ننتقل الآن إلى موضوع معقّد، هو تحديد العلاقة بين الكتاب المقدس وبين العلوم البشرية في معطياتها ونظرياتها ونتائجها، وبأي مقدار الحقيقة المعروضة في الكتاب هي مثبتة أو منقوضة بالعلوم الموضوعية، كما يسمونها. إنها مشكلة واسعة جداً وكثيرة التعقيد، كما قلنا، ولذا فلا مجال في هذا الكتيّب لحلها، وخاصة وإنها مشكلة مغلوطة. ولكن يجب الاهتمام بها لأن ظروفنا الواقعية كثيراً ما تلزمنا في هذا المضمار بالشهادة لحقيقة الكتاب.
هذه المشكلة حديثة نسبياً، إذ كان وقت اعتبر فيه كل ما جاء في الكتاب حقيقة كلية دون أي مجال للبحث: فالكتاب كله معاً وكل ما جاء فيه له قيمة مطلقة. إن اهتزاز ذنب كلب طوبيا كان له قيمة روحية! والتوصية بالخمر لمعدة تيموثاوس كان لها قيمة لكافة الأمراض، كونها وصية إلهية بحد ذاتها. وكانت التوراة أيضاً، منذ وقت قريب نسبياً، تلخص كافة المعلومات البشرية. منذ خمسة قرون فقط، كان العلم غير متنوع ولا يؤلف مثل الآن علوماً عدة تتشعب كل منها إلى علوم فرعية، واختصاصات عديدة (في الطب مثلاً نرى التخصص يصل إلى كل عضو من الجسم…). والعلم الآن لا يدعي شمول مجموع المعرفة البشرية، بينما قبل عصر النهضة فقط كان يظن الإنسان إمكانية شمول معرفته لكل الحقيقة. وكان الكتاب المقدس يظن محتوياً على كل شيء لأنه كتاب إلهي. كان الإنسان في الحقيقة ليس مؤمناً بل مصدقاً ساذجاً يصدق كل شيء، كأنه من الله مباشرة، على منوال الأطفال وأعمال السحر. فينبغي إذاً التفريق بين هذا الوضع الذي لم يكن روحياً، بل ظرفياً ناتجاً عن وضع الإنسان المسيحي غير المتعمق وغير المستنير، وعن شبه عبادته للكتاب (1)، وبين الوضع الروحي الأصيل. ثم تقدم الإنسان فصار يفسر الحوادث تفسيراً طبيعياً، غير آتٍ على ذكر الله ولا منكراً إياه: فوصل الكهرباء بواسطة المفتاح الكهربائي مثلاً، لا علاقة له بالله وليس من مشكلة… ولكن العلوم البشرية، في وقتنا الحاضر، تنمو نمواً عظيماً. إنها مقدمة على اجتياح الفضاء. فتعطي الإنسان بعداً جديداً، تفتح الكون المادي، وتؤثر بالتالي على كون الإنسان الروحي.
عندما نشأت العلوم الطبيعية، وفسرت الكون تفسيراً طبيعياً، ظنت أنها تناقض الكتاب. فلما اكتشفت مثلاً أن الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس، كما ورد في حادث يشوع بن نون، قالت بأن التوراة إذاً على خطأ. ومنذ قرن اكتشف مبدأ التطور (2)، فظنت الكنيسة الرسمية أن هذا الاكتشاف يهدد حقيقة ما جاء في الكتاب، بأن الإنسان خلق على صورة الله. ولكن هناك سوء تفاهم، والمعضلة خاطئة. إن الكنيسة الرسمية كانت أيضاً مخطئة في موقفها كانت تظن أن سلطانها مهدد بتقدم العلم، فكانت تمنع العلم (كما فعلت أيام غاليله). ذلك لأنها كانت تمتلك سلطة زمنية. في إحدى الولايات الأمريكية المتحدة كان ممنوعاً شرعاً تعليم مبدأ التطور فعلمه أحد الأساتذة عام 1926 فحكم عليه كمجرم! إن هذا لحماقة، لأنه يخلق للكنيسة أعداء دون موجب، وصعوبات هي بغنى عنها. في روسيا قامت الثورة السوفياتية ضد الكنيسة الرسمية كونها لا تقبل بالعلم وبالتقدم الاجتماعي. لا ننسَ أن الله قد يكون حيث لا ندري، وقد قالها لنا بنفسه: “متى رأيناك جائعاً أو عطشاناً أو غريباً… ولم نخدمك، الخ…” (متى 25: 42-45). فالكنيسة، في ذلك الحين، كانت قد تحالفت مع سلاطين هذا العالم، الذي يريد البقاء ويخشى فقدان ثروته وسلطانه ومجده وأفكاره المكتسبة غير المقلقة. كل شيء جديد يقلق السلاطين. ولكن حقيقة الله هي الحرية نفسها، وعندما لا تدرك الكنيسة ذلك فلا يمكنها أن تتقدم، فتعارض الكنيسة العلم، ويعارض العلم الكنيسة إلزاماً. أما المسيحيون فكثيراً ما يتصرفون التصرف عينه، خاصة في محيطنا الشرقي حيث العقلية البشرية لم تتكيف بعد كفاية مع الوضع الجديد الناتج عن تقدم العلوم المطرد. إننا لا نزال ننظر إلى التقليد كشيء لا يتغير، “كحق” بالنسبة لحقيقة الله. ولكن حقيقة الله المتجسد شيء، والتعبير عنه في وقت معين شيء آخر وهذا التعبير قابل للتحسين أيضاً (3) خاصة وأن العقلية البشرية تتطور الآن بلا انقطاع.
الزمن يدور بسرعة والنهاية تقترب. فالمسيحي غير المطلع على العلوم الخارجية والعلوم اللاهوتية، والذي يكتفي بإيمان تطبيقي، لا يتأمل حقيقته الإيمانية، عند أول مناقضة لإيمانه يحتار ويخاف، ويبدأ يغرق كبطرس، حيث لا مجال للغرق. هذه هي المشكلة. إن هناك عقلية غير عقليتنا تطرح الأمور خلاف ما نطرحها نحن، فيجب مجابهتها.
تطرح المشكلة بأكثر عنف في مواقف ثلاثة:
1- الموقف الأول هو رفض مبدئي لكل تدخل أو ظهور إلهي في تاريخ العالم، وهو بالتالي رفض الطابع الإلهي للتوراة رغم الإيمان بالله. هذه الفئة من الناس تعتقد بأن الله قد خلق العالم ثم تركه ولا يعود يتدخل فيه وأن العالم إنما يسير على منوال الساعة، فلا حاجة بالتالي للصلاة إلى الله ولانتظار أي شيء منه. أما التوراة فهي مجموعة مؤلفات استقيت من مصادر عديدة كغيرها من المجموعات التي ظهرت في الصين والهند وبلاد أخرى. والتوراة كتاب بشري حسن وغير حسن فيه أشياء صالحة كما فيه أشياء فظيعة.
2- الموقف الثاني هو موقف أناس قد يكونون مؤمنين إلا أنهم يتكلمون باسم العلم وعلى صعيد الحقائق القابلة للإثبات العلمي. هؤلاء يرفضون حقيقة بعض الوقائع الواردة في التوراة قائلين أن التوراة تخطئ في بعض الحالات: فالطوفان مثلاً عبارة عن أسطورة، وخروج إسرائيل من مصر لم يحدث فعلاً الخ… إنهم يعترفون بطابع التوراة الإلهي خلافاً للموقف الأول، ولكنهم يقولون: إذا أخطأت التوراة هنا فما من أحد يستطيع إقرار عدم خطأها هناك.
3- الموقف الثالث هو موقف من يعترفون بالكتاب وبما يرويه ولكنهم ينكرون التفسير المسيحي للكتاب. فصحيح مثلاً أن اليهود خرجوا من مصر ولكن لماذا نفسر عبورهم البحر الأحمر بمساعدة الله لهم؟ فموسى كان رجلاً حكيماً وعالماً في زمنه، عالماً بالمد والجزر فغادر مصر في أيام الفصح والقمر بدر وعبر البحر الأحمر في أضيق مكان وقت الجزر، ثم أتى المصريون مع المد فغطتهم المياه. وكذلك قصة جبل سيناء ولوحي العهد. فقد صعد موسى حقيقة إلى الجبل وحدث فعلاً ما ترويه التوراة. ولكن هذا كان نوعاً من زوبعة أو بركان فخدع موسى الشعب إذ كان أفهم منهم.
وهكذا يمكن تلخيص الاعتراضات المختلفة على الكتاب بأن جميع المعترضين يسيرون بإظهار متناقضات الكتاب، تلك المتناقضات التي كشفتها العلوم الفلكية والجيولوجية والبيولوجية وغيرها (مثلاً قصة دوران الشمس حول الأرض، وقصة خلق العالم في ستة أيام، وقضية قدم الكون الذي يبلغ في الحقيقة مليارين وستماية مليون سنة، وكيف خلق النور أولاً ثم الشمس مصدر النور، وكيف خلق الله الإنسان ونفخ الحياة في أنفه بينما وجدت أولاً خلية أعطت بالتطور سائر الكائنات الحية ومنها الإنسان، وكيف الأرنب ليس من الحيوانات المجترة خلافاً لما يورده الكتاب الخ…)، ثم المتناقضات الأخلاقية (كيف لجأ ابراهيم أبو الآباء إلى الكذب جاعلاً امرأته أخته أمام المصريين للإبقاء عليها، وكيف سلب يعقوب حق البكورية من عيسو احتيالاً، والعبارات المنافية للأخلاق الخ..)، ثم المعجزات والعجائب التي يجمعون على إنكارها. فكيف نجاوب عن كل هذا؟ من البديهي أنه لا يمكننا إقناع الطرف الآخر كلياً عن طريق حججنا إذ ليس من وصفة عجائبية في هذا المضمار. بل ينبغي محبة الطرف الآخر والصلاة من أجله وعدم إدانته إذ قد يكون سائراً في الطريق نحو الإيمان وقد يكون أحسن منا.
الفصل الثالث: كيف نجيب المشككين؟
كيف نجيب، أو بالحري ماذا ينبغي أن نعلمه نحن أولاً لنجيب الآخرين؟
1- فيما يتعلق بحقيقة تدخل الله، أي بوجود الإله الحي فهذا سر الإيمان، وبدون الإيمان الكتاب المقدس كتاب عادي كغيره من الكتب. فعلينا هنا، بالتالي، أن نحاول الشهادة لوجود الله حسب إمكانية فهم الآخر. فإذا كان الله موجوداً فعلاً، فلا يمكنه التخلي عن خليقته، وإلا فإنه ينكر ذاته.
2- فيما يتعلق بحقيقة الوقائع الواردة في الكتاب، من المعروف أن الاكتشافات الأثرية الجارية منذ حوالي أربعين سنة، خاصة في مصر وفلسطين وما بين النهرين، تثبت رواية الكتاب المقدس. فالعالم الأثري ووللي قد اكتشف مدينة أور الكلدانية، ومكان برج بابل، وبحراً من الوحل من آثار الطوفان الخ… مستنداً في إجراء حفرياته إلى نصوص الكتاب المقدس، ومستدلاً منها على هذه الأمكنة. اتبع الطريق الذي سار عليه اليهود من مصر إلى فلسطين، حسبما ترويه التوراة، واكتشف آثارهم. فما تذكره التوراة مثلاً، في سفر الملوك الأول (5: 6 و6: 5 و11 و18) عن تكاثر الفيران على بني أشدود وصنعهم فيراناً من ذهب لتابوت الرب درءاً للبلاء، قد ثبت بوجود هذه الفيران الذهبية في مكان وزمان يطابقان قول الكتاب. وكذلك الرجال السابرون غور البحر الميت قد اكتشفوا وجود انخفاض جيولوجي حادث منذ أربعة آلاف سنة في أيام ابراهيم (كما جرى منذ بضع سنين في بلاد الشيلي). إذاً، حقيقة حوادث الكتاب لا يناقضها العلم بل يثبتها يوماً بعد أكثر فأكثر.
3- فيما يتعلق بتفسير الوقائع تفسيراً مسيحياً، لا شك أنه ينبغي أن يؤخذ الكتاب ككل، فإذا نزعنا عنه معناه الأساسي الذي هو الحوار بين الله والإنسان، وفسرناه تفسيراً بشرياً بحتاً نكون قد بترناه وابتعدنا عن حقيقته الكلية. وإنه لأبسط أن نقبل بإعلان الله ذاته في جبل سينا بغية التأثير على الشعب الإسرائيلي المتمرد والقاسي الرقبة من القول بأن تابوت العهد كان عبارة عن خزان كهربائي استخدمه موسى لمنع الشعب من الاقتراب!
هذا وإن العلم لا يستطيع مناقضة الكتاب، لأن حقيقة الكتاب تجري على صعيد آخر غير صعيد الحقيقة العلمية (4). ينبغي الإشارة هنا إلى خطأ بعض المسيحيين الذين لا يريدون مقابلة الكتاب بالعلم. إن العلم إنما هو للكون المنظور وما هو قابل للإثبات، أما الكتاب فهو للحقيقة الروحية، لسر الخلاص حيث لا دخل للعلم. لو كان العلم يستطيع إثبات وجود الله، فما كان الله الله، بل كان موضوع إثبات أي شيئاً أقل وأدنى منا، في حين أن الله هو الذي يسيطر علينا ويفوقنا ولا “يقبض” عليه.
ثم لا ننسَ أن الكتاب هو كلام الله خلال تاريخ البشرية بكامله، وهو يتكيف مع الإنسان في وضعه الظرفي حسب مراحله. كلام الله يتناول الإنسان من أدنى حالات السقوط ليرفعه إلى الخلاص. ولذلك لم يكن للكذب في الأيام القديمة مفهوم الكذب اليوم مثلاً. والناس في الكتاب يتكلمون لغة زمانهم، فغروب الشمس وشروق الشمس طريقة في التعبير، وليس إقراراً علمياً فلكياً! إن الكتاب يستخدم لغة الزمان والمكان، وهذا شكل الإعلان الإلهي لا فحواه. لذا نجد فرقاً ملحوظاً بين سفر القضاة وسفر أشعياء مثلاً، أو بين إيليا ويوحنا المعمدان، فيوحنا يدع أخصامه يقتلونه بدلاً من أن يقتلهم.
ثم إن الكتاب يتكلم بلغة رمزية في كثير من الأحيان، برموز تتجاوز المعنى المباشر فيجب بذل جهد لفهمها. قصة الخلق مثلاً: إنها رواية صحيحة، ولكن يجب أن لا تُفهم فهماً حرفياً ومادياً. عندما يقول الكتاب إن الله يتكلم، هذا لا يعني أن له فماً، وكذلك عبارة “القديم الأيام” لا تعني أن له لحية بيضاء (5)… ينبغي الارتفاع إلى المعنى الرمزي لأن الأشياء الروحية لا تُصوّر مادياً، والإنسان الحديث خاصة، يعسر عليه تصورها لأنه يدرك الأمور مادياً فقط. ومع ذلك فإن العلم الآن قد تبين استحالة تصوير الإلكترون. كانوا يظنون الإلكترون شيئاً كروياً صغيراً، ولكنه لم يعد قابلاً للتصوير الآن : إذاً يجب تجاوز الإدراك المادي للكتاب، والارتقاء إلى المعنى الرمزي. يجب أن نتجاوز أنفسنا في قراءة الكتاب (6).
(1) راجع: सोला स्क्रिप्टुरा - विशेष रूप से बाइबिल सिद्धांत - एक धार्मिक चर्चा… (الشبكة)
(2) راجع: نظرية التطور- داروين… (الشبكة)
(3) إن مجمعاً مسكونياً اجتمع ووضع قسماً من دستور الإيمان، وبعد تسعين سنة [الصحيح بعد ستين سنة…. (الشبكة)] انعقد مجمع آخر وزاد على الدستور… فحتى العقيدة إذاً تغتني ولا يعد هذا تغييراً [المجمع لم يأتِ بجديد، بل أعلن العقيدة وحول هذه النقطة راجع: अध्याय पाँच: प्राचीन चर्च में परंपरा का मिशन औरالفصل السادس: سلطان المجامع وتقليد الآباء من كتاب “الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد للأب جورج فلورفسكي”… (الشبكة)].
(4) راجع: रूढ़िवादी धर्मशास्त्र और विज्ञान للميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس… (الشبكة)
(5) مع الأسف، قد دخل على رسم الأيقونة البيزنطية بعض التأثيرات الغربية وراحت ترسم أيقونة للثالوث القدوس بحيث يظهر في الآب رجلاً ملتحياً لحيةً بيضاء. وهذه الأيقونة هي بدعة بكلّ المقاييس لأن الآب لم يراه أحداً قط. هذا وقد أعلن مجمع موسكو 1666 ومجمع القسطنطينية 1780 بحق هذا الرسم، التالي: “نُعلن مجمعياً أنّ ما يُدعى بأيقونة الثالوث القدوس، وهي بدعة جديدة، وهي غريبة وغير مقبولة للكنيسة الأرثوذكسية الرسولية الجامعة”. يجدر الإشارة هنا إلى أن أيقونة الثالوث هذه هي غير أيقونة ضيافة إبراهيم…. (الشبكة)
(6) لم نرَ مجالاً للاسترسال كثيراً في هذا الباب إذ أن هدفنا الأول هو الدخول إلى روحانية الكتاب.