“عليك اتكلت من الحشا، من بطن أمي أنت مجيري” (مز70: 6). شعر العدو القديم لخلاصنا بخصمه القوي والعنيد الذي في فلاديكا سيرافيم، فحاول تدميره عندما كان لا يزال في جوف أمه. عانت من ولادة صعبة ومؤلمّة للغاية فقرر الأطباء أنه من الضروري القيام بجراحة لاستئصال الجنين قطعة قطعة من أجل انقاذ حياة الأم. في تلك اللحظة، استعادت الأم وعيها، وإذ علمت بقرار الأطباء، استحلفت زوجها أن لا يسمح بقتل طفلها. في الصباح التالي، عند أول قرعة الجرس الكنيسة في الأول من ك1/1881، ولدت ابنها من دون أي عون خارجي. عندما رأت الطفل هتفت بتعجب “يا لهذا المختار الجديد”، وأطلقت على الصبي اسم نيقولا تيمناً بالقديس نيقولاوس العجائبي، الأ ان عائلته كانت تناديه أحياناً “المختار” وهي عبارة يبدو أنها بلا معنى وقد مقتها بشدّة. لكن بعد عدة سنوات، زار الأسقف نسطور منشوريا بلاد فلاديكا سيرافيم وأهداه كتاباً لمذكراته حيث يذكر فيه، في فصل زيارته لاورشليم، أن كلمة مختار تعني أسقف باللغة العربية. وهكذا، دون ان تدري، تنبأت والدته بمصير مولودها.
كان نيقولا تلميذاً ممتازاً، وبعد انتهائه من المدرسة المحلية دخل إلى معهد اللاهوت وهناك قرّر تكريس حياته للرب. بدأ بالصلاة بدموع وبحماس صانعا هذا النذر للمخلص: “يا مخلصي! ساعدني لأقدّم امتحاناتي جيداً، وأعدك ان أكون راهباً من أجلك بكل ذرة من ذاتي”. ومنذ ذلك الوقت صارت الأفضل في الصف بحسب نتائج امتحاناته.
عندما انتهى من دراسته في معهد اللاهوت، رأت أمه أن صحته أضعف من أن يستطيع المتابعة في الأكاديمية، فحاولت تدبير أمره ليصبح كاهناً. هنا، كان من الضروري إيجاد خطيبة. انصاع نيقولا كلياً لإرادة والدته لحبه لها وعدم رغبته بمجابهة إرادتها، حتى أنه لم يذكر نذره بأن يصبح راهباً. بدأت الأم بتدبير زواج لابنها دون ان تشكّ بشيء. وخلال الصيف قاما بزيارة عدة بلدات وقرى بحثاً عن عروس. لكن هذا لم يكن إرادة الله، فقد كانت وساطة الزواج تخفق في كل مرة، وغالباً بطريقة غير مفهومة. أخيراً، في اواسط شهر آب سنة 1904، قالت الأم: “كل جهودنا بخصوص زواجك من أجل كهنوتك أخفقت. الآن تستطيع تدبير مستقبلك بنفسك”. “في هذه الحالة”، قال نيقولا، “لنذهب إلى الكاتدرائية، إلى امنا ملكة السموات إلى أيقونتها العجائبية ولنطلب منها تريني بنفسها طريق حياتي”.
وافقت أمه كلياً. كان الأمر مدبراً بأن تكون الأيقونة قد أعيدت إلى قرية زيماروﭭﺎ، حيث كانت تحفظ عادةً. على أي حال، في طريقهما إلى الكاتدرائية، صادفا صديقاً لنيقولا اسمه ميشا سميرنوﭪ، فأخبره نيقولا بورطته. “لقد كنتَ تلميذاً جيداً لا لتصبح، بالطبع، قارئاً في الكنيسة. يجب أن تنضمّ للأكاديمية”، قال ميشا. وعندما احتجّ نيقولا بأن الأمر قد أصبح متأخراً جداً لامتحانات الدخول، أشار ميشا أنه بسبب الإصلاحات قد تأجلت امتحانات الدخول إلى أكاديمية بطرسبرغ اللاهوتية حتى نهاية آب. “أنك شخص ذو إيمان عميق” قال ميشا مؤكّداً. “ضع رجاءك في الله! والمخلص نفسه سيساعدك. إذهب بدون أي تحضير”.
هذه الكلمات غير المتوقعة من أول شخص صادفاه اعتبرها نيقولا جوابا من الفائقة الطهارة والدة الإله على صلواته، جواباً أشار له بوضوح إلى طريق حياته. لقد احسّ من قلبه بفرح غير مألوف، وعندما صارح والدته بهذا قالت أنها أحست أيضاً بفرح عظيم مضيفة: “من الواضح أنها مشيئة الله. من الواضح أنها طريقك”. حينها ذهب نيقولا إلى مكتبة المعهد وجمع كومة من الكتب. كانت تفصله عن الامتحان عشرة أيام يجب ان يخضّر فيها، لكنّها لم تكن كافية لأكثر من النظر إلى عناوين الفصول وتقليب آلاف الصفحات من النصوص اللاهوتية الصعبة. كلّ ما حصل عليه من جراء ذلك كان تشويشاً في رأسه.
أعطته امه آخر ما معها من مال من أجل رحلته مرفقة ذلك ببركتها، وتوجّه نيقولا إلى الأكاديمية.
بدأت الأمتحانات الخطية والأكثر صعوبة بينها كان الامتحان الخطي في المنطق، حول موضوع” من وجهة نظر منطقية، كيف يمكن شرح أن في المناقشة الفلسفية تكون إجابتان إلى السؤال نفسه على طرفي نقيض”. قد أعطي هذا السؤال لكي يكون الاختيار سريعاً لأفضل طلبة اللاهوت الآتين من كل روسيا. سُمعت التنهدات بين الطلاب. وبدأ الأول ثم الثاني بمغادرة مقاعدهم جامعين ملفاتهم للعودة إلى البيت. بدأ نيقولا بالصلاة بحرارة: “أيها الرب امنحني الفهم حتى أكتب عن هذا الموضوع الصعب”. فسمع، كجواب، صوتاً داخلياً: “لا تكتب من منطلق منطقي بل من وجهة نظر سيكولوجية”. بدأ مباشرة بكتابة أن هذا الشرح من وجهة نظر منطقية صعب لأن قوانين المنطق متشابهة، ولهذا وسّع بحثه انطلاقا من مقاربة سيكولوجية ترتكز على كلمات المخلص: “من القلب تخرج أفكاركم”. واستنتج أن لهذا السبب أتت التعاليم المغلوطة من قلب ليو تولوستوي المتكبر، بينما من قلب القديس يوحنا كرونشتادت المملؤ بالنعمة تدفقت الحقيقة. كان نيقولا قلقاً لأنه أعطى لنفسه الحرية في تغيير البحث، لكنه في النهاية فرح لحيازته على علامة أربعة ونصف التي كانت الأعلى مقارنة مع كثرة من علامات الضعيفة التي حازها التلاميذ الآخرون.
بعد هذا بدأ الأمتحان الشفهي. الأول كان حول اللاهوت العقائدي. أعطى يومان فقط للتحضير، قضاهما نيقولا في علية الأكاديمية مقلّباً صفحات الكتب السميكة. عشية الإمتحان وأثناء الليل جلس على الدرجات التي تقود إلى العلية وبكى. كل ما استطاع فعله خلال هذين اليومين هو اقناع نفسه بأنه من بين 150 بطاقة أسئلة كان يعرف واحداً: “تاريخ عقيدة الثالوث الأقدس”. لأنه كان قد أجاب عليه في امتحان في معهد اللاهوت. صلىّ نيقولا بدموع: “أيها الرب مخلي يا من هو رحيم وكلي الاقتدار، إجعل سؤالي غداً تاريخ عقيدة الثالوث الأقدس. وإلا فسوف أرسب وأعود إلى البيت مسبباً حزناً كبيراً وكدراً لأمي”.
في اليوم التالي قبل الذهاب إلى الامتحان، ذهب نيقولا إلى كنيسة الأكاديمية حيث سجد أمام أيقونة المخلّص معيداً طلبه. فُحص كل تلميذ لنصف ساعة وأكثر، وكثيرون أجابوا جيداً جداً لاستعدادهم خلال الصيف. كان نيقولا قلقاً، فصلّى بحرارة للمخلص. أخيراً، حوالي الساعة الثالثة، أتى دوره. اختار بطاقة سؤال وقلَبَها مرتجفاً وقرأ: “تاريخ عقيدة الثالوث الأقدس”. لقد استجاب الله لصلاته! أجاب سوبوﻠﻴﭪ إجابة ممتازة وتلقى علامة 4 و75 بالمئة. كانت فرحته بلا حدود لاختباره مساعدة المخلص الإلهية.
الامتحان التالي كان في تاريخ الكنيسة. كانت كمية كتب هذه المادة مضاعفة لتلك التي للعقائد يقابلها 250 بطاقة سؤال. كان نيقولا مرتعباً لأنه يعرف سؤالا واحداً أيضاً: “تاريخ الهرطقة الأريوسية بعد مجمع نيقية”. في عشية الامتحان، وكما فعل حين تحضيره لمادة العقائد، جلس أمام باب العلية وبكى. لكنه من بعدها بدأ بالصلاة أيضاً بحرارة للمخلص أن يمنحه مساعدته الإلهية فهتف قائلاُ “يا مخلص، يا فرحي أنت رحيم وكلي الاقتدار. ما هو بالنسبة لك أن تتمّم مرة أخرى طلبي. أنت تعرف أنني أعرف فقط سؤالاً واحداً ولا أعرف البقية. أرجوك دعْ بطاقة السؤال عن تاريخ الهرطقة الأريوسية بعد مجمع نيقية يقع علي، وإلا فسأرسب، وأعود إلى البيت مكدراً أمي”. عاد نيقولا إلى غرفته ورقد نائماً بدموع.
في الصباح التالي، كان يعاني بشدّة من قلقه لعدم ثقته بمصيره، استطاع أن يكرر فقط: “يا رب ساعدني. يا فرحي ومعونتي، ساعدني”. عندما تمّ استدعاء نيقولا إلى طاولة الامتحان، كان بالكاد قادراً على الوقوف على قدميه، لكنه سحب بطاقة سؤال وقلَبَها. يا للفرحة التي اعترته عندما قرأ: “تاريخ الهرطقة الأريوسية بعد مجمع نيقية”. استطاع بصعوبة احتواء مشاعر الشكر للمخلص الذي كان قد أظهر له حمايته بشكل عجائبي للمرة الثانية.
أجاب سوبوﻠﻴﭪ بشكل جيد لدرجة أن الأساتذة قررّوا بعث رسالة شكر إلى كلية ريازان للاهوت على هذا الطالب اللامع. وعندما عاد إلى مقعده تهامس الطلاب الآخرون حول الصبي الريازاني. لم يجسر نيقولا في بقية الامتحانات أن يسأل إحساناً من المخلص، لكنها جرت جيداً. وهكذا، وبمساعدة المخلص دخل ﭭﻼديكا أكاديمية اللاهوت بدون أي تحضير.
وعندما كان نيقولا في السنة الثالثة في الأكاديمية سأله المفتش الأرشمندريت ثيفان بشكل صريح ومباشر إذا كان مصمماً أن يصبح راهباً. و كان نيقولا يعتبر نفسه غير مستحق، بسبب تواضعه، للدخول في الطغمة الرهبانية فراح هذا السؤال يعذبه دون أن يعرف مشيئة الله بخصوصه. وليتخلّص من هذا الأرتباك، كتب رسالة إلى الأب يوحنا كرونشتادت، لكنه لم يتلقَّ جواباً. ثم سأل أيضاً الشيخ اناطول(بوتايوﭪ) من أوبتينا، لكن الشيخ كتب أنه لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال دون رؤية نيقولا شخصياً. عندما تلقى نيقولا الرسالة التي من الأب اناطول، تكدّر أكثر. لم يستطع الحصول على جواب مباشر من أي مكان يجعله يدرك مشيئة الله بخصوصه.
خلال هذا الوقت كان يقرأ قصة القديس سيرافيم ساروفسكي. كان الكتاب مفتوحاً على طاولته. وإذ كان مثقلا من مأزقه هذا، بدأ نيقولا يذرع الغرفة ذهاباً واياباً، عندما أشرف عليه فجأة الطريق: “يا لإيماني الضعيف، إن القديس سيرافيم حيّ في هذه اللحظة. إنه أمام عرش الثالوث الأقدس. وهو يستطيع، في هذه اللحظة، حلّ كل المشاكل والأسئلة، اذا ما توجهنا إليه بايمان في صلواتنا. سوف أذهب مباشرة في هذه اللحظة إلى الطاولة حيث سيرة حياة القديس سيرافيم موضوعة. سأتوجه اليه كشخص حي، سأركع وأتوسل اليه لإنقادي من مأزقي: هل علي أن أتزوج وأصبح كاهناً، أم ان أصبح راهباُ؟”
وفعل نيقولا ما قاله بالضبط. بعد ان قام بالسجود والصلاة فتح الكتاب وقرأ: “أحد المبتدئين من منسك غلينسك، مضطرباً جداً بخصوص أمر تكريسه، فأتى قاصداً إلى ساروﭪ طالباً نصيحة الأب سيرافيم. فالتمس راكعاً أمام قدمّي القدّيس، حلّ سؤال حياته الذي يعذبّه: هل مشيئة الله بخصوصه وخصوص شقيقه نيقولا أن يدخل الدير؟ أجاب القدّيس المبتدئ: “خلّص نفسك وأخاك”. اعتبر نيقولا كلمات الأب سيرافيم كشفاً إلهياً فحواه أنه يجب أن يصبح راهباً، أي ما كان بالحقيقة رغبة قلبه. منذ ذلك الوقت لم يعتبر فقط الحياة الديرية طبق حياته الموصي من الله، بل طريق أخيه ميشا الذي، فيما بعد، أصبح الأرشمندريت سرجيوس.
مع اقتراب موعد قص شعره للتكريس الرهباني، سُئل نيقولا عن الاسم الذي يرغب به. فقال انه باعتباره راهباً يجب عليه التخلي عن مشيئته منذ البداية وهو سيقبل بأي إسم يعطى له. “حسناً، كن حذراً”، قال المفتش الأرشمندريت ثيوفان، “يجب ان لا تنزعج اذا أُعطيت اسماً قبيحاً” . ما حصل بعد ذلك أنهم قرروا إعطاءه إسم دوسيثيوس. لكن الأمر تحوّل خلافاً لذلك. عشية قصّ الشعر، ذهب عميد الأكاديمية الذي كان من المفترض ان يقوم بطقس قص الشعر للعشاء عند أحد التجار. شرعت فتاتا التاجر تسألان العميد عن الاسم الذي سيمنحه للراهب الجديد. وإذ سمعتا أنه سيكون دوسيتيوس احتجتا بانه يستحق اسماً آخراً لا بل يستحق أجمل إسم.
في عودته إلى البيت بالعربة، تذكّر الأسقف سرجيوس فجأة أنه، عندما كان حاضراً أثناء عرض بقايا القديس سيرافيم، قام بعهد أمام الله والقديس سيرافيم بأنه، إذا ما أصبح عميداً لأكاديمية سان بطرسبرغ اللاهوتية، سيمنح اسم سيرافيم لأول تلميذ يقص له شعره. فقرر أن يكون لنيقولا هذا الاسم تكريماً لرجل الله العظيم الذي من ساروف. خلال قصّ الشعر، وعندما سمع نيقولا: ” يُقّص شعر هامة عبد الله سيرافيم” اعتراه الذهول وامتلأ بحب وامتنان عظيمين للقديس سيرافيم، وفكّر: “أنه لم يكشف لي مشيئة الله بأن أصبح راهباً، بل أيضاً أخذني تحت رعايته المقدّسة”.
في قبوله للحياة الرهبانية، سلّم الراهب الجديد سيرافيم نفسه لصوم قاس وصلاة بلا انقطاع. وهكذا، منذ يوم تكريسه وحتى يوم وفاته، لم يأكل ﭭﻼديكا لحماً. ولسنوات عدة كان يتناول الطعام مرة في اليوم.
بعد تخرجّه أولاً في صفه، علّم الأب سيرافيم لسنة في مدرسة كهنة قبل تعيينه مساعد مفتش في مدرسة الأبرشية في كالوغا. هناك أحب التلاميذ الأب سيرافيم حباً كبيراً، خاصة الصغار منهم في الصفوف الأبتدائية الذين كانوا قد تركوا بيوتهم للمرة الأولى وبكوا لفراقهم أمهاتهم. بقلبه المحب، حزر الأب سيرافيم بسرعة سبب حزن الأولاد واهتم براحتهم. يومياً وخلال الساعات الحرة وخاصة في أيام العطل والأعياد، كان يأتي إلى صفوف الأصغر ويشاركهم بنقاشات حول خلاص النفس، انطلاقاً من حياة القديسين بشكل رئيسي. أصبح الأولاد متعلقين بالمدير الصالح والحنون الذي فَهِمَهُم جيداً. كان صديقهم الأول والحَكَم فيما بينهم، وكذلك كان أمّاً حنونة. عندما كان الأب سيرافيم في الممشى، خلال ساعات الاستراحة، كان التلاميذ يهرعون خارجاً من كل الصفوف، كلٌ منهم محاولاً مناداته ليدخل غرفة صفه: “تعال إلينا يا باتيوشكا ادخل الينا” . كانوا يصرخون متنافسين لجذب انتباهه وهو كان يحاول زيارتهم جميعاً ودعمهم بكلامه.
بعد سنتين ونصف نقل الأرشمندريت سيرافيم إلى كوستروما، فكان حزن التلاميذ لا يوصف وبكوا بحرقة. في يوم رحيله، رفض بعضهم أن يأكل، وذهبوا مرة تلو الأخرى ليقولوا له عبارات الوداع، وكان الأب سيرافيم يعطيهم أيقونات وصلباناً أو أي شيء تصل اليه يده كتذكار وتعزية منه.
عندما كان لا يزال في كالوغا، كان يذهب في غالب الأحيان إلى منسك أوبتينا ليزور الشيوخ اناطوليوس وبارصنوفيوس ويوسف. الأب اناطوليوس عامله بمحبة خاصة وكان أب اعترافه.
سنة 1910 وخلال عطلة الميلاد، قرر الأب سيرافيم زيارة أمه في مدينة بيرمشل. كان فرحها غامراً لكنها قلقت لما يخص تحضير الطعام لابنها المفضل. قلقها كان أيضاً حول صحته الضعيفة فاردت أن تسمنّه، لكنه لم يكن يأكل اللحم وكان من المستحيل إيجاد سمك في المدينة في فصل الشتاء. بعد الصلاة بحرارة أمام أيقونة القديس نيقولاوس العجائبي ، لبست معطفاً من جلد الخروف وخرجت إلى الشارع. سرعان ما أتى رجلٌ ماشياً على الرصيف المقابل فنادته قائلة: “هل أنت صياد سمك؟” فأجابها “نعم، لماذا؟” فشرحت له “خلال عدة أيام سيأتي ابني الراهب لزيارتي. إنه لا يأكل لحماً بل فقط سمكاً. لذا، اذهب إلى النهر واصطد بعض السمك له، وسادفع لك مهما طلبت”. فأجاب الصياد: “هل تظنين أنه يمستطاعك اصطياد السمك الآن، سيدتي العزيزة؟ إن الحرارة 25 درجة مئوية تحت الصفر. كل السمك نزل إلى قعر النهر”. لكن والدة فلاديكا أصرَّت “سيصلي ابني من أجلك”. في النهاية وافق الرجل وذهب إلى نهر أوكا حيث أمضى حوالي الساعة يخترق الجليد الذي تبلغ سماكته المتر. ثم رسم إشارة الصليب وصلىّ كما لقنته المرأة، وألقى الشبكة في الفتحة قائلاً “يا رب من أجل خادمك الأب سيرافيم أرسل سمكة”. سرعان ما انخفضت الشبكة علامة على أنها أمسكت شيئاً، فسحبها الرجل وإذ فيها شيُّوط فضي كبير (نوع من السمك) فأخذه إلى والدة فلاديكا. قدّمت المرأة له النقود فرِحة، لكنه رفض أخذها قائلاً: “هيا هيا يا سيدتي العزيزة لا أريد شيئا. انه صيد عجائبي. قولي لابنك أن يصلي من أجل عبدالله بطرس”. ثم غادر.
سنة 1912، عُيّن الأرشمندريت سيرافيم عميداً لثانوية في فورونيز. في ذلك الوقت كان النظام في الثانوية متقلقلاً. حالاً بعد وصوله، كان له حديث مع الطلاب، فلاحظ أن الطلاب الفوضويين يسخرون منه غير خائفين من العقاب. في المساء، أتاه الناظر بلائحة تحوي أسماء مثيري الشغب وعرض عليه طردهم رأساً. تناول الأب سيرافيم اللائحة قائلاً بأنه سيعالج أمر المذنبين بنفسه. خلال استراحته، بدأ بمناداتهم إلى مكتبه واحداً بعد الآخر. تكلّم معهم بطريقة مؤثرة، طارحاً عليهم أسئلة ومقنعاً إياهم. بنتيجة ذلك، كانوا يذرفون دموع الندم ويعدون بإصلاح أنفسهم. خلال سنة واحدة، غيّر الفلاديكا الثانوية مما جعل مفتش المجمع المقدس يعتبرها الأفضل في البلاد.
سيم الأرشمندريت سيرافيم اسقفاً يوم عيد حماية والدة الإله الفائقة القداسة في تشرين الأول سنة 1920 في كاتدرائية سيمفيروبول. كان من دواعي غبطته أنه في هذه المناسبة، ولتدبير الله الغامض، عُرضت في الكاتدرائية ايقونة كورسك – روت العجائبية التي لوالدة الإله.
حالاً بعد سيامته، كان عليه ان يغادر بلده. بقي لمدة قصيرة في القسطنطينية قبل الانتقال إلى بلغاريا حيث عُيّن هناك رئيساً للشركة الديرية الروسية الأرثوذكسية، وذلك في آب 1921.
في جهاد نسكي مستمر، وفي ظروف زهدية صعبة أصيب الأسقف بالسل. وبالرغم من مرضه الخطير اهتم برعيته بحماسة أبوية. خدم بدون انقطاع. كان يقيم الصلوات ثلاث مرات في الأسبوع، داعياً رعيته إلى التوبة وتطهير النفس بنعمة الله، وإلى الفضيلة المسيحية الأساسية أي التواضع. خدمته في أحد الغفران كانت مميزة، حيث كان يجعل الكثيرين ممن كانوا قد تخاصموا فيما بينهم لسنوات يلتمسون الصفح من بعضهم البعض.
كان الأسقف سيرافيم يقيم صلوات رعائية في الأقانيم كونه رئيس الكهنة، وكان يزور المدارس الروسية. كانت أحاديثه وشخصيته الدافئة المحببة تترك انطباعاً جميلاً في كل مكان. وفي الأوضاع المادية الصعبة، كان يهتم بالروس الفقراء والمرضى فيرتب للبعض علاجاً مجانياً في المستشفى ويؤمّن للبعض الآخر مأوى يبيتون فيه، أو يضع البعض منهم في ديره. لم يهمل الرهبان الروس المعوزين الذين في جبل آثوس. وقد أسّس جمعية لجمع المساعدات لهم وفي عظاته كان يتوجه إلى الرعايا للتبرع من أجل هذا العمل المقدس.
سنة 1934، رقيّ فلاديكا إلى رتبة رئيس أساقفة. كانت له المواهب الروحية منذ سنيه الأولى وقد خاض بثبات جهاداً حاراً ضد الأهواء. فرغم أنه نسبياً أسقف جديد لكنه كان صاحب قامة روحية عالية. أشار العديد من أبنائه الروحيين إلى حالات من الرؤية لديه، كانت تتجلى حتى من مسافات بعيدة. وبسبب طهارته الملائكية، تلقى من الله موهبة تمييز لا ترضى أقل انحراف عن الحقيقة المسيحية الأرثوذكسية. لقد سهر على حياة الأرثوذكسيين وكان ضميرهم. حيثما كان يلاحظ أي شيء غير عادي كان يكشفه بعناد من دون خوف من الحقيقة، وكنتيجة لذلك أنتج أعمالاً لاهوتية لا تقدَّر بثمن.
كان عمل الأسقف سيرافيم الأساسي دحض هرطقة اللاهوتي الباريسي المتقدم في الكهنة سرج بولغاكوف، مما جعله يحصل سنة 1937 على درجة الماجستير في اللاهوت. كان مندفعاً لإنهاء هذا العمل في موعد محدد عندما وقع مريضاً بسبب الحمى. ناشد والدة الإله، التي التجأ إلى شفاعتها كل حياته، متوسلاً اليها لتشفيه. فماذا حدث؟ انخفضت حرارته فجأة، فأصبح بمقدوره إنهاء عمله ضمن الوقت المحدد.
كان فيلاديكا يسكب كل حبّه للمخلص من خلال أعماله اللاهوتية، مدافعاً بحرارة عن الحقائق الأرثوذكسية. “كتبي هي دمي” صرح قائلاً. حقاً إنه يبذل حياته للمسيح في جهاده ضد الهرطقات، دون ان يرأف بقواه أو بصحته الضعيفة. كان فلاديكا يعمل باستمرار في الليل. هذا ما أقلق أخاه الأرشمندريت سرجيوس. عندما علم فلاديكا بقلق الأرشمندريت صار يكتب في السر. في المساء كان يستلقي، وعندما ينام الجميع، كان ينهض ويتابع الكتابة، مستفيداً من هدؤ الليل، معتبراً أن هذا واجبه الرعائي للدفاع عن الحقيقة. لم تكن مصادفة أن الله استدعاه إلى العالم الآخر في يوم احتفال الكنيسة المقدّسة بانتصار الأرثوذكسية والمدافعين عنها (أحد الأرثوذكسية).
قبل موته بقليل قال فلاديكا لاولاده الروحيين: “إذا ما وجدت دالّة أمام الله، فلن أترككم”. وفي الحقيقة أنه في الليلة التي تلت دفنه، ظهر فلاديكا في الحلم لأحد الرهبان من أبنائه الروحيين وقال: “لماذا تبكون ؟ لم أمت، أنا حي”.
ونحن نؤمن أنه، في الأخدار السماوية، “حيث مسكن جميع الأبرار”، يصلّي من أجلنا، ونستطيع ان نتوجه إليه في محننا كشخص حيّ وهو يسمعنا ويساعدنا.
رقد المطران سيرافيم في 13 شباط 1950، ولم تُعلن قداسته بعد.
بعض العجائب التي حصلت بصلوات رئيس الأساقفة سيرافيم بعد رقاده.
– انتقل الأسقف سيرافيم 13 شباط 1950 ودُفن في مدفن تحت كنيسة القديس نيقولاوس في صوفيا. ومن يوم رقاده كانت بقاياه ولا تزال مصدراً غير منقطع للعجائب. كما في حياته وكذلك بعد موته، استمر فلاديكا سيرافيم بمساعدة الناس الذين يلتجئون إلى شفاعته وصلواته، ليس فقط من بلغاريا بل من الخارج أيضاً.
حصلت امرأة بائسة على مساعدة من رئيس الأساقفة سيرافيم بدون توقع، وحتى قبل أن تعلم عنه شيئا، عندما كانت لا تزال ملحدة. كانت معلمة ثانوية تعيش مع ابنها في سيليفنا. سنة 1952 كان ابنها يخدم في الجيش على الحدود الجنوبية لبلغاريا. كان شتاء تلك السنة قاسياً للغاية، مثلجاً وبارداً. في أحد الأيام، عندما كان الشاب في خدمته متعباً يرتجف من شدة البرد، وقع على الثلج في إغفاءة عميقة. عند تلك اللحظة بالضبط، حصلت غارة من العدو الذي كان يحاول إجتياز الحدود. لحسن الحظ استطاع جنود كتيبة هذا الفتى أن يهزموهم ويجردوهم من أسلحتهم. وبعد انتهاء المعركة طفقوا يفتشون عن الحارس فوجدوه نائماً في مركزه، فأوقفوه وأرسلوه إلى المحكمة العسكرية في صوفيا. بسبب الأوضاع السياسية غير المؤاتية في ذلك الوقت، حكمت المحكمة عليه بالإعدام لكي تلقن الجنود الآخرين درساً. لم يكن طلب العفو وارداً مطلقاً. كل ما استطاعت الأم المذهولة أن تطلبه هو فقط تسليمها جثة ولدها حتى لا تُحرم من زيارة ضريحه. فأتت إلى صوفيا وكانت في كل صباح كانت تتكلم معه هاتفياً وهي مرعوبة كي تعلم إذا ما كان حُكم الأعدام قد نُفِذَ. في هذا الظرف، غلبها النعاس ذات ليلة. وفجأة ظهر لها شيخ قائلاً لها: “أيتها الأم المعذبة، تعالي إلي إلى الكنيسة الروسية وسأساعدك. لم تنتظر الفجر، اذ قبل أن يرحل الظلام هرعت إلى الكنيسة فلم تجد صورة لمن رأته، فعادت إلى بيتها يائسة، وقررت أن ذلك كان مجرد هلوسة. لكن في الليلة التالية ظهر لها الشيخ نفسه وقال “لقد ذهبتِ إلى الكنيسة الروسية لكنك لم تنزلي إليَ. تعالي اليَ عبر الدرج وسأساعدك”. أدركت المرأة المندهشة أن ذلك لم يكن هلوسة. فعادت مرة أخرى إلى الكنيسة الروسية وسألت اذا ما كانت بعض الأيقونات العجائبية تحفظ في القبو تحت الكنيسة. عندما نزلت الدرج وقع نظرها على صورة رئيس الأساقفة سيرافيم. فأيقنت أنه الشيخ الجليل نفسه الذي رأته في حلمها والذي وعدها بالمساعدة. فبدأت بالصلاة له بحرارة. بعد الصلاة بدموع لمدة طويلة، خرجت من القبو السفلي. وبعد أن تركت الكنيسة صادفت بشكل غير متوقع أحد معارفها الذين لم تلقاهم منذ وقت طويل وهو كان صديقاً حميماً وتلميذاً مقرباً من زوجها المتوفي. وقد أصبح ذاك الرجل محامياً لامعاً في صوفيا. عندما علم بسؤ حظهّا، ذهب معها مباشرة إلى وزارة الدفاع لمقابلة وكيل الوزير. اتصل الوكيل هاتفيا بالوزير الذي وافق على إلغاء حكم الإعدام مستبدلاً إياه بالسجن مدى الحياة. بعد أشهر، صدر عفو عام فأطلق سراح الشاب.
– أصبحت أمه، التي كانت قبل ذلك الوقت ملحدة، امرأة مؤمنة بحرارة. وكبادرة شكر للرب، نظمت في باحة الكنيسة الروسية مائدة سخية، وأخبرت الجميع شخصياً عن المساعدة العجائبية التي حصلت عليها من ﭭﻼديكا سيرافيم.
كثيرون من التلاميذ، وخاصة الصغار منهم، يزورون قبر الأسقف سيرافيم. أحدهم وهو طالب طب في السنة الثانية، كان غالباً ما يزور الضريح ويصّلي له قبل امتحاناته. كان التلميذ من عائلة ملحدة حتى أنه لم يكن معمّداً. في أحد الأيام، كان يصّلي أيضاً هناك. بعد إنهائه صلاته راكعاً، قبّل الضريح الرخامي ونهض، وفجأة رأى رئيس الأساقفة سيرافيم أمامه كما لو كان حياً. باركه ﭭﻼديكا قائلاً: “اعتمد وحافظ على الصوم” ثم اختفى. كان التلميذ مضطرباً حتى أعماقه بسبب ما حدث. فاستدعى عمته التي كانت مؤمنة، من المقاطعة التي تعيش فيها، وطلب منها أن تكون عرابته. تلقى سر المعمودية في كنيسة الشهيد العظيم بندلايمون في بيت العجزة في كنجازﻴﭭﻭ. بعد هذه التجربة المميزة، راح التلميذ يخبر الجميع أنه حتى ولا الموت بستطيع ان يهز إيمانه بالحياة بعد الموت.
– أخبر أحد المرتلين في الكنيسة الروسية: كنت أصّلي في احد الأيام على ضريح رئيس الأساقفة سيرافيم، فدخلت إمرأة كهلة، يظهر أنها من النخبة الثقافية. أخبرتني كيف أنه، سنة 1988، ظهر في فمها ورم بدأ يكبر بسرعة. سرعان ما بدأت تلاقي صعوبة في الكلام ولم تستطع ان تأكل بسبب ما يحصل لها من الألم. استنجدت بعدة أطباء. أحدهم مختصّ بالأورام، كان لها معرفة شخصية به. بعد الفحص أخبرها بصراحة أنه لديها سرطان سريع النمو في اللسان، وبأن الدواء ليس له أي تأثير عليه. كان السرطان قد انتشر تقريباً في كل الفم.
كانت المرأة التعيسة، قد سمعت وهي لا تزال في مدينتها بلوﭭﺩﻴﭪ، عن حالات الشفاء عند قبر ﭭﻼديكا سيرافيم، فبدأت بالذهاب يومياً إلى الكنيسة الروسية للصلاة لوقت طويل عند قبره. في اليوم السادس كانت وحدها عند الضريح. سمعت فجأة صوتاً يقول: “غمّسي الشمعة التي تحملي في المصباح الذي فوقي وامسحي المكان المصاب بالمرضى”. فعلت المرأة المريضة كما قيل لها وهي مندهشة وفرحة في آن بسبب هذه الاستجابة الرائعة لصلواتها. لشدة دهشتها، توقف الألم الذي لم يكن يحتمل فجأة. في الأيام التالية استمرت بدهن المكان السقيم. بدأ الورم ينكمش تدريجياً ثم بعد أسبوع تلاشى كليّاً. ذهبت المرأة إلى اختصاصي الأورام الذي تعرفه. بعد فحصها طلب منها الطبيب أن تخبره كيف تعالجت ومَن شفاها. أخبرت المرأة الطبيب بالتفصيل بكل ما حصل، فصرّح بأنها قد وجدت أنجع علاج وهتف بفرح: “المجد لله وللقديس ﭭﻼديكا سيرافيم”.
– عانت أرملة أحد الكهنة التي كانت ترغب بتزويج ابنتها. علمت بالقديس سيرافيم فتوجهت مع ابنتها إلى قبره حيث صليتا بحرارة. عندما خرجتا من هناك قابلتا شاباً من معارفهما وكانتا لم تقابلاه منذ وقت طويل. فابتهج جداً باللقاء وسرعان ما تزوّج الفتاة بعد ذلك.
http://www.youtube.com/watch?v=8TtpJD2Lqxc
http://www.youtube.com/watch?v=Q2VQ8AgiPUA