خلق العالم غير المنظور

يقصد بكلمة “ما لا يرى” في دستور الإيمان عالم السموات غير المنظورة أي عالم الملائكة أما كلمة ملاك، والتي تعني مرسل، مبشّر، منذر، فتشير إلى وظيفة الملائكة (مز106: 20، عب1: 14).

يتحدث الكتاب المقدس في مواضيع كثيرة عن الملائكة (تك28: 12-13، 32: 1، عدد22: 22، أيوب4/ 18، مز8: 5، أش6: 2-3، 2مل1: 3، 15، 4: 1-5 الخ….) (مت1: 20، 2: 13، 19، 4: 11، 28: 2-8، مر16: 5-8، لو1: 11-13، 1: 28، 2: 9-13، 14: 4-8، 22: 43، يو20: 12، أع1: 10، 11، 5: 19، 12: 7-11، 10: 3-6، 27: 23 الخ….) وفي جميع هذه الآيات وغيرها تظهر فيها الملائكة ككائنات حقيقية، روحانية، شخصية متميزة عن الله والناس.

أصل الملائكة: الملائكة هم أيضاً خليقة الله من العدم، وليس من مادة أزلية موجودة سابقاً أو من الله نفسه. هذا ما يؤكده الكتاب المقدس (نحميا9: 6، كولوسي1: 16). لكنه لا يذكر بوضوح متى خلقوا. ومع ذلك توجد إشارات كافية تدلنا أن خلق الملائكة تمّ قبل خلق العالم المنظور، فمثلاً في أول آية من سفر التكوين والتي تحدث عن الخلق، تسبق كلمة السموات والتي تشير إلى عالم الملائكة، كلمة الأرض والتي تشير إلى العالم المادي (تك1: 1). كذلك المجرب الذي جاء بهيئة حية هو بحسب شهادة الكتاب ملاك ساقط (رؤ12: 9)، وهذا يعني أنه كان قد سقط قبل خلق الإنسان وبالتالي وجد قبله. أيضاً في سفر أيوب، يحاور الرب أيوب من العاصفة متحدثاً عن تأسيس الأرض ثم يضيف “عندما ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله” (أيوب 38: 5-7)، وهذا يدل بالطبع على أن بني الله أي الملائكة كانوا قد خلقوا قبل تأسيس الأرض وهو الرأي السائد عند الآباء القديسين باستثناء اغسطينوس الذي يرى أن الملائكة قد خلقوا في اليوم الأول مع العالم المنظور أو بعد الإنسان مباشرة.
طبيعة الملائكة: الملائكة هم أرواح (عب1: 14) غير منظورة (كولو1: 16) لا يزوجون ولا يتزوجون (مت22: 30) ولا يموتون (لو20: 36) وهم مخلوقات عاقة (2صمو14: 20)، حرة (2بط2: 4)، محبّة تفرح لرجوع الخطأة (لو15: 10).

إن ظهور الملائكة أحياناً بهيئة بشرية أو مع أجنحة، أو متكلمين بشرياً وآكلين أو لابسين (تك32: 25، أش6: 2، مت28: 30، لو24: 4، رؤ14: 6) لا يجب أن يجعلنا نعتقد بأن للملائكة أجساداً، مثلما لا تجعلنا ظهورات الله بهيئات مختلفة أن نستنتج بأن لله جسداً منظوراً. ولكن طبعاً، كما يعلّمنا الآباء، أن الملائكة هم غير جسدانيين وغير ماديين فقط بالمقارنة معنا، ولكن بالقياس مع الله (ذو الروحانية المطلقة) هم كثيفون وماديون. لأن الألوهة وحده في الحقيقة هي غير هيولية وغير جسدانية. كما أن تحرك الملائكة بسهولة قابلة للإدراك من قبلنا، وتواجدهم في أي مكان يأمرهم به الله لا يعني بأننا نستطيع وصفهم بأنهم حاضرون في كل مكان. لأن هذه أيضاً صفة تخص الله وحده.

الملائكة لكونهم أرواحاً هم أسمى من البشر (مز8: 5)، واحكم منهم (2صمو14: 20) وأقوى وأشد فعالية (مت28: 2، 1بط2: 11) ولكنهم أقل سمواً من الله بما لا يقبل أي قياس أو مقارنة (أيوب4: 18، اش6: 2-3، افسس3: 9-10، 1بط1: 12)، إذ أنهم مجرد مخلوقات خادمة له، وكل ما لديهم من خلود أو مواهب أو معرفة إنما بفضل نعمته (عب1: 5-14).

لقد توصل الملائكة الأخيار إلى أن يثبتوا في الخير وأن يتقدموا فيه بعد اختيارهم له بملء حريتهم، مع أنه كان بإمكانهم أن يخطئوا وأن يبتعدوا عن الله كما فعل الشياطين. ولذلك يحيا الملائكة الآن وهم يعاينون وجه الله (مت18: 10) في شركة كم القداسة والأزلية معه تمنحهم حالة نهائية من الغبطة.. من أجل هذا يسميهم الكتاب المقدس مختاري الله (1تيمو5: 21) وأبناء الله (ايوب1: 6، 38: 3) ومواطني أورشليم السماوية (عب12: 22). وهذا كله لا يرجع إلى قداسة طبيعية خاصة بل إلى نعمة الله التي تكلمهم وتقدسهم باستمرار.

عدد الملائكة وتسلسلهم: يظهر من الإعلان الإلهي أن عدد الملائكة كبير جداً وغير قابل للحصر. فالكتاب المقدس يتكلم عن جيش من الملائكة (تك22: 1-2) وجمهور من الملائكة (لو2: 3) وكذلك عن ربوات وملايين منهم (دا7: 10، عب12: 22…..).

استناداً إلى الكتاب المقدس والقديس المكنى بديونيسيوس الأريوياغي تعلّم الكنيسة أن في هذا العالم الروحي يوجد نظام وتسلسل، إذ ينقسم الملائكة إلى تسع رتب ملائكية تتوزع في ثلاثة صفوف بحسب قربهم من الله: السارافيم والشيروبيم وعروش، سلاطين ورئاسات وقوات، ملائكة رؤساء ملائكة سيادات. هذه الأسماء نجدها في (كولو1: 16، اف1: 21، 1بط3: 22، الخ….) أما الفرق بين هذه المراتب الملائكية فيبقى سرّاً لدينا. كل ما يمكن قوله أن هذه الصفوف هي في شركة وثيقة مع بعضها بطريقة أن يستنير الملائكة الأبعد عن الله من الذين يعلونهم ويفضلونهم وهكذا بالتسلسل.

عمل الملائكة: يشير الكتاب المقدس إلى عملين أساسين للملائكة الأول هو تمجيد الله وذلك بسبب معاينتهم لبهاء مجده. إذ يحفون أمام عرشه بذهول وهم يسبحون معظمين: قدوس قدوس قدوس… (أش3: 6، رؤ4: 8).

أما العمل الثاني فهو تبليغ مشيئة الله وتنفيذ وصاياه الإلهية من أجل خلاص البشر وانتشار ملكوته فيهم (مز3: 4، عب1: 14، لو1: 28 الخ….) ولهذا تعلّمنا الكنيسة أن لكل مؤمن ملاكاً يحرسه مرافقاً إياه من المهد إلى اللحد وهو ما يتفق مع فحوى آيات عديدة في الكتاب (مز34: 7، 91: 11، مت18: 10، أع12: 15).

الملائكة الأشرار: يتحدث الكتاب المقدس أيضاً، وفي مواضع كثيرة أخرى، عن ملائكة من نوع متناقض تماماً للنوع الخيّر الذي ذكرناه، مسمّياً إياهم ملائكة إبليس (مت25: 41، رؤ13: 9) أو شياطيناً (لو4: 41، مر5: 12) أو أرواحاً شريرة (لو8: 2، أع19: 13) أو أرواحاً نجسة (مت10: 1، مر6: 7) أو أجناد الشر الروحية (أف6: 12) الخ…..

عدد هؤلاء أيضاً كبير جداً (لو8: 30)، ويؤلفون مملكة حقيقية للشر (لو11: 18) يتفاوت أعضاؤها في كثرة شرورهم (لو11: 26). لهم رئيس (مت12: 24) ومراتب مختلفة من رؤساء وسلاطين والخ…. (اف6: 12، كولو2: 15).

أصل الشياطين: الشياطين هم أصلاً ملائكة أخيار، لأن الله بحسب طبيعته الخيّرة لا يمكن أن يخلق إلا كل ما هو حسن وطاهر (تك1: 31). لكنهم أصبحوا أشراراً بفعل إرادتهم الخاصة الحرّة: “لأنه إن كان الله لم يشفق على ملائكته قد أخطأوا..” (2بط2: 4، يهو6، يو8: 43). أما سبب سقوط الملائكة الأشرار فليس واضحاً بشكل كاف في الكتاب المقدس، إلا أن الرأي السائد في الكنيسة منذ نشأتها أن إبليس (الشيطان) قد سقط بسبب الكبرياء (1تيمو3: 6)، وجذب ملائكة آخرين معه (مت25: 41، رؤ12: 9). والكبرياء هنا تعني رغبة الشيطان الخاصة في أن يؤله ذاته مستقلاً عن الله مساوياً نفسه به (اش14: 12-14).

أفعال الشياطين وعلاقتهم بالبشر: تتصف طبيعة الملائكة الأشرار بعد سقوطهم بكره الحق ومحاولة تشويهه. لذلك سمّي الشيطان بالكذاب وأبي الكذاب (يو8: 44). ويتجه سعيه بشكل خاص لمقاومة المشيئة الإلهية، فيخدع النفوس البشرية محاولاً اجتذاب الصالحين إلى الشرّ وإغرائهم بشتى الوسائل كي يسقطوا وحتى بجلب المصائب عليهم (أيوب1: 8-11، رؤ2: 10). أما الطالحين فيشجعهم على ارتكاب المنكرات وتغريبهم أكثر فأكثر عن الله.

بالمقابل نعلم من الكتاب نفسه أن الله لجم إبليس وملائكته ولا يزال يلجمهم “فلم يشفق عليهم بل أهبطهم إلى أسافل الجحيم وأسلمهم إلى سلاسل الظلمة ليحفظوا للقضاء” (1بط2: 4). كما أن المسيح بموته أبطل مملكة الشر والموت على الأرض ولا يزال يبطلها بواسطة امتداد مملكة النعمة (عب2: 14-15)، ومنح المؤمنين باسمه قوى إلهية يستطيعون بموجبها أن يطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة (اف6: 11-17). ولهذا يقدر المؤمن بثباته في الرب واتحاده به بوساطة الأسرار الإلهية، وصلاته وصومه ويقظته الروحية (مر9: 29، مت26: 41) أن يدحر أية تجربة.

الله نفسه لا يجرّب بالشرور (يع1: 13) ولكنه يسمح أن نجرّب من قبل الشياطين كي ننتفع روحياً، لأنه يستطيع أن يحوّل مقاصد الشيطان الشريرة إلى نتائج خيّرة معطياً إيانا إكليل الحياة إن ثبتنا وقت التجربة (يع1: 12). وحتى في حال سقوط المؤمن وتوبته يتعلّم الاتضاع ويتعرف على الأبعاد الحقيقية لذاته، فيتقي شر الكبرياء متكلاً في ضعفه على الرب (2كو12: 7-10). كما أن الله يضع حدوداً لتجارب الشيطان بحيث لا تتجاوز إمكانية المقاومة عند الناس جاعلاً مع التجربة منفذاً كي يستطيعوا أن يحتملوا (كو10: 13).

وحتى المجيء الثاني أي حين سيسلّم الشيطان وملائكته إلى العقاب الأبدي (مت25: 41) سيبقى إبليس خصماً لنا كأسد زائر يلتمس من يبتلعه (1بط5: 8). ولكنه أبداً لن يستطيع اغتصاب حرية الإنسان. أي أنه يقدر أن يستغل نقاط الضعف عن الإنسان ويستعمل شتى الوسائل لكي يزيّن له الخطيئة أو يجرّبه بالضيقات لكي يبعده عن الرب، ولكنه لا يستطيع أن يجبره البتة.

pl_PLPolish
Przewiń na górę