي الموت عليه بالنهاية. وبقيت الحلول الدينية كلها، كما بدعات الطبيعة الواحدة والنسطورية، تؤمن بخلاص أخلاقي فقط وليس بخلاص اندلوجي يشمل تقديس الجسد وتحريره من طبيعته الفانية.

إلاّ أن تجسد الكلمة الإله، يسوع المسيح، أبطل تلك الفلسفات والبدع. وحقق للإنسانية ما لم تتخيله الفلسفات والأديان. لقد وهب لبشرتنا أن تلبس عدم الموت ووهب لبني جنسنا أن ربحوا حياة الله، بالنعمة وليس بالطبيعة. وأوضح أن مصدر الخطيئة هي الإرادة وليس الجسد والبشرة. فالله أحب خليقته وخلقها صالحة، وحملها في ضعفها ليشفي صعفاتنا الروحية.

العلاقة بين الله والإنسان هي علاقة الكرمة والأغضان، الرأس والجسد، كما يقول الكتاب. وليست هي علاقة مطلقٍ بمحدود وديّانٍ بعبد! وتجسد الرب يسوع أثبت أن ذلك حقيقة ممكنة، وإن كان ذلك غير ممكن للعقول وللطبيعة، فهو ممكن لأنه هبة إلهية ونعمة. كشف التجسد الإلهي أن الكمال المسيحي ليس اكتمالَ الواجبات وحفظَ كلِّ الوصايا! وإنما هو اكتمال قامتنا إلى ملء قامة المسيح. فكما تجسد الإله بالحق يتأله الإنسان بالنعمة، آمين.

2- الكشف

“المسيح ناسف الأديان”
” طأطأ السماوات ونزل وغمام تحت رجليه” (مز 17، 9)

لا شك أن فكرة الله عند الإنسان تبدو “فطريّة”، وملتصقة بحياته، ولا خلاف على ذلك. لكن الاختلاف عبر العصور كان حول كيف نتعرف على الله، وكيف يظهر لنا. إن الله بطبيعته غير منظور ومن خارج هذا العالم المخلوق، فكيف يتمكن إذن هذا العالم من معرفته؟ وكيف نكتشفه؟

إن هناك طريقتان نكتشف بهما الله. الطريقة الأولى هي ما نسميه “الكشف الطبيعي” ونعني به الاستنتاج الطبيعي البشري عن وجود الله وعن صفاته، وذلك لأن الإنسان دون مجهود وبمجرد المنطق يستدلّ على الله من أعماله والطبيعة المخلوقة حول الإنسان والموضوعة في خدمته. لذلك إنكار وجود الله هو استنتاج غير منطقي! وضمن إطار هذا الكشف فسّرت الفلسفات والأديان تعاليمها عن الله.

لكن هناك طريقة “الكشف فوق الطبيعي”، والمعني به تدخل الله في التاريخ. وهنا نعرفه كما يجيء هو وليس من مخلوقاته. والكتاب المقدس اعتمد على هذه الطريقة في الكشف، بمعنى ظهور الله أكثر مما هو استكشاف الإنسان. وهذا الكشف فوق الطبيعي تمّ في الكتاب المقدس على مراحل، بدأت بنبوءات العهد القديم وأنبيائه. إذا كانت النبوءة تشكّل غالباً خبراً يتجاوز ويخالف المعرفة المنطقية الإنسانية لزمنها. إذ تأتي المعرفة من الكشف الإلهي، أي إظهار الله لذاته، بلغ ذروته في تجسد الكلمة، الربّ يسوع.

إن كنيستنا الأرثوذكسية تعتمد في كلامها عن الله على الطريقة الواقعية والتاريخية. إن الربّ يسوع قسَم التاريخ إلى شطرين، ما قبله وما بعده. ولقد حاولت عصور النهضة والتنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر– عبثاً- أن تطعن بهذا الكشف فوق الطبيعي وأن تمسخ المسيحية إلى مجرد نظام (system) ديني كغيره نازعة إياه من إطاره التاريخي كحدث. بينما لكنيستنا الأرثوذكسية يبقى الإيمان مبنياً على الأحداث وليس على الأبحاث. فنحن عاينّا “الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا… فإن الحياة أُظهرتْ وقد رأينا ونشهد ونخبركم” (1يوحنا 1، 1-2). عندما ينحصر الدين في معرفة الله على أساس الكشف الطبيعي، ينحصر عندها إلى نظام ديني من خلق البشر. لكن عندما تبني المسيحية إيمانها على الأحداث التاريخية تصير علماً واقعياً. إن إلهنا شخص دخل التاريخ لأجلنا ويشاركنا تاريخنا.

ولقد تأثرت بعض التيارات الفكرية المسيحية في العالم البروتستانتي والكاثوليكي بعصور السخولاستيك والتنوير الغربية. لذلك مال البروتستانت والمتحرّرون منهم خاصة إلى العودة للكشف الطبيعي، والاعتماد على دور المنطق البشري في اكتشاف الله من خلال أعماله. وهكذا نفهم كيف يستخدمون فنّ الأيقونة لكن يستبدلون الشخص الإلهي بالخليقة. فهم يستخدمون الفنّ لكن للتعبير عن الكشف الطبيعي عن الله وليس للتعبير عن الله مباشرة كما جاء هو. وهناك أمثلة عديدة في العبادة واللاهوت ناتجة عن ذلك.

أما التيارات “البروتستانتية الوجودية” فلقد استفادت من الأحداث الإلهية- التاريخية بما يفيد حياة الإنسان الداخلية. وهكذا تعاملت مع هذه الأحداث وكأنها ميثولوجية –أسطورة مفيدة، تؤثر على حياة الإنسان الروحية وتعطيه العِبَر والقوة لمتابعة حياته بما يوافق مع التعاليم المسيحية. وتكون هكذا قد قبلت التاريخ كأسطورة وليس كحدث. وبذلك لا تختلف عن الأديان والفلسفات التي ترتكز على الكشف الطبيعي متجاهلةً تدخّل الله في تاريخ البشرية، أي دخوله إلى تاريخنا.

إننا نؤمن أن الله شخصٌ. لذلك لا يمكن لأحد أن يعرفه إذا لم يعرّف هو عن ذاته. أضفْ إلى ذلك أن الله من طبيعة غير طبيعتنا وعالم غير عالمنا. لذلك إن لم يأتِ هو إلينا لا يمكننا أن نرسم الصورة الصحيحة عنه. كيف يمكن للإنسان أن يعرف أمراً من خارج عالمه؟ إلا إذا عرّف الله بصفات عالمه ومحدودياته، فيعرف عنه ما في معرفته ولا يعرفه كما هو، وكما جاء وعرّفنا عن ذاته التي هي فوق معرفتنا.

ولقد قبل الفكر المسيحي الكاثوليكي بوجود درجتين للكشف، الطبيعي والإلهي فوق الطبيعي، لكنه نظر إليهما كدرجتين مختلفتين.

إن كنيستنا الأرثوذكسية ترى الكشف الإلهي واحداً، بدأ بإظهار أعمال الله في خليقته (الكشف الطبيعي) وتطور إلى الكشف الإلهي فوق الطبيعي، هكذا تمثل الطرق الطبيعية لمعرفة الله الأساس والدرجات الأولى لكشف الله النهائي، بدخوله هو في النهاية إلى العالم.

لقد قلب تجسّد يسوع منهجيات الأديان في معرفة الله. فالله هو الظاهر لنا وليس المكتَشف منا. إله الكتاب المقدس إله استقبلناه وليس إلهاً اخترعناه. ولهذه الحقيقة نتائج كبيرة جداً. وأُولاها هو أننا نقبل الله كما هو وليس كما نحن، فالله ليس صورة عن المثل البشرية، تلك المثل التي تتطور وتتضارب وتتبدّل. والنتيجة الثانية الهامة هي أن معرفة الله في طبيعتها هي “استقبال” ترتبط بأمر هام جداً وهو “القبول”. وهنا تلعب حرية الإنسان الأهمية ذاتها التي للرغبة الإلهية. فقبول الإنسان يوازي ظهور الله. ومحبة الله وحدها لا تكفي دون حرية الإنسان الايجابية. إن هذا الجسر الذي سيصل بين المخلوق وغير المخلوق، وبين المدرك وغير المدرك، والمحصور وغير المحصور، لا يمكن أن يرتكز على قاعدة واحدة وهي المحبة الإلهية للبشر، وإنما يحتاج للقاعدة من الضفة الثانية، وهي تقبّل الإنسان الحرّ لهذا الحوار الإلهي الإنساني الذي يبادر الله فيه ويتجاوب الإنسان معه.

هكذا يبدأ الكشف الإلهي كظهور، أي بكشف الله لذاته للإنسان وهذا الكشف هو هدية الحب الإلهي وليس ثمرة الجهد البشري. لكن هذا الكشف لا يتحقق إلا عندما يصير “شركة” أي حياة مشتركة بين الله والإنسان. لذلك كشف الله عن ذاته للإنسان ليس كمعرفة ولكن كشركة. وهذا ما يفترضه التعارف بين الأشخاص. إذ الإنسان كما الله ( على صورته) شخص. فالله يقدم ذاته والإنسان استقبله بالعلاقة الحرة. لهذا يهتف المرنم “المسيح أتى من السماوات فاستقبلوه”. لذلك لا قيمة للمحبة الإلهية عندما ترفضها الحرية البشرية. هكذا إننا لا نعرف الله من الدين بل من العِشرة والشركة في حياته. الله في منهجيات الأديان يكاد يصير مجرد “نظرية” يمكننا أن نؤمن بها دون أن تبدل في حياتنا إلا القليل الذي يقتضيه الالتزام بمبادئها. لكن “إله التاريخ” الذي طأطأ السماوات ونزل هو إلهٌ عندما نعرفه نعرف ذواتنا بطريقة جديدة، نعرفه إلهنا وتعرف ذواتنا عشراءه. آمين.

3-الاكتشاف والاعجاز

يسوع مدرّب الحرية البشرية
“نزل وضباب تحت رجليه. ركب على كروبٍ وطار وهفّ على أجنحة الرياح” (مز10:17)

لقد نزل الله وطأطأ السماوات وجاء يكشف ذاته لنا. لكنّ المزمور يلحظ حقيقة أخرى، أن الله بعد أن ينزل إلينا (الكشف) يطير ويهف على أجنحة الرياح، أي وكأننا نستقبله ولكننا لا نقبض عليه.

لقد جاء الكشف الإلهي الطبيعي والفوق الطبيعي –الإلهي قوياً جداً، لكن ليس للدرجة التي يلغي فيها حرية الإنسان. لم يكن ولن يكون الكشف الإلهي يوماً فرضاً وحقيقة تطبيقية إجبارية على الذهن البشري. لقد شاء الله أن يكون كشفه عظيماً، لأنه كبير ولأنه بالوقت ذاته يحترم حرية الإنسان، ويبقى اكتشافاً إنسانياً أيضاً. إن كشف الله عن ذاته في التاريخ وأحداثه يأتي بالرقة والقوة معاً، اللتان تضمنان وضوحه من جهة وحريّة تقبّله من جهة أخرى.

لذلك إن معرفة الله ذات شطرين أولهما وهو الأعظم “الكشف الإلهي”، والثاني وهو مهم كالأول أي الاكتشاف البشري. لذلك معرفة الله هي شبه حركة “حوار” بين الله والإنسان تتم في العلاقة الحيّة اليومية الكيانية، عقلاً وفعلاً. إن هدية الله للإنسان وكشفه عن ذاته له ليست ديناً إجبارياً، لأن أعز ما لدى الله في خليقته الإنسان هو حرية الأخير. لا يريد الله محبين له بالإجبار ولكن بالخيار. لقد زيّن الله الإنسان بالعقل والروح لكي يختار وليس ليكون في الإجبار. وليس من معنى للفضيلة عندما تتم بالغصب. الكائنات الحرة والعقلانية التي تملك شخصية خاصة تربطها علاقات حرّة. وهذه الحرية هي أساس تلك العلاقة، والتي على قوامها علاقة الله بالإنسان، هكذا شاءه وهكذا يعامله. فكما هناك الله الآتي إلينا هناك الإنسان الذي يستقبله، وكما يتكلم الله هناك الإنسان الذي يريد ولا يريد أن يسمعه. ينزل الله إلينا حين ننصب نحن تلك السلم الإلهية باتجاه السماء (سلم يعقوب تك28: 12).

على أي حال، وحين يتقبل الإنسان حضور الله، لا ينتهي هناك دور حريته، لأن الله يأتي بتلك الرقة ولكن أيضاً على “الغمام” كما يقول المزمور. فحين نعرفه ندرك كم نجهله. فهو حين يأتي إلى محدوديتنا يفجّر فينا قدراتنا نحو المطلق. إنه ينزل إلينا ليعود ويطير.

ينزل نراه ثم يركب على الرياح لنجري وراءه. وهنا يبدأ الشوط الثاني والأهم من خيار الحرية البشرية. وهذا ما يسمى في لغة اللاهوت “الغمام الإلهي”.

هناك شرطان أيضاً لمعرفة الله بالحق والعمق. الأول هو نزوله إلينا، لأنه شخص ولا تمكننا معرفته إلا بالمقدار الذي يكشف لنا هو عن ذاته. ولكن هذا المقدار تحدده الحرية البشرية بعد نزوله إلينا. فهو يكشف لنا بمقدار ما نطلبه، وهذا هو قانون الحرية التي وهبنا إياها وزيننا بها.

يأتي الله مكشوفاً ومحجوباً، ينزل ولكن تحت قدميه الغيوم. تصلنا منه إشارات من حضوره ومن ملئ نعمته و”ومضات” من نوره، وهذا الغمام يسميه القديس (الأريوباغي) “غمامة النور”، فهو نور وغمامة، كشف وحجب، اكتشاف وإعجاز! وهذا من طبيعة العلاقة بين المحدود- الإنسان واللامحدود- الله. لذلك إن اختيار الحرية البشرية أن تتقبل الحضور الإلهي (الكشف) هو بداية الحوار مع الله وليس نهايته. هو أكثر من استقبال، إنه رحيل مع الله الطائر على أجنحة الرياح. إنه تبديل مسيرة ووجهة حياة. إنها علاقة شيقة يملأوها العشق في شبع دون إشباع. ولو لم يكن جمال الله مطلقاً لا نهاية له لكان الله –حاشى- مملاً للقديسين وشيقاً للمبتدأين فقط. ولكن العكس صحيح لأن حضور الله “غمام نور” كلما دخلنا فيه ازددنا نوراً وازدادت معرفتنا لعدم معرفتنا. لهذا كان بولس الرسول أن يصمت عن الخبرات التي رآها عندما اختطف إلى السماء الثالثة، ولم يقدر أن يصفها إلا بـ “ما لم تره عين ولم تسمع به أذن بشر” ما أعده الله (من الحب) لمختاريه (محبيه).

كلما أحببنا الله لا يقل الشوق، فإن المشاعر البشرية كلما نرويها تنقص الأشواق، على العكس تماماً في الله كلما أحببناه كلما تأجج الشوق إليه. إن العشق الإلهي هو قوة وليس لذة. لذلك كلما امتلكنا منها كلما زادت قدراتنا على المضي فيها. العلاقة مع الله هي دخول في النور كلما اجتزنا فيه كلما ظهرت عظمته كغمام لا يُسبر غوره. العلاقة مع الله عشق كلما رويناه كلما تأجج ولا يتوقف. الله محب أكثر مما نعرف، وكلما عرفنا من محبته أدركنا أننا محبوبون أكثر.

وهذا هو الشرط الثاني للحرية البشرية، أن تسعى بخطوات لا كسل فيها والله جوّاد محب، صرخ إليه اسحق السرياني: “هدّئ عني أمواج رحمتك”، وأحلى كلمات نرنمها للرب قبالة عيد ميلاده وحضوره هي تلك التي تصرخها النفس البشرية على لسان سفر نشيد الأنشاد “اجتذبني وراءك فنجري” (4:1). آميـــــن

عن كتاب “السائحان بين الأرض والسماء”
布洛斯·亚齐吉都市区

zh_CNChinese
滚动至顶部