لعلّه من أجمل الرسومات المسيحيّة القديمة الرمزيّة، هي صورة الأيائل المسرعة إلى نبع المياه. الغزال حيوان جميل وسريع، يحيا على قتل الأفاعي وأكلها. ولحم الأفعى ثقيل وقاسٍ وهذا ما يجعل الغزال يلتهب عطشاً في “أرض بريّة وعادمة الماء”. فيروح يبحث عن ماء في الصحراء. وتتوق نفسه وجسده إلى الماء. والمسيحيّ تتوق نفسُه في العالم إلى ماء الحياة كما تتوق نفس الغزال إلى الماء في الصحراء(26). هذا الرسم هو تشبيه مسيحيّ قديم لعطش النفس إلى الله.
العبارة الشهيرة “يا ربّ خلقتنا متّجهين إليك ولن نرتاح إلاّ بك”، عبارة تدور حولها صلوات كثيرة. إنّها تعبير مختصر عن صرخات الإنسان بعبارات لا تُحصى ولا تُعَدّ. هذه هي المسرّة التي جلبها الله على الأرض: إنّه أروى عطش الإنسان إليه. لقد وَجدت البشريّةُ، كالابن الضّال، أباها الحنون، الذي يمكنها أن تتّكئ على صدره وترتمي في أحضانه وترمي عليه رجاءها.
ما يميّز العهد القديم عن العهد الجديد، أنّ الأوّل كان معاهدة ناموسيّة، إذ بين الله والإنسان واجباتٌ. ولعلّه في ذهن الكثيرين كانت الفكرة الغالبة أنّ الذبيحة والأنفس الحيّة المقدّمة تشتري الرضى الإلهيّ وتمحو الخطايا الشخصيّة، وبالنهاية تسوّي العلاقة الناموسيّة بين الإنسان والله فتريح الضمير. وصار “الواجب” و”إتمامه” طابعَ العلاقة. بينما في العهد الجديد فإنّ الموهبة، أي الهبة الفريدة هي أنّنا نلنا “موهبة التبنّي” ولسنا بعدُ عبيداً. والتبنّي هذا لا يعني فقط أنّ الله تبنّانا، أي تعهّدنا، وإنّما بالأعمق أنّنا بتنا نشعر بالله الآب- “الأب” عبر ابنه “الابن”. رُوِيَ هكذا عطش الإنسانيّة الباحثة عن أبيها السماويّ الحنون المعتني والراعي.
لكن من رجالات العهد القديم انفرد البعض منهم بميزة “القفزة الزمنيّة” من علاقة العهد القديم إلى هذه التي في العهد الجديد. قفزةٌ من الذبائح والناموس لشراء الرضى إلى علاقة المحبّة البنويّة والارتماء بأحضان الأب السماويّ كالطفل في حضن أبيه. وأكثر من الجميع امتاز بينهم داؤود النبيّ، لأنّه عاش في زمن العهد القديم حياةَ العلاقة التي للعهد الجديد.
عبارات داؤود النبيّ، التي هي من قلب هائم بالله ومتّكل عليه، تُعتبر أجمل الصلوات المسيحيّة على الإطلاق. لهذا نفهم سبب استخدام مزاميره بشكل كثيف في صلواتنا، إن كان ذلك في الصلوات الجماعيّة في الكنيسة أو الفرديّة في المخدع الداخليّ.
قراءة المزامير رياضة روحيّة تساعد الإنسان أينما كان، إنّها صلاة حارّة. الرهبان يقرؤون كتاب المزامير كلّه مرّة في الأسبوع خلال صلوات السّحر والغروب. أضفْ إلى ذلك أن القوام الأساسيّ للصلوات اليوميّة كلّها مكوّن بأغلبه من هذه المزامير. المزامير هي صلوات تحرّك أقسى قلب وتدبّ الحياة في أي روح ميّتة بهموم الدنيا وشهواتها.
هذا المزمور، هو الثالث من مزامير السحر الستّة الرائعة. وسوف نتوقّف عنده قليلاً لنحاول أن نغوص إلى معانيه لعلّ ذلك يساعدنا على ترداده ليس لفظيّاً ولكن قلبيّاً وذهنيّاً أيضاً. “الأوامر الرسوليّة” والذهبيّ الفمّ وأثناسيوس الكبير، يوصون ألاّ يمرّ صباح دون أن نصلّي هذا المزمور. لقد دخل هذا المزمور في صلاة السَحَر منذ وقت مبكر في الكنيسة.
يتصدّر المزمورَ العنوانُ: “لداؤود وهو في بريّة اليهوديّة”. نحن نعلم أنّ كتاب المزامير (150 مزموراً) يسمّى كتاب داؤود النبيّ، لكن مؤلِّفَ المزامير كلّها ليس داؤود فقط. يُسمّى هكذا مجازيّاً لأنّ داؤود هو كاتب أغلب مزاميره. وإنّ الإشارة إلى المكان، وبالتّالي الظرف الذي كان فيه داؤود حين أنشد هذه الصرخات القلبيّة، هي ملاحظة تستحقّ التوقّف عندها.
داؤود وُجد في البريّة هارباً فارّاً وملاحَقاً، نعرف من حياته أنّه فرّ مرّتَين مهدَّداً بالقتل، مرّة من الملك شاول قبل أن يصير ملكاً(27)، ومرّة ثانية اضطرّ بعد ملوكيّته أن يترك العرش لابنه أبشالوم ويفرّ إلى البريّة(28). في أحد هذَين الظرفَين خرج هذا المزمور من قلب داؤود الملآن معاناة، ولكن بالوقت نفسه رجاءً بالله.
الغريب والرائع في هذا المزمور أنّه، بينما كان داؤود مضطهَداً وفي خطر كبير فهو لا يتأفّف على الله وحتّى بالبداية لا يلتفت إلى خطره لكنّه يشتاق إلى الهيكل من البريّة البعيدة عنه، أنّاتُ قلبه قد خرجت ذبيحةَ تسبيحٍ وليس طلباتٍ أرضيّة. تنهّداتُه من الأعماق كانت ملتهبةً بالعشق، وتطلب لقاء الله. زفراتُه كانت تعابيرَ ثقة واتّكال على الله. لذلك فهو مملوء ثقة بالله وكلّه رجاء ولا خوف عنده على مصيره أو من أعدائه “فالله هو إلهه”!
القدّيس أثناسيوس الكبير يقول إنّ هذه الصلاة ليست فقط لظرف كظرف داؤود وليست لحالة كحالته عندما كان مضطهَداً، وإنّما صلاة كلّ قلب عطشان إلى الله وإلى نعمته في كلّ ظروف الحياة. كلّما فرضت علينا الظروف أن نكون بعيدين عن الصلاة والعبادة الجماعيّة، يمكننا أن نرفع هذه الصلاة. كلّما وُجدنا في ضيق واضطهاد يمكننا أن نصلي هذه الزفرات الحيّة لترفعنا من الخوف واليأس إلى حلاوة الرجاء وتعطينا “سلامَه” الذي تركه ويتركه لنا.
(1) يا الله إلهي، إليك أبتكر
مَن منّا، عندما يقع في ضيق أو مرض أو شدّة، يصرخ: “يا الله”؟ نحن- مؤمني هذا الدهر- أناس مصابون ب “العقلانيّة المفرطة” (Rationalism)، التي تعني بكلمة أخرى قلّة الإيمان. عندما يتعرّض الواحد منّا لموقف، فوراً قبل أن يفكّر بالله يفكّر “بحكمته” أو بأساليب للخروج من ضيقته، أو يفكّر ويصرخ: “يا فلان”! ولكن الله غائب وبعيد عن حياتنا. هل نشعر أنّ الله هو ملجأنا وخاصّة عندما تنعدم الحلول وتفشل كلّ الوسائط! هل نصرخ “يا الله” أم نحكّم العقل ونتوسّط الوسائط؟ إنّ الاتّكال على الله لا يعني إلغاء العقل وإنّما حكمة الاعتراف بقدرة الله الفائقة على العقل. نحن نحكِّم العقل، وهذا جيّد، لكنّنا نؤمن قليلاً أنّ كلّ شيء من الله ولأجله، وهذا أمر سيّئ. أحكِّم عقلي ليس لأستغني عن الله ولكن لأنّه هو أوصاني أن أمدّ أنا يدي أوّلاً لينتشلني هو من ضيقي، أنْ أبرهن بالسعي الجادّ أنّني راغب بالخروج من محنتي، مهما كانت، وأنّ ثقتي هي به و ليست بحكمتي!
وهنا داؤود يضيف كلمته “إلهي” وكأنّه يذكّر اللهَ بخاصّته؛ بابنه وعبده. وكما تقول التراتيل “ارحمْنا يا ربّ ارحمْنا لأنّنا عليك اتّكلنا، نحن شعبك وكلّنا صنع يدَيك وباسمك ندعى”. أتترك خاصّتك وشعبك المتّكل عليك؟
هنا ياء المتكلّم في “إلهي” فيها ليس فقط تذكير لله بعبده ولكن تكريس العبد نفسه وذاته لإلهه. “أنتَ إلهنا وآخر سواك لا نعرف”. أنت خاصّتي بمعنى أنّك “حصّتي” و”نصيبي” وغايتي وآخر سواك لا يستهويني. يا الله “إلهي” هي عبارة تخصّص والتحام بالله كالطفل بأبيه. فلكلّ إنسان أب ولكلّ إنسان إله، يمكن للشهوة أو للمجد الفارغ أو أيّ شيء آخر أن يصير آلهة، أمّا أنا “فالله” هو إلهي. وتخصّصي في غنم مرعاه اقتنيتُه من حياتي المناسبة ومن مسلكيّتي. لأنّه كما يقول ذلك الإعلان الرهيب في خدمة القدّاس الإلهيّ: “أهِّلْنا أيّها السيّد أن ندعوك أباً غير مدانين”. إنّ التخصّص لله والشعور به إلهاً لي، هو دينونة عندما لا ترافقه الحياة المطلوبة. التخصّص يعني ترك علاقات كثيرة وانتخاب نلك العلاقات التي تجعلني من خاصيّة الله وبالتالي تجعل الله خاصّتي وحصّتي ومقصدي وغايتي. هكذا كلّ مصلّي مع داؤود يصرخ يا الله إلهي، أي يا بغيتي ومقصدي، يكفيني رضاك ولو خسرت العالم كلّه. يكفيني أن “أقف قدّامك وتراني” ولو نسيَني جميع الناس.
“إليك أبتكر…”؛ حبُّ الله وعشقُه لم يتركا داؤود يشبع من نومه. “لقد نام، لكن قلبه مستيقظ”. مَن يحب شيئاً بشدّة، يدفعه هذا الحبّ من الصباح الباكر أن يترك الفراش ويقصد المطلوب. كثيراً ما نبكّر في القيام ونتأخّر بالسهر، ولكن من أجل مَن؟ إلى الله بكّر داؤود النبيّ بالقيام، لقد ملأه حبُّه واستهواه، ولم يعد الشبع من النوم مقبولاً… هكذا أيضاً كلّ محبّ لله. أشعياء نفسه كانت تبكّر روحه من الليل إلى الله للتأمّل بأحكامه، لأنّ أوامره نور على الأرض(29).
§ عطشتْ إليك نفسي، بكم نوع تاق إليك جسدي
“عطشتْ إليك نفسي” كالغزال إلى الماء. إنّها تعابير حبّ عميقة، العطش يعبّر عن لهيبٍ داخليّ. والحشا هو مركز الإنسان العميق، عليه ينحني وفيه يتألّم. تشعر الأم ابنَها كتلة من حشاها أو قطعة من كبدها. فالعطش أشدّ الأحاسيس قوّة. لم تشتقْ نفسُ داؤود وحسب بل أيضاً عطشتْ وتريد أن تطفئ ذلك اللهيب. هكذا المصلّي الحقيقيّ يعطش إلى الصلاة. الصلاة ليست واجباً. لكي نعرف ما إذا كنّا نصلّي أم لا، علينا أن نسال أنفسنا هل الصلاة لدينا “واجب” أم “حاجة”، هل نصلّي لأنّنا “عطاش” ونحتاج للصلاة كما للماء؟
عندما تشتدّ بنا الأحاسيس النفسيّة كثيراً ما تنعكس على الجسد. فمنظر مفرح أو مفزع، مفاجأة ما… كلّها تنعكس على الجسد بعينه. ولهذا يصرخ داؤود، ليس نفسي فقط قد عطشت إليك ولكن أيضاً “تاق إليك جسدي”. حبّك سرى حتّى في عظمي ولحمي. جسدي عينه تاق إليك وراح هو أيضاً يطلبك. لا توجد تعابير أشدّ. كلّ الكيان يطلبك يا الله إلهي. هذه عبارات داؤود النبيّ(30): “تاقت نفسي إلى خلاصك وكلامك انتظرتُ”، و”كم أحببتُ شريعتك، اليوم كلّه هي لهجي”.
هذا ما يعلّمنا إيّاه قدّيسونا والآباء أن يكون الله لهجنا طول النهار وفاتحة يومنا، أي أن يكون مركز اهتمامنا وهمّنا الأوّل. بالحقيقة إنّها ذبيحة مرضيّة لله أن يقدّم الإنسان باكورة يومه له، ولكنّها بالوقت ذاته ضمانة وقوّة وانطلاقة واعية للإنسان عينه. هكذا نحن نقدّم للصلاة أفضل لحظات اليوم وليس الوقت المقتول منه. وهذا ما يؤكّده نسّاك كبار مثل مرقس النّاسك ونيلوس المتوحّد. القدّيس باسيليوس الكبير يقول إنّه علينا أن نخصّص وقت السحر للصلاة “كيما تكون الحركات الأولى للنفس نحو الله”. وهنا داؤود يعبّر عن شدّة توقه لله بقوله “بكم نوع تاق…”. لقد ذاب شوقاً إلى الله ولا يعرف كيف يصف ذلك أو أن يحدّده. هذا المضطهَد، الفار، المتعب، العطشان المختبئ والجائع… عجيب! لأنّ نفسه تعطش ليس إلى الماء، وجسده لا يطلب شيئاً آخر، بل يطلب اللهَ والله وحده.
لكن التعبير الأعمق عن عطش داؤود، وعطش كلّ مؤمن، توضحه الآية التالية: “في أرض بريّة وغير مسلوكة وعادمة الماء”. هكذا كان داؤود ونحن أيضاً، نحيا في عالم، الله غريب فيه. لهذا غدا هذا العالم “بريّة” قاحلة جرداء. العالم يعجّ بالناس والناس تزحم بعضها البعض لكنّهم كالخيالات لا يلتفت الواحد إلى الآخر، ولا يشعر أحدنا أن بقربه آخر. أكثر المجتمعات ازدحاماً هي في حقيقتها “وحشة”. والفرادة- للأسف- هي طابع الحياة في أكثر المجتمعات تحضّراً. بينما تكثر الشركات تزداد الأنانيّة وتتفتّت الصداقات. وليس بعد من ماء حياة في هذه المجتمعات… دنيانا تقدِّم بحاراً من الملذّات لكن الإنسان لا يشبع من مثل هذا الماء المالح.
(2) هكذا ظهرتُ لك في المقدس، لكي أعاين قوّتك ومجدك
“هكذا”! نعم هنا يقفز داؤود ويتخطّى قروناً؛ يقفز فوراً إلى العهد الجديد وهو بعيد. هو مُبعَد عن أورشليم وهيكل العبادة، ومع ذلك يحضر أمام الله بالإيمان والرغبة. كان اليهود يعاينون الله فقط في تابوت العهد في الخيمة داخل الهيكل. فإنْ فَصَل الزمانُ والمكانُ داؤود عن الخيمة فلن يفصله عن الله. إنّه يحضر فكريّاً وذهنيّاً أمام الله. إنّها “العبادة الناطقة والعقليّة”. إن لم يقدر أن يحضر بالجسد إلى المعبد والهيكل المقدّس “المقدِس”، فإنّ روحه تطير من مكان غربته ونفيه وتحضر بالإيمان والشوق إلى داخل الخيمة وتعاين فعلاً مجد الله. ويروى أنّه عندما فرّ الملك داؤود هارباً، حمل أتباعه من اللاويّين والكهنة الخيمة وداخلها تابوت العهد (مجد الله) وتبعوه، لكنّه أمرهم أن يعودوا بالتابوت إلى المعبد، لكي لا يخاطروا بالخيمة معه في نفيه وغربته(31)، إلى هذه الخيمة تطير روح داؤود على أجنحة الصلاة القويّة والإيمان الحيّ والشوق الحارّ.
تجاه ضعف العالم وهوانه وفراغه تنتصب قوّة الله ويعلو مجده. الأرض البريّة القاحلة جرداء لا فرح فيها ولا ماء ولا حمدٌ. لكن المقدِس الذي تطير إليه نفوسنا ملآن قوّة ومجداً. “الربّ عزّي وثباتي وملجأي وقوّتي”.
المجد والقوّة الإلهيّان يعطيان لداؤود الحزين المنفي والملاحَق الفرح والرجاء. قوّة الله تطرد من القلب كلّ خوف.
(3) لأنّ رحمتك أثمن من الحيوانات، شفتيَّ تسبّحانك
كان على اليهوديّ كلّما دخل المعبد أن يدخل بشيء، بحيوان يقدّمه ويشتري بدمه الغفران أو رضى الله… لكن داؤود اكتشف ما أعلنه بولس بعده بقوّة: أنّ رحمةَ الله لا تُشترى بدم عجول وثيران. رحمة الله أغلى بكثير. تلك التقدمات هي رموز. ولو قدّم الإنسانُ كلّ ما يملك، كلّ أيامه وكلَّ حياته، فإنّ ثمن ذلك لا يعادل شيئاً من قيمة رحمة الله. رحمة الله دائماً مجانيّة. تقدماتنا ليست ثمناً معادلاً للخلاص ولكنّها “ما نقدر عليه” وما يطلبه الله منّا. لأنّ الله لا يطلب ثمناً لكنّه يطلب “القلب”: “يا بنيَّ أعطني قلبك”، والذبيحة بماديّاتها برهان على حركة القلب. ولكن عندما يقدَّم القلبُ دون ذبيحة، فإنّ التقدمة تمّتْ لأنّ “الذبيحة لله روح منسحق والقلب المتخشّع المتواضع لا يرذله الله”. لذا: “شفتيَّ تسبحانك”، ورحمة السلام هي ذبيحة التسبيح.
(4) هكذا أباركُك في حياتي، وباسمك أرفعُ يدَيَّ
هكذا أباركك .. كيف؟ بدون ذبائح بشفاه مسبِّحة، من جهة، ولهذا يتابع: باسمك أرفع يدي بالصلاة الحارّة. هكذا أباركك: “في حياتي”، أي طيلة حياتي: “أسبّح الربّ في حياتي وأرتّل لإلهي ما دمتُ موجوداً”، يردّد ذلك أيضاً النبيّ داؤود في مزمور الغروب. حياتي كلّها ستكون تسبحة وزمن حياتي هو للصلاة والتسبيح . إلاّ أنّ القدّيس كيرلّلس يشير إلى أنّ كلمة في حياتي لا تشير إلى الفترة فقط وإنّما إلى الطريقة. فالحياة الطاهرة الملائمة هي التسبحة الحقيقيّة. لن نسبح بالذبائح ولن نذبح الخراف ولكن سنموت نحن كلّ يوم من أجل البرّ و”هكذا” نسبّحه.
“وباسمك أرفع يديّ”: هذه العادات والحركات الخارجيّة في الصلاة كانت من العصور القديمة. فالحركات الخارجيّة تساعد كثيراً على الصلاة. لهذا يقول النبيّ في مكان آخر “إليك بسطتُ يديَّ”.
أغلبنا يظنّ أنّ اشتراك الجسد بالعبادة، مثل السجدات ورفع الأيادي والوقوف والركوع، هي حركات للمتقدِّمين. لكن الحقيقة هي عكس ذلك. فالقدّيسون والمتقدّمون ليسوا بحاجة لهذه المساعدات والوسائط. القدّيس يستطيع أن يصلّي في الطبيعة، أمّا أنا فأحتاج فعلاً للمعبد والأيقونسطاس والشموع والبخور؛ ومع كلّ هذا أبقى مشتَّتاً، أقرأ ولا أصلّي. القدّيس وهو يحاورك يصلّي، يعمل ويصلّي. أمّا أنا المبتدئ فعليَّ أن أنفرد وأن الجأ إلى ظروف مساعِدة. القدّيس والمتقدّم روحيّاً ليس بحاجة للسجدة بقدر ما أحتاجها أنا. كذلك الأمر مع أمور العبادة الخارجيّة كلّها، من معبد وبخور ورفع الأيادي. هذه الحركات الخارجيّة تنعكس على القلب الداخليّ. وهذه كلّها تتمّ باسم الربّ. أي للربّ ومن أجله وفي السعي إليه. واسم الله في الكتاب يعني شخصه وحضوره.
(5) فتمتلئ نفسي كما من شحم ودسم، وبشفاه الابتهاج يسبّحكَ فمي
“كلام الربّ عذب ونقيّ” . إنّ مَن يرفع يدَيه ويدعو باسم الربّ لا بدّ من أن يسكب الربُّ عليه تعزياته. لهذا كلام الربّ أطيب من العسل في حلق النبيّ داؤود. وكما يشبع الجسد حين ينعم بالشحم والدسم هكذا تمتلئ النفسُ راحةً وتعزيةً من نعمة في الصلاة. فيروح الفم يسبّح ليس كواجب ولا بتعب، لكن بفرح. لهذا يقول النبيّ: “يا ربّ افتح شفتيَّ فيخبر فمي بتسبحتك”. لقد بات تسبيح الله أعذب عمل وألذّ شغل للنفس. كثيراً ما نقف للصلاة بأيدٍ متهاونة وبوقفة متردّدة فلا نذوق طعم الصلاة وتغدو هذه ثقيلة علينا، يدفعنا إليها الواجب. وتبقى الوقفة أشبه بصحراء جدباء. لكن حين نرفع أيدينا “ذبيحة تسبيح” وبحرارة فإنّ ترداد الصلاة يصير عذباً. لهذا كثيرون ممّن يردّدون “صلاة يسوع” نراهم مرّات كثيرة يردّدون هذه الصلاة بعبارة: “أيّها الاسم العذب…”. يصير اسم يسوع عذباً في قلوبهم. كالعسل في الحلق. وتقطع الصلاة مرحلة الواجب وتصل إلى القلب الذي يتلذّذها ويطلبها فتجري فيه ويحيا بها. وممّا في القلب يفيض اللسان وينطق الفمّ.
(6) إن ذكرتُك على مفرشي، هذذتُ بك في الأسحار
في صلاة النوم الصغرى، نطلب في الأفشين الأخير: “امنحْنا يا الله عقلاً ساهراً وفكراً طاهراً وقلباً مستيقظاً ونوماً خفيفاً… وأنهضنا في وقت الصلاة ثابتين في وصاياك. هبْ لنا أقوال تماجيدك طول الليل…”، بالواقع إن نام الواحد منّا على ذكرى أمر ما يحبّه أو يزعجه… يؤثّر فيه، فينهض قبل الأوان وهو يتذكّر هذا الأمر عينه، ينام عليه وهذا الأمر يوقظه عند الصباح، ولربّما قبل الأوان.
كلام الربّ عذب جدّاً في قلب النبيّ، لهذا فإنّ ذَكَره على مفرشه قبيل نومه يلهج به طوال الليل. لهذا يقول أنا نائم لكن قلبي مستيقظ. ونحن نعرف أنّ نسّاكاً متقدّمين يردّدون أثناء نومهم أيضاً صلاة يسوع. واسم الربّ وذكره لذيذ لدرجة أنّه يوقظ النبيّ، يرقد على ذكره ويستيقظ سحراً في ذكراه.
حقّاً إنّه لأمر رائع أن نرقد مع الصلاة بسلامها وأن توقظنا بفرحها. بدل أن نرقد بصعوبة على قلقنا وأن نستيقظ ونحن نهدس بمصاعبنا ومخاوفنا. سأذكرك يا ربّ على مفرشي وتعالَ إليَّ لأهذّ بك أوّلاً بالأسحار.
(7) لأنّك صرتَ لي عوناً، وبظلّ جناحَيك أستتر
كلّ إنسان يتّكل على أمر ما، أو على إنسان آخر. أمّا داؤود فيعرف جيّداً أنّ الله هو عونه. الجوانح رمز لعناية الله وحنانه. هذه الصورة استخدمها المسيح نفسه عندما بكى على أورشليم: “كم من مرّة أردتُ أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحَيها”. والمزامير تردّد هذه الصورة مرّات كثيرة، فالجناح هو الستر المحبّ. الله معتنٍ ومدبّر بمعنى أنّه محبّ جدّاً وحنون. لهذا على تابوت العهد وُضع ملاكا شاروبيم وبأجنحتهما يغطّيان التابوت رمزاً إلى عناية الله وستره. الإيمان بالله وبعنايته يعطي فوراً دفئاً وسلاماً وطمأنينة ولوكنّا وسط أقسى الشدائد.
(8) التصقتْ نفسي وراءك، وإيّاي عضدتْ يمينُك
كما الطفل، شاعراً بضعفه، يمسك بأهداب أمه، يتبعها من خلفها ويتمسّك بها، فيشعر حينئذ بطمأنينة وفرح وثقة. هكذا تلتصق نفسنا في الصلاة بالله. والله يمدّ يمينه ويعضدنا فعلاً في كلّ ضيق. لقد التصقتْ نفس النبيّ بالله، ولم يُخَيِّب الله رجاءه ومدَّ يده اليمنى وساعِدَه الرفيع وقوته وعضدَ ابنَه الضعيف في الضّيق. جميلة هي تعابير النبيّ، يعرضُ صوراً فيها الخبرة والرجاء. رمى على الله توكّله والله لم يكن بخيلاً عليه.
(9) أمّا الذين يطلبون نفسي باطلاً، فسيدخلون إلى أسافل الأرض
والآن بعد مناجاة الله ورفع الصلاة إليه ورمي الرجاء عليه، يلتفتُ النبيّ داؤود، وقد امتلأت نفسه شحماً ودسماً وثقة ورجاء، ولم يعد فيه للخوف مكان، يلتفت إلى مشاكله، إلى أعدائه وهم أشدّ منه بكثير، هو الفارّ بدون سلاح وهم يتبعونه بالعسكر والسلاح. لكن الربَّ سترُه، وبالتالي كلّه ثقة، ليس بمقياس العقل، ولكن بعين الإيمان، أنّ أعداءه سوف يدخلون إلى أسافل الأرض. كيف؟ لا يعرف المنطق ذلك ولا يمكن أن يفسره لكن الإيمان بالله يؤكّده.
هكذا النبي، لأنّه كان بارّاً من جهة حياته وليس هناك ما يعذّب ضميرَه كان له الإيمان أنّهم عبثاً سيطلبون نفسه، لن يجدوا شيئاً ولن يحقّقوا مآربهم الشرّيرة، لأنّ الربّ يحفظ بارّه. الحياة البارّة تعطي الدالة على الله والثقة به.
(10) وسيُدفعون إلى أيدي السيوف، ويكونون أطعمة للثعالب
وإن لم يكن داؤود مسلّحاً وليس من عسكر بجانبه، إلاّ أنّ الله سوف يدبّر الأمور بحيث أنّ أعداءه سيموتون أشنع ميتة وينهزمون أردأ هزيمة. سوف يدفعون، كيف لا يعرف لكنّه واثق، سيدفعون للقتل بحدّ السيف وستكون نهايتهم أبشع نهاية. فبعد أن يقتلوا لن يجمع أحد جثثهم. وسوف تأتي الثعالب وتنهش لحومهم. هذه الصورة هي صورة لأبشع هزيمة، حيث تبقى الجثث بعد المعركة في الساحة ولا يعود أحد من المنهزمين ليجمع جثث رفقائه. سوف تكون نهايتهم نصيباً للثعالب.
(11) أمّا الملك فيسَرّ بالله ويُمتدَح كلّ مَن يحلف باسمه، لأنّه قد سُدَّتْ أفواه المتكلّمين بالظلم
هكذا يختم داؤود نشيده وصلاته في هذه الضيقة، بمشاعر الغلبة والثقة بمعونة الربّ. إنّ ذلك هو نصيب الخطأة الذين يطلبون نفسه عبثاً. فإنّه هو (الملك) سوف يسرّ بالله وسوف يفرج له الله كربته ويخلّصه من أخطاره. بالطبع لن يتخلّى الله عن الملك الحقيقيّ ، عن عبده داؤود الفارّ، وسوف يُرفع شأن الداعين باسمه ويكرمونه. سوف تنصلح الأمور ويعود ترتيبها إلى قوامه الحقيقيّ . سوف ينهزم الظَلَمةُ وسوف تنتصب راية الحقّ عالية ويدبّ السّلام في قلوب الأبرار وأتباعِ الملك الحقيقيّ . الله لا يتركنا في ضيق إلاّ وقد دبّر لنا مخرجه، يقول القدّيس اسحق السرياني. في كلّ شدّة علينا أن نؤمن أنّ الله سيدبّر الحلّ المناسب لأنفسنا بعد امتحاننا هذا.
نعم سيفرح الملك وأتباعه وكلّ مَن يحلف باسمه، ليس لأنّ أعداءه قد ضربوا أو انهزموا، إذ يظهر جليّاً هنا مَن هم أعداء داؤود ولماذا سيفرح هو بهزيمة أعدائه! إنّ أعداءه هم أعداء الله والمجدِّفون على اسمه القدّوس. وهذا ما تفسّره العبارة: “لأنّه قد سُدَّتْ أفواه المتكلّمين بالظلم”. فرَحُ داؤود هو بانتصاب الحقّ وارتفاع اسم الربّ عالياً، واستعادة كرامة ملكه الحقيقيّ . الأمر هنا يختصّ بنصرة الحقّ أكثر من المصلحة أو المصير الشخصيَّين.
نعم الصلاة الحارّة الملآنة رجاء واتّكالاً على الله هي وحدها تعطينا الثقة أنّه في كلّ شدّة سوف تسبّح أفواه المؤمنين وتمتلئ كما من شحم ودسم، بينما أفواه الظالمين والأعداء الروحيّين والجسدانيّين سوف تصمت، آمين.
(25) حاشية مرتبطة بالعنوان: يُتلى هذا المزمور في صلاة السحر.
(26) أنظر: المزمور 142، 6.
(27) 1 ملوك 23، 26.
(28) 2 ملوك 15، 17.
(29) أش 26، 9.
(30) مز 118، 81.
(31) 2 ملوك 15، 25.