ثمة خطأ سائد عند الناس يجعل الله خالقا مبدأي الخير والشر. وكأن الله خلق الانسان ووضعه امام خيارين: إما أن يختار الخير وله الثواب، او أن يختار الشر وله العقاب. إنْ هذا الا تبسيط لحقيقة ساطعة، هي أن الله خلق الانسان صالحا على صورته. ولكن الانسان، جَحوداً، يختار الابتعاد عن الصلاح فيعمل الشر، الذي ليس سوى انعدام الخير. فالخير وحده ذو جوهر بالحقيقة، وعدمه هو الشر، اي أن الشر لا جوهر له.
يتّفق على هذا القول جلّ الآباء. فيقول القديس يوحنا الدمشقي (+750) في كتابه الثمين “المائة مقالة في الإيمان الارثوذكسي”، بعد أن يؤكد أن الله خلق كل شيء حسنا جداً: “إن الشر إنْ هو الا فقدان الخير وبعاد عمّا هو بمقتضى الطبيعة الى ما هو ضدّ الطبيعة”. معنى هذا أن الله خلق الانسان بطبيعة صالحة تعمل الخير، واذا صنع الانسان الشر، فهذا يكون ضدّ الطبيعة الحقيقية للانسان. الشرير، اذا، هو انسان شاذّ غير طبيعي، لانه يسلك بخلاف طبيعته. ويتابع القديس الدمشقي مستنتجا: “فليس الشر جوهرا، إنْ هو الا عرضٌ اي تحويل طوعي مما هو بمقتضى الطبيعة الى ما هو ضد الطبيعة. وهذا ما نسمّيه الخطيئة”. فاعل الكبيرة او الخطيئة يقمع طبيعته الأصليّة التي خلقها الله وجعلها فيه، فيختار العمل بعكس ما هي مجبولة عليه، لذلك يكون عمله ضدّ الطبيعة وضدّ الله الذي خلقها.
ويعرض الدمشقي في مكان آخر موضوع الفضيلة التي زرعها الله في الانسان الذي بحريته اختار الانحراف عنها. فيقول: “إن الفضيلة زُرعت في طبيعتنا من قِبل الله الذي هو نفسه بدء كل صلاح وعلّته، وبدون مساعدته ونجدته لا يمكننا أن نريد الصلاح او أن نعمله. وأن في استطاعتنا اما أن نستمر في الفضيلة وأن نتبع الله الذي يدعونا اليها، وإما أن ننحرف عن الفضيلة -وهذا يعني أن نصير في الرذيلة- ونتبع الشيطان الذي يدعونا اليها بدون اغتصاب”. اذاً، الشر والرذيلة ليسا سوى انحراف ضدّ الطبيعة التي خلقنا الله عليها. ويتابع قائلا: “وما الرذيلة الا الابتعاد عن الخير، كما أن الظلام هو زوال النور”. اما العودة الى طبيعتنا فتتم بالتوبة الى الله، اي انها “عودة عمّا هو ضد طبيعتنا الى ما هو بحسب طبيعتنا”.
ثم يطرح الدمشقي سؤالا أساسيا: “ما السبب في خلق الله مَن يعرفهم سيخطأون ولا يتوبون؟”، وهو نفسه يجيب بالتأكيد أن الله يعرف مصير كل انسان وكل خليقة من حين إخراجها من العدم الى الوجود، الا انه يريد من الانسان أن يقضي على الشر، وذلك لانه “اذا كان الذين سيوجدون بسبب صلاحه تعالى يمنعهم عن الوجود أنهم سيصيرون اشرارا برضاهم، فيكون الشر قد غلب صلاح الله”. المعركة الحقيقية هي تلك التي تقوم بين الانسان ذي الإرادة الحرّة وبين الشهوات التي تقوده الى الشر. الانسان هو المدعو الى القضاء على كل ما يجره الى الابتعاد عن الصلاح. الله يحترم حرية الانسان، وهو يريد أن يختار الانسان البقاء معه بهذه الحرية، لذلك لا يتدخل في منع وجود الأشرار.
إن الله لا يريد الشر لكنه يسمح به، احتراما منه لحرية الانسان. فيقول القديس الدمشقي: “إن الأمور التي هي في استطاعتنا، بعضها صالح ويشاؤه الله عن تصميم ورضى، وبعضها طالح وشرّ في الحقيقة ولا يشاؤه الله لا سابقا ولا لاحقا، انما يتركه لحريتنا”. ولا يجوز نسبة مسؤولية أعمال الانسان الى قوة خارجة عن إرادته، فالانسان ليس آلة مبرمجة مسبقا، وغير صحيح أن لا حَوْلَ له ولا قوة على مجابهة الخيارات التي تنشأ أمامه. ويؤكد القديس نفسه “انه لا يجوز تسجيل الأعمال القبيحة والظالمة على الله، ولا على القضاء، ولا على القدر، ولا على الطبيعة، ولا على الحظّ، ولا على الفطرة”، ويختم هذه الفكرة بقوله: “وعليه بقي أن الانسان، اذا عمل او صنع، فهو مبدأ أعماله الخاصة، وهو حر”. اذاً، كل انسان مسؤول عن أعماله، أكانت صالحة ام شريرة.
ايّ دور للشيطان في هذا؟ يقول القديس الدمشقي إن الشيطان هو ابو الشر وهو الذي أوجد الخطيئة. كيف تّم ذلك؟ يجيب قديسنا: “هو، كما خلقه الله، لم يكن شريرا بل صالحا، لأن الخالق قد صنعه ملاكا منيرا بهيا وحرا. وقد ابتعد هو برضاه عن الفضيلة التي هي بمقتضى الطبيعة، وصار في ظلمة الشر، مبتعدا عن الله الصالح وحده والمحيي والمُطْلِعِ النور”. يبقى أن الانسان الذي ينقاد الى مغريات الشيطان هو وحده المسؤول عن الخطيئة التي يرتكب، وهو وحده سيدفع ثمنها. ويصح هنا القول بأن “ولا تَزِرْ وازرةٌ وِزْرَ أُخرى”.
يعتبر القديس مكسيمُس المعترف (+662) أن الانسان ليس مكرها على الاتحاد بالله، فهو حرّ وحريته “التي هي صورة الله فيه” تعطيه الإمكانية بأن يرفض الله ويذهب تاليا الى الجحيم، او أن يتحد بالله ويحيا الى حياة أبدية. فطالما دامت لنا الحياة الدنيا طالما كان لنا الخيار بأن نكون مع الله او ضده. واذا شئنا في الختام أن نميز بين البشر، نستطيع القول إن الانسان “الطبيعي” هو الذي يتوق الى الله، اما الانسان “غير الطبيعي” فهو الذي يتوق الى الشر ويعمله.
Sobre o meu boletim paroquial
الأحد 2 آب 1998