Facebook
Twitter
Telegrama
Whatsapp
PDF
E-mail
☦︎
☦︎

 يبدو اللباس في عالم الضعف والخطيئة خدمة ونعمة للإنسان، فهو غطاء الجسد، وستره، في القر والحر. وبالتالي، فكرامة الأجساد هي مع اللباس، لا مع العرّي. التعرّي لا يكشف إلا قبح الأجساد وعورته، أما الجمال والمهابة، الإطلالة الحسنة والوقار، فكلها تعاش في اللباس، لا بدونه.

والحقيقة أن الشعوب منذ أن كانت، اتجهت نحو اللباس. ولم نعرف شعباً عاش العري وكانت له اتصالات بشعوب العالم قاطبة. في الشارع والمدرسة، في العمل وفي الدكان، على البحر، وفي أعالي الجبال، قرر الإنسان أن تكون حياته باللباس، لا بدون اللباس. من هنا فإن القول: “الحشمة حكمة”، يصبح قناعة لا يمكن الإقلاع عنه وإغفالها لنهضة الشعوب ورقي الإنسان.

اللباس ضرورة، فهو يزيد الإنسان مهابة، وأهل الرصانة، رصانة، والتعقّل، تعقّلاً ورزانة، والتقوى، براً وخشوعاً وإجلالاً. أما العابثون بقدسية اللباس، ووقار الحشمة، فيستهلكون ويُستهلكون بآن. في الحقيقة أن المرأة غير المحتشمة لا تعطي إلا جسده، تستعرضه وتقدمه للعيون كي تلتهمه وتفترسه. المرأة المعاصرة (10) تحضّ الناس على التهامها لا أكثر.

واللباس يجمّل الأجساد ويستر قبحها وعورتها. وأول إطلالة لنا على الإنسان في الكتاب المقدس، كانت في تستّر بعد السقوط، فالسقوط فتح عيني الإنسان الأول، فتبين له عريه (تكوين 3: 7). ما معنى هذه الكلمات؟

إنها تعني ببساطة، أن العري كان قبل السقوط، قبل تمرد الإنسان الأول على الحب الإلهي. إلا أنه –أي العري- لم يكن مؤذي، وذلك لأن البرارة الأولى كانت تحول دون انسلال مفاسد العري إلى خبايا النفس، فالإنسان لم يكن قد تفكك روحياً بعد.

العري في الأساس هو حقيقة الإنسان منذ أن كان، هو حقيقته عندما يولد، وحقيقته عندما يموت (11). العري هو صورة الكائن البشري الذي لا يملك شيئاً إلا التراب الذي يتألف منه. وبالتالي فاللباس لاحق للسقوط، إنه طارئ على الوجود، وعارض على حياة الإنسان. اللباس شيء مكتسب، أما العري فهو فطري، لأنه حقيقتنا. لكن التعايش معه يستحيل بعد السقوط لا بل إن تبني العري والتعري، يستتبع مشاكل أخلاقية فادحة في هذا الزمان وفي كل الأزمان.

وعليه، فالتستّر هو نتيجة لموت الإنسان روحي، وثمرة لتفككه الداخلي، ذلك لأن العري صار عيباً بعد الموت الروحي، وبعد إبرام القطيعة مع الله من طرف واحد (الإنسان). وهذا ما حاول الكتاب المقدس أن يعبر عنه ببساطة من خلال الكلام عن : “أوراق التين”. ورغم “أوراق التين”، فإن النعمة الإلهية تبقى غطاء الإنسان الحقيقي على ما نقوله في صلوات كنيستنا: “الآب رجائي، والابن ملجأي، والروح القدس ستري ووقائي …”

اللباس في هذه الدنيا الفانية، لا يبدد العري، ولا يلغيه، بل من شأنه فقط أن يستر العورة، وذلك لأن العري الكياني لا يداوى باللباس. واللباس، لم يكن يوماً علامة الفضيلة والنضوج، غير أنه يسدي لنا خدمة مزدوجة: فهو من جهة يدرأ عنا هجمة القر والحر، ومن جهة ثانية يعيننا على اكتساب الطهر والنقاوة إن كنا نطمع بها.

اللباس ضرورة ليس فقط لدرء القر والحر، بل أيضاً لاعتبارات ذات صلة بمعطوبية الإنسان في هذا الوجود. اللباس، من الوجهة المسيحية، ليس أثواباً تزينن، إنما هو أن نرتجي المسيح كي يأتي إلينا ويكون لنا اللباس والمجد والبهاء: “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم …” (كولوسي 3: 10)، (أفسس 4: 24)، (غلاطية 3: 25-27).

في عالم الضعف والخطيئة، يخشى الإنسان التعري، ويخجل كل الخجل إذا أرغم على خلع ثيابه. في الحقيقة ليس من إنسان على الأرض يشعر بالراحة إذا جُرّد من ثيابه عنوة وعن ضرورة. فالتعري يحرج الإنسان ويهزه حتى ولو أمام الطبيب. وبالتالي فإن رغبة المريض بالشفاء، لا تعفيه من اختبار الخجل. وما نقدم عليه في العادة، في حضرة الطبيب، لا يكون عن اختبار الخجل، بل عن إجبار واضطرار، لأن هذا يخدم عندنا هدفاً واحداً هو رغبتنا بالشفاء.

ورغم هذا الإحراج الذي تعرفه الطبيعة البشرية، يقول الرسول الإلهي: “لا شيء يفصلنا عن محبة السيد، لا جوع ولا سيف ولا عري ….” (رومية 8: 35). الرسول بولس يعرف أحاسيس الإنسان، وأحوال الإنسان وتقلباته، إلا أنه في رسالته هذه لا يبدو وكأنه يعاكس هذه الأحاسيس، إنما في الحقيقة يتجاوزه، إلى حد أنه مستعد لكل شيء من أجل المسيح.

بيد أن اللباس الذي هو عنصر جوهري لحياتنا في العالم، تحوّل على أيدي التجار، وكل العاملين في قطاع الموضة، إلى مجرد أداة لإطلاق غرائز الجسد، إن التستر بات عنصراً ثانوياً. صار اللباس، ومن خلال الموضة بالذات، جزءاً لا يتجزأ من برنامج الشهوة الجسدية المعاصر، الأمر الذي يعني أن الغواية والإغراء في اللباس ومع اللباس، وأن لا إغراء مع التعري. بكلام آخر، لا إغراء في غياب اللباس. الإغراء يحتاج إلى لباس كي يستشري ويستفحل ويستبد … بالطبع لا يعني أن نطلب التعري لصد الإغراء واحتوائه، فالتعري خلل في العقل، وخروج على معطيات الإنسان. إنه تنكر صارخ لنداء الصوت الداخلي فينا.

الإغراء يحتاج إلى لباس من نوع معين كي يستعبد الإنسان، ويستبد به، ويفتك بسلامته وتوازنه. ولكن مهما تبدلت الموضة من جيل إلى جيل، مهما تعدّلت، مهما تغيّرت أشكال اللباس والأزياء، مهما قصّرن وأطلن، سيبقى الإغراء ضعيفاً بدون اللباس. سيبقى الكلام عن الإغراء، كلاماً في الهواء لا جدوى منه، إلا إذا جمّلنا الجسد، ولوّنا لباسه، وزركشناه ونمّقناه بالطويل والمشقوق والمخطط من الثياب. والسؤال الآن: ماذا تفعل الموضة، وكيف تؤثر على العين و الجسد؟ كيف نفهم الآلية والجدلية بين الموضة والغرائز؟

تقوم الموضة في الأزياء والملبوسات على قاعدة التكرار والاجترار. وهذا يعني أن الموضة إيقاعية، لا بل موسيقية، ستبقى حتى انتهاء العالم. الموضة تخضع لحركة دائرية لا علاقة لها بالإبداع؟

ولما كانت الموضة تفترض التكرار والاجترار، وذلك لكونها بالتعديل والتبديل والتغيير، تتجدد، وتحلو في عيون الناس، تالياً هي ليست خلق وإبداع و تجديداً. الموضة تغيير لا أكثر. إنها كسر الرتابة خشية الوقوع في الضجر. إنها مجرد اقتحام للرتابة سعياً للخروج من دائرة السأم والضجر والفراغ التي يعاني منها الإنسان المعاصر.

ولما كانت الموضة تقوم على هذه الإيقاعية الدائرية، و هذه الإيقاعية التي تتعاقب ولو بعد حين، فهي دائماً مجرد تكرار رغم أنها بنظر البعض خلق وإبداع. يكفي أن ما تلبسه الأنثى اليوم، لتقلع عنه مع قدوم الموسم القادم، وبعد حين، حتى تترسخ هذه الدائرية، وهذا الاجترار(12).

لا جديد في الموضة، ولا جديد في الأزياء، فدائرية الموضة وإيقاعيتها لا تتوقف. ومصممو الموضة والأزياء يدورون في دوامة لن يخرجوا منها يوماً إلا بالوهم والخيال. وما يجعل الموضة جذابة، هو أنها تدغدغ الحواس وتحرك الغرائز والأهواء. الموضة تجمّل محبيها وتوهمهم وتوهمن أنها تجعلهم الأكثر جمالاً وجاذبية في العالم. الموضة تغيّر الإنسان أمام العين لا أمام العقل.

ومصممو الأزياء النسائية هم في العادة من الرجال، وبالتالي لا غرو أن يوظفوا جسد المرأة ويستغلوه، أولاً كي يثاروا هم أنفسهم، وثاني، كي يثيروا الرجال. من هنا قوة الابتكار (الموضة) وتأثيره على العيون. فالذي يعرف كيف يثار، من البديهي أنه يعرف كيف يثير. وهكذا نأتي ببساطة إلى مقولة مفادها أن المرأة لا تلبس من أجل المرأة، بل من أجل الرجل.

والأزيائيون، والعاملون في قطاع الأزياء، الساهرون على تطوير أزياء المرأة، يعرفون كيف ينظرون كرجال، وكيف يشتهون كرجال، وماذا يريدون من عيونهم كرجال. تالي، فإن أزياء المرأة تتخذ من شهوات الرجال مقياساً له، ومن عيونهم انطلاقة لها. وما إبداع المصممين على هذا الصعيد، إلا ثمرة من ثمار عيون الرجال التي تأبى الرتابة وتطلب التغيير. وعليه، فالموضة هي ثمرة الشهوة من جهة، ورغبة جامحة لكسر رتابة الحياة، كما يقول البعض، من جهة ثانية.

ثم أن مصممي أزياء المرأة لا يستشيرون المرأة في ما يفعلون، إنما يوظفون، إذا شئتم، كل جسدها لمآربهم، بحيث تكون هي الضحية، ويكونون هم، المستفيدين. ومن خلال هكذا توظيف، تنكشف لنا عبوديتان: الأولى عبودية الرجل للمرأة من خلال حاجته إلى جسدها لإطلاق ابتكاره. ومن خلال هذه الحاجة، تنكشف معالم شهوة الرجل ومكامنه، ونظرته إلى المرأة، لا بل جسدها بالذات. ومن جهة ثانية تنكشف لنا عبودية المرأة، وحاجتها النفسية للأضواء المسلَّطة عليها من قبل الرجال.

ويعتقد الكثيرون في العالم، أن الرجل يهيمن على المرأة حق، ويسودها ويتسلط عليها إلى حد الابتزاز والاستعباد والاستهلاك. في الحقيقة تنكشف لنا هاتان العبوديتان المذكورتان عندما نتأمل أزياء المرأة ومواضيع التركيز عليه، وكيفية التعامل مع هذا وذاك من أشكال الموضة. ونحن من خلال المصممين الذكور، نفهم وندرك كيف يكون التعامل مع المرأة، وكيف ينظر إليها.

بيد أن المضحك المبكي أن المرأة تسر لا سيما في عصر الإعلام، بالطابع الاستهلاكي الذي يسلطه الرجل عليها طمعاً في تشييئها واستهلاكها. وسرورها يفهم على أن استهلاكها من قبل الرجل، هو فرصة سانحة تغتنمها المرأة اللعوب للانقضاض على الرجل بالإغراء والغواية. بكلام آخر، يفسر سرور المرأة التي رضيت أن تُستهلك، على أنها لا ترى نصرتها على الرجل، إلا من خلال إطلاق مفاتنها بفعل إضرام نيرات غرائز الرجل. وإذا ثبت هذا التحليل، يصبح التعاطي بين الإنسان والإنسان عموم، وبين الرجل والمرأة خصوصاً شأناً لا يخلو من المخاطر.

ويتقلب مصممو أزياء المرأة بين أقسام جسده، فتارة يركزون على القسم العلوي من جسده، وتارة على القسم السفلي منه. تارة يكون جسدها لباساً ضيق، وطوراً لباساً فضفاضاً. تارة يكثرون من الألوان على أزياء المرأة، وتارة يكتفون بلون ولونين، وذلك وفقاً لما يسمح بمزيد من الأرباح، وبمزيد من الاستهلاك عند الناس. ويبقى سعي الأزيائيين ذا هدفين: الأول الإثارة، والثاني الربح. وفي الغالب نعجز عن القول أيهما الأول وأيهما الثاني.

بيد أن الأمور لا تقف عند هذا الحد، فتصميم الأزياء لا يتحرك في مدى الطويل والقصير فقط، بل يحتكم إلى مفاتن المرأة وإلى الإثارة والتشويق التي تلهب الغرائز فتجعل جسد المرأة ذا إطلالات مختلفة تخدم أرباح التجار من جهة، وأحاسيس المرأة والرجل من جهة ثانية. من هنا فإن أزياء المرأة كما أسلفنا هي انعكاسات صادقة لعيون الرجال ورغبات الرجال من جهة، وصورة حية عما يجيش في أعماق المرأة من أحاسيس هي صورة صادقة عن أفكارها من جهة ثانية.

والموضة كالطبيعة تموت وتعيش، إنها موسمية أبد، وإيقاعية أبداً. لا بل يظن الذين يتعاطون أن الإقلاع عن القديم منه، وتبني الجديد، يؤول إلى جعل الشخصية أكثر إشراقاً ولمعاناً وبهاء وحداثة. فضلاً عن ذلك، فإن النسوة والفتيات المتعلقات بالموضة، والمتعبدات لكل ما يمت بصلة للأزياء، يرين في الأزياء المختلفة، وفي الإقبال عليه، مواكبة لكل ركب حضاري. لذا فهن يرين النهضة في قماش يُلبس، وفي حذاء ينتعل، وفي ذهب يغطي الرقبة ويتدلى من الأذن، والحداثة، على معرفة ما هي الماركات الأجنبية للثياب، والتباهي في أيها الأكثر ثمن، فالجودة ترتبط بالأغلى، الأجنبي، لا بالأرخص، الوطني (13)

والحقيقة أن المتعلقات بالموضة إلى حد العبودية والعبادة بآن، لا يمكن الفصل عندهن بين الموضة والغرائز والشهوات، بين الأزياء والإغراء، فالاثنان صنوان لا يفترقان، ورديفان لا ينفصلان. فالمرأة تعشق اللباس الملفت للنظر، وذلك لكونه يسد في أعماقها فراغاً كبير، ويروي ظم، ويلبي حاجة، وقلة من النساء تعترف بوطأة المظهر على حياتهن.

بعد هذ، أيعقل وكلامنا على الموضة، أن يكون هناك موضة واحدة لكل النساء، ولكل الفتيات؟ كيف يكون الضيق لوناً يناسب النحيفات، والطويل، القصيرات، والقصير، الطويلات؟ ألا تعني هكذا تساؤلات أن ليس ثمة موضة واحدة لجميع النساء، وتالياً ليست الموضة معياراً لكل أشكال النساء وأذواق النساء؟ هناك موضة للقصيرات، وأخرى للطويلات، موضة للنحيفات، وموضة أخرى للسمينات، وهكذا دواليك.

إذاً الموضة ليست واحدة، بل هي بعدد عشاق الملبوسات والأزياء. والسؤال الآن هو هكذا: لمن تلبس المرأة؟ هل تلبس لنفسه، أم لسواها؟

ما من شك ورغم أن السؤال سبق طرحه أن ليس من إنسان في الوجود يلبس كي لا يرضي نفسه. وكذلك ما من شك أيضاً أن لهكذا لباس انعكاساً على الآخرين، لا بل من الآخرين يستمد صاحبه السرور والرضى والانشراح. هذا الكلام ينسحب على جميع الناس دونما استثناء، فالمرأة تلبس لنفسه، دون شك، لكنها تلبس لسواها أيضاً. ولباسها يجب أن يتناسب وذوقه، كما وينبغي أن يحاكي عيون من ينظرون إليها.

لكم من شأن الموضة، أن تجعل المرأة والفتاة في صراع وارتباك وحيرة. تأملوا اشبينة نخر علقها حب الضيق من اللباس، فأمضت فترة العرس لا تقوى على الجلوس لئلا ينفجر لباسها. بينما راح الحاضرون يقومون ويقعدون براحة وحرية. وتأملوا أيضاً فتاة شابة حسنة المظهر، هيفاء القامة، مشرقة الطلّة، ممشوقة القد، لبست ثوباً قصيراً ضيقاً ومشقوقاً ودخلت غرفة تعج بالناس. هذه الفتاة تراها منشغلة بشد ثيابها على الدوام، فهي ترغب أن تلفت النظر، لكن الصراع في داخلها يتأكل كل حين. ومع ذلك فهي مصرّة على اللباس الضيق والقصير أسوة بما تفعله بنات جنسها في هذا الزمان.

ثم أن الإعلاميين، وهذا شأنهم في رأي، جادّون ومصرّون على توظيف الحاجات النفسية والجنسية لا سيما عند الشعوب الكثيرة المعاناة. وهذه الحاجات المذكورة يعوّل عليها لإطلاق هذ وذاك من الأزياء والملبوسات.

الإعلاميون والتجار هم أناس دهاة يعرفون مكامن الضعف عند الشعوب التي تعاني الكبت على أنواعه، لا سيما الجنس، في ظل تشدّد وتحفّظ وضغط وتزمّت. فهذه مجموعة من الناس، وفي الشأن التربوي بالذات، ترده ولا تطلق، تكبت ولا تتعهد، تبدي جدية، إلا أنها تنزع إلى التراخي. بهذا المعنى فإن التجار والإعلاميين مع، يجاريهم مهندسو الأزياء أيض، هم عبيد لا بل أسرى ثنائية متناقضة يحتكمونها ويحتاجونها لا بل تتحكم بتطلعاتهم وأفكارهم. فتارة يحثون الناس على التمسك بمعطيات البلد وقيمه وأعرافه من خلال استعراض الموضة الشتوية، وتلك التي تعتمد الطويل من اللباس، وتارة يلهبونه (أي الجسد) باللباس القصير الذي يسترخص لحمان البشر، ويضرم الشهوات ويدعو النفس إلى التحرق بما ينتج عنه من آفات. لهذا كان التجار والإعلاميون بارعين وصامتين، دأبهم الابتكار طمعاً في الربح الوفير. ولا ضير لو أنهم اعتمدوا كل الوسائل للوصول على مرامهم.

المرأة اليوم ومع الأسف، شديدة الولع بما بقدم لها من موضة تصنع وتحاك من أجل تجميل جسدها بغية توظيفه واستغلاله وتشييئه. وقبول المرأة الاستسلامي لكل ما يقدم لها من لباس، يعزى في نظري إلى إحساسها العميق، وبفعل تربية مريضة تتلقاها من بيئتها عامة، ومن الأم خاصة، بالقهر والدونية، وبرغبتها الجامحة في تجاوز وضعها. الأمر الذي يعني بالتحليل الأخير، أن المرأة تعاني طغيان الرجال الذي يفرضون أنفسهم على غير صعيد. أذاً مشكلة المرأة الأساسية تبدأ من إحساسها أنها دون الرجل، وأن الإغراء الذي تعتمده من خلال الألبسة الموسمية المختلفة، يعينها على تجاوز هذا القهر والإحباط، وهذه الدونية. وهذا يعني أن قراءة عميقة لظاهرة الموضة والأزياء تأخذ في الحسبان أموراً عدة: العوامل النفسية، التربوية، البيئية، الاقتصادية وغيرها عند الرجل والمرأة بآن. المسألة ليست بهذه البساطة حتى يظن السطحيون أن الموضة وجه حضاري لا غنى عنه لامتطاء قطار الحداثة، ومواكبة ركب الحضارة. فثمة لعبة ذات قواعد بالغة التعقيد يمارسها الرجل والمرأة، عناصرها الاستهلاك والإغراء والتشييء، وميدانها الجسد وإطلالته. والمرأة تقبل بالموضة كي تبادل الرجل القهر بالقهر، والتفوق الذكوري، بالإغراء الأنثوي. لقد ساد الرجل المرأة عبر العصور، وها هي الآن، وبعد أن شرّعت لها أبواب الحرية الجنسية، تحاول أن تسترد الاعتبار. وفي نظري لا نصرة في هذه اللعبة لأحد على الآخر. و العصر الحديث لا يعمل على نصرة أحد على الآخر، ولا على الانسجام بين الواحد والآخر. فالغاية كما يستدل من متابعة كافة الوجوه للعلاقة بين الرجل والمرأة تحت شعار: “الحب المعاصر”. والحب المعروض، عبر وسائل الإعلام، والمروّج له من خلال الشاشتين الصغيرة والكبيرة، هو وجه حضاري يتهم بالرجعية

كل من يقصر فيه ولا يعرفه. لا بل أن الحرية الجنسية ذاتها تأتي مندمجة في العمق مع مفهوم الحب، بحيث يبدو من الصعب، لا بل من المستحيل فصل الواحد عن الآخر (14). من هنا فالفتاة التي لا تماشي الموضة هي متخلفة، وربما يفرض عليها ثمن ما بنتيجة ذلك يأتي ليصنفها بالمتخلفة والرجعية فلا تستحق أن تدخل القفص الذهبي. وهذا يعني أن عدداً من الفتيات الرافضات للموضة، وأسباب الرفض كثيرة، قد يأتين إلى العنوسة*مكرهات بالطبع.

في قناعتي أن الفرفشة التي تقبل بها الفتاة، قد تعينها على الزواج، ولكن قد لا تكون هذه الفرفشة هذه المغناجية جسر هذه الفتاة إلى الزواج أيضاً. ومع هذا فأمهات هذا الزمان يدفعن بناتهن إلى اللباس الخلاعي غير اللائق تمهيداً لغرضهن للزواج. والفتاة تقبل بإيحاءات أمها لأنها ابنة هذا الزمان المجنسن.

في الحقيقة كأني في هذا الزمان أمام من يبرمج لهذا الجحيم المستعر في العلاقات الإنسانية العامة: كأن تشييء البشر في هذا الزمان لا بد منه للدخول في متاهات اللعبة الحضارية بين الرجل والمرأة والتي غايتها ضرب الإنسان أولاً. وذلك من خلال جعله أكثر استهلاكية ثانياً.

أمام تصوير كهذ، تبدو لي المرأة التي نسميها في العادة متعقّلة ورصينة، الممتلئة في الفكر والقلب والسيرة، غير آبهة للموضة، ولا للألبسة المختلفة التي تنتشر أضواؤها ودعاياتها في كل مكان. فالعاقلة من النساء، تشعر بلزوم مراعاة الذوق والقناعة والرصانة والدور والعمر والموقع، قبل أن تقبل على الموضة إقبالاً استسلامياً.

وأستطيع أن أفهم، ودونما عناء، لماذا تُقبِل فتاة عزباء على القصير والضيق من اللباس، فهي ربما تستعرض جسدها على هذا النحو، بحثاً عن فتى أحلامه، فلا تريد أن تمضي إليه إلا عبر بوابة المظهر والإغراء. وهذا مأخذ ونقص قصر نظر، رغم أنه يفهم من خلال أطوار الحياة، إلا أنني لا أفهم لماذا تضارع المتزوجات الفتيات العازبات في اللباس والمظهر والحركات! ترى لمن القصير الذي ترتديه المتزوجة؟

إذا كان قلب المتزوجة لزوجه، وجسدها لزوجه، عندها لا بد أن تعلم هذه الزوجة أن خروجها إلى الشارع بالقصير والطويل والمشقوق، لن يجعلها إلا مراهقة تتسكع على قارعة الحياة وكأنها غير مرتبطة بأحد بعد. وكأنها ما تزال في طور التفتيش عن فتى الأحلام. لكن لا يمكن أن تكون الزوجة كالفتاة، ولا يمكن أن تكون المتزوجة كالعزباء. لأن هكذا مغناجية عند المتزوجات من شأنها أن تجعل من النساء مجرد فتيات ما زلن معروضات، وما زلن بانتظار فتى الأحلام. ولماذا تستمر الزوجة في الاستعراض بعد زواجها؟ هل في الاستعراض وجه حضارة ورقي؟ ألا يشير الأمر إلى حالة من عدم الاستقرار عند من تفعل هكذ، وتسلك هكذا؟

هكذا موقف هو بالنسبة إليّ علامة دخول الفساد إلى رحاب الزوجية، لأن مسلكية كهذه تحمل في طياتها الهلاك للبيت الزوجي ولو بعد حين. كم وكم من طلاق كان سببه هذه الفرفشة التي تنمّ عن فراغ كبير في أعماق النفس، فتشير بذلك إلى غياب المعنى والذوق من الحياة. فالكبير يسلك كالصغير والصغير يتصرف كأنه كبير، وقبل الأوان. هذا لا يقودنا تباعاً إلى الاستغراب عندما نرى الشبان الصغار يتصرفون كالكبار كأن يعرف أحدهم فتاة، معربة جسدية قبل الزواج منها.

وفي تصرفات الكثيرات من المتزوجات انتفاء للقدوة. والقدوة باتت لفظة لم يعد لها وجود ومدلول ومعنى في عالم اليوم، لا بل قل أنها أصبحت نادرة.

على هذا الصعيد يحاول الرسول الإلهي بولس أن يعلّمنا ما سبق أن علّمه لشعب كنيسة كورنثوس إذ قال: “ليس للمرأة تسلط على جسده، بل للرجل. وكذلك الرجل أيضاً ليس له تسلط على جسده، بل للمرأة” (1كور7: 4). فإذا كان الرجل للمرأة، والمرأة للرجل، في الزواج، حسب كلام الرسول، فهذا يعني أن ما تفعله المرأة المعاصرة وزوجه، منافٍ لروحية العهد الجديد.

والخبرة تعلّم أن مشاكل كثيرين من المتزوجين مردّها هذه العصرنة وهذا الإنفلاش، هذه السطحية وهذا التراخي، هذه الفرفشة وهذه المغناجية. والفتاة عموم، والمرأة خصوص، مدعوة إلى الانتباه لسلوكها في العزوبية كما في الزواج. والعصرنة التي يدّعيها عدد كبير من النساء، لا سيما التي تتجلى في اللباس، أليست هي أن تكون الفتاة خلاعية رخوة يشتهيها كل من ينظر إليها؟

في الحقيقة ليست العصرنة في حقيقتها أن تلبس المرأة القصير، إنما هي في تفتح القلب على الحياة، في تفتحه، في الداخل لا سيما في الخارج، في الرصانة لا في الانفلاش، في رصانة وأناقة لا في لباس تقلع عنه اليوم لتتبنى سواه غداً. العصرنة في الحشمة لا في الطيش، في الرصانة لا في الفلتان. أية عصرنة تجني من تغيير اللباس؟ وما علاقة اللباس بالعصرنة؟ هل نقول أن العالم القابع في مختبره متخلف لمجرد أنه لا يغير ثيابه؟ أين العصرنة في إنسان شعاره رغباته وشهواته وماله وبطنه ومجده؟ الإنسان الفارغ تافه، والتافه يلتمس في العادة إعجاب الناس به عن غير استحقاق. وهنا يبرز سؤال يبدو مهماً إذا أردنا: ما هي الحشمة طالما أن كلامنا هو عن اللباس؟

ليست الحشمة مجرد تغطية الجسد من الرأس حتى أخمص القدمين. المرأة المحتشمة ليست هي المتمسكة باللباس الطويل، فالأخلاق المطلوبة ليست في الطويل من اللباس. لأنه قد تكون عند مثل هذه الفتاة، جملة أسباب تدعوها إلى ذلك، وقد يكون هناك مشكلة. وبالتالي فإن هكذا فتاة يمكن، رغم حشمتها الظاهرية، أن تتحرق لعدم اقتدائها بمثيلاتها من الفتيات اللواتي أقبلن على الموضة من بابها الواسع.

وأعرف امرأة لا ترتدي إلا الطويل من اللباس، لكنها عندما تتكلم، تُشعرك أن الشهوات تفيض من كيانها. وهذا يعني، مقياس الحشمة بالنسبة إلهي، هو في اللباس الطويل. لكن مسألة الحشمة ليست لباساً وحسب، رغم إيماننا إن رصانة اللباس عنصر من عناصر الحشمة الأساسية. الحشمة هي في مطابقة الخارجي للداخلي، مطابقة قلب نقي لمظهر هادئ لا يؤذي. الحشمة هي مطابقة السلوك للفكر، وفي مطابقة الظاهري للنية. إذ أية قيمة للباس إذا كان القلب مقبرة للشهوات؟

إذاً تحتاج الحشمة كي تولد، إلى البعدين الخارجي والداخلي، يتلازمان ولا ينفصلان. وحشمة القلب لا تقتصر على النية’ ولا تنحصر به، فالارتكاز إلى النية فقط، من شأنه أن يجعلك عاجزاً عن تحديدها وتشخيصها.

كذلك فإن الحشمة في بعدها الداخلي، يجب أن تتجلى في المظهر، وإلا كان الإنسان كاذباً مرائي، وهذا ما يعنيه الرب عندما يقول: “من ثمارهم تعرفونهم”. الثمار الحسنة هي ابنة النية الحسنة، والقلب النقي.

الحشمة الخارجية، ليست من اللباس الطويل’ بل في الحواس الهادئة، في العيون المنغلقة على الشر والموبقات، في الأفكار الطاهرة البريئة من الدنس على غرار ما يقوله المرنم: “اجعل يا رب حارساً لفمي وباباً حصيناً على شفتي”.

والمحتشم خارجي، وبمقتضى البعد الخارجي، هو إنسان يسود لسانه وعينيه وجسده كله وأفكاره. فهو كمحتشم، لا يمكنه أن يسيء لأحد، ولا أن يكون عثرة لأحد. وحشمة الظاهر لا معنى له، إذا كانت غير مرتكزة نقاوة القلب “… أنتم من خارج قبور مجصصة، لكنكم من داخل … “. المهم عندي أن أحيا هذا التناغم بيت الداخلي والخارجي، وإلا فالكل كذب ورياء.

أما إذا كنا وفي أيامنا هذه بالذات، لا نرى الحشمة في اللباس، فهذه إشارة واضحة أننا لا نملكها في القلب. نحن لا نريد الحشمة الحقيقية اليوم، لأننا ابتعدنا عن نقاوة القلب، وأحببنا الشهوات أكثر من أي وقت مضى. والكلام عن الحشمة اليوم يبدو في الواقع لا معنى له، ولا جدوى منه. الناس اليوم لا يتحسسون أهمية النقاوة الداخلية ولا يرون أن غيابها يستتبع مساوئ وسلبيات وتدنٍّ في السلوك الإنساني العام، مع ما يتضمن ذلك من تغييب للقيم وتدمير للعائلة، وارتفاع في نسبة الطلاق ونسبة الاغتصاب (15) وغيرها …

بعد هذا يبدو أن مصممي اللباس النسائي لا يفهمون أهمية نقاوة القلب، ولا يشعرون أنهم معنيون في الراحتين النفسية والجسدية عند الإنسان. هذا شأن لا يعنيهم، وتالياً فهم لا يرون الحشمة وما له، أمراً جديراً بالاهتمام. وما انشغالهم بالقصير والطويل، الضيق و الفضفاض، إلا علامة، في نظري، على أن الإنسان من منظورهم، هو مجرد جسد.

وهنا يعتمر في ذهني سؤال يتصل بالفتيات والسيدات المحسوبات على الإيمان والكنيسة. إذا تأملنا في الفتيات والسيدات المذكورات، يمكننا أن نطرح السؤال التالي: كيف يتعايش الإيمان واللباس القصير في إنسانة واحدة؟ بكلام آخر، كيف يتجلى الإيمان بالرب، والتمسك والتعلق بمفاتن الجسد، في إنسانة واحدة؟ بكلام آخر، وعذراً على التكرار، كيف يكون الجسد للإغراء، بينما القلب للمسيح، في إنسانة واحدة؟ ومن جديد، كيف أكون ابنةً للمسيح إذا كنت ألهب قلوب الشباب وعقولهم وأفكارهم وأجسادهم بلباسي غير المحتشم الذي من خلاله أبرز جسدي وأطلق مفاتنه؟ والسؤال نفسه ينسحب على المتزوجات فيكون على الشكل التالي: كيف أبقى معروضة، عندما ألبس بطريقة العصر، بعد أن أصبحت زوجة لإنسان عاهدته أمام الله والناس على الوفاء له وعلى غير صعيد؟

في الحقيقة إن إصرار الزوجة أن تبقى مغناجة ولعوب، لا سيما بعد زواجه، من شأنه أن يجعلها لا محالة ضعيفة أمام المصاعب والتحديات التي تأتي من داخل البيت الزوجي. ومن يدري، قد تكون أغلب المتزوجات اليوم، عاجزات عن حماية أزواجهن أمام التحديات الجسام الآتية من داخل ومن خارج بآن. للرد على هذه الباقة من التساؤلات نحتاج إلى محللين نفسانيين يفسرون لنا السلوك البشري ويحددون لنا الدوافع الكامنة وراء هذا وذاك من التصرفات. ولا يكفي أن يقال أن فلانة متخلفة لمجرد أنها لا تلبس الضيّق، فقد يكون المتشدّقون بالموضة، هم الأكثر تخلفاً بامتياز.

غير أن فئة كبيرة من الفتيات والسيدات يعترضن على طرحي ونظرتي، بقولهن: ما المشكلة إذا كنت أرتدي القصير؟ هذا في نظري طبيعي. وكل الفتيات يلبسن هكذا. أليست هذه هي الموضة اليوم؟ أنا أريد أن ألبس كما تلبس زميلتي. ولا يعقل أن تكون جميع الفتيات على ضلال. أما إذا كنت أنت تظن أن هناك من يتأذى بالنظر إلى هذ وذاك من الألبسة، فأرجو أن يقلع المتأذي عن النظر إليّ، كي أبقى حرة وأعيش كما يحلو لي. هذا الجواب نسمعه في العادة من الفتيات بعد سماع مثل هذا السؤال. المشكلة أن الفتاة ترى نفسها متخلفة ومعزولة عندما لا تماشي زميلاتها باللباس العصري. وهي في قرارتها وفي عمقها لا تريد أن تكون معزولة فهي لا تريد أن يكون بينها وبين زميلاتها شيء من قطيعة تفرضها عليها القيم والأعراف. فهذا في نظرها تجربة لا قدرة لها على تحملّها.

في الحقيقة لا يليق بالفتاة المسيحية أن تخشى مثل هذه العزلة، ولا تستطيع من تسمى مسيحية أن تكون بمنأى عن هذا الاختبار، وذلك لأن للالتزام في الإيمان شروطاً وأعباء لا بد منها ولا غنى عنها لعيش مسيحيتنا. لأنه يستحيل أن يتعايش الإيمان واللاحشمة، تماماً كما أنه يستحيل أن يتعايش الجهل والمعرفة، الفلتان والانضباط. ولكن ما هي اللاحشمة؟

اللاحشمة هي حالة من التفكك الإنساني، وذلك لأنها تقوم على عبادة الجسد على حساب سائر أبعاد الشخصية الإنسانية. وبالتالي فإن اللاحشمة تجزئ الإنسان، وتحيله، من كائن وكيان، إلى مجرد جسد يدعو الناظر إليه، ويثيره بقصد إحراقه. اللاحشمة هي أن أصبح أنا شيئ وأن يكون الناظر إليّ إنساناً محترفاً.

والفتاة عموم، والمسيحية خصوص، تبدو متلهفة إلى الموضة. والموضة تستهوي حواء على نحو منقطع النظير. والفتاة متعلقة بالموضة، لا بل تستهويها إلى حد الذهول.

الفتاة ترى في الموضة حضارة، وترى أن الإقلاع عن الأولى يحرمها الثانية. ومع ذلك لا علاقة بين الموضة والحضارة، فالمسألة مجرد لباس. تأملوا في برامج عرض الأزياء على الشاشة الصغيرة. إنها شهوة ودمار واستهلاك لا أكثر.

الفتاة تحب الموضة لكونها تجعلها جذابة ومتلونة، براقة وفاتنة. الموضة تجدّد النظر إلى الفتاة وتجعلها كالحرباء قادرة على التكيف مع بيئته، وكأن الجديد و التجديد من خارج، هو الشطارة. ما معنى هذا؟ هذا يعني أن الجمال مظهر هو لا مقومات، ولا شروط له غير اللباس. الجمال والجاذبية هي فقط تغيير اللباس بين الحين والآخر وكفى.

إلا أن الإفراط والمبالغة في الموضة يكشفان لي أن عند الفتاة وربما المرأة أيض، فراغاً وقلقاً. فالمراهقة تتطرف بلباسه، والمرأة المغناج تتطرف بلباسها. العانس تتطرف بلباسها لا بل تزرع جسدها ذهباً ومزيفات. العانس تغرق بالذهب وكأنه يجدد نضارتها وشبابها وفتوتها. ويبدو اليوم أن عند المرأة عموماً صراعات كثيرة تقلقها وتقضيه، فهي في صراع إن قاومت الموضة المتطرفة، وفي صراع أيضاً إن هي أهملت الموضة بحدودها المختلفة.

والإفراط في التطرف، دفع المرأة والفتاة إلى تبني كل أشكال التبرّج ومستحضرات التجميل. لكن ما أعرفه أن، هو أن التناقض يجب أن يزول، والغموض يجب أن ينجلي، فتقديم الحلول لمشاكل الناس لا يكون بالانكباب على سلع يخترعها الغرب كي يجعلنا أكثر استهلاكية وفقراً.

في الحقيقة، يبدو المتدين اليوم كالمعتوه في حضارة الغرائز والشهوات. لكن لا مناص من التباله المقدس، فهو فضيلة ودرع وحماية لمن يحب الرب. ويتوجب على من تتوق نفسه إلى فوق، إلى الرب، أن يصغي دائماً إلى ما يقوله المعلم الإلهي بولس: “… لنسلك في الروح، فلا نكمل شهوة الجسد … ومن أراد أن يعيش بجسده، عليه أن يقتني ذلك بقداسة وكرامة، لا بهوى وشهوة ” (1سالونيك4: 4).

ولكن وأسفاه! وحسرتاه! لقد تمدّن المسيحيون بانفتاحهم على الوجه المزيف من الغرب، فباتوا يرون الحضارة والرقي في لباس وعطور وسيارة وممتلكات. تمدّنوا لظنّهم أنهم ينطقون أنصاف لغات، وقد صار لهم ودائع في البنوك. لقد رأوا في التعري حضارة، وفي الخلاعة رقيّاً. إلا أني أخشى أن تكون عقليتهم وممارستهم هذه مدعاة قرف واشمئزاز عند شريحة من المسيحيين وغير المسيحيين، ومدعاة نفور عند المتعبدين والعقلاء والحكماء. المسيحيون، في نظري، يحفرون قبر المسيح من جديد، ويغرسون صليباً في كل قلب. إنهم يقتلون المسيح كل يوم، وكأنه لم يمت ولم يقم من أجلهم. لقد حوّل المسيحيون بعض رموز دينهم إلى إشارات لتزيين الصدور والأذن. لقد حوّلوا الصليب إلى أداة للزينة، وفي هذا كل الإساءة لدينهم وتراثهم. لقد انفسدوا كل الانفساد عندما استلهموا مفاسد الغرب جاعلينها شعارات تحتذى، وفي وقت بدأ الغرب نفسه يدرك ضرورة الارتداد وذلك بفعل فداحة الدمار الحاصل هناك على صعيد المجتمع والأسرة.

وعليه ينبغي أن ننتبه لأنفسن، فنقوّم ممارساتن، ونصحّ؛ سلوكنا وأفكارن، ونجدد إيماننا وعبادتنا. لا نكن سطحيين تافهين تؤخذ بالمظاهر ونهمل اللب. لنبادر إلى الرب في خشوع وتوبة متعبدين له من كل القلب والفكر والنفس والنية كي يكون لنا نصيب في ملكوته.

لنكن من محبي الصلاة، فهي قادرة أن تخلق فينا الطهر والنقاوة. لنصن أعرافنا وقيمنا وأخلاقنا. لنحم ديننا وتديّننا من عبثيات هذا الزمان واستهلاكياته. لنحفظ دساتير بلادنا وشرائع أوطاننا. لنحترم أجسادنا وأجساد سوانا كي نحترم الإنسان. علينا أن نطلب النقاوة ونمج العهر والفساد فلا نكون مرتعاً للبهائم العقلية والشهوات الدنيئة بكل أشكالها ومفاسدها. إن انشغالنا بالموضة هو مسعى إلى تجميل ترابيتنا التي لا يجملها إلا الله. لأن بريقنا الحقيقي هو من فوق. بغير هذا لا تسلم سفينتنا. وبغير هذا نحن ذروة التخلّف والانحطاط.


(10) ما الذي حصل حتى اقتنعت المرأة أنها مجرد جسد يُشتهى؟ السؤال غريب.

(11) الكلام عن الموت هو لاحق للسقوط، والسقوط بدوره هو ثمرة الخطيئة.

(12) أستطيع أن أتأمل صورة لأمي رحمها الله أخذت في الخمسينات حيث كان اللباس في العديد من جوانبه شبيهاً بلباس اليوم، وفي هذا دليل على أن الموضة دائرية ولا علاقة لها بالإبداع. وما نقلع عنه اليوم نعود إليه ولو بعد حين.

(13) الإنتاج الوطني باب ثان، والإنتاج الأجنبي باب أول. فإما أن نغيّر نوعية إنتاج ونكون كمن يروّج لبيت جاره ويحتقر بيته. إن حالتنا كحالة من يروّج لمن يستعمره. وهذا سخف وضيق نظر.

(14) يستحيل في هذا الزمان أن تحب في غياب الجنس. ولا يفهم الجنس إلا تعبيراً عن الحب. كأن زماننا لا يفهم الحب إلا بالشهوة، ولا يقبل بالحب مبدأ بذل وتضحية لنمو إنسانية البشر. * ربما وراء العنوسة أسباب نفسية، ولكن هناك أيضاً أسباب ذات صلة بعدم مماشاة الموضة والحداثة بآن معاً.

(15) دائماً نقرأ عن حالات اغتصاب، والأسواء أنه لا يقتصر على القاصرات وحسب، بل تعداه إلى الأطفال أيضاً. هذا دمار. وفي نظري، يعزى السبب إلى التفلّت من القيم، وإلى حرية شيطانية يتمسك بها إنسان اليوم. ولا أنكر أن للإعلام دوراً أساسياً أيضاً في إضرام حريق الغرائز. ومن أراد أن يعالج المشاكل الأخلاقية، عليه أن يبدأ من التلفزيون والسينما.

Facebook
Twitter
Telegrama
Whatsapp
PDF
☦︎
Rolar para cima