Facebook
Świergot
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎
☦︎

1- مقدمة (*)

بعد فترة قصيرة من النوم عدنا إلى خدمة الصباح، وكنا ننتظر الرجل الشيخ، وكان يبدو على الأب جرمانيوس حيرة عظيمة، لأن المناظرة السابقة حملت قوة توحي إلينا بشوق عظيم نحو تلك الطهارة التي لم تكن معروفة لنا بعد. وقد أضاف الشيخ الطوباوي عبارة فريدة نزع فيها كل دعوانا من جهة جهاد الإنسان الذاتي، مضيفًا أنه وإن جاهد الإنسان بكل طاقته من أجل الثمرة الصالحة، لكنه لا يقدر أن يسيطر على ما هو صالح ما لم يطلبه ببساطة من جود الله وكرمه، وليس بجهاده الذاتي.

وإذ كنا متحيرين من جهة هذا الأمر، إذ الطوباوي شيريمون يصل إلى القلاية، فرآنا نتهامس معًا، فقلل من خدمة الصلاة والمزامير شيئًا يسيرًا عن المعتاد وسألنا عن الأمر.

2- سؤال: لماذا لا ننسب الطهارة إلى جهاد الإنسان؟

جرمانيوس: إذ نحن صامتون من جهة عظمة تلك الفضيلة التي وصفتها لنا الليلة الماضية، مؤمنين بفاعليتها، لكني أستسمحك القول بأنه يبدو لي أنه من العبث أن نقول عن الطهارة الكاملة التي تُقتنى بغيرة الإنسان المجاهد كمكافأة للجهاد، أنها لا تنسب رئيسيًا إلى جهاده. لأنه من الغباوة أن نرى مثلاً مزارعًا يحتمل آلامًا كثيرة في زراعة أرضه ولا تنسب الثمار إلى جهاده!

3- شيريمون: يمكننا بنفس المثال الذي قدمته أن نبرهن بالأكثر أن جهود الإنسان العامل لا تفيد شيئًا بغير معونة الله. لأن الزارع حين يحتمل أتعابًا كثيرة في زراعة الأرض لا يقدر أن ينسب كثرة المحصول ووفرة الثمار إلى مجهوده الذاتي. فقد يضيع كل تعبه هباء لو لم تأته الأمطار أو يساعده الجو. وقد نرى الثمار ناضجة فعلاً بل ويحصدها الفلاح ويجنيها ومع هذا فإن مجهود العاملين يمكن أن يكون بلا نفع ما لم تسنده عناية الله. كذلك الصلاح الإلهي لا يأتي بالإنتاج الوفير للمزارعين الكسالى الذين لا يحرثون حقولهم على الدوام، كما أنهم قد يتعبون الليل كله بلا جدوى ما لم تُنجح مراحم الرب أعمالهم.

لكن كبرياء البشرية يجعلها ترفض أن تضع نعمة الله مع جهادها على قدم المساواة ولا أن يختلطا معًا، إنما تظن أنه بمجهودها الذاتي تنال جود الله وكرمه، أو أن الثمار هي ثمرة جهادها وحده.

ليتأمل الإنسان جيدًا وليتفحص بعناية فائقة وازنًا هذه الحقيقة كما ينبغي، وهي أنه لا يقدر الإنسان حتى أن يستخدم نفس تلك الجهود التي له بغيرة ما لم تهبه عناية الله وترافقه قوة لتنفيذها، وإن إرادته ذاتها وقوته يخوران ما لم يمده الحنو الإلهي بالوسائل لأجل تتميمهما. فقد يفشل الإنسان بسبب كثرة المطر الزائد أو لانعدامه.

فعندما يهب الرب للثور نشاطًا وقوة جسدية للعمل ونجاحًا في مشروعه، يجدر بالإنسان أن يصلي لئلا يسقط عليه ما قيل في الكتاب المقدس: “وتكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا والأرض التي تحتك حديدًا”، و”فضلة القَمَص أكلها الزحَّاف، وفضلة الزحَّاف أكلها الغَوغَاءُ، وفضلة الغوغاءِ أكلها الطيَّار[1]” (يؤ4:1).

ولا يحتاج المزارع إلى عناية الله لتعينه في مجهوداته أثناء عمله فحسب، بل وأيضًا لكي يتفادى الكوارث غير المنظورة التي يمكن أن تحل به، والتي أحيانًا تصيب الحقل وهو غني بالمحصول المتوقع… بل وأحيانًا يفقد ما قد جمعه فعلاً وخزنه في البيدر للدرس أو في المخزن.

من هذا نخلص بوضوح إلى أن البداية لا تتأتى من جهة أعمالنا نحن بل حتى أفكارنا الصالحة تأتي من الله، الذي يوحي إلينا بإرادة صالحة نبدأ بها العمل ويمدنا بفرص لتنفيذ هذه الإرادة الصالحة “كلُّ عطيَّةٍ صالحةٍ وكل موهبةٍ تامة هي من فوق نازلةً من عند أبي الأنوار” (يع17:1).

إنه يبدأ معنا بما هو صالح ويستمر معنا فيه ويكمله معنا، وذلك كقول الرسول: “والذي يقدّم بذارًا للزارع وخبزًا للأَكل سيقدّم ويكثّر بذاركم وينمي غلاَّت برّكم” (2كو10:9). هذا كله من أجلنا نحن، لكن باتضاع نتبع يومًا فيوما نعمة الله التي تجذبنا، أما إذا قاومنا نعمته برقبة غليظة وآذان غير مختونة (أع51:7) فإننا نستحق كلمات النبي ارميا القائل: “هل يسقطون ولا يقومون؟! أو يرتدُّ أحد ولا يرجع؟! فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا. تمسكوا بالمكر. أبوا أن يرجعوا؟!” (إر4:8،5).

4- اعتراض

 جرمانيوس: إننا نرى الكثير من الوثنيين الذين لم يوهب لهم نعمة الله سامين لا في فضائل التدبير والصبر فحسب، بل (وبصورة واضحة) في الطهارة. فكيف يمكننا أن نحسب أن حرية إرادتهم قد أُسرت، وأن فضائلهم وهبت لهم بواسطة نعمة الله، خاصة وأنهم يتبعون حكمة العالم وينكرون نعمة الله، بل وينكرون وجود الله ذاته؟ فهم ليسوا مثلنا نحن الذين خلال القراءة وعن طريق الآخرين عرفنا نعمة الله، أما هم فيقولون أنهم ينالون طهارتهم الفائقة السمو بجهادهم وتعبهم الزائد؟

5- شيريمون: إنني مسرور لأنك قد التهبت بالشوق العظيم لمعرفة الحق، إلا أنك تقدم بعض النقط، وبإثارتك لهذه الاعتراضات تؤكد بالأكثر سمو إيمان الكنيسة الجامعة… فبالتأكيد أنت تقدم هذه الاعتراضات رغبة في معرفة الحق لذلك فلتأخذ في اعتبارك هذه الأمور:

يلزمنا أولاً ألا نفكر بأن الفلاسفة قد نالوا طهارة النفس كتلك التي ننالها نحن، والتي لا تتوقف عند مجرد عدم الزنا، إنما لا يدعى بيننا شئ دنس قط، إنما هم لديهم نوع خاص من الطهارة بمعنى ضبط الجسد، الذي به يقمعون شهواتهم لكي لا ينفذوا اتصالاً جسديًا. لكنهم لا ينالون طهارة الذهن الداخلية ونقاوة الجسد الدائمة، لا من جهة العمل، إنما أيضًا من جهة الفكر. أخيرًا فإن سقراط – الذي يعتبرونه – أشهر جميع الفلاسفة يعترف عن نفسه بهذا…

إنهم لا يعرفون فضيلة الطهارة التي نبتغيها نحن، لذلك فإن ختاننا الروحي لا يمكن أن يُطلب إلا بنعمة الله، ولا يخص إلا الذين يخدمون الله بقلب منسحق.

6- لا يمكننا الجهاد بغير نعمة الله

إن كان في أمور كثيرة، بل بالحق في كل شئ، يظهر أن البشر على الدوام محتاجون إلى معونة الله، وإن كان الضعف البشري يعجز عن أن يتمم شيئًا لخلاصه بذاته وحده بغير مساعدة الله، فإنه يكون ذلك بالأكثر بالنسبة لنوالنا الطهارة والمحافظة عليها.

إن كان الحديث عن صعوبة كمال الطهارة قد طال كثيرًا، فلنناقش باختصار أدواتها. إنني أسأل: أي إنسان مهما بلغت حرارته في الروح، هل يقدر بقوته الذاتية أن يحتمل قسوة البرية، لا أقول يحتمل نقصًا في الضروريات اليومية بل في مؤونة الخبز الجاف؟ من يستطيع بغير تعزية الله أن يحتمل الظمأ الدائم، أو يحرم عينيه من نوم الصباح اللذيذ، لتصبح كل أوقات راحته ونومه في حدود أربعة ساعات؟! من يشعر بالاكتفاء والشبع خلال مثابرته على القراءة والسهر الدائم في العمل وعدم اهتمامه بالربح الزمني ما لم تعينه نعمة الله؟!

إذ لا نقدر أن نشتاق إلى مثل هذه الأمور بغير وحي إلهي، فإننا نعجز بأي وسيلة أن ننفذها بغير معونة الله. وإذ نتأكد من هذا الأمر ليس بحسب ما تمليه علينا خبرتنا بل وتؤكده الأدلة والبراهين الثابتة، ففي أمور كثيرة لا نشعر بالضعف ولا تنقصنا المهارة الكاملة ولا تنقصنا الإرادة ومع هذا ما لم يوهب لنا بمراحم الرب قوة التنفيذ ننحرف بعيدًا عن هدفنا.

ليس في طاقتنا أن ننال سكون العزلة ونمارس الأصوام الصعبة والدراسة المسهبة حتى عندما توجد الفرص المناسبة. غير أنه كثيرًا ما تحدث حوادث غالبًا ما تكون ضد إرادتنا على طول الخط مما يجعلنا نعجز عن تنفيذ قوانينا التي نحترمها. لهذا نحن نصلي إلى الرب لكي يهيئ لنا المكان والوقت حتى نمارس قوانينا. ولا يكفي هذا، ما لم يهبنا الله فرصًا لتنفيذ ما يمكننا صنعه، وذلك كقول الرسول أيضًا: “لذلك أردنا أن نأتي إليكم أنا بولس مرَّةً ومرَّتين. وإنما عاقنا الشيطان” (1تس18:2).

أحيانًا يكون من المفيد لنا أن نُحرم من التداريب الروحية حتى أننا بغير رضانا نكسر القوانين المعتادة خاضعين لضعف الجسد، وبهذا فإننا بغير إرادتنا نتعلم صبرًا نافعًا…

7- غاية الله منا وعنايته بنا

لأن غاية الله من خلقته لا أن يهلك الإنسان بل يحيا إلى الأبد، وهذه الغاية لا تزال كما هي، وإذ يرى أن يشع فينا صلاحه ولو بشرارة خفيفة من الإرادة الصالحة، فإنه يضرمها كما لو كانت خارجة من الحجر الصوان الصلد الذي لقلوبنا. انه يثيرها ويتعهدها ويقويها بنسمته “الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون” (1تي4:2). لأنه “هكذا ليست مشيئَةً أمام أبيكم الذي في السموات أن يهلك أحد هؤُلاءِ الصغار” (مت14:18)…

الله صادق ولا يكذب إذ يقسم قائلاً: “حيّ أنا يقول السيد الرب أني لا أُسَرُّ بموت الشرير بل بأن يرجع الشرير عن طريقهِ ويحيا. ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئَة. فلماذا تموتون يا بيت إسرائيل؟!” (حز11:33) إنه لا يريد ان يهلك أحد أصاغره، فكيف لا نكون مجدفين إن كنا نتصور أنه لا يريد كل البشر أن يخلصوا بل بعضهم؟!

فالذين يهلكون إنما يهلكون بغير إرادته، وهو يشهد ضد كل واحد منهم يومًا فيوما قائلاً: “ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئَة، فلماذا تموتون” (حز11:33). وأيضًا: “كم مرَّةٍ أردت أن أجمع أولادكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (مت37:23)، “فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا. تمسكوا بالمكر. أبوا أن يرجعوا” (إر 5:8).

إذن نعمة المسيح حاضرة بين أيدينا في كل يوم، وإذ هي تريد أن “جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” تدعو الجميع بغير استثناء قائلة: “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت28:11).

فلو لم يدعُ الجميع بل البعض فقط، لكانت النتيجة أن يكون الكل مثقلاً بالخطايا الأصلية (الجدية) والخطايا الفعلية، وإلا صار القول التالي غير صادق: “إذ الجميع أخطأُوا وأعوزهم مجد الله” (رو23:3)، وما كنا نصدق أن الموت قد عبر إلى جمع الناس (رو12:5).

وإذ الهالكون يهلكون بغير إرادة الله، لهذا يمكننا أن نقول بأن الله ليس بصانع الموت وذلك كشهادة الكتاب المقدس القائل: “إذًا ليس الموت من صنع الله ولا هلاك الأحياء يسرَّه” (حك13:1).

عناية الله في عدم استجابة بعض طلباتنا

لما كانت أغلب صلواتنا ترتفع ليس لأجل صالحنا بل نسأل العكس، لهذا تتأخر الاستجابة وأحيانًا تُرفض طلباتنا. كذلك يهبنا الرب – كطبيب غاية في الحنو – أن يجلب لنا بغير إرادتنا ما هو لصالحنا ونحن نظنه عكس هذا. وأحيانًا يعوق إشتياقاتنا المؤذية ومحاولاتنا المميتة، وبينما نندفع تجاه الموت يردنا إلى الخلاص، وينقذنا بغير معرفتنا من مخالب الجحيم.

8- الله المحب والإنسان قاسي القلب!

وصفت الكلمة الإلهية اهتمام الله وعنايته بنا على لسان هوشع النبي تحت رمز أورشليم كزانية، التي انحرفت في غيرة مملوءة جحودًا عندما قالت: “أذهبُ وراءَ محبيّ الذين يعطون خبزي ومائي، صوفي وكتاني، زيتي وأشربتي”، فتجيبها التعزية الإلهية لا لأجل تحقيق شهواتها إنما رغبة في خلاصها فتقول: “لذلك هاأنذا أسيّج طريقكِ بالشوك، وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها. فتتبع محبّيها ولا تدركهم وتفتش عليهم ولا تجدهم. فتقول أذهب وأرجع إلى رجلي الأول لأنه حينئذٍ كان خير لي من الآن” (هو5:2-7).

وقد وصف عنادنا واستهتارنا إذ نزدري به بروح متمردة عندما يحثنا إلى الرجوع المفيد – وذلك في المقارنة التالية: يقول الله: “قلت تدعينني يا أبي ومن ورائي لا ترجعين، حقًّا إنهُ كما تخون المرأَة قرينها هكذا خنتموني” (إر19:3،20). فهو يقارن أورشليم (النفس البشرية) بامرأة زانية تطلب رجلاً. ويقارن محبته لنا برجل يموت في محبة عروسه.

فصلاح الله ومحبته التي يعلنها على الدوام لكل البشر، لا تُغلب إلا بكفنا عن الاهتمام بخلاصنا، وهروبنا من اهتمام الله بنا، كما لو أنها قُهرت بشرورنا، لذلك فإنها لا تُقارن إلا برجل محترق بنيران الحب من أجل امرأته، إذ يذوب من أجل محبته لها قدر ما يراها تستخف مستهينة به. إذن الحماية الإلهية حالة معنا على الدوام بغير انفصال.

عظيم هو حنو الخالق تجاه خليقته، الذي لا يرافقها حنوه فحسب، بل ويتقدمها!… عندما يرى فينا طيفًا خفيفًا من بداية الإرادة الصالحة، للحال يلهبه ويقويه ويتعهده لأجل خلاصنا، فينمي ما قد غرسه فينا أو ما يراه قد نشأ عن جهادنا، إذ يقول: “قبلما يدعون أنا أجيب وفيما هم يتكلمون بعدُ أنا أسمع” (إش24:65). وأيضًا “يتراءَف عليك عند صوت صراخك” (إش19:30). وفي صلاحه لا يلهمنا بالرغبات المقدسة فحسب، وإنما يخلق لنا فرصًا للحياة وللنتائج الصالحة، ويكشف اتجاه طريق الخلاص للذين ضلوا.

9- بين إرادتنا الصالحة ونعمة الله

لا يستطيع العقل البشري أن يدرك بسهولة كيف يعطي الرب الذين يسألونه، وكيف يُوجد للذين يطلبون منه ويفتح للقارعين، بينما من الجانب الآخر يعطي من لم يسألوه ويبسط يديه لغير المؤمنين والمجدفين، مناديًا ومقدمًا الدعوة للذين يقاومونه والمبتعدين عنه، جاذبًا البشر نحو خلاصهم، حاملاً الذين يرغبون في الخطية إلى ما هو على خلاف رغبتهم، إذ بصلاحه يقف في طريق المندفعين نحو الشر.

من يقدر بسهولة أن يرى كيف أن تمام خلاصنا يتم بإرادتنا إذ قيل: “إن شئْتم وسمعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمرَّدتم تُؤْكَلون بالسيف لأن فم الرب تكلم” (إش19:1،20)، وفي نفس الوقت “ليس لمن يشاءُ ولا لِمَنْ يسعى بل لله الذي يرحم” (رو16:9)؟!

كيف يكون هذا، أن الله “سيجازي كلَّ واحدٍ حسب أعمالهِ” (رو6:2)، وفي نفس الوقت “لأن الله العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته” (في13:2)، و”لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمالٍ كيلا يفتخر أحد” (أف8:2،9)؟!

ما هذا أيضًا، إذ قيل: “اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم. نقُّوا أيديكم أيها الخطاة وطهّروا قلوبكم يا ذوي الرأيين” (يع8:4)، وفي موضع آخر يقول: “لا يقدر أحد أن يُقبِل إليَّ إن لم يجتذبهُ الآب الذي أرسلني وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يو44:6)؟

ما هذا الذي نجده، “مَهّدْ سبيل رجلك فتثبت كل طرقك” (أم26:4)، بينما نقول في صلواتنا: “سهّل قدامي طريقك” (مز 8:5)، و”تَمَسَّكَتْ خطواتي بآثارك فما زلَّت قدمايَ” (مز5:17)؟

وما هذا الذي يدهشنا إذ يقول: “اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها واعملوا لأنفسكم قلبًا جديدًا وروحًا جديدة، فلماذا تموتون؟” (حز31:18) وهو الذي وعدنا بهذا إذ يقول: “وأعطيهم قلبًا واحدًا وأجعل في داخلكم روحًا جديدًا وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحمٍ لكي يسلكوا في فرائضي ويحفظوا أحكامي ويعملوا بها” (حز19:11،20)؟!

ما هذا الذي يأمرنا به الرب قائلاً: “اغسلي من الشر قلبكِ يا أورشليم لكي تُخلَّصي. إلى متى تبيت في وسطكِ أفكاركِ الباطلة؟!” (إر14:4)، بينما يسأله النبي قائلاً: “قلبًا نقيًّا اخلق فيَّ يا الله اغسلني فأبيضَّ أكثر من الثلج” (مز51)؟!

ما هذا الذي قيل: “ازرعوا لأنفسكم نور المعرفة”[2] (هو 12:10)، وقد قيل عن الله: “المعلم الإنسان معرفةً” (مز 10:94)، “الرب يفتح أعين العمي” (مز8:146)، أو ما نقوله في صلواتنا بالنبي: “أَنِرْ عينيَّ لئَلاَّ أنام نوم الموت” (مز 3:13)؟!

في هذا كله إعلان عن نعمة الله وحرية الإرادة، حتى متى رغب إنسان في السلوك في طريق الفضيلة، يقف سائلاً مساعدة الرب. فلا يقدر أن يتمتع بالصحة الجيدة بإرادته، وبرغبته يتحرر من الضعف. لكن الأمر الصالح الذي نتوق إليه من جهة الصحة لا أناله ما لم يهبه الله الذي يمنحنا متعة الحياة ذاتها ويقدم لنا الصحة المملوءة نشاطًا.

من الواضح أنه خلال سمو الطبيعة التي وهبها لنا صلاح الخالق أحيانًا تثور فينا بداية الإرادة الصالحة، والتي لا نقدر أن نحققها عمليًا أو نتممها بغير قيادة الرب. ويشهد بذلك الرسول القائل: “فإني أعلم أنه ليس ساكن فيَّ، أي في جسدي، شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحُسنَى فلست أجد” (رو 18:7).

10- بين حرية الإرادة وضعفها

يسند الكتاب المقدس حرية الإرادة فيقول: “فوق كل تحفظٍ احفظ قلبك لأن منهُ مخارج الحياة” (أم23:4)، ويشير الرسول أيضًا إلى ضعفها فيقول: “وسلام الله الذي يفوق كلَّ عقلٍ يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع” (في7:4).

يؤكد داود قوة الإرادة الحرة فيقول: “عطفت قلبي لأصنع فرائضك” (مز112:119)، وهو نفسه يعلمنا عن ضعفها بصلاته قائلاً: “أَمِلْ قلبي إلى شهاداتك لا إلى المكسب (الطمع)” (مز36:119)، وسليمان يقول: “ليميل بقلوبنا إليهِ لكي نسير في جميع طرقهِ، ونحفظ وصاياهُ وفرائضهُ وأحكامهُ التي أوصي بها آباءَنا” (1مل58:8). ويشير المرتل إلى قوة إرادتنا في قوله: “حِدْ عن الشرّ واصنع الخير، اطلب السلامة واسعَ وراءها” (مز14:34)، وتشهد صلواتنا عن ضعفها بقولنا: “اجعل يارب حارسًا لفمي. احفظ باب شفتيَّ” (مز3:141).

تظهر أهمية الإرادة من قول الرب: “انحلّي من رُبُط عنقكِ أيتها المسبية ابنة صهيون” (أش2:52)، ويتغنى النبي بضعفها قائلاً: “الرب يطلق الأسرى” (مز 7:146)، “حللتَ قيودي. فلك أذبح ذبيحة حمدٍ” (مز 16:116، 17).

إننا نسمع في الإنجيل الرب ينصحنا أن نأتي إليه سريعًا بحرية إرادتنا: “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت28:11)، ويشهد الرب نفسه عن ضعفها بقوله: “لا يقدر أحد أن يُقبِل إليَّ إن لم يجتذبهُ الآب الذي أرسلني” (يو44:6).

يشير الرسول إلى حرية إرادتنا بالقول: “هكذا اركضوا لكي تنالوا” (1كو24:9)، ويشهد يوحنا المعمدان عن ضعفها بقوله: “لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أُعطِي من السماءِ” (يو27:3).

لقد أوصانا أن نحفظ نفوسنا بكل عناية، إذ يقول النبي: “احفظوا نفوسكم”، وبنفس الروح يشهد نبي آخر: “إن لم يحفظ الرب المدينة فباطلاً يسهر الحارس” (مز1:127).

ويكتب الرسول إلى أهل فيلبي مظهرًا لهم حرية إرادتهم “تمّموا خلاصكم بخوفٍ ورعدةٍ”، ويردف مظهرًا ضعفها: “لأن الله العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة (مسرته)” (في12:2،13).

11- تلازم النعمة مع الإرادة البشرية

هكذا فإن مثل هذه الأمور تتشابك معًا بلا تمييز… حتى أن كثيرين ينشغلون بمثل هذه الاستفسارات الصعبة: هل الله يظهر حنوه لنا لأننا نظهر بداية إرادتنا الصالحة، أم أن الإرادة الصالحة تبدأ لأن الله يحنو علينا؟

كثيرون يعتقدون بأحد هذين الرأيين ويؤكدانه أكثر مما يجب فيسقطون في أخطاء مضادة. فإن قلنا أن بداية الإرادة الصالحة هي في سلطاننا، فماذا نقول عن بولس المضطهد؟ وماذا نقول عن متى العشار؟ إذ سُحب أحدهما إلى الخلاص وهو تواق إلى سفك الدم ومعاقبة البريء، والآخر سُحب وهو محب للعنف والنهب. وإن قلنا أن بداية إرادتنا تأتي دائمًا كنتيجة لوحي النعمة الإلهية، فماذا نقول عن إيمان زكا، وصلاح اللص الذي على الصليب، هذين اللذين بإرادتهما اغتصبا ملكوت السموات، ونالا قيادة خاصة بالدعوة؟

حقًا يبدو أن هاتين الاثنتين: أي نعمة الله وحرية الإرادة معارضتين لبعضهما، لكن في الحقيقة هما متفقتان معًا، ونحن نستنتج من نظام الصلاح أنه يلزمنا أن تكون لنا الاثنتان معًا متشابهتين، فإن نزعنا إحداهما نكون قد كسرنا نظام قانون الكنيسة. فعندما يشاهدنا الله مائلين نحو الخير، يلتقي بنا ويقودنا ويقوينا… إذ يقول: “يتراءَف عليك عند صوت صراخك، حينما يسمع يستجيب لك” (إش19:30)، “وادعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني” (مز15:50). وإذا وجدنا غير راغبين في الخير أو أننا ننمو في البرود (الروحي)، يثير قلوبنا بنصائح مفيدة لكي ما تتجدد فينا الإرادة الصالحة أو تتكون فينا.

12- يجدر بنا ألا نتطلع إلى الله أنه خلق الإنسان بلا إرادة، أو أنه عاجز عن الصلاح، فلو كان قد سمح له بالإرادة الشريرة والقدرة على الشر دون الخير يكون بذلك قد حرمه من الإرادة الحرة، وعندئذ ماذا تعني العبارة التي نطق بها الرب مباشرة بعد سقوطه: “هوذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفًا الخير والشرَّ” (تك22:3)؟ لأننا لا نقدر أن نظن أنه كان قبلاً جاهلاً للخير تمامًا، وألا بهذا يكون الإنسان مخلوقًا غير عاقل كالحيوانات العجم، وهذا القول غريب تمامًا عن الكنيسة الجامعة.

علاوة على هذا فإن سليمان الحكيم يقول: “الله صنع الإنسان مستقيمًا” (جا29:7). بمعنى أنه على الدوام يتمتع بمعرفة الخير وحده، “أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة” (جا29:7). إذ صارت لهم معرفة الخير والشر كما كان من قبل. لقد صار لآدم بعد السقوط معرفة الشر الذي لم يكن يعرفه قبلاً، لكنه لم يفقد معرفته للخير الذي كان يعرفه.

أخيرًا تكشف كلمات الرسول بوضوح أن البشرية لم تفقد معرفة الخير بعد سقوط آدم، إذ يقول: “لأَنهُ الأممُ الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤُلاءِ إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم، الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم، شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة، في اليوم الذي فيهِ يدين الله سرائر الناس” (رو14:2-16).

بنفس المعنى ينتهر الرب على لسان النبي غير الطبيعيين، الذين اختاروا بإرادتهم عمى اليهود، وخلال عنادهم جلبوا ذلك على أنفسهم “أيها الصمُّ اسمعوا، أيها العمي انظروا لتبصروا، مَنْ هو أعمى إلاَّ عبدي وأصمُّ كرسولي الذي أُرسِلهُ؟!” (إش18:42،19).

وحتى لا ينسبوا عماهم هذا إلى الطبيعة وليس إلى إرادتهم يقول: “أَخرِج الشعب الأعمى ولهُ عيون والأصمَّ ولهُ آذان” (إش8:43)، وأيضًا “الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون” (إر21:5)، والرب نفسه يقول في الإنجيل: “لأنهم مبصرين ولا يبصرون وسامعين ولا يسمعون ولا يفهمون” (مت13:13).

بهذا تتحقق نبوة إشعياء النبي القائل: “اسمعوا سمعًا ولا تفهموا وابصروا إبصارًا ولا تعرفوا، غَلِّظ قلب هذا الشعب وثَقِّل أذنيهِ وأطمس عينيهِ لئَلاَّ يبصر بعينيهِ ويسمع بأذنيهِ ويفهم بقلبهِ ويرجع فيُشفَى” (إش9:6،10).

أخيرًا لكي تدرك أن إمكانية الصلاح كانت موجودة فيهم يوبخ الفريسيين قائلاً: “ولماذا لا تحكمون بالحقّ من قِبَل نفوسكم؟” (لو57:12) وهكذا ما كان يقول الرب هذا لو لم يعلم أنهم بحكمهم الطبيعي قادرون على تمييز ما هو صالح.

لهذا يلزمنا مراعاة عدم إشارة كل استحقاقات القديسين إلى الرب بطريقة لا ننسب فيها للإنسانية إلا ما هو شر وعناد. وهذا ما ندحضه بشهادة سليمان الحكيم، بل وبشهادة الرب نفسه. لأنه بعد الانتهاء من بناء الهيكل، وفي أثناء الصلاة نطق سليمان بهذا: “وكان في قلب داود أبي أن يبني بيتًا لاسم الرب إله اسرائيل. فقال الربُّ لداود أبي: من أجل أنهُ كان في قلبك أن تبني بيتًا لاسمي قد أحسنت بكونهِ في قلبك. إلاَّ أنك أنت لا تبني البيت بل ابنك الخارج من صلبك هو يبني البيت لاسمي” (1مل17:8-19). فهل هذا الفكر أو هذه الرغبة التي للملك داود ندعوه فكرًا صالحًا من الله، أم شريرًا من الإنسان؟! فلو كان صالحًا ومن الله، ما كان الله يوحي له بهذا الفكر المرفوض؟ ولو أنه فكر شرير من الإنسان، فلماذا مدحه الرب؟ إذن بقي أن هذا الفكر صالح ومن الإنسان.

هكذا يمكننا أن نتكلم بخصوص أفكارنا اليومية، فإنه لم يُوهب لداود وحده أن يفكر فيما هو صالح، إذ لا نُحرم نحن طبيعيًا أن نفكر ونتصور أمورًا صالحة. إذ لا نشك أنه بالطبيعة توجد فينا بعض بذور الصلاح، أوجدها حنو الخالق في كل نفس. لكن هذه البذور لا يمكن أن تنمو ما لم يرعها العون الإلهي، وكما يقول الرسول الطوباوي: “إذًا ليس الغارس شيئًا ولا الساقي بل الله الذي يُنمِي” (1كو7:3)…

تبقى حرية الإرادة على الدوام في الإنسان، لا نهملها ولا نغالي فيها… لأنه ما كان للرسول أن يوصي قائلاً: “تمموا خلاصكم بخوف ورعدة” لو لم يعلم أنه يمكن للإنسان أن يتقدم في الخلاص أو يهمله. لكن لا يتصور البشر أنهم غير محتاجين للعون الإلهي في عمل الخلاص، إذ يكمل: “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته” (في13:2). وأيضًا، “لا تهمل الموهبة التي فيك المعطاة لك بالنبوَّة مع وضع أيدي المشيخة” (1تي14:4)، “أذكّرك أن تضرم أيضًا موهبة الله التي فيك بوضع يديَّ” (2تي6:1).

لهذا فإنه في كتابته إلى أهل كورنثوس ينصحهم ويحذرهم لئلا بعدم إثمارهم يظهروا غير مستحقين لنعمة الله، قائلاً: “نطلب أن لا تقبلوا نعمة الله باطلاً” (2كو1:6). لأن قبول النعمة المخلصة لم يفقد سيمون شيئًا لأنه قبلها باطلاً، إذ لم يطع وصية بطرس المبارك الذي قال له: “فتُبْ من شرّك هذا واطلب إلى الله عسى أن يُغَفر لك فكر قلبك، لأني أراك في مرارة المرّ ورباط الظلم” (أع22:8،23).

فالنعمة تتقدم إرادة الإنسان، إذ قيل: “إلهي رحمتهُ تتقدمني” (مز 10:59). وأيضًا يتأخر الله لأجل صالحنا حتى يختبر رغباتنا، عندئذ إرادتنا هي التي تتقدم، إذ قيل: “في الغداة (الصباح) صلاتي تتقدمك” (مز 13:88)…

وهو يدعونا عندما يقول: “طول النهار بسطت يدَيَّ إلى شعبٍ معاندٍ ومقاوم” (رو21:10). ونحن ندعوه إلينا عندما نقول: “كلَّ يوم بسطت إليك يدَيَّ” (مز 9:88 ).

وهو ينتظرنا كقول النبي: “ولذلك ينتظر الرب ليتراءَف عليكم” (إش 18:30). ونحن ننتظره عندما نقول له: “انتظارًا انتظرت الرب فمال إليَّ” (مز 1:40)، و”رجوت خلاصك يا رب ووصاياك عملت” (مز 166:119).

هو يقوينا عندما يقول: “وأنا أنذرتهم وشدَّدت أذرعهم وهم يفكرون عليَّ بالشر” (هو 15:7). ويحثنا أن نقوي أنفسنا بقوله: “شدّدوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبّتوها” (إش 3:35). ويصرخ Jezus Pan: “إن عطش أحد فليُقبِل إليَّ ويشرب” (يو37:7). كما يصرخ النبي إليه: “تعبتُ من صراخي، يبس حلقي. كلَّت عينايَ من انتظار إلهي” (مز 3:69).

الرب يطلبنا عندما يقول: “طلبتهُ فما وجدتهُ دعوتهُ فما أجابني” (نش 6:5). والعروس أيضًا تطلبه، إذ تبكي بدموع قائلة: “في الليل على فراشي طلبت من تحبهُ نفسي، طلبتهُ” (نش 1:3).

13- الجهاد لا يفقد النعمة مجانيتها

هكذا تتعاون النعمة على الدوام مع إرادتنا لأجل نفعها، وتساعدها في كل شيء وتحميها وتدافع عنها، وذلك بطريقة يظهر فيها أنها تبحث عن بعض الجهاد الذي للإرادة الصالحة، حتى لا تبدو أنها تهب عطاياها للإنسان الخامل المتراخي. وهي تبحث عن فرص لكي تكشف للإنسان الخامل أنه باستكانته يفقد جود النعمة. مع هذا تُحسب النعمة مجانية، لأنه من أجل جهاد تافه تُمنح بغنى أمجاد الخلود التي لا تُقدر وبركات الأبدية.

ليس لأن إيمان اللص جاء أولاً يقول أحد أن عطية السكنى في الفردوس لم تمنح له مجانًا. ولا يمكننا أن نقول أنه بسبب كلمات الملك داود التي نطق بها تائبًا قائلاً: “أخطأْت إلى الرب” أنه بغير مراحم الله (المجانية) قد وهب له الغفران من خطيتين خطيرتين، إذ وهب له أن يسمع من النبي ناثان: “الربُّ أيضًا قد نقل عنك خطيتك” (2صم13:12). حقيقة إنه أضاف القتل إلى الزنا وهذا بالتأكيد بإرادته الحرة، لكن انتهار النبي له هو من حنو نعمة الله. كذلك انسحاقه واعترافه بالخطأ هذا من عمله هو، أما المغفرة عن هذه الخطايا في لحظة من الزمن فهذا عطية من الرب الرحيم.

ماذا نقول عن هذا الاعتراف المختصر الذي نطق به داود وعن المكافأة الإلهية السرمدية منقطعة النظير، إذ نرى الرسول المبارك يثبت أنظاره بسهولة إلى عظمة المكافأة العتيدة مستهينًا باضطهاداته غير المحصية، قائلاً: “لأن خفَّة ضيقتنا الوقتيَّة تنشئُ لنا أكثر فأكثر ثقلَ مجدٍ أبديًّا” (2 كو17:4). هذا ما يؤكده في موضع آخر قائلاً: “فإني أحسب آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلَن فينا” (رو18:8). هكذا مهما بلغ جهاد الضعف الإنساني، لن يبلغ (بذاته) إلى المكافأة المقبلة. ووجود جهاده لا ينفي عن النعمة الإلهية كونها مجانية.

لذلك فإن معلم الأمم قد بلغ درجة الرسولية بنعمة الله إذ يقول: “بنعمة الله أنا ما أنا”، وفي نفس الوقت يعلن أنه قد وافق النعمة الإلهية قائلاً: “ونعمتهُ المعطاة لي لم تكن باطلةً بل أنا تعبت أكثر من جميعهم” (1كو10:15). فعندما يقول: “أنا تعبت” يظهر جهاد إرادته، وعندما يقول: “ولكن لا أنا بل نعمة الله” يشير إلى قيمة الحماية الإلهية. وعندما يقول: “التي معي” يؤكد تعاون النعمة معه عندما لا يكون في كسل أو إهمال بل عاملاً ومجاهدًا.

14. كيف يختبر الله قوة إرادة الإنسان عن طريق التجربة؟[3]

ا. هذا أيضًا ما نقرأ عنه، أن البر الإلهي قد أعان أيوب الأمين بحق في مصارعته، عندما ناهضه الشيطان في معركة فريدة. لكن لو تقدم أيوب ضد عدوه، ليس بقوته إنما بحماية نعمة الله مسنودًا بالعون الإلهي من غير أي احتمال من جانبه، فانه في خضوعه لهذه التجارب المتعددة… كم يكون للشيطان أن ينطق بعدلٍ مفتريًا بما سبق أن قاله قبلاً: “هل مجانًا يتقي أيوب الله؟! أَليس أنك سيَّجت حولهُ… حول كل ما لهُ من كل ناحية؟! ولكن ابسط يدك الآن” أي اسمح لي أن أحاربه هو “فإنهُ في وجهك يجدّف” (أي 9:1-11).

لكن إذ لم يستطع العدو المفتري أن يحتج بهذا بعد المعركة، لأنه انهزم بقوة أيوب وليس بقوة الله[4]، لا بمعنى أن نعمة الله فارقت أيوب، لأنها هي التي أعطت للمجرب سلطانًا أن يجرب في الحدود التي كانت ترى فيها أن أيوب يقدر أن يقاومها، وفي نفس الوقت لم تحميه النعمة من هجمات العدو بطريقة تنزع فيها فضيلته وجهاده، إنما فقط هي تعينه. بمعنى أنها لا تسمح لذلك العدو الذي هو في غاية القسوة أن ينزع عنه عقله أو يغرقه أثناء ضعفه ببث أفكار فوق طاقته أو النزول معه في نزاع غير متساوٍ معه.

ب. أحيانًا يرغب الرب أن يمتحن إيماننا لكي يتقوى ويتمجد أكثر، وذلك كما في مثال قائد المئة الوارد في الإنجيل، إذ علم الرب أنه سيشفى خادمه بنطقه كلمة، ومع هذا اختار الرب أن يقدم له هذه الوسيلة وهي ذهابه إليه بالجسد، قائلاً: “أنا آتي وأشفيهِ” (مت7:8). وإذ غُلب قائد المائة من هذا العرض الذي قدمه الرب، قال بإيمان مملوء غيرة وحرارة: “يا سيّد لَستُ مستحقًّا أن تدخل تحت سقفي، لكن قُلْ كلمًة فيبرأَ غُلامي (عبدي)” (مت8:8)، فتعجب الرب منه ومدحه… فما كان يمكن أن يوجد له أساس للمديح والاستحقاق لو أن السيد المسيح قد ميزه هكذا عن الذين آمنوا بما قد وهبه هو به (أي لو لم يكن لقائد المئة نصيب في الجهاد من جانبه).

ج. نقرأ عن التجربة التي بقصد اختبار الإيمان التي جلبها البر الإلهي على العظيم في الآباء، إذ قيل: “وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم” (تك1:22)، لأن البر الإلهي أراد أن يمتحن ليس فقط الإيمان الذي أوحاه الله إليه… بل وليظهر حرية إرادته. لذلك فإن ثبات إيمانه لم يتزكى عبثًا، وقد جاءت نعمة الله التي فارقته إلى لحظة لتزكيته، جاءت تعينه إذ قيل له: “لا تمدَّ يدك إلى الغلام ولا تفعل بهِ شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك وحيدك عني” (تك12:22).

د. هذا النوع من التجربة الذي يمكن أن يحل بنا لأجل تزكيتنا أخبرنا عنه معطي الشريعة في سفر التثنية. “إذا قام في وسطك نبيّ أو حالم حلمًا وأعطاك آيةً أو أعجوبةً ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلَّمك عنها قائلاً: لنذهب وراءَ آلهةٍ أخرى لم تعرفها ونعبدَها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم، لأن الربَّ إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم” (تث1:13-3). هل عندما يسمح الله بأن يقوم مثل ذلك النبي أو يحدث ذلك الحلم، نقول بأنه سيحمي هؤلاء الذين يُختبرون في إيمانهم بطريقة لا يكون لهم فيها حرية إرادة، حيث يحاربون المجرب بقوتهم؟ وما الحاجة لتجريبهم إن كان الله يعلم أنهم هكذا ضعفاء وواهنين حتى أنهم لا يقدرون بقوتهم أن يقاوموا المجرب؟ بالتأكيد ما كان للبر الإلهي أن يسمح لهم أن يُجربوا ما لم يعلم أن فيهم قوة معادلة للمقاومة، بها يمكن أن يحكم عليهم حكمًا عادلاً إن وجدوا مستحقين للعقاب أو التكريم.

يتكلم الرسول أيضًا عن نفس النتيجة قائلاً: “إذًا مَنْ يظنُّ أنهُ قائِم فلينظر أن لا يسقط. لم تُصِبكْم تجربة إلاَّ بشريَّة. ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا” (1كو12:10، 13). لأنه عندما قال “مَنْ يظنُّ أنهُ قائِم فلينظر أن لا يسقط” أعطى إرادة حرة من جانبه، إذ يعلم بالتأكيد أنه بعد ما نال النعمة يمكن أن يثبت بالجهاد أو يسقط خلال الإهمال. لكن عندما أضاف: “لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون” يوبخ ضعفهم وخوار قلبهم الذي لم يتقوَ بعد، إذ لم يستطيعوا بعد أن يقاوموا هجمات قوات الشر الروحية، تلك القوات التي يحارب ضدها هو وغيره من الكاملين كل يوم، إذ يقول لأهل أفسس: “فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ بل مع الرؤَساءِ مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشرّ الروحية في السماويَّات” (أف12:6). وعندما أضاف: “ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون” بالتأكيد لا يعني أنه لا يدعهم يجربون، إنما لا يُجربوا فوق طاقتهم. فالعبارة الأولى تشير إلى إرادة الإنسان الحرة والأخرى إلى نعمة الله الذي يلطف من عنف التجارب.

إذن في كل هذه العبارات توجد براهين أن النعمة الإلهية تعمل في إرادة الإنسان لا لكي تحميها وتدافع عنها في كل الأمور بطريقة تجعلها لا تدافع عن نفسها بجهادها ضد الأعداء الروحيين، فينسب النصر إلى نعمة الله والهزيمة إلى ضعف الإرادة…

مثال توضيحي

إن أردنا أن نوضح مراحم خالقنا التي لا نظير لها من أمور أرضية، ليست مساوية لها في الحنو بل لمجرد التوضيح، فإنها تشبه مربية غاية في الاهتمام تحمل طفلاً في حضنها لمدة طويلة فلكي، تعلمه المشي عوض الحبو، تساعده بمد يدها اليمنى لكي يستند عليها أثناء تبديل قدميه، وفي لحظة تتركه قليلاً، فإذا ما رأته يتطوح بشدة تمسك به بسرعة، وإذ تراه يسقط تخطفه وترفعه وتحميه من السقوط أو تسمح له أن يسقط سقطة خفيفة لترفعه بعدما يكبو. لكن عندما تربيه حتى إلى الصبوة أو قوة الشباب أو الرجولة المبكرة فإنها تعطيه بعض الأحمال والأثقال لا لكي تهلكه إنما لتمرنه، وتسمح له أن يتنافس مع من هم في عمره.

كم بالأكثر الأب السماوي الذي هو أب الجميع يعرف كيف يحمل الإنسان في حضن نعمته لكي ما يدربه على الفضيلة أمام نظره بواسطة تدريب إرادته الحرة، ومع ذلك يساعده في جهاده ويسمع له عندما يدعوه، وأحيانًا ينتشله من المخاطر حتى بغير معرفته.

15- أنواع دعوة النعمة للبشرية

بهذا يتضح بوضوح أن الله بواسطة أحكامه التي لا تُستقصى وطرقه البعيدة عن الفحص (رو33:11) يجذب البشرية إلى الخلاص. ويمكننا أن نبرهن على هذا بأمثلة من الدعوات الواردة في الأناجيل.

· اختار الرب أندراوس وبطرس وبقية التلاميذ بواسطة حنو نعمته المجانية، بينما كانوا لا يفكرون في شفائهم وخلاصهم.

· حينما سعى زكا – قبل إيمانه – ليرى الرب معالجًا قصر قامته بإعتلائه الجميزة، فلم يستقبله الرب فحسب، بل وكرمه وشرفه بالذهاب معه إلى مسكنه.

· بولس أيضًا بغير إرادته وفي مقاومته جذبه الرب إليه.

· وآخر أمره الرب أن يتبعه ويلتصق به تمامًا، حتى عندما سأله أن يؤجل ذلك قليلاً ليدفن والده لم يسمح له بذلك.

· بالنسبة لكرنيليوس إذ كان على الدوام يثابر على الصلوات والصدقات أظهر له طريق الخلاص كمكافأة له، وبواسطة زيارة الملاك له أمره أن يستدعي بطرس ويتعلم منه كلمات الخلاص التي بها يمكن أن يخلص هو وكل بيته.

هكذا تهب حكمة الله من جوانب متعددة الخلاص للبشر بطرق متنوعة وحنوه الذي لا يستقصى، ويعلن لكل واحد حسب طاقته نعمة جوده، حتى أنه يريد أن يهب شفاءه ليس حسب مقياس محدد لقوة جلاله، إنما حسب مقاييس الإيمان التي يجدها في كل واحد، أو حسبما يعطي هو بنفسه كل واحد. لأنه عندما آمن شخص أنه لأجل برئه من البرص تكفيه إرادة المسيح وحدها لشفائه قال الرب: “أريد فاطهر” (مت3:8). وعندما توسل آخر أن يأتي الرب ويقيم ابنته الميتة عن طريق أن يمسكها بيده، دخل الرب منزله كما ترجى ذاك ووهب له ما قد سأله. وآخر آمن أن ما هو رئيسي لخلاصه يتوقف على مجرد أمر (كلمة) من فم الرب وأجاب: “قُلْ كلمًة فيبرأَ غُلامي (خادمي)” (مت8:8). قال له: “اذهب وكما آمنت ليكن لك” (مت13:8). وآخرون إذ ترجوا الشفاء من لمس هدب ثوبه وهبهم عطية الشفاء العظيمة.

البعض عندما سألوه وهبهم الشفاء من أمراضهم. وآخرون قدم لهم الشفاء من غير أن يسألوه، وآخرون حثهم لكي يطلبوا ذلك قائلاً: “أَتريد أن تبرأَ؟” (يو6:5)، وآخرون عندما كانوا بلا رجاء أعانهم من تلقاء نفسه. إنه يطلب إرادة البعض قبل أن يشبع احتياجاتهم قائلاً: “ماذا تريدان أن أفعل بكما” (مت32:20). وبالنسبة لأخرى لم تكن تعرف الطريق لتحقق ما ترغب فيه، أظهر لها الطريق في حنو قائلاً: “إن آمنتِ ترين مجد الله” (يو40:11).

سكب أعماله الشفائية علي البعض كقول الإنجيلي: “وشفى مرضاهم” (مت14:14). لكن بالنسبة لآخرين توقفت عطايا الله التي لا تحد إذ قيل: “ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوةً واحدة… وتعجب من عدم إيمانهم” (مر5:6،6). وهكذا يظهر أن جود الله فعلاً يتوقف على طاقة الإيمان حتى أنه قيل: “بحسب إيمانكما ليكن لكما” (مت29:9)، ولآخر قيل: “اذهب وكما آمنت ليكن لك” (مت13:8)، ولآخر: “ليكن لكِ كما تريدين” (مت28:15)، وأيضًا: “إيمانك قد شفاك” (لو42:18).

16- النعمة الإلهية تسمو بالحدود الضيقة التي للإيمان البشري

ليته لا يتصور أحد أننا قدمنا هذه الأمثلة لكي ننسب النصيب الأكبر من خلاصنا على إيماننا نحن وذلك كما يظن البعض بتصورات أرضية، هؤلاء الذين ينسبون كل شئ لحرية الإرادة، قائلين أن نعمة الله توزع حسب استحقاقات كل إنسان. وإنما نؤكد بوضوح رأينا الذي يعلن بجلاء بغير لبس أن نعمة الله غاية في السمو والوفرة وأحيانًا توسع الحدود الضيقة لنقص الإيمان البشري.

نذكر ما حدث في حالة الحاكم الوارد في الإنجيل، الذي إذ آمن أنه من الأسهل أن يشفي له ابنه من مرضه عن أن يقيمه من الموت مستعجلاً الرب ليذهب إليه في الحال قائلاً: “يا سيّد انزل قبل أن يموت ابني” (يو48:4)، ولو أن الرب وبخه لقلة إيمانه بهذه الكلمات: “لا تؤْمنون إن لم تروا آياتٍ وعجائب” إلا أنه لم يعلن نعمة لاهوته قدر ضعف إيمان الرجل، ولا نزع مرض الحمى المميت بحضور الرب بالجسد كما أراد الرجل، إنما بكلمة قوته قال له: “اذهب. ابنك حيّ” (يو50:4).

نقرأ أيضًا أن الرب سكب من غنى نعمته الغنية في حالة شفاء المفلوج، الذي وإن كان قد سأل من أجل شفاء جسده إلا أنه وهبه شفاء النفس أولاً بقوله: “ثِقْ يا بُنَيَّ. مغفورة لك خطاياك” (مت2:9). وإذ لم يصدقه الكتبة أنه يقدر أن يغفر خطايا البشر، شفى أعضاء الرجل بقوة كلمته نازعًا مرض الفالج بالقول: “لماذا تفكرون بالشرّ في قلوبكم؟ ايُما أيسر أن يقال مغفورة لكي خطاياك. أو أن يقال قُمْ وأمشِ. ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا، حينئذٍ قال للمفلوج: قُم أحمل فراشك واذهب إلى بيتك” (مت4:9-6).

بنفس الطريقة في حالة الإنسان الذي كان ملقيًا 38 سنة بجوار حافة البركة، مترجيًا الشفاء من حركة الماء، فقد أظهر غنى جوده له من غير أن يسأله. فعندما رغب أن يقيمه قال له: “أَتريد أن تبرأَ” (يو6:5). وعندما أشتكى من عجز المعونة البشرية قائلاً: “ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرَّك الماءُ” (يو7:5)، وهبه الرب في حنوه العفو عن عدم إيمانه وجهله وأبرأه وأعاده إلى صحته الأولى، ليس كما كان يتوقع، بل كما يريد الرب نفسه قائلاً له: “قُمْ. احمل سريرك وأمشِ” (يو8:5)[5].

ملخص المبادئ

الطهارة الداخلية عطية مجانية تهبها النعمة الإلهية، وهي لا تُعطى إلا للمجاهدين المثابرين بقلب منسحق.

نعمة السيد المسيح حاضرة بين أيدينا كل يوم… غايتها وعملها أن تجتذب كل الناس لكي يخلصوا.

الجهاد والنعمة طريق واحد… فهما متلازمان لا يمكن فصلهما، لأن الجهاد الحقيقي لا يمكن القيام به بغير النعمة، ولا النعمة تعمل في المتراخين… فلا عجب إن رأينا الله يأمرنا بوصايا معينة لتنفيذها… وفي نفس الوقت نطلب نحن في جهادنا أن ينفذ الله ما أمرنا به في حياتنا. ونذكر في ذلك الأمثلة التالية:

   1- الله يأمرنا: “اقتربوا إلى الله” (يع8:4)، و “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين” (مت28:11)، وفي نفس الوقت لا يقدر أحد أن يأتي إليه ما لم يجتذبهُ الآب (يو44:6).

   2- الوصية تقول: “مَهّدْ سبيل رجليك” (أم26:4)، ونحن نطلب من الله أن يسهل لنا الطريق (مز8:5).

   3- الوصية تأمر: “اطرحوا عنكم كل معاصيكم” (حز31:18) ونحن نطلب عمل الله القادر وحده أن ينزع عنا القلب الحجري (حز19:11،20)

   4- الرب يأمر: “اغسلي من الشر قلبكِ” (إر14:4)، ونحن نصرخ إليه: “طهّرْني بالزوفا فأطهر” (مز7:51).

   5- الوصية تقول: “ازرعوا لأنفسكم نور المعرفة” (هو12:10)، والكتاب يعلمنا أن الله هو “المعلم الإنسان معرفةً” (مز10:94).

   6- الوصية تطلب: “فوق كل تحفظٍ احفظ قلبك” (أم23:4)، مع أن “سلام الله الذي يفوق كلَّ عقلٍ يحفظ قلوبكم” (في7:4).

   7-  الوصية تنادي: “انحلّي من رُبُط عنقكِ” (إش2:52)، مع أن “الرب يطلق الأسرى” (مز7:146).

   8- باختصار يطالبنا الرب على لسان رسوله: “اركضوا لكي تنالوا” (1كو24:9)، وفي نفس الوقت يقول: “لا يقدر أحد أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أعطي من السماء”.

على كل فإن عمل الله لا يقيّد، بعيد عن الفحص وفوق كل استقصاء، ولا يمكننا أن نقول أيهما يبدأ أولاً الجهاد أم النعمة، ولا تتوقف نعمة الله في سخائها على طريقة واحدة فهناك طرق كثيرة منها:

   1- اختيار الله – بحنو نعمته المجانية – أندراوس وبطرس.. من غير أن يفكروا في شفائهم وخلاصهم.

   2- اختار زكا لأنه كان يناهض ويبحث ليرى يسوع من هو.

   3- جذب بولس بغير إرادته وهو مقاوم للرب.

   4- جذب آخر ليتبعه مانعًا إياه أن يذهب ويدفن أباه.

   5- أعلن ذاته ورسالته لكرنيليوس من أجل مثابرته على الصلوات والصدقات.

النعمة الإلهية تهب الإنسان حسب طاقة إيمانه.

   1- فمن كان يكتفي أن يريد الرب له الشفاء ليُشفى كان يقول له: “أريد فأطهر”.

   2- ومن كان يطلب كلمة من فم الله يقول له: “كما آمنت يكون لك”.

   3- ومن يؤمن بلمس هدب ثوبه يشفى، هكذا حسب إيمانه هذا يشفى.

   4- ومن يطلب أن يأتي الرب إلى بيته ويمسك بيد مريضه… هكذا قدر إيمانه يهبه.

أحيانًا توسع النعمة حدود إيماننا الضيقة:

   1- فالرجل الذي طلب من الرب أن يسرع إلى بيته لئلا يموت ابنه… أعطاه شفاء ابنه من غير أن يذهب معه.

   2- ومرثا التي قالت له: “لو كنت ههنا لم يَمُتْ أخي” (يو21:11)، أقام لها لعازر أخيها بعدما أوضح لها إمكانياته أنه هو القيامة.

أحيانًا يهب الرب نعمته من غير أن نسأله… كما فعل مع مريض بيت حسدا الذي ذهب إليه بنفسه وسأله: “أتريد أن تبرأ؟”.

 وأحيانًا يمتنع عن تقديم نعمته بسبب عدم الإيمان.

أخيرًا فإن نعمة الله تعمل في المجاهدين وتعينهم، دون أن تفقدهم حرية إرادتهم حتى يتكللوا، هذا الجهاد مهما بلغ قدره لا ينفي عن النعمة مجانيتها.


(*) ملاحظة هامة: أرجو قراءة هذا المقال بعد الرجوع إلى المقدمة الخاصة بها في حياة كاسيان. فقد أثارت مشكلة لكاسيان وأُتهم بسببها بالـ Semi-pelagianism، إذ خُشي منها لئلا تكون طريقًا لأتباع بلاجيوس الذين يتجاهلون نعمة الله إلى حدٍ ما، مركزين بالأكثر على الأعمال. [هذه الفقرة كانت في رأس الصفحة، ولكننا رأينا أن نجعلها كحاشية مع التنويه لهذا… (الشبكة)]

[1] القَمَص هو الجراد في أول خروجه من البيضة، وبعدما يبدأ يزحف يسمى “الزحَّاف”، وبعد ما ينبت له أجنحة يسمى “الغوغاء”، وإذ يصير في كامل نضجه يسمى “الطيار”.

[2] النص البيروتي: “ازرعوا لأنفسكم بالبر”.

[3] حملت بعض العبارات مغالاة من جهة إرادة الإنسان وعلاقتها بنعمة اللّه.

[4] هذا النص من ضمن النصوص التي جعلت البعض يتهمونه بالـ Semi – pelagianism غير أنه يظهر من المقال في مجمله أنه لا يقصد تجاهل نعمة اللّه وقوته. لكن خاف البعض لئلا يقتطف البيلاجيون بعض عباراته منفردة عن المقال ويعتمدون عليها في تأكيد اتكالهم على أعمال الإنسان فقط.

[5] تحدث بعد ذلك عن عناية اللّه التي لا تستقصي وكيف أنه بطرق متنوعة وأحكام لا تفحص يبحث عن الإنسان ويطلبه ويدافع عنه. ويعتبر ذلك ملخص للمناظرة كلها لهذا لم أترجمها منعًا للإطالة والتكرار.

Facebook
Świergot
Telegram
WhatsApp
PDF

معلومات حول الصفحة

عناوين المقال

محتويات Sekcja

وسوم الصفحة

pl_PLPolish
Przewiń na górę