1- “لست أفعل الصالح الذي أريده”
إذ بدأ النهار اضطر الرجل المسن تحت إلحاحنا الشديد أن يبحث أعماق الموضوع الذي تحدث عنه الرسول فقال:
أما بخصوص العبارات التي تحاولون أن تظهروا بها أن الرسول لا ينطق بها عن نفسه بل على لسان الخطاة قائلاً: “لأني لست أفعل الصالح الذي أريدهُ بل الشر الذي لست أريده فإيَّاهُ أفعل”، أو قوله “فإن كنت ما لست أريدهُ إياهُ أفعل فلست بعدُ أفعلهُ أنا بل الخطية الساكنة فيَّ”، أو قوله “فإني أسرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية” (رو19:7-23)، فإنه بالعكس يظهر أن العبارات لا تلائم الخطاة (غير التائبين) بل تنطبق على الكاملين، الذين يقتدون بالرسل الصالحين.
لأنه كيف يمكن أن ينطبق على الخطاة هذا القول: “لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل”؟ أو “فان كنت ما لست أريدهُ فإياهُ أفعل فلست بعد أفعلهُ أنا بل الخطية الساكنة فيَّ”؟!
لأنه أي خاطئ يدنس نفسه كرهًا بالفجور والزنا؟!
من منهم بغير إرادته يصنع مكائد ضد قريبه؟!
من منهم تلزمه الضرورة أن يظلم إنسانا شاهدًا عليه بالزور، أو يغشه بسرقة، أو يطمع في ممتلكات آخر، أو يسفك دمه؟!
كلاّ! بل يقول الكتاب المقدس: “تصوُّر قلب الإنسان شرير منذ حداثتهِ” (تك21:8). لأنه إلى هذه الدرجة يلتهب قلبهم بحب الخطية والشهوة راغبين في تنفيذ ما يحبونه، مترقبين باهتمام شديد أن يتمتعوا بشهواتهم “ومجدهم في خزيهم” (في19:3). وكما يؤكد إرميا النبي أنهم يرتكبون آثامهم الخبيثة لا بإرادتهم أو بانشراح قلب فحسب بل ويبذلون جهودًا شاقة محتملين أتعابًا في تنفيذها… إذ يقول: “تعبوا في الافتراءِ” (إر5:9).
أيضًا من يقول أن هذه العبارة: “بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية” تنطبق على حالة الخطاة الذين لا يخدمون الله لا بالذهن ولا بالجسد؟ إذ كيف يستطيع الذين يخطئون بالجسد أن يخدموا الله بالذهن إن كان الجسد يقبل إغراء الخطية من القلب، إذ يعلن خالق الاثنين (الذهن والجسد) ان القلب هو أصل الخطية ومنبعها قائلاً: “لأن من القلب تخرج أفكار شريرة قتل زنًى فسق سرقة شهادة زور تجديف” (مت19:15)؟!
على أي الأحوال يظهر بوضوح أن هذه العبارات لا يمكن أن تنطبق على الخطاة الذين ليس فقط لا يكرهون الشر بل يحبونه فعلاً، وهم بعيدون جدًا عن خدمة الله بالذهن أو الجسد، حتى أنهم يخطئون بالذهن قبل أن يخطئوا بالجسد، وقبل أن يتمموا ملذات الجسد تقهرهم الخطية في ذهنهم وأفكارهم.
2- تمم الرسول أعمالاً صالحة كثيرة
بقى لنا أن نقيس معنى العبارات وغرضها حسب مشاعر المتكلم العميقة، ونناقش ما يدعوه الرسول “صالحًا” مقارنًا إياه بالشر، ليس بالمعنى العام للفظ، بل حسب القصد الذي يظهره هو بسبب ورعه. فيمكننا أن نفهم الكلمات التي جاء بها الوحي الإلهي حسب هدفه ورغبته، متأملين في مكانة الناطقين بها وسماتهم. عندما تصير لنا نفس مشاعر الرسول (لا بالكلام بل عمليًا) يمكننا بكل تأكيد أن نفهم أفكاره وآراءه، فنعرف ما هو الصلاح الذي لم يستطع الرسول أن يفعله عندما أراده…
إننا نعلم أنه توجد أعمال صالحة للرسول الطوباوي ومن هم على مثاله، فنجد بلا شك في الرسول الطوباوي ورفقائه النقاوة الصالحة والتعفف المملوء حنانًا والعدل المقدس… حتى أنهم كرزوا بقدوتهم وفضائلهم أكثر مما بكلماتهم. ما أعظم ما كانوا عليه من جهة اهتمامهم المستمر وإشفاقهم المتيقظ من جهة جميع الكنائس! يا له من حب عظيم نافع، حتى أنهم يلتهبون عندما يتعثر أحد، ويضعفون مع الضعفاء (2كو29:11). إن كان الرسول يفيض بأمور صالحة كهذه، فإننا نعجز عن إدراك عظمة صلاح الكمال الذي يفتقر إليه الرسول، اللهم إلا إذا تقدمنا إلى تلك الحالة الذهنية (الروحية) التي كان عليها الرسول. فجميع الفضائل التي امتلكها والتي تشبه أعظم الجواهر الثمينة، متى قورنت باللؤلؤة الفريدة الجميلة التي يطلبها التاجر المذكورة في الإنجيل وأراد أن يحصل عليها ببيعه كل ما يملكه، عندئذ تبدو الفضائل الأولى تافهة وقليلة بالنسبة لها…
3- الصلاح الكثير الثمن الذي ينبغي الرسول أن يكمله
يا لعظم ذلك الصلاح الذي لا نظير له بين تلك الأمور الصالحة العظيمة غير المحصاة حتى يلزمنا أن نقتنيه فوق كل هذه الأمور!! إنه بلا شك النصيب الصالح الذي من أجله احتقرت مريم واجبات الضيافة واختارته… وقد وصفه الرب قائلاً: “مرثا مرثا أنتِ تهتّمِين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحدٍ، فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزَع منها” (لو41:10،42).
إذن (التأمل) أو (التفكير في الله) هو الشيء الوحيد الذي بجواره تفتقر جميع استحقاقات أعمالنا الصالحة وأهدافنا في الفضيلة بل وكل الأمور الصالحة والنافعة التي للرسول بولس والتي هي عظيمة وفاخرة. فمثلاً السبيكة التي تُعتبر مفيدة وثمينة متى قورنت بالفضة تصبح لاشيء، وتتلاشى قيمة الفضة أمام الذهب، ويُحتقر الذهب إذا ما قورن بالأحجار النفيسة. ومع هذا فإن كمية كبيرة من الأحجار الثمينة مهما بلغت قيمتها تحتقر أمام ضياء لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن. هكذا جميع فضائل القداسة التي هي صالحة ومفيدة في الوقت الحاضر، بل وتضمن عطية الحياة الأبدية، متى قورنت بفضيلة التأمل المقدس تبدو تافهة، ويمكننا أن نقول أنه يمكن بيعها.
4- صلاح الله وصلاح الإنسان
إن أردنا أن نسند هذا الرأي ببراهين أوضح نذكر ما ورد في الإنجيل عن أمور كثيرة دعيت صالحة… فيقول “لا تقدر شجرة جيّدة أن تصنع أثمارًا رديَّة” (مت18:7)، وأيضا: “الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات” (مت 35:12)، وأيضا: “نِعِمَّا أيها العبد الصالح والأمين” (مت21:25). ومع هذا فإنه بالتأكيد لا يوجد أدنى شك في أنه ليس شيء من هذا كله صالحًا في ذاته إذا ما قورن بصلاح الله، إذ قيل: “ليس أحد صالحًا إلاَّ واحد وهو الله” (لو19:18). ففي نظر الله حتى الرسل الذين في أمور كثيرة فاقوا في الصلاح سائر البشر دُعوا أشرارًا (بمقارنتهم بصلاح الله) “فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تُعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السموات يَهَبُ خيراتٍ للذين يسأْلونُه؟!” (مت11:7)
أخيرًا يُحسب خيرنا شرًا في نظر الله الأعظم (بمقارنته بخيره هو)، وهكذا يدعى برنا، إن قورن بالبر الإلهي، أنه ثوب عدة (ثوب الحيض) كقول النبي إشعياء: “كثوب عِدَّة كل أعمال برنا” (إش6:64).
هكذا فإن استحقاقات جميع الفضائل السابق ذكرها رغم صلاحها ونفعها تظلم بالنسبة لنور التأمل…
5- عجز الكل عن التمتع الدائم بالصلاح الأسمى
من يستطيع أن يتأمل في هدوء مدركًا مجد العظمة الإلهية أثناء هذا العمل؟! وهو “المنقذ المسكين مِمَّن هو أقوى منهُ، والفقير البائس من سالبهِ” (مز 10:35)، “هشمت أضراس الظالم، ومن بين أسنانهِ خطفت الفريسة” (أي 17:29). من يقدر أثناء اهتمامه بالفقراء… أن يتأمل في عظمة السعادة، وبينما هو منشغل باحتياجات الحياة الحاضرة بالنسبة لهم يكون قلبه مرتفعًا على الدوام فوق أقذار الأرض؟!… مَن مِنَ الناس حتى وإن كان رئيسًا للأبرار القديسين نظن أنه في وقت ما يقدر وهو مقيد بقيود هذه الحياة أن يصل إلى هذا الصلاح الرئيسي دون أن يتوقف عن التأمل المقدس؟ أما ينجذب ولو إلى وقت قصير عن ذاك الذي وحده صالح بواسطة أفكار أرضية؟ أما لا يهتم ولو إلى حين من أجل طعام أو لباس أو أمور جسدية أخرى أو يهتم باستقبال الاخوة أو تغيير مكانه أو بناء قلايته…؟
علاوة على هذا فإننا نؤكد بثقة أنه حتى الرسول بولس الذي فاق جميع القديسين من جهة عدد مكابداته وأتعابه لم يستطع أن يتخلى عن هذه الأمور، إذ كما يشهد بنفسه للتلاميذ في سفر أعمال الرسل قائلاً: “أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خَدَمَتْها هاتان اليدَان” (أع34:20). وعندما كتب إلى أهل تسالونيكي شهد بأنه كان يشتغل بتعب وكد ليلاً ونهارًا (2تس8:3). وإن كان بمثل هذه الأعمال صارت له مكافآت عظيمة من أجل فضائله، إلا أن عقله مهما يكن مقدسًا وساميًا لكنه أحيانًا ينجذب عن التأمل الإلهي بانشغاله بالأعمال الأرضية.
علاوة على هذا، إذ رأي نفسه غنيًا بثمار فعلية كهذه وقد أدرك صلاح التأمل، مقارنًا فائدة هذه الأعمال كلها بمباهج التأمل الإلهي المقدس جذبه هذا إلى ترك هذه الحياة. وأخيرًا في حيرته كان يصرخ قائلا: “فماذا أختار لست أدرى0 فإني محصور من الاثنين، لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جدًّا، ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم” (في22:1-24). إنه لا يمكن للعقل الذي تعوقه اهتمامات متعددة كهذه وتعرقله اضطرابات متعبة كهذه أن يتمتع على الدوام بالرؤية المقدسة…
لأنه من منا قد أكثر الخلوات في الصحراء وتجنب اللقاء مع الناس بطريقة لم يعد فيها فكره يجول قط في أمور غير هامة ولا ينظر أبدًا إلى أعمال أرضية منحدرًا بعيدًا عن التأمل في الله الذي بالحقيقة وحده الصالح؟ من استطاع أن يحفظ روحه متقدة في كل وقت حتى لا يعبر به أي فكر يشغله عن هدفه للصلاة ويحدره من التأمل في الأمور السماوية إلى الأمور الأرضية فجأة؟ من منا حتى في اللحظة التي يرفع فيها نفسه للصلاة لله بسمو لا يسقط قط في التشتيت؟… إنني أتساءل: من هو متيقظ وساهر هكذا حتى لا يسمح بعقله أبدًا أن يتحول عن معنى الكتاب المقدس أثناء ترنمه بالمزمور لله؟ من هو هكذا محب لله ومتحد به تمامًا حتى يطوب نفسه عندما ينفذ ليوم واحد وصية الرسول الذي أمرنا أن نصلي بلا انقطاع (1تس17:5)؟
مع أن هذه الأمور جميعًا قد تبدو للمنغمسين في خطايا جسيمة على أنها أمور تافهة وبعيدة تمامًا عن الخطية، لكن الذين يدركون قيمة الكمال، يرون حتى الأمور البسيطة جدًا عظيمة الخطورة.
6- الذين يحسبون أنفسهم بلا خطية
لنفرض أن رجلين أحدهما قوى النظر والآخر متوعك العينين ضعيف البصر، دخلا معًا في بيت عظيم مملوء بالباقات والآلات الموسيقية وأوان فاخرة، فإن الشخص الذي حرمه ظلام الإبصار عن الرؤية يؤكد أنه لم يجد شيئًا سوى خزانة وسرير ومائدة… وهذا كل ما قد أدركه بإصبعه أثناء تلمسه تلك الأمور، أما الشخص الثاني الذي تطلع بعينين براقتين سليمتين فيعلن عن وجود أمور كثيرة ودقيقة للغاية بالجهد يمكن إحصاءها… هكذا القديسون أيضًا، إذ يمكننا أن نقول إنهم يبصرون هدفهم إلى غاية الكمال، يكتشفون بمهارة تلك الأمور التي لا نستطيع نحن أن نراها بتفرس عقولنا التي كما لو كانت مظلمة. هؤلاء الذين بالنسبة لإهمالنا نحن يُحسبون أنهم لم يشوبوا نقاء أجسادهم التي كالثلج تمامًا، لكن بسبب أدنى بقعة من الخطية يرون أنهم ملوثون بشوائب كثيرة. لا أقول لأنهم يرتكبون شرًا أو يتذكرون أفكارًا باطلة غير مفيدة، لكن لمجرد تشتت ذهنهم قليلاً في أثناء تلاوتهم مزمور. يقولون إننا إذ نسأل شخصًا ما عظيمًا… فإننا نركز عقلنا بجملته وجسدنا تجاهه، ونقف في مهابة مع انحناء رأس علامة التسليم… وأيضًا عندما نقف في محكمة أو في مجالس قضاة أرضيين مع خصمنا المستمر في مضاداتنا، إذا ما غَلبنا في وسط المحكمة سعال أو بصاق أو ضحك أو تثاؤب أو نوم، فإننا إن صنعنا هذا يستخدمه خصمنا لإثارة قسوة القاضي ضدنا. كم بالأولي يكون حالنا ونحن نتوسل إلى ديان العالم بجميع أسرارنا لكي ينزع عنا هلاكنا الوشيك بموت أبدي، متضرعين إليه بصلاة حارة مملوءة شوقًا من أجل استدرار حنان القاضي، خاصة وأنه يقف من الجانب الآخر مضللنا المخادع يتهمنا ليس بغير دلائل بل يجد فينا ذنبًا خبيثًا خطيرًا…
أما الذين يغطون أعين قلوبهم بحجاب خطاياهم السميك، فيقول عنهم المخلص: “لأنهم مبصرين لا يبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون” (مت13:13)، هؤلاء يصعب عليهم إدراك ما تكنه أعماق صدورهم من خطايا عظيمة مهلكة، ولا يقدرون أن يتطلعوا بعيون صافية إلى الأفكار المخادعة التي فيهم، ولا إلى الرغبات الغامضة التي تصيب عقولهم باقتراحات واهنة خبيثة، ولا يرون قيود أرواحهم، لكنهم على الدوام يتجولون وسط أفكار فاسدة، لهذا لا يعرفون كيف يحزنون بسبب انصرافهم عن التأمل الإلهي. وبالتالي لا يندمون كأنهم فقدوا شيئًا، إنما يفتحون عقولهم لأي فكر يتلذذون به من غير أن يكون لهم هدف يثبتون عليه كأمر رئيسي…
7- … إذ نُضرب بالعمى لا نقدر أن نرى في ذواتنا شيئًا سوى الذنوب الكبيرة، ظانين أنه يلزمنا فقط أن نكون أنقياء من تلك الذنوب وحدها التي تستنكرها القوانين الدنيوية، فإذا ما رأينا أنفسنا قد تحررنا منها إلى حين نظن أننا قد صرنا بلا خطية تمامًا… فلا نبصر البقع الكثيرة التي تتجمع معًا في داخلنا، وبالتالي لا ننزعها بالانسحاق المنقذ، ولا نحزن عندما تصيبنا أفكار الغرور، ولا نبكي من أجل صلواتنا التي نرفعها في تراخٍ شديد وفتور. ولا نحسب شرود فكرنا أثناء الترنم بالمزامير والصلوات أنه خطأ. ولا نستحي من تصوراتنا لأمور كثيرة نخجل أن ننطق بها أو نمارسها أمام الناس والتي هي مكشوفة أمام البصر الإلهي. ولا نطهر فساد الأحلام الدنسة بالدموع الغزيرة… ولا نعتقد أن هناك أية خسارة تصيبنا عندما ننسى الله مفكرين في أمور أرضية فاسدة، بهذا تنطبق علينا كلمات سليمان: “ضربوني ولم أتوجع، لقد لكأُوني ولم أعرف” (أم 35:23).
8- اشتياق الروحانيين إلى البقاء في التأمل في الإلهيات
من الناحية الأخرى الذين يجعلون فرحهم وبهجتهم وسعادتهم تكمن في التأمل في الأمور المقدسة الروحانية فقط، هؤلاء متى استولت عليهم أفكار أخرى بغير إرادتهم إلى حين يندمون جدًا كمن تدنسوا طالبين عليه تأديبًا. وفي حزنهم لأنهم قد حولوا نظرهم إلى المخلوق التافه (الذي تحول إليه بصرهم الذهني) أكثر من خالقهم يحسبون ذلك كأنه إلحاد، مع أنهم سرعان ما يحولون عيون قلوبهم بأقصى سرعة ممكنة لمشاهدة بهاء مجد الله. إنهم لا يقدرون أن يحتملوا ظلام الأفكار المادية ولو إلى وقت قصير، ممقتين كل ما يعوق نظر أرواحهم عن النور الحقيقي.
أخيرًا عندما لقن الطوباوي يوحنا الرسول هذا الشعور لكل أحد قال: “لا تحبُّوا العالم ولا الأشياءَ التي في العالم. إن أحبَّ أحد العالم فليست فيه محبَّة الآب. لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة ليس من الآب بل من العالم0 والعالم يمضي وشهوتهُ وأما الذي يصنع مشيئَة الله فيثبت إلى الأبد” (1 يو15:2 –17).
لذلك يحتقر القديسون كل هذه الأمور الخاصة بالعالم، لكن ليس من الممكن لهم ألا ينتقل فكرهم إليها ولو إلى حين وحتى الآن لا يوجد إنسان ما إلا إلهنا ومخلصنا الذي وحده يستطيع أن يحفظ ذهنه ثابتًا على الدوام في التأمل في الآب دون أن تمسه قط أية محبة لشيء في هذا العالم، ويقول عنه الكتاب أنه حتى الكواكب غير نقية في عينيه، “هوذا عبيدهُ لا يأْتمنهم وإلى ملائكتهِ ينسب حماقةً” (أي 18:4؛ 15: 15؛ 25: 5).
9- إنني أقول بأن القديسين الذين يحرصون على تذكر الله على الدوام… يكونون كمن هم محمولين على حبل ممدود مرتفع يسيرون عليه، وذلك مثل الراقصين الذين يدعون بالبهلوانيين الذين يخاطرون بسلامتهم وحياتهم، سائرين على الحبل الرفيع بسرعة، فإذا مازلَّت قدمهم أو انحرفت ولو قليلاً جدًا يتعرضون لموت مرعب. فتكون الأرض (التي يسقطون عليها) التي هي بالنسبة للجميع أساس سلام بالنسبة لهم تمثل خطرًا شديدًا، لا لأن طبيعة الأرض قد تغيرت، وإنما لأنهم يسقطون عليها بثقل أجسادهم. هكذا أيضًا صلاح الله الذي لا يتغير لا يؤذي أحد، لكن بسقوطنا من أعلى الارتفاعات… يصير سبب موتنا. إنه يقول: “ويل لهم لأنهم هربوا عني. تَبًّا لهم لأنهم أذنبوا إليَّ” (هو13:7 ). “ويل لهم أيضًا متى انصرفتُ عنهم” (هو 12:9). لأنه “يوبّخكِ شركِ وعصيانكِ يؤَدبكِ. فاعلمي وانظري إن ترككِ الرب إلهكِ شرّ ومرّ” (إر 19:2). لأن كل إنسان “بحبال خطيتهِ يُمسَك” (أم22:5 ). ويوجه الله هذا التوبيخ بلباقة: “يا هؤلاءِ جميعكم القادحين نارًا، المتنطقين بشرارٍ، اسلكوا بنور ناركم، وبالشرار الذي أوقدتموهُ” (إش 11:50،) وأيضًا “الذي يوقد شرًا يهلك به”.
10- شعورهم الدائم بالحاجة إلى مراحم الله
عندما يشعر القديسون بأن ثقل الأفكار الأرضية يضايقهم، وأنهم يرتدون بعيدًا عن سمو أذهانهم، منقادين بغير إرادتهم أو بالأحرى لا شعوريًا إلى ناموس الخطية والموت، وتعوقهم الأعمال الأرضية التي هي نافعة وصالحة عن معاينة الله، فإنهم يئنون إلى الله باستمرار، معترفين بانسحاق قلب لا بالكلام بل بقلوبهم إنهم خطاة، وبينما هم بغير انقطاع يلتمسون من رحمة الله الصفح عما يقترفونه يومًا فيومًا بسبب ضعف الجسد، يزرفون دموعًا حقيقية للتوبة بغير انقطاع…
كذلك يدركون بالخبرة أنه بسبب ثقل الجسد يعجزون بقوتهم البشرية أن يبلغوا النهاية المطلوبة، وأن يكونوا متحدين، حسب اشتياق قلوبهم، بذلك الصلاح الرئيسي الأسمى، وإذ ينقادون بعيدًا عن رؤيته مأسورين بالأمور العالمية يتوجهون إلى مراحم الله “الذي يبرّر الفاجر” (رو5:4). ويصرخون مع الرسول: “وَيحي أنا الإنسان الشقي. مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت. أشكر الله بيسوع المسيح ربنا” (رو24:7،25). لأنهم يشعرون بأنهم على الدوام لا يستطيعون أن يكملوا الصلاح الذي يريدونه، إنما يسقطون في الشر الذي لا يريدونه والذي يكرهونه أي الأفكار الزائفة والاهتمام بالأمور الجسدية.
11- تفسير: “فإني أُسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن”
إنهم بالحقيقة يُسرون بناموس الله بحسب الإنسان الباطن الذي يسمو فوق كل المنظورات، ويسعون على الدوام ليكونوا متحدين بالله وحده، لكنهم يرون ناموسًا آخر في أعضائهم، أي منغرس في طبيعتهم البشرية يحارب ناموس ذهنهم (رو22:7،23)، أي يأسر أفكارهم إلى ناموس الخطية العنيف، ويُلزمهم أن يتخلوا عن ذلك الصلاح الأعظم، ويرضخوا للأفكار الأرضية التي وإن ظهرت هامة ومفيدة ونحتاج إليها في العبادة.. إلا إنها تقف عائقًا عن التأمل في ذلك الصلاح الذي يسحر أنظار القديسين فيرونها شريرة ويحاولون تجنبها، لأنه خلالها إلى حد ما وإلى حين يحرمون من بهجة تلك السعادة الكاملة. لأن ناموس الخطية هو بحق ما جلبه سقوط الأب الأول على البشرية، إذ صار النطق بفم القاضي العادل: “ملعونة الأرض بسببك (في أعمالك).. شوكًا وحسكًا تُنبت لك… بعَرَق وجهك تأكل خبزًا” (تك17:3-19).
إنني أقول إن هذا هو الناموس المنغرس في أعضاء البشر جميعًا الذي يحارب ناموس أذهاننا ويعوقها عن رؤية الله. إذ بعدما لُعنت الأرض بأعمالنا بعد معرفتنا للخير والشر، صارت تنبت حسك الأفكار وأشواكها التي تخنق بذور الفضائل الطبيعية، حتى أنه بغير عرق جبيننا لا نستطيع أن نأكل خبزنا “النازل من السماء” (يو33:6)، والذي “يسند قلب الإنسان” (مز 15:104). لذلك فإن البشر عامة، بغير استثناء، خاضعون لهذا الناموس…
12- تفسير: “فإننا نعلم أن الناموس روحي” (رو14:7)
هذا الناموس يسميه الرسول: “روحي”، قائلاً: “فإننا نعلم أن الناموس روحي وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية”، لأن هذا الناموس روحي، إذ يأمرنا أن نأكل بعرق جبيننا “الخبز الحقيقي من السماء” (يو32:6). لكن إذ نحن مُباعين تحت الخطية فنحن جسدانيون. إنني أتساءل: ما هي تلك الخطية؟ ولمن؟
بلا شك هي خطية آدم الذي بسقوطه أو بتدبيره التالف وتعاقده المملوء خداعًا صرنا مُباعين. فعندما قاده إغراء الحية إلى الضلال جاء بجميع ذريته تحت نير العبودية المستمر… فبالأكل من الشجرة الممنوعة استلم من الحية ثمن حريته مستهينًا بها، واختار لنفسه العبودية المستمرة للحية التي استلم منها الثمن المميت… وليس بغير سبب صار كل نسله عبيدًا في خدمة ذاك الذي صار له عبدًا… لأنه هل يمكن لزوجين عبدين إلا أن ينتجا من هم عبيد؟
لكن هل هذا المشترى المخادع قد سلب حق الملكية من المالك الشرعي الحقيقي؟ كلا، لأنه لم ينل حق ملكية الله… لكن الخالق إذ منح جميع الخليقة العاقلة إرادة حرة، لا يعيد إليهم حريتهم الطبيعية قهرًا، هؤلاء الذين باعوا أنفسهم بخطية الشهوة الشرهة. لأن مصدر العقل والتقوى يمقت كل ما هو مخالف للصلاح والعدل، فلا يقبل أن يسلب الإنسان حريته حتى لا يخطئ في حقه. لكن الله حافظ على خلاص الإنسان ناظرًا إلى المستقبل إلى ملء الزمان المعين، وبعدل ترك ذرية آدم تبقى وقتًا طويلاً تذوق مرارة العبودية إلى أن يشتريهم بدمه وتعتقهم مراحم الله من القيود الأصلية ويطلق سراحهم إلى الحرية الأولي…
هل تريد أن تعرف لماذا أنت مبيع للخطية؟ اسمع ما يقوله فاديك جهرًا على لسان إشعياء النبي “أين كتاب طلاق أمكم التي طلَّقتها؟ أو مَنْ هو من غرمائي الذي بعتهُ إياكم؟ هوذا من أجل آثامكم قد بُعتم ومن أجل ذنوبكم طُلقت أمكم” (إش1:50).
هل تعرف لماذا لم يرد الله أن يعتقك من نير العبودية قسرًا؟ اسمعه يقول “هل قصرت يدي عن الفداء؟ وهل ليس فيّ قدره للإنقاذ؟” (إش2:50). ويكشف النبي ما يقف حائلاً أمام طريق حنان الله الأعظم قائلاً: “ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص ولم تثقل أذنهُ عن أن تسمع. بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجههُ عنكم حتى لا يسمع” (إش1:59،2).
13- “فإني اعلم انه ليس ساكن فيّ أي في جسدي شيء صالح”
إذن لعنة الله الأصلية جعلتنا جسدانيين، وحكم علينا بالأشواك والحسك، وقد باعنا أبونا بذلك التعاقد التعيس حتى صرنا عاجزين عن فعل الصلاح الذي نريده، إذ صرنا ننقطع أحيانًا عن تذكر الله العظيم السمو مضطرين إلى الانشغال بما يخص الضعف البشرى. وبينما نشتهي الطهارة ننزعج غالبًا بغير إرادتنا بالشهوات الطبيعية التي لا نريد حتى أن نعرفها. لهذا نحن نعلم أنه ليس ساكن في أجسادنا شيء صالح (رو18:7)، أي ليس ساكن فيها السلام الأبدي الدائم الذي لهذا التأمل المذكور.
لقد حدث في قضيتنا ذلك الطلاق البائس التعيس، حتى أننا عندما نريد بالذهن أن نخدم ناموس الله إذ لا نريد أن نحول نظرنا قط عن البهاء الإلهي، نجد أنفسنا محاصرين بالثقل الجسدي، فيجبرنا ناموس الخطية إلى الحرمان من الصلاح الذي ندركه ونسقط عن ذلك السمو الذهني المرتفع، منحدرين إلى الاهتمامات والأفكار الأرضية، الذي حكم به علينا في شخص المذنب الأول ليس بغير سبب… ومع أن الرسول المبارك يعلن جهرًا بأنه وجميع القديسين مقيدون بقيود هذه الخطية، لكنه يؤكد بجراءة أنه لا يُدان أحد بسبب هذا قائلاً: “إذًا لا شيءَ من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع… لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو1:8،2)، بمعنى أن نعمة السيد المسيح تحرر جميع القديسين يومًا فيومًا من ناموس الخطية والموت، هذا الذي يخضعون له قسرًا بالرغم من توسلهم الدائم إلى أن يصفح عن تعدياتهم.
إنك ترى إذن أنه لا يتكلم على لسان الخطاة (غير التائبين)، بل على لسان الذين هم في الحقيقة قديسين وكاملين، حتى نجده يقول هكذا: “لأني لست أفعل الصالح الذي أريدهُ بل الشرُّ الذي لست أريده فإيَّاهُ أفعل.. ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي” (رو19:7،23).
14- اعتراض
جرمانيوس: إننا نقول بأن هذا القول لا ينطبق على الذين انغمسوا في آثام جسيمة، وفي نفس الوقت لا ينطبق على الرسول ومن هم بلغوا قامته، إنما نعتقد أنه يتناسب مع الذين بعدما قبلوا نعمة الله ومعرفة الحق يهتمون أن يحفظوا ذواتهم من الخطايا الجسدية، لكنهم بسبب عاداتهم القديمة التي هي كناموس طبيعي يسيطر بعنف في أعضائهم، يسقطون في شهوة انفعالاتهم القديمة المتأصلة. فالعادة أو تكرار الخطية هي بمثابة ناموس طبيعي مغروس في أعضاء الإنسان الضعيفة تقود مشاعر النفس التي لم تتهذب بعد بمطالب الفضيلة. وبهذا فإنهم، إن أمكنني أن أقول، أنهم في نقاوة غير مهذبة بل عليلة هم أسرى للخطية، خاضعين للموت بناموس قديم، يسقطهم تحت نير الخطية المسيطرة عليهم، فلا ينالون صلاح الطهارة التي يحبونها بل بالأحرى يجبرون على فعل الشر الذي يكرهونه.
15- ثيوناس
رأيكم هذا يعني عدم إدراك الأمر تمامًا، لكنكم قد بدأتم الآن تؤيدوا بأن هذه العبارات لا تحتمل أنها تخص الخطاة البعيدين، إنما تتناسب مع الذين يحاولون حفظ نفوسهم أنقياء من الخطايا الجسدية. وإذا أبعدتم هذه الأقوال عن الخطاة (غير التائبين) فيلزمكم أن تقبلوا أنها تخص من هم في درجات المؤمنين والمقدسين، لأنه ما هي أنواع الخطايا التي تقولون بأن أولئك يرتكبونها بعدما نالوا نعمة العماد ويمكنهم أن ينالوا المغفرة عنها يوميًا بمراحم المسيح؟ أو ماذا يعني الرسول بـ “جسد الموت” في قوله “مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟ أشكر الله بيسوع المسيح ربنا” (رو24:7،25)؟ أليس من الواضح أن الحق يجبركم أن تقبلوا أن تلك العبارات لم تكن تتكلم عمن يرتكب الجرائم العظمى التي تدفع للموت الأبدي، أي القتل والزنا والفسق والسكر والنهب والسرقة، إنما تتكلم عن الجسد السابق ذكره (جسد الموت) الذي تعينه نعمة المسيح اليومية؟ لأن من يسقط في ذلك الموت بعد العماد ومعرفته لله يلزمه ألا يظن أنه ينال التطهير برحمة الله اليومية بالتوسل إليه (في الصلاة الربانية)، إنما يلزمه الندامة في توبة صادقة ويخضع للتأديب… إذ يعلن الرسول هكذا: “لا تضلُّوا لا زناة ولا عَبَدة أوثان ولا فاسقون ولا مأْبونون ولا مضاجعو ذكورٍ ولا سارقون ولا طمَّاعون ولا سكّيرون ولا شتَّامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله” (1كو9:6،10). إذن ما هو ذلك الناموس الكائن في أعضائنا الذي يحارب ناموس ذهننا ويأسرنا لناموس الخطية والموت إذ نخدمه بالجسد، ومع ذلك يسمح لنا أن نخدم بذهننا ناموس الله؟ بلا شك أنه لا يقصد تلك الجرائم السابق ذكرها، لأنها تحرم الذهن من خدمة ناموس الله.
إنني أسأل أي ناموس هذا المنغرس في أعضائنا والذي يسحبنا عن ناموس الله ويأسرنا تحت ناموس الخطية… دون أن نُدفع إلى العقاب الأبدي لكننا نبقى في تنهد من أجل أفراح السعادة المتواصلة ونبحث عن المعين صارخين مع الرسول: “ويحي أنا الإنسان الشقي، مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟” إننا نعلم بالحقيقة أن أشياء كثيرة في هذا العالم صالحة وهامة كالاتضاع والعفة والرزانة والوداعة والعدالة والرحمة والاعتدال والشفقة… لكن هذه كلها لا تقارن بالنسبة للصلاح الرئيسي (التأمل في الله)، ويمكن أن ينفذه ليس فقط الرسل بل والعلمانيون العاديون، ومن لا يتممها يسقط تحت عقاب أبدي ما لم يتوبوا مثابرين… فما يقوله الرسول ينطبق على حال القديسين الذين يومًا فيومًا يسقطون تحت هذا الناموس، ليس ناموس الجرائم ولا التورط في أعمال شريرة لكن كما سبق أن كررت كثيرًا هو الانجذاب بعيدًا عن التأمل في الله إلى الانشغال بالأمور الجسدية (الهامة)، وبهذا يحرمون من بركة السعادة الحقيقية…
مهما يكن من قلق الرسول من جهة ناموس الخطية الذي يولد أشواك الأفكار والاهتمامات الجسدية وحسكها الناشئة في أعماق صدر الرسول، إلا أنه في الحال يختطفه ناموس النعمة فيقول: “لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو2:8).
16- مفهوم “جسد الخطية”
إذن هذا هو “جسد الموت” الذي لا نستطيع أن نهرب منه، الذي أسر فيه الكاملون الذين ذاقوا: “ما أطيب الرب” (مز8:34)، يشعرون يوميًا مع النبي “كيف هو شر ومر للإنسان الذي ينفصل عن الرب إلهه”[2]. هذا هو جسد الموت الذي يحجزنا عن الرؤية السماوية، يجذبنا إلى الخلف للأشياء الأرضية، الذي يسبب للناس أثناء ترتيلهم بالمزامير وركوعهم للصلاة أن تمتلئ أفكارهم بالمناظر البشرية، أو يتذكرون محادثات أو أعمال ضرورية تافهة.
هذا هو جسد الموت الذي ينظر إليه أولئك الذين يبارون قداسة الملائكة ويشتاقون إلى الاتصال بالله على الدوام، ومع ذلك يعجزون عن الوصول إلى كمال هذا الصلاح، لأن “جسد الموت” يقف في طريقهم، فيفعلون الشر الذي لا يريدونه، أي ينجذبون إلى أسفل بأذهانهم حتى إلى الأشياء التي ليست لها صلة بتقدمهم وكمالهم في الفضيلة.
أخيرًا فإن الرسول الطوباوي يعبر بوضوح انه قال هذا عن الناس المقدسين والكاملين ومن على شاكلته، فيشير بإصبعه إلى نفسه ويتدرج في الحال: “إذًا أنا نفسي”، أي أنا الذي أقول هذا أقدم أسراري الخاصة مكشوفة وليست سريرة شخص آخر. هذا الأسلوب اعتاد الرسول أن يستعمله بغير كلفة كلما أراد أن يشير بالأخص إلى نفسه[3]. إذًا “أنا نفسي” تحمل بالتأكيد، أي أنا الذي تعرفونه بأنه رسول المسيح الذي تبجلونه بأعظم احترام، والذي تعتقدون بأنه من أسمى الشخصيات وأبرعها كشخص يتكلم فيه المسيح، مع أني أخدم ناموس الله بالذهن ومع ذلك أعترف بأنني بالجسد أخدم ناموس الخطية، بمعنى أن طبيعتي البشرية تجذبني أحيانًا من الأشياء السماوية إلى الأشياء الأرضية، وينحدر سمو ذهني إلى الاهتمام بأمور تافهة. وبناموس الخطية هذا أجد أنني في كل لحظة أؤخذ هكذا مأسورًا رغم مثابرتي باشتياق راسخ نحو ناموس الله، لكنني لا أتستطيع بأية وسيلة أن أنجو من سلطان هذا الأسر ما لم أتطلع دائمًا إلى رحمة المخلص.
17- اعتراف القديسين جميعهم أنهم خطاة
لذلك يحزن جميع القديسين بتنهدات يومية من أجل ضعف طبيعتهم هذا. وبينما هم يستقصون أفكارهم المتنقلة ومكنونات ضمائرهم وخلواتهم العميقة يصرخون متضرعين: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبَّرر قدامك حيّ” (مز 2:143)، “من يقول إني زكَّيتُ قلبي، تطهرتُ من خطيتي” (أم 9:20). وأيضًا: “لأنهُ لا إنسان صدّيق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئُ” (جا 20:7). وهذا أيضًا: “السهوات من يشعر بها؟” (مز 12:19). وهكذا أدركوا أن برّ الإنسان عليل وغير كامل ويحتاج دائمًا إلى رحمة الله، حتى أن أحدهم بعد رؤيته السيرافيم في الأعالي وكشفه المكنونات السمائية قال: “ويل لي.. لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعبٍ نجس الشفتين” (إش 5:6). أظن أنه ما كان يشعر بنجس شفتيه ما لم يكن قد مُنح له أن يُدرك نقاوة الكمال الحقيقي التام برؤية الله، الذي فجأة صار عالمًا بنجاسته التي كان جاهلاً بها من قبل ونجاسة من حوله… شاملاً في توسله العام ليس فقط جماعة الأشرار بل وجماعة الصالحين أيضًا قائلاً: “ها أنت سخطت إذ أخطأْنا. هي إلى الأبد فنخلص، وقد صرنا كلنا كنجسٍ وكثوب عِدّة” (إش 5:64، 6).
إنني أسأل أي شيء يمكن أن يكون أوضح من هذا القول الذي لا يتكلم فيه النبي عن عمل واحد بل عن كل تقوانا، متأملاً جميع الأشياء أنها دنسة وكريهة. ولأنه لم يستطع أن يجد شيئًا في حياة الناس أكثر تلوثًا ونجاسة اختار بأن يقارنها بثوب عِدّة، ومع أنه يقول هنا بأن القديسين قد أخطأوا بل ومكثوا دائمًا في خطاياهم، إلا أنه لم ييأس من الخلاص بل يضيف “هي إلى الأبد فنخلص”. هذا القول: “ها أنت سخطت إذ أخطأنا” يقابل قول الرسول: “ويحي أنا الإنسان الشقي، مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟” وما يلحقه النبي: “هي إلى الأبد فنخلص” تقابل كلمات الرسول: “أشكر الله بيسوع المسيح ربنا”.
بنفس الطريقة أيضًا هذه العبارة: “ويل لي لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين” تظهر بأنها تتفق مع الكلمات: “ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟” وما ذكره النبي بعد ذلك: “فطار إلىَّ واحد من السيرافيم وبيدهِ جمرة قد أخذها بملقطٍ من على المذبح ومسَّ بها فمي، وقال: “إن هذه قد مسَّت شفتيك فانتُزِع إثمك وكُفِّر عن خطيتك” (إش6:6،7) يشبه تمامًا ما قد نطق به بولس: “أشكر الله بيسوع المسيح ربنا”.
ها أنت تري إذن كيف يعترف جميع القديسين بصدق أن جميع الناس كما هم خطاة مع ذلك لا ييأسون أبدًا من خلاصهم، بل يبحثون عن تطهير كامل بنعمة الله ورحمته…
18- ليس أحد بلا خطية
لا يوجد أحد بلا خطية مهما كان مقدسًا في الحياة. وقد أخبرنا أيضًا تعليم المخلص الذي منح تلاميذه نموذج الصلاة الكاملة… إذ نقول: “واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا” (مت12:6). إذ قدم هذه كصلاة حقيقية يمارسها قديسون، كما يجب أن نعتقد دون أدنى شك، فمن يمكنه أن يبقى عنيدًا ووقحًا ومنتفخًا بكبرياء حمق الشيطان فيظن أنه بلا خطية، متهمًا المخلص نفسه بالجهل والحماقة، كأن الرب لم يدرك أن بعض الناس أمكنهم التحرر من الخطية، أو كمن كان يعلم بتهاون أولئك الذين عرف أنهم سيستمرون في هذا العلاج طالبين الغفران وهم ليسوا في حاجة إليه؟
19- عجزنا عن تجنب الخطية حتى في أثناء الصلاة
يجدر بمن ينسب البراءة للطبيعة البشرية ألا يناضل بكلمات تافهة لكن لتكن شهادته وبرهان ضميره أنه هو بلا خطية عندما يجد أنه لم ينحرف قط بعيدًا عن هذا الصلاح الأسمى. كلاّ بل بالأحرى كل من يتأمل في ضميره هو، ولا أقول غيره، ويجد أنه قد قام بخدمة واحدة فقط بدون أن يشرد ذهنه ولو بكلمة واحدة أو فعل أو فكرة، عندئذ يمكنه أن يقول أنه بلا خطية. علاوة على ذلك إذ نسلم بأن طيش الذهن لا يستطيع أن يتخلص من هذه الأشياء التافهة غير المفيدة، نعترف بصدق بأننا لسنا بلا خطية. لأنه مهما بلغ حرص الإنسان في حفظ قلبه لا يستطيع أبدًا، نظرًا إلى مقاومة طبيعة الجسد، أن يحفظه بحسب رغبة روحه. لأنه كلما تقدم الذهن البشري وارتقي نحو نقاوة أسمى في التأمل يرى ذاته بدرجة أعظم أنه غير طاهر، كما لو كان ينظر في مرآة نقاوته. لأن بينما ترتفع الروح إلى رؤيا أسمى وبينما تنظر إلى الأمام، تتشوق إلى أشياء أعظم مما قد بلغته، فتحتقر الأشياء التي تختلط بها وتراها أنها دنيئة ولا قيمة لها، حيث أن النظر الأقوى يلاحظ أكثر والحياة الطاهرة توجد حزنًا أعظم عندما تجد فيها خطأ، وإصلاح الحياة والنضال المنصب وراء الصلاح يُكثر الأنين والتنهدات، لأنه لا يستطيع أحد أن يستريح مقتنعًا بالـدرجة التي ارتقى إليها.
على أي الأحوال كلما تنقى ذهن الإنسان بدرجة أعظم يرى بالأكثر جدًا نفسه دنسًا، ويجد بواعث الاتضاع أكثر من الكبرياء. ومهما يكن صعوده إلى درجات أسمى فهكذا بالأكثر جدًا يرى فوقه إلى أي موضع يتوجه. أخيرًا نطق الرسول المختار الذي “كان يسوع يحبُّهُ” والذي كان متكئًا في حضنه بهذا القول كأنه من قلب الله: “إن قلنا إنهُ ليس لنا خطية نُضِلُّ أنفسنا وليس الحقُّ فينا” (1يو8:1).
20- أخيرًا إذا كنت تريد أن تبحث بأكثر إتقان عمّا إذا كان ممكنًا للطبيعة البشرية أن تصل إلى البراءة فممن يمكننا أن نتعلم هذا بوضوح أكثر من أولئك الذين “قد صلبوا الجسد مع الأهواءِ والشهوات” (غل24:5)، والذين قد صُلِبوا العالَ” فعلاً (غل14:6)؟ الذين بالرغم من أنهم استأصلوا جميع الأخطاء من قلوبهم بل ويحاولون نزع كل فكر وتذكار الخطية، ومع ذلك مازالوا يومًا فيومًا يتمسكون بأنهم لا يستطيعون حتى لساعة واحدة أن يتحرروا من قذر الخطية.
21- هل نمتنع عن التناول لأننا لسنا بلا خطية؟
بالرغم من هذا يجب ألا نبطل العشاء الرباني لأننا نعترف بأننا خطاة، لكن يجب أن نسرع إليه بأكثر حماس لشفاء روحنا وتنقية أنفسنا، ونبحث بالأولى عن علاج لجروحنا باتضاع الذهن وإيمان، معتبرين أنفسنا غير مستحقين أن ننال نعمة عظيمة كهذه، وإلا فإنه لا يمكننا أن ننال العشاء الرباني باستحقاق حتى مرة كل سنة كما يفعل بعض الذين يعيشون في الأديرة، وهكذا يتأملون في هيبة وقداسة وعظمة القرابين المقدسة السمائية، كما يعتقدون ليس أحد سوى القديسين والأنقياء يجب أن يتجرأوا بتناولها، وليست هي التي بالأحرى تجعلنا أنقياء. هؤلاء يسقطون في غرور أعظم وغطرسة أكثر مما يظهر لأنفسهم بأنهم يتجنبونه، لأنهم في الوقت الذي يتناولونه يعتبرون ذواتهم أنهم مستحقون لتناوله. لكن من الأفضل بكثير أن نتناوله كل يوم أحد لشفاء أسقامنا، فنتناوله باتضاع قلبي، إذ نعتقد ونعترف بأننا لا نستطيع أبدًا أن نلمس الأسرار المقدسة باستحقاق. وهذا خير من أن ننتفخ بإغراء القلب الأحمق، ونعتقد بأننا في نهاية السنة نكون مستحقين أن نتناوله.
إذ يمكننا إدراك هذا ونتمسك به دعنا باجتهاد أعظم نتضرع إلى رحمة الله لكي يعضدنا لنكمل هذا الذي نتعلمه، ليس كالفنون البشرية الأخرى بواسطة تفسير شفهي سابق، لكن بالأحرى بالخبرة والعمل نعرف الطريق. وأيضًا إذا لم ننظر فيه على الدوام ونجدد المسعى في مجمع روحانيين ونفحصه باهتمام بخبرة يومية يصير غير معمول به عن طريق الإهمال، أو يتلاشى بالنسيان الباطل.
[حاشية مرتبطة بالعنوان] ترجمة: بيت القديسة دميانة.
[2] نص الكتاب المقدس “إن تركك الرب إلهكِ شرّ ومرّ” إر19:2.
[3] راجع 2كو1:10، 13:12،16، غل2:5، رو2:9