Facebook
Świergot
Telegram
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

” فإذاً أيها الاخوة نحن مدينون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد. لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون. ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون ” (رو8: 12-13).

          بعدما أظهر كيف أن مجازاة الحياة الروحية هي عظيمة، وأن المسيح يعمل في هذه الحياة، وأنه يحيي الأجساد الفانية ويعطي أجنحة للتحليق نحو السماء، ويجعل طريق التقوى سهلاً، يرى من الضروري أن يُضيف بعد ذلك كله، ناصحاً: فإذاً نحن مدينون ألا نحيا بحسب شهوات الجسد. ومن المؤكد أنه لم يقل هذا بشكل ضعيف، لكنه تكلم بأكثر حماس وأكثر قوة، قائلاً: نحن مدينون أن نحيا بالروح. وكونه يقول ” نحن مدينون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد”، فهو يريد أن يؤكد ويشدّد على هذه الحقيقة. وفي كل موضع، يوضح أن تلك الأمور التي صنعها لنا الله، لا تمثل ديناً، لكنها تعتبر فقط دليل نعمة، بينما تلك الأمور التي نصنعها نحن بعد كل هذا، هي دليل دين. لأنه عندما يقول: ” قد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيداً للناس” [1] فهذا هو ما يقصده. وعندما يكتب “.. أنكم لستم لأنفسكم “ [2] . فهو يعني بالضبط الأمر ذاته. وفي موضع آخر يُذكِّر أيضاً بتلك الأمور عينها، قائلاً: ” إن كان واحد مات لأجل الجميع فالجميع إذاً ماتوا .. كى يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم “ [3] . هذا بالضبط ما يُدلل عليه هنا، إذ يقول: ” نحن مدينون “.

          ثم بعد ذلك، لأنه قال: ” نحن مدينون ليس للجسد “، ولكي لا تعتقد أنه يُشير لطبيعة الجسد، لم يكتفِ بهذا، بل أضاف ” لنعيش حسب شهوات الجسد “. لأنه بالحقيقة هناك أمور كثيرة نحن مدينون بها للجسد: أن نُطعمه، أن ندّفئه، أن نعتنى به حين يمرض، أن نكسوه، وأن نُقدم له أموراً أخرى كثيرة. ولكي لا تتصور أنه يُبطل هذه الخدمة، فبعدما قال: ” نحن مدينون ليس حسب الجسد ” فسّر هذا قائلاً: ” لنعيش حسب “شهوات الجسد”. إذاً هو يُبطل هذا الاهتمام أي “شهوات الجسد”، الذي يقود للخطية، لأنه يريد أن نسلك وفقاً لكل ما هو خارج شهوات الجسد، الأمر الذي شرحه بعد ذلك. لأنه بعدما قال: ” لا تصنعوا تدبيراً للجسد ” أضاف: ” لأجل الشهوات “ [4] . هذا ما يُعلّم به هنا تحديداً، قائلاً: لنعتنى بالجسد، لأننا مدينون لهذا الجسد، لكن ينبغي علينا ألا نعيش وفقاً لشهوات الجسد، بمعنى ألا نجعل الجسد يسود على حياتنا، أو ينظم حياتنا، بل أن نُخضعه لناموس الروح.

          إذاً بعدما حدّد وبرهن على ما يقول، أي أننا مدينون أن نعيش بحسب الروح، أظهر بعد ذلك أفعال وإحسانات نحن مدينون لها، وهو لا يتكلم عن الأمور الماضية بل عن أمور الدهر الآتي، الأمر الذي لأجله تتجلى حكمة الرسول بولس بشكل خاص. وإن كان من المؤكد أن تلك الأمور الماضية تُعدّ كافية، لكنه لا يُشير إليها الآن، ولا يتحدث عنها، بل يتحدث عن أمور الدهر الآتي. لأنه أي إحسان أُعطى مرة واحدة، لا يمكن عادةً أن يجذب عدداً كبيراً من البشر، بقدر ما يجذبهم انتظار أمور الدهر الآتي. ولأنه يهدف إلى ذلك، فهو يُثير المخاوف من الأمور المحزنة والشرور التي تنتج عن الحياة حسب الجسد، قائلاً الآتي:

” لأنه  إن عشتم حسب الجسد فستموتون .. ” (رو13:8).

          مُشيراً إلى الموت الذي لا ينتهي، أي الجحيم، والعقاب في جهنم. لكن لو أراد المرء أن يفحص بتدقيق هذا الأمر، سيجد أن مثل هذا الإنسان يموت في هذه الحياة أيضاً، الأمر الذي شرحته لكم بكل وضوح في حديث سابق. ” لكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون ” أرأيت أنه لا يتحدث عن طبيعة الجسد، بل عن أعمال الجسد؟ لأنه لم يقل: إن كنتم بالروح تميتون طبيعة الجسد، بل “أعمال الجسد”، وليست كل أعمال الجسد، بل الأعمال الشريرة فقط. وهذا صار واضحاً من الكلام الذي أتى بعد ذلك. لأنه يقول إن فعلتم هذا، فستحيون.

          وكيف يكون ممكناً أن يحدث هذا، إذا كان يتكلم عن كل الأعمال؟ لأن الرؤية والسمع، والكلام، والمشى هي من طبيعة الجسد، فإن حدث وجعلنا هذه الأعمال تموت، فسنغادر الحياة، طالما أننا سنُعاقب أنفسنا بالقتل. إذاً فما هي الأعمال التي يريد الرسول بولس أن نُميتها؟ هي الأعمال المرتبطة بالشر، تلك التي تسير نحو الخطية، والتي من غير الممكن أن نُميتها بطريقة مختلفة، إلاّ بواسطة الروح فقط. لأن الأعمال الأخرى من الممكن أن يُميتها المرء، بعدما يقتل نفسه، الأمر الذي هو غير مقبول، بينما هذه الأعمال نُميتها بالروح. لأنه في حضور الروح تهدأ كل الأمواج، والشهوات كذلك ستتراجع، ولن يثور أي شيء ليتواجه معنا. أرأيت كيف أنه بحديثه عن أمور الدهر الآتي، الأمر الذي سبق وأشار إليه، يحثنا ويبرهن على أننا مدينون، وليس من قِبَل تلك الأمور التي حدثت سابقاً؟ لأن الإنجاز الذي حققه الروح لا يقتصر فقط على أنه خلَّصنا من الخطايا السالفة، بل جعلنا لا نُهزَم في مسيرتنا نحو الدهر الآتي، وجعلنا أيضاً مستحقين للحياة الأبدية.

2  وهو يشير إلى مكافأة أخرى يقول:

” لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله ” (رو14:8).

          هذه المكافأة هي أكبر بكثير من السابقة. ولهذا لم يقل لأن كل الذين يحيون فقط بروح الله، لكن ” كل الذين ينقادون بروح الله ” مُظهراً كيف ينبغي أن يكون الروح القدس هو المهيمن على حياتنا، مثل قائد السفينة، أو مثل اللجام في يد قائد عربة يجرها جوادان. وليس الجسد فقط، هو الذي يخضع لهذا اللجام، بل والنفس أيضاً.

          لأنه لا يريد لهذه النفس أن تسود أو تتسلط، بل تكون السيادة لقوة الروح القدس. قال هذا حتى لا يهملوا أو يتهاونوا، بعدما نالوا الجرأة، بواسطة نعمة المعمودية في سلوكهم المتوقع (أي بعد المعمودية)، وهو يؤكد هكذا على أنه حتى وإن إعتمدت، فقد يحدث ألا تنقاد بالروح، وتخسر الرتبة التي أُعطيت لك، وتخسر كرامة التبنى. ولهذا لم يقل كل مَن أخذ الروح، لكن ” كل الذين ينقادون بروح الله ” بمعنى كل الذين يحيون هكذا كل حياتهم ” هؤلاء هم أبناء الله “. ثم بعد ذلك، لأن هذه الرتبة أو المقام قد أُعطى لليهود: ” أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم “ [5] . وأيضاً ” ربيت بنين ونشأتهم “ [6] ، و” إسرائيل ابنى البكر” [7] ، وأيضاً يقول الرسول بولس “ولهم التبنى” [8] ، يبيّن فيما بعد، مقدار الفرق بين الكرامة القديمة، وهذه الكرامة (الخاصة بالبنوة لله تحت قيادة الروح القدس).

          لأنه إن كانت التسميات هي نفسها، لكن الأشياء ليست هي نفسها. وهو يعطى دليل واضح لهذه الأمور، ويصنع مقارنة مع أولئك الذين نالوا شيئاً، وتلك الأمور التي أُعطيت، وتلك التي ستحدث. أولاً يُظهر ما هي تلك الأشياء التي أُعطيت للقدماء. حسناً ما هي هذه الأشياء؟ هي روح العبودية، ولهذا أضاف:

” إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف ” (رو15:8).

          ثم بعد ذلك وطالما أنه أغفل الإشارة إلى ما هو عكس العبودية، أي روح الحرية، ذكر ما هو أعظم بكثير، روح التبني، والذي به أدخل أيضاً روح الحرية، قائلاً: ” بل أخذتم روح التبني “. وهذا واضح، لكن ماذا يعني بروح العبودية؟ هذا غير واضح. ولذلك كان عليه أن يجعل هذا الأمر واضحاً. لأن ما قيل، ليس فقط غير واضح، بل أنه لم يفسره أو يشرحه على الاطلاق، لأن الشعب اليهودي لم يأخذ الروح. إذاً ماذا يقصد هنا؟ أنه قد وصف الحروف أو الكلمات بأنها روحية، لأنها كانت روحية، تماماً كما دُعىّ الناموس روحياً، وهكذا أيضاً بالنسبة للماء الذي جرى من الصخرة، والمن الذي نزل من السماء. لأنه يقول ” جميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً. وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً “ [9] . والصخرة دعاها أيضاً هكذا قائلاً: ” لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم “. إذاً لأن كل هذا الذي حدث، كانت أشياء تفوق الأمور الطبيعية، فقد دعاها روحية، وليس لأن أولئك الذين شاركوا فيها كانوا قد نالوا الروح في ذلك الوقت.

          وكيف كانت تلك الحروف حروف عبودية؟ ادرس كل حياة بني إسرائيل وحينئذٍ ستعرف هذا جيداً. لأن العقوبات أيضاً كانت أمامهم والمكافأة كانت تعطى على الفور، وكانت قانونية، ومثل طعام يومى أُعطيت للعبيد، وكان هناك خوفٌ شديد في كل موضع من تطهيرات الجسد، والانضباط مروراً بالأعمال الجسدية. لكن بالنسبة لنا لم يحدث نفس الشيء، بل أن الفكر والضمير قد تنقيا بالكامل. لأن المسيح لم يقل فقط لا تقتل، بل أيضاً لا تغضب، ولم يقل فقط لا تزن، بل لا تنظر بشهوة، حتى يصل الإنسان إلى النقاء الكامل، لا بسبب الخوف من العقوبات الحاضرة، بل بسبب الشوق والمحبة لله، والرغبة في ممارسة الفضيلة كشيء معتاد، بالإضافة إلى بعض الإنجازات الأخرى. ولم يَعِّد الله بأرض تفيض عسلاً ولبناً، بل جعل الإنسان وارثاً مع ابنه وحيد الجنس، مُبعداً إيانا  بكل الوسائل  عن الاعتماد على الخيرات الحاضرة، واعداً إيانا بالخيرات التي ينبغي أن يأخذها معنا أيضاً أولئك الذين صاروا أبناء لله، تلك الخيرات التي ليس فيها شيئٌ مادي، ولا جسدي، بل كل ما هو روحي. حتى أن الذين قد دُعوا سابقاً أبناء قد ابتعدوا كعبيد، أما نحن فقد نلنا التبنى وننتظر ملكوت السموات لأننا صرنا أحراراً.

          وبالنسبة لأولئك (أي اليهود) فقد كلّمهم عن طريق أناس آخرين (أي آباء  أنبياء  مرسلين)، أما نحن فقد كلّمنا هو بنفسه [10] . وأولئك فعلوا كل شيء مُنقادين بالخوف من العقاب، بينما الروحيون فيصنعوا كل شيء بدافع الاشتياق والرغبة في الإتحاد بالله. وهذا أظهروه بممارسة الوصايا التي تفوق الوصايا القديمة. أولئك اليهود مثل أجراء وجاحدين، لم يتوقفوا قطعاً عن التذمر، بينما ما نصنعه نحن هو من أجل أن نكون مرضيين لدى الآب.

          أولئك أيضاً على الرغم من أنهم نالوا إحسانات، إلاّ إنهم جدّفوا، بينما نحن فعلى الرغم من أننا نتعرض لمخاطر، فإننا نفرح. وإن كان ينبغي أن نُعَاقَب، فذلك لأننا نُخطئ، وهنا فالفارق كبير في العقاب. لأننا لسنا مثل هؤلاء الذين عندما يخطئون يُرجمون ويُحرقون ويُستأصلون من قِبَل الكهنة، أما نحن يكفي أن نبتعد عن المائدة الأبوية، ونقضى بعض الأيام بعيداً عنها. والبنوة بالنسبة لليهود كانت مجرد كرامة إسمية فقط، أما بالنسبة لنا فهي واقع يتمثل في التطهير بالمعمودية، ونوال الروح، ومنحنا النعم الأخرى. وعطايا أخرى أكثر بكثير من هذه، من الممكن أن نتكلم عنها، والتي تُظهر ما لنا من كرامة حقيقية، وما لأولئك من كرامة شكلية. وبعدما أشار الروح إلى كل ذلك، وإلى الخوف، والتبنى، نجده يحمل دليلاً آخر يثبت أن لنا روح التبنى. فما هو هذا الدليل؟ هو أننا “نصرخ يا أبا الآب”. وكم هو هام هذا الأمر، ويعرفه الداخلون للإيمان، والذين يُرشَدون في صلواتهم السرية، إذ يقولوا هذا النداء أولاً.

          ماذا إذاً؟ ألم يدعُ هؤلاء اليهود الله آباً؟ ألم تسمع موسى الذي يقول ” الذي ولدك تركته ونسيت الله الذي أبدأك ؟” [11] . ألم تسمع ملاخي الذي يصرخ ويقول: ” أليس أب واحد لكلنا. أليس إله واحد خلقنا” [12] ، فإن كان هذا الكلام وأكثر منه قد قيل، فإننا لا نجد في أي موضع أن هؤلاء يدعون الله بهذه الكلمة (يا أبّا الآب). ولا أن يُصلّوا هكذا. أما نحن جميعاً، كهنة، وشعب، وأراخنة ومواطنون، فقد تعلّمنا أن نُصلى هكذا (يا أبّا الآب). وهذا الصوت نخرجه أولاً بعد آلام المخاض العجيبة، وناموس الولادة الجديدة المدهش والعجيب. وهكذا إن كانوا قد دعوا الله أحياناً بهذه التسمية مرة، إلاّ أنهم لا يعبرون بذلك عن تبنّيهم ذهنياً لمثل هذا الفكر الذي لنا،  بينما الذين يحيون في النعمة فإنهم يدعونه آباً. انطلاقاً من العمل الروحي الداخلي. وتماماً كما يوجد روح حكمة والذي به صار غير الحكماء، حكماءً، وهذا ما يتضح من خلال التعليم، وكما يوجد روح قوة، والذي به أقام الضعفاء أمواتاً، وطردوا شياطين، وكما يوجد روح موهبة للشفاء، وروح نبوة، وروح تكلم بألسنة، هكذا يوجد روح تبني. وتماماً مثلما نعرف روح النبؤة، من حيث إن ذاك الذي يحمله يتكلم مسبقاً عن المستقبل، متحدثاً ليس بفكره الخاص، بل يتحرك بالنعمة، هكذا تعرف روح التبنى، من حيث أن ذاك الذي أخذه، يدعو الله آباً، مدفوعاً من الروح. إذاً هذا ما أراد أن يُظهره بشكل تام على أنه أمر حقيقي، فاستخدم لغة العبرانيين. لأنه لم يقل فقط، أب، لكن “أبا الآب”، الأمر الذي هو بشكل خاص، كلام الأبناء الحقيقيين الذي يتحدثون به مع آبائهم.

          3  إذاً بعدما تكلم عن الفارق من جهة السلوك، ومن جهة النعمة التي أُعطيت، وكذلك من جهة الحرية، أضاف دليلاً آخر للإمتياز الذي يأتى من هذا التبنى. ما هو هذا الإمتياز إذاً؟ هو أن:

” الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله ” (رو16:8).

          هكذا يوضح الرسول بولس، أننى لا أدّعى بالكلام فقط (أننى ابن الله)، بل إني مولود من المصدر الذي منه يأتي هذا الصراخ. نقول هذا الكلام، لأن الروح يُمليه. ولكي يعلن هذا بأكثر وضوح، قال في موضع آخر:” أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب” [13] . وماذا يعني “الروح يشهد لأرواحنا”؟ أي المعزى يشهد من خلال الموهبة التي أُعطيت لنا. لأن هذا الصراخ لا ينتمي فقط للموهبة، بل للمعزي الذي أعطانا العطية، لأنه هو نفسه علّمنا أن نتكلم هكذا بالموهبة المعطاة لنا. وحين يشهد الروح، فهل يوجد شك بعد ذلك؟ لأنه إن كان إنسان أو ملاك أو رئيس ملائكة، أو قوة أخرى مشابهة، وعدت بذلك، فمن الطبيعى أن يتشكك البعض، لكن حين يكون الروح، الذي منحنا هذا النداء، يشهد لأرواحنا بتلك الصلاة التي أوصانا أن نصلي بها، فمَنْ يشك بعد ذلك في قيمة هذا الصراخ؟ فلن يتجرأ أحد من الرعية أن يعترض عندما يُعين الملك شخصاً ويعلن هذا الشرف أمام الجميع.

” فإن كنا أولاداً فإننا ورثة ” (رو17:8).

          لاحظ أنه رويداً رويداً يُزيد العطية. فهل من الممكن أن نكون أبناءً ولا نصير ورثة، إذ أنه على أي حال ليس كل الأبناء ورثة، ولهذا أضاف عبارة: أننا ورثة. لكن اليهود مع كونهم ليس لهم مثل هذا التبني، فقد حُرموا من الميراث لأن ” أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً ويُسلّم الكرم إلى كرامين آخرين “ [14] . وقبل هذا قال إن ” كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجية “ [15] . ولا هنا أيضاً يتوقف، لكنه يشير إلى ما هو أعظم من ذلك. وما هو هذا؟ هو أننا ورثة الله. ولهذا أضاف “ورثة الله”. بل والأكثر، هو أننا ورثة مع المسيح. أرأيت كيف يجاهد لكي يقودنا لنكون بالقرب من الرب؟ إذاً فنظراً لأن ليس كل الأبناء هم ورثة، فإنه يبيّن أننا أبناء وأيضاً ورثة. ولأن ليس كل الورثة هم ورثة أشياء عظيمة، فإنه يبيّن أن هذه الأشياء العظيمة قد صارت لنا، طالما أننا ورثة الله. ولأنه أيضاً يمكن أن أكون وارثاً لله، لكن ليس مع أي أحد، وهذا قد أوضحه إذ قال إننا ورثة مع الابن الوحيد الجنس.

          وانتبه إلى حكمة الرسول بولس، لأنه بعدما حدَّد الأمور المحزنة، عندما تحدث عما سيعني منه أولئك الذين يحيون حسب شهوات الجسد، على سبيل المثال أنهم سيموتون، إنشغل بالعطايا العظمى، لذلك إتجه بكلمته إلى إتساع أكبر، ممتداً بها إلى التأكيد على التعويض بالمكافآت مبيناً العطايا المتنوعة والعظمى. لأنه إن كانت النعمة أمراً لا يُوصف ، وأن يكون المرء ابناً، فتأمل كم هو عظيم أن يكون المرء وارثاً. وكم يكون عظيماً جداً أن يكون وارثاً مع المسيح.

          ولكي يبيّن بعد ذلك أن العطية لا تنتمي فقط للنعمة، وفي نفس الوقت لكي يجعل كل ما قيل جديراً بالثقة، أضاف: ” إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه “. إذاً لو كنا نشترك معه في الآلام، فبالأكثر سنشترك معه في الخيرات. لأن ذاك الذي منح كل هذه الخيرات أو النعم لأولئك الذين لم يُحققوا شيئاً، عندما يرانا نحن قد تعبنا وعانينا الكثير، ألا يكافئنا بالأكثر؟

          4  وبعدما أظهر أن الأمر هو مجازاة وتعويض، ولكي يكون الكلام جديراً بالتصديق، ولا يتشكك أحد منه، يبيّن أيضاً أنه لا يخلو من قوة عمل النعمة. من جهة لكي يؤمن بهذا الكلام أولئك الذين يتشككون، وأيضاً لكي لا يستحي الذين قبلوه، لأن هناك عطايا محفوظة على الدوام، ومن جهة أخرى، لكي تعلم كيف أن الله يعوض الآلام بالمكافآت. وقد أعلن عن الجانب الأول قائلاً: ” إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه “، بينما الآخر يُستدل عليه بقوله:

” فإنى أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا” (رو18:8).

          لأنه إن كان في الكلام السابق، يطلب من الإنسان الروحي أن يُصحح السلوك، من خلال الكلام الذي قاله، إنه لا يجب أن يعيش حسب شهوات الجسد (لكي ينتصر الإنسان الروحي على الشهوة، وعلى الغضب، وعلى محبة المال، وعلى الغرور، وعلى الحسد)، فقد ذكّره هنا بالعطية الكاملة، سواء التي أعطيت أو التي سوف تُعطى، وبعدما أنهضه ورفعه عالياً بالرجاء، وضعه بالقرب من المسيح، وبرهن له على أنه وريث مع الابن الوحيد الجنس، وبجرأة فائقة يقوده إلى المعارك والانتصار على الشهوات التي هي في داخلنا. وهذه تختلف عن المعاناة التي نجوزها بسبب التجارب مثل: الجوع، والسلب، والسجن، والقيود، والنهب. فهذه الأمور تحتاج إلى نفس قوية وشجاعة.

          لاحظ كيف أنه في نفس الوقت يضبط ويسمو بفكر أولئك الذين يجاهدون. لأنه عندما يُظهر عظمة المكافآت، مقارنة بالمتاعب، حينئذٍ يحث بالأكثر، ولا يترك مجالاً للتباهي. فالمكافآت العظيمة تجعلهم ينتصرون. وفي موضع آخر يقول: ” لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشيء لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً “ [16] . ويصف هنا الضيقة أنها خفيفة، لأن كلمته كانت موجهة بالأكثر إلى مصارعين حُكماء، وهكذا يجعل الضيقة خفيفة بالمكافآت التي ستُعطى في الدهر الآتي، قائلاً: ” فإنى أحسب أن آلام الزمان الحاضر ” ولم يقل، بالمقارنة براحة الدهر الآتي، ولكن قال ما هو أكبر بكثير ” لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا “. لأنه حيث توجد راحة، لا يوجد على كل حال مجد، لكن حيث يوجد مجد، يوجد على كل حال راحة. ثم بعد ذلك لأنه تحدث عن المجد العتيد، يُبرهن كيف أن هذا المجد، يوجد من الآن. لأنه لم يقل، مقارنة بما سوف يتحقق، ولكن ” لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن”، فهو موجود الآن، لكنه مُستتر، الأمر الذي قاله في موضع آخر بأكثر وضوح أن: ” .. حياتكم مستترة مع المسيح في الله “ [17] . إذاً ليكن لك ثقة من جهة هذا المجد العتيد، لأنه منذ الآن ينتظرك كمكافأة لأتعابك. لكن لو أن هذا المجد الذي سوف تناله في الدهر الآتي يسبقه ضيق في الحاضر، فليتك تفرح لأجل هذا الأمر، من حيث إن ذلك يعتبر مجداً عظيماً ولا يوصف، ويفوق الحالة الحاضرة، وهو محفوظ لنا في السموات.

          ومن المؤكد أنه لم يُشِر إلى عبارة “آلام الزمان الحاضر” مصادفةً، بل لكي يُظهر كيف أن المجد العتيد هو أسمى من المجد الحاضر، لا من حيث النوعية فقط، ولكن من حيث المقدار أيضاً. لأن هذه الآلام أياً كانت ترتبط بالحياة الحاضرة، بينما خيرات الدهر الآتي تمتد إلى الدهور الأبدية. هذه الخيرات، لم يستطع أن يتحدث عنها بشكل مُنفصل، ولا أن يعرض لها بالكلام، بل وصفها بتلك العبارة التي من الواضح أنها محببة لنا بشكل خاصن فقد دعاها بالمجد. لأن المجد يُعد قمة وقاعدة هذه الخيرات. لكنه قد ارتفع بالمستمع بشكل مختلف وتحدث عن الخليقة بشكل عظيم، بهدف أن يوضح، بتلك الأمور التي ستُقال، أمرين: إحتقار الأمور الحاضرة، واشتهاء أمور الدهر الآتي. وكذلك الأمر الثالث، أو من الأفضل أن نعتبره الأول، إنه يظهر كيف أن الجنس البشرى محبوب جداً لدى الله، ويُظهر أيضاً مقدار الكرامة التي يقود الطبيعة الإنسانية إليها. لكن بالإضافة إلى كل هذا، فكل تعاليم الفلاسفة التي صاغوها عن هذا العالم، قد أسقطها مثل العنكبوت وألعاب الأطفال الهشة، بواسطة هذا التعليم المحدد. لكن لكي تصير هذه الأمور أكثر تحديداً، لنستمع بالتدقيق للكلمة الرسولية ذاتها.

5  ” لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله. إذ أُخضعت الخليقة للبطل. ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء ” (رو 8: 19-20).

          إن معنى ما يقوله هو: أن هذه الخليقة تتألم جداً، لأنها تنتظر وتترجى خيرات الدهر الآتي، التي تكلّمنا عنها الآن. لأن الانتظار يعني الرجاء الكبير. لكن لكي يصير الكلام أكثر قوة، فإنه يُشخّصن العالم كله، الأمر الذي صنعه الأنبياء، فيعرضون للأنهار وهي تصفق، والجبال وهي تتحرك وتبتهج، وهذا لا يعني أن هذه الأنهار والجبال لها نفس، أو يمكن أن يُنسب لها فكر معين، بل لكي تعرف مقدار الخيرات الوفيرة جداً، إذ هي تصل حتى إلى هذه الأشياء التي لا تحّس. إنهم يفعلون ذلك أيضاً حين يتعرضون للأمور المحزنة، فيقدمون الكرمة تنوح، والجبال، وأحجبة الهياكل وهي تصرخ، لكي نستطيع أن نفهم أيضاً مقدار الشرور الكبيرة. إذاً هذا ما يوضحه الرسول بولس هنا، فيُشخصن الخليقة، ويقول كيف أنها تئن وتتمخض، لا لأنه سمع أنيناً يخرج من الأرض ومن السماء، لكن لكي يشير إلى خيرات الدهر الآتي الوافرة جداً، ويُعلن الرغبة في التخلص من الشرور التي كانت سائدة.

          ” إذ أُخضعت الخليقة للبطل. ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء “. ماذا يعني ” أن الخليقة أُخضعت للبطل “؟ يعني أنها صارت فاسدة. لأي سبب ولماذا صارت فاسدة؟ حدث هذا من أجلك أنت أيها الإنسان. لأنك أخذت جسداً فانياً وضعيفاً، ولأن الأرض قبلت اللعنة وأنبتت شوكاً وحسكاً. لكن السماء والأرض عندما تشيخ ستتحول في النهاية إلى مصير أفضل، اسمع النبي الذي يقول: ” من قِدَم أسست الأرض والسموات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى كرداء تُغيرهن فتتغير “ [18] . وإشعياء أيضاً يُعلن عن نفس الأمر قائلاً: ” ارفعوا إلى السموات عيونكم وانظروا إلى الأرض من تحت فإن السموات كالدخان تضمحل والأرض كالثوب تبلى وسكانها كالبعوض يموتون “ [19] .

          أرأيت كيف أُخضعت الخليقة للبطل، وكيف ستتحرر أيضاً من الفساد؟ لأن داود يقول ” كلها كثوب تبلى كرداء تغيرهن فتتغير “، بينما يقول إشعياء ” وسكانها كالبعوض سيموتون “. دون أن يتحدث عن الدمار الكلي أو الكامل، لأنه لن يصاب سكان الأرض، أي البشر بمثل هذا الدمار، لكنه يقصد الدمار الوقتي، ومع هذه الأرض سينتقلون إلى عدم الفساد، تماماً مثل الخليقة. كل هذا أشار إليه، بأن قال “كالبعوض”.

          هذا بالضبط ما يعلنه الرسول بولس هنا. لكنه أولاً يتحدث عن خضوع الخليقة، ثم يوضح لأي سبب حدث هذا، فيقول: هل الخليقة أُحتقرت وعانت البطلان، لأجل آخر؟ لا على الاطلاق، لأن ما حدث هو بالحقيقة من أجلي أنا. هي التي عانت أو جازت البطلان من أجلي، كيف ستُظلم، إن كانت تلك الأمور التي عانتها، هي من أجل إصلاحي؟ فضلاً عن ذلك فإن الحديث عن الظلم والعدل، لا يجب أن نمتد به إلى الأشياء الجامدة وغير الحسيّة. لكن لأن بولس شخّصن الخليقة، لم يقل أي شيء مما ذكرته، لكنه تحول إلى الحديث عن أشياء أخرى، فقد بادر إلى تقديم تعزية كبيرة جداً للمستمع، فماذا يقول؟ هل يقول إن الخليقة نالها الشر لأجلك، وصارت فاسدة؟ لكن الظلم لم ينلها مطلقاً، لأنها ستصير فاسدة أيضاً، لأجلك. لأن هذا هو معنى” .. على الرجاء “. لكن عندما يقول ” إذ أُخضعت .. ليس طوعاً “، لم يقل هذا لكي يُظهر، كيف أن لها فكر، بل لكي تعرف أن كل الأشياء مرتبطة برعاية المسيح، وأن هذا الإنجاز (العتق من الفساد)، غير مرتبط بالخليقة. حسناً أخبرني إذاً، على أي رجاء أُخضعت الخليقة؟

” لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد” (رو21:8).

          ماذا يعني “الخليقة نفسها”؟ يعني أنها لن تكون بعد فاسدة، بل ستتبع جمال الخلود الذي سيناله جسدك. لأنه تماماً مثلما حدث، عندما صار جسدك فاسداً، صارت الخليقة أيضاً فاسدة، فطالما أنه صار غير فاسد، سيلحق عدم الفساد بالخليقة أيضاً. هذا بالضبط، ما أراد أن يوضحه، لذلك أضاف ” إلى حرية مجد أولاد الله ” بمعنى أنها ستُعتق إلى الحرية. لأنه مثلما يحدث مع المرضعة التي تُغذي ابن الملك، عندما يتولى زمام السلطة مكان والده، فإنها ستتمتع هي أيضاً بكل الخيرات معه، هكذا سيحدث مع الخليقة. أرأيت أنه في كل موضع يحتل الإنسان المكانة الأولى، وأن كل شيء يصير من أجله؟ أرأيت كيف أنه يعزى أيضاً ذاك الذي يجاهد، ويُظهر محبة الله التي لا يُعبّر عنها للبشر؟ إذاً لماذا تحزن من أجل التجارب. أنت تئن لأجل نفسك، والخليقة أيضاً تئن لأجلك. وبهذا الحديث لا يُعزى فقط، بل ويبرهن على أن ما قاله هو جديراً بالثقة والتصديق. لأنه إن كانت الخليقة تترجى، والتي كل شيء فيها يصير من أجلك، فبالأولى كثيراً يجب أن تترجى أنت، تلك الأمور التي لأجلها ستتمتع الخليقة بخيرات الدهر الآتي. هذا ما يحدث عند البشر، حين ينال الابن مقاماً أو رتبة معينة، فإن العبيد يلبسون الزي المشرق، الذي يتناسب مع مجد الابن. إذاً بنفس الطريقة، فإن الله سيُلبس الخليقة رداء الخلود بما يتناسب مع حرية مجد أولاد الله.

6  ” فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن ” (رو22:8).

          أرأيت كيف أنه يُبكت المستمع، قائلاً ما معناه أنه لا يجب أن يكون أسوأ من الخليقة وألا ينحصر في الأمور الحاضرة؟ لأنه ليس فقط، لا يجب أن نركّز أنظارنا على هذه الأمور، بل ويجب أن تئن لتأخر ارتحالك من الأرض. لأنه إن كانت الخليقة تصنع هذا (أي تئن)، فبالأولى أن تفعل أنت هذا، أنت يا مَن كُرّمت بالعقل. لكن هذا ليس بعد هو الأمر الأكبر، بل أنه أراد أن يجعلهم يخجلون. ولهذا تحديداً أضاف:

” وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا ” (رو23:8).

          بمعنى أننا بالفعل قد تذوقنا خيرات الدهر الآتي. ولو أن شخصاً لازال بعد بدون احساس مثل الحجر، فإن ما أُعطى هو كاف بالفعل حتى يُحرك اهتمامه، ويبعده عن الأمور الحاضرة، ويحركه نحو أمور الدهر الآتي، بطريقة تحمل وجهين، من حيث إن ما أُعطى يعتبر أمور عظيمة، ومن حيث إن تلك الأمور التي تُشكّل البداية، هي أمور كثيرة جداً ومبهرة أيضاً. لأنه إن كانت البداية عظيمة بهذا القدر، حتى أننا بهذه البداية نستطيع أن نتحرَّر من الخطايا، وننال البر والقداسة، وأولئك الذين عاشوا من قبل، أخرجوا شياطين، وأقاموا موتى، وشفوا أمراضاً بظلالهم وملابسهم، ففكر كم يكون الوضع عند اكتماله. فإن كانت الخليقة التي ليس لها عقل ولا فكر، ودون أن تعرف أي شيء من هذه الأمور، تئن، فبالأكثر جداً يجب أن نئن نحن.

          ثم بعد ذلك لكي لا يُعطى دافعاً للهراطقة، ليتهمونه كأنه يُدين الأمور الحاضرة، فإنه عندما يقول نئن، يوضح أننا لا نُدين الأمور الحاضرة، بل لأننا نشتهي الأفضل. هذا ما أعلنه قائلاً: ” متوقعين التبني فداء أجسادنا “. ماذا تقول؟ أخبرني. إنك دائماً ما تكرر وتنادى قائلاً إننا صرنا بالفعل أبناء، والآن تُشدد على الرجاء من جهة هذا الصلاح، مؤكداً على أنه ينبغي أن ننتظره؟ هذا ما يُصححه بما أضافه فيما بعد، إذ يقول: ” فداء أجسادنا “، أي المجد الكامل. أي أن كل ما لنا الآن ليس نهائياً حتى آخر نفس في حياتنا، لأنه برغم أننا أبناء، فإن كثيرين منا، صاروا بسبب رجوعهم للخطية سُفهاء وأسرى. ولكن إذا متنا ولنا هذا الرجاء الصالح، فالعطية حينئذٍ ستكون مؤكدة، وواضحة وعظيمة، دون خوف بعد من تحولات أو تغييرات بسبب الموت والخطية. حينئذٍ ستكون النعمة أمراً مؤكداً، عندما يتخلص جسدنا من الموت والشهوات التي لا تُحصى. وهذا هو معنى الخلاص، ليس فقط التحرر، لكن عدم العودة مطلقاً إلى الأسر السابق.

          وحتى لا تشك وأنت تسمع باستمرار كلمة مجد، ولا تعرف شيئاً واضحاً، يكشف لك الرسول رويداً رويداً أمور الدهر الآتي: تغيير الجسد وتغيير الخليقة كلها معه، الأمر الذي أعلنه بأكثر وضوح في موضع آخر قائلاً: ” الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده” [20] . وفي موضع آخر يقول: ” ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد ولبس هذا المائت عدم موت فحينئذٍ تصير الكلمة المكتوبة ابتلع الموت إلى غلبة “ [21] . كذلك لكي يُظهر أنه بالإضافة إلى فساد الجسد، ستزول الحالة الخاصة بالكائنات الحيّة (أي مظاهر الحياة)، يكتب أيضاً في موضع آخر ” لأن هيئة هذا العالم تزول “ [22] .

7  لأنه يقول: ” لأننا بالرجاء خلصنا ” (رو24:8).

          ولأنه انشغل بالوعد بالحياة الأبدية، فمن الواضح أن هذا قد أحزن المستمع ضعيف الإيمان، طالما أن الخيرات هي في الرجاء، أولاً بعدما أظهر أن هذه الخيرات تعتبر واضحة جداً من خلال الأمور الحاضرة والمنظورة، وبعدما قال الكثير عن العطايا التي أُعطيت بالفعل، وبعدما أوضح أننا نلنا باكورة هذه الخيرات، ولكي لا نطلب كل الأشياء هنا، ونخون أصلنا النبيل الذي يأتي من الإيمان، يقول:      ” لأننا بالرجاء خلصنا”. وما يقوله يعني الآتي: أنه لا ينبغي أن نطلب كل الأشياء هنا، بل أن نترجاها. لأن هذه هي العطية الوحيدة التي نقدمها لله، أي أن نؤمن بذاك الذي وعد بالأمور الأبدية، وبهذه الطريقة فقط خَلُصنا. إذاً لو أننا فقدنا الرجاء، فإننا نكون قد فقدنا مُجمل العطايا الخاصة بنا. لأنه سيسألك قائلاً: ألم تكن مسئولاً عن شرور كثيرة؟ ألم تكن يائساً؟ ألم تكن في أزمة؟ ألم يكن الجميع غير قادرين على خلاصك؟ مَن خلّصك إذاً؟ ينبغي فقط أن تضع رجاءك في الله، وأن تؤمن بالذي وعد بخيرات الدهر الآتي وأعطاها. لا يمكنك أن تقدم شيئاً أكثر من ذلك، فإذا كان هذا الرجاء قد خلّصك، فيجب أن تتمسك به الآن. لأن هذا الرجاء الذي منحك هذا القدر الكبير من الخيرات، من الواضح جداً أنه لن يخدعك حتى في الدهر الآتي.

          إذاً طالما أنه قد قبلك وأنت ميت، وضائع، ومأسور، وعدو، وجعلك محبوباً، وابناً، وحراً، وباراً، ووريثاً معه، ومنحك كل هذه الخيرات، والتي لم يتوقعها أحد مطلقاً، فكيف يمكن بعد كل هذه الخيرات الجزيلة والمحبة، أن يتركك في الدهر الآتي؟ إذاً لا تحدثني مرة أخرى عن موضوع الرجاء، والانتظار، وكذلك الإيمان. لأنك هكذا خلصت منذ البداية، وهذه التقدمة قد قدمتها فقط للعريس. إذاً لنمسك بهذا الرجاء ونحفظه. لأنه إن طلبت كل الأمور هنا، ستفقد إنجازك الذي به قد صرت في بهاء. ولهذا أضاف قائلاً:

” ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء. لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضاً. ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر ” (رو24:825).

          بمعنى أنه لو أنك ستحصل على كل شيء هنا، فما هو الإحتياج للرجاء؟ إذاً ما هو معنى الرجاء؟ أن يكون لديك ثقة في أمور الدهر الآتي. وما هو الشيء الفائق الذي يطلبه الله منك، وهو الذي أعطى من تلقاء نفسه كل هذه الخيرات؟ إن كان يطلب منك فقط أن تتمسك بالرجاء، فلكي يكون لك أنت أيضاً شيئاً تقدمه، لأجل خلاصك، ولكي يوضح ما يقصده أضاف: ” إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر “. لأنه كما أن الله يُتوج ذاك الذي يجاهد ويتعب ويعاني آلام كثيرة، هكذا أيضاً فإنه يتوج من يترجى. لأن كلمة الصبر هي كلمة لها دلالة التعب والعرق والجهد والتحمل. وهكذا الصبر قد منحه لمَن يترجى، لكي يُعزي النفس التي تعبت كثيراً.

          8  ثم بعد ذلك يوضح أنه لأجل هذا الأمر البسيط نتمتع بمعونة كبيرة، قائلاً:

” وكذلك الروح أيضاً يُعين ضعفاتنا ” (رو26:8).

          إذاً فأحد الأمرين يخصك أنت، أي الصبر، بينما الآخر يكون نتيجة عطية الروح القدس الذي يعدَّك للرجاء، وبهذا الرجاء أيضاً تهون المتاعب. بعد ذلك، ولكي تعرف أن هذه النعمة لا تسندك فقط في المتاعب والأخطاء، بل وتُعينك أيضاً في الأمور التي تبدو سهلة جداً، وأنها تقدم العون في كل مكان، فقد أضاف قائلاً: ” لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي .. ” وقال هذا لكي يعرض العناية الكبيرة التي يقدمها الروح لنا، ولكي يُعلّمهم، ألاّ يعتقدوا بأن تلك الخيرات أياً كانت والتي تبدو للذهن الإنساني مُفيدة، هي ليست مثل عطية الروح. لأنه كان من الطبيعي، بعدما جُلدوا أو عُذبوا، أن يُطرَدوا ويعانوا آلام كثيرة، أن ينشدوا الراحة، وأن يطلبوا من الله هذه العطية، ويظنون أنهم ينتفعون بها في تسهيل أمورهم، لذلك يقول لا تعتقدوا أن تلك الأمور أياً كانت والتي تبدو لكم أنها نافعة، هي بالحقيقة كذلك. لأننا في هذا نحتاج إلى معونة الروح. إن الإنسان ضعيف جداً، وهو في ذاته لا شيء. ولهذا قال: ” لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي “.

          ولكي لا يُخجِل الرسول بولس أي تلميذ يسمع تعاليمه بسبب عدم المعرفة، أظهر أن المعلّمين هم أيضاً يشاركونهم في ذلك. ولهذا لم يقل “لا تعلمون”، بل قال “لسنا نعلم”. وكل ما لم يقله نتيجة تواضعه، ذكره بطريقة أخرى. لأنه في كل تضرعاته، صلى أن يرى روما،  وهو لم يحقق هذا على الفور حين كان يصلي. ومن جهة الشوكة التي أُعطيت له في الجسد، صلى مرات كثيرة أن تفارقه، ولم يتحقق هذا أبداً. وموسى في العهد القديم لم ينجح رغم صلاته أن يرى فلسطين، وإرميا ترجى من أجل اليهود، وابرآم تشفع من أجل أهل سدوم. ” ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها”. هذا كلام غير واضح، لأن كثيراً من المعجزات التي حدثت قديماً، قد توقفت الآن. ولهذا تحديداً، أجد أن هناك ضرورة أن أشرح الحالة التي كانت في السابق، وهكذا سيصير الحديث أكثر وضوحاً فيما بعد. إذاً ما هي الحالة التي كانت في السابق؟ إن الله أعطى مواهب متنوعة لكل من نال المعمودية آنذاك، والتي سُميت أرواحاً، لأنه يقول: “وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء” [23] . ومن هؤلاء واحد كانت لديه موهبة النبؤة، وتحدث عن أمور مستقبلية، وآخر كانت له موهبة حكمة وعلم غزير، وآخر لديه موهبة قوات، وإقامة أموات، وآخر موهبة تكلم بألسنة وتكلم بلغات متنوعة. بالإضافة إلى كل هذه المواهب، كانت هناك “موهبة صلاة”، وهذه الموهبة دُعيت أيضاً روح، ومَن له هذا الروح، كان يُصلي لأجل كل الشعب.

          ولأننا نجهل الكثير من تلك الأمور التي تنفعنا، فإننا نطلب تلك التي لا تنفعنا، وقد أتت موهبة الصلاة إلى واحد من الذين أشرنا إليهم، وهذا قد صلى من أجل خير الكنيسة العام، ولأجل خلاص الجميع، وعلّم الآخرين. إذاً موهبة الصلاة هي التي يدعوها هنا الروح، والنفس هي التي تقبل الموهبة وتتشفع لدى الله وتتنهد. لأن ذاك الذي استحق هذه النعمة، بكل وقار، طرح نفسه أمام الله، بذهن يقظ تماماً، وطلب تلك الأمور التي تنفع الجميع. ومثال هذا هو الخادم الذي يطلب طلبات من أجل الشعب [24] . هذا ما أراد الرسول بولس أن يعلن عنه بقوله: ” الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها “.

” ولكن الذي يفحص القلوب ” (رو27:8).

          أرأيت أن الحديث ليس لأجل المعزي، ولكن لأجل القلب الروحي؟ لأنه إن لم يكن هذا هو المقصود، لكان ينبغي أن يقول، الذي يفحص الروح. لكن لكي تعلم أن الكلام هو لأجل الإنسان الروحي، ذلك الإنسان الذي لديه موهبة الصلاة، أضاف: ” يعلم ما هو اهتمام الروح “، أي ما هو اهتمام الإنسان الروحي، ” لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين “. هذا الأمر قد صار لكي نعرف أن نصلي كما ينبغي ونطلب من الله تلك الأمور التي هي صالحة بحسب مشيئته. وهذا هو معنى ” بحسب مشيئة الله “. وبناء عليه هذا قد حدث بسبب تضرع أولئك الذين دخلوا إلى الإيمان، ومثال للتعليم الحسن. لأنه حقاً المعزي هو بالحقيقة الذي منح المواهب وأعطى الخيرات التي لا تُحصى، لأنه يقول: ” ولكن هذه كلها يعملها الروح” [25] . لأجل تعليمنا صار هذا، ولكي تظهر محبة الروح، وإلى هذا الحد وصل عمل الروح الرحوم. ولهذا استجاب للذي صلى، لأن الصلاة صارت بحسب مشيئة الله.

          9  أرأيت كم هي الأمور التي بواسطتها يُعلن الروح محبته لهم، والكرامة التي صارت لهم؟ لأنه ما هو الشيء الذي لم يفعله الله لأجلنا؟ جعل العالم فاسداً لأجلنا، كما جعله غير فاسداً لأجلنا أيضاً. سمح بأن يُهان الأنبياء من أجلنا، أرسلهم للسبي من أجلنا، سمح أن يسقطوا في كمين النار، وأن يصبروا على إهانات لا تعد. ولنا نحن أنفسنا أرسل أنبياء ورسلاً، وسلم ابنه وحيد الجنس للموت من أجلنا، وعاقب الشيطان لأجلنا، وأعطانا أن نجلس عن يمينه، وأهين من أجلنا، لأنه يقول: ” تعييرات مُعيريك وقعت علىّ “ [26] ، بل أنه بعد كل هذا، وبينما نحن نبتعد عنه، فإنه لا يتركنا، بل يترجانا أيضاً، ويُعّد آخرين لكي يُصلّوا لأجلنا، الأمر الذي حدث في حالة موسى. لأنه يقول لموسى: ” اتركني لأفنيهم “ [27] ، قال هذا لكي يدفعه للتضرع من أجلهم. والآن هو يفعل نفس الشيء. ولهذا أعطى موهبة الصلاة. وقد فعل هذا، لا لأنه يحتاج إلى توَّسل، لكن لكي لا نصير نحن أكثر وضاعة أو دناءة، بل نكون مُخلصين. ومن أجل هذا يقول الكتاب، إنه تصالح معهم من أجل طلب داود، ومن أجل طلب فلان أو فلان، مبيناً بالضبط نفس الشيء، حتى يُضاف على الأقل مبرر لإتمام التصالح. ولكن الله كان سيظهر محبته للبشر بدرجة أعلى، لو أنه قال لهم، إنه ترك غضبه، لا من أجل فلان وفلان، بل فعل هذا من نفسه.

          إلاّ أنه لم يقدم الأمر هكذا، حتى لا يصير موضوع التصالح دافعاً للخمول من جهة الذين خَلِصوا. ولهذا قال لإرميا: ” وأنت لا تُصلِ لأجل هذا الشعب .. لأني لا أسمعك “ [28] . لا لأنه أراد أن يمنع إرميا أن يطلب من أجلهم، طالما أنه يشتهي خلاصنا بشدة، ولكن لكي يخيفهم. ولأن النبي كان يعرف هذا جيداً، لم يتوقف عن الصلاة من أجلهم. ولكي نعلم أنه قال هذا الكلام، لا لأنه أراد أن يمنعه، لكن لكي يُحثه على الصلاة لأجلهم، اسمع ماذا يقول:” أما ترى ماذا يعملون” [29] . وأيضاً من جهة المدينة يقول: ” وإن اغتسلت بنطرون وأكثرت لنفسك الأشنان فقد نُقش اثمك أمامي “ [30] ، ولم يقل هذا لكي يقودهم إلى اليأس، بل ليدفعهم للتوبة. وكما أخبر أهل نينوى بقرار غير محدد، ولم يعد بخيرات مرتجاة، بل بالأكثر قد أخافهم وقادهم للتوبة، هكذا هنا أيضاً فعل نفس الأمر، إذ قد حثهم على التوبة، وصار للنبي تقديرٌ خاص من الله، حتى على الأقل بهذه الطريقة يسمعوا له.

          ثم بعد ذلك لأنهم استمروا في مرض لا شفاء منه، ولم يتعقلوا أيضاً عندما أُدين الآخرين، فإن أول شيء فعله، هو أنه نَصَحَهم أن يبقوا في نفس المكان، ولكنهم ذهبوا إلى مصر، لأنهم لم يحتملوا هذا، وقد غفر الله لهم ذلك، ولكنه طلب منهم ألاّ ينجرفوا في الطغيان أو الجحود، تلك الأمور التي كانت سائدة في مصر. لكن نظراً لأنهم لم يصغوا لطلب الله، فقد أرسل معهم النبي، حتى لا ينحرفوا بالكامل فيما بعد. ولأن هؤلاء لم يتبعوا ذاك الذي دعاهم، فإنه هو ذاته قد تبعهم، لكي يُصلحهم، ويمنعهم من الإنقياد إلى شرور أكبر، وذلك كأب حنون تجاه ابنه الذي أصابه الضيق في كل شيء، يذهب معه في كل مكان ويتتبعه. ولهذا لم يرسل فقط إرميا إلى مصر، بل أرسل حزقيال إلى بابل، ولم يُعارضا في هذا. لأنهما رأيا أن سيدهما يحبهما حباً لا حدود له، لذا صنعا نفس الأمر، مثلما يحدث لو أن عبداً أميناً ترفق بابن جاحد، فإن فعله هذا راجع إلى أنه يرى أبوه يتألم ويتمزق من أجله. إذاً ما الذي لم يتألم به الأنبياء من أجل اليهود؟ نشروا، طُردوا، أُهينوا، رُجموا، وعانوا آلام لا حصر لها، وبعد كل هذا، أسرعوا أيضاً نحوهم.

          وصموئيل أيضاً لم يتوقف حزنه على شاول، وإن كان قد أُهين إهانة قاسية منه، وعانى شروراً لا تُحصى، لكنه لم يتذكر شيئاً من هذا. وكتب إرميا أيضاً مراثياً تجاه الشعب اليهودي. وبينما منحه قائد جيوش الفرس أن يقيم في أمان وحرية حيثما يريد، إلاّ أنه فضّل البقاء في الوطن وسط معاناة الشعب. هكذا موسى أيضاً ترك الحياة في قصر الملك، وأسرع لمشاركة اليهود في معاناتهم. وأيضاً دانيال الذي بقى صائماً لمدة عشرون يوماً متصلة، مُجبراً نفسه على صوم شديد، لكي يتحنن الله عليهم ويصالحهم. والثلاثة فتية أيضاً، بينما كانوا وسط أتون النار المشتعل، صلّوا من أجل الشعب. لأنهم لم يتألموا من أجل ذواتهم التي أُنقذت، بل لأنه كانت لديهم جرأة، ولهذا صلّوا من أجل هؤلاء. ومن أجل هذا قالوا: ” ولنيل رحمتك ولكن لإنسحاق نفوسنا وتواضع أرواحنا أقبلنا “ [31] . ويشوع بن نون مزَّق ثيابه من أجل هؤلاء، وحزقيال حزن وناح عندما رآهم وهم يهلكون. وقال إرميا: ” إقتصروا عني فأبكي بمرارة “ [32] . ولكن قبل هذا، لأنه لم يتجرأ أن يطلب صفحاً كاملاً عن كل المآسي، طلب مهلة قائلاً:   ” إلى متى أيها السيد “ [33] . هكذا كل القديسين هم مُحبون. ولهذا قال بولس: ” فالبسوا كمختارين الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً “ [34] .

          أرأيت دقة الكلام، وكيف أنه يريد لنا أن نكون على الدوام شفوقين؟ لأنه لم يقل فقط اتسموا بالرأفة، لكنه قال ” البسوا”، حتى أنه مثلما أن الملابس لا تفارقنا البتة، هكذا ينبغي أن تكون الرأفة. ولم يقل رحمة، لكنه قال “أحشاء رأفات”، لكي نُحاكي الرأفة الطبيعية. لكننا للأسف، نحن نصنع العكس.

          وإن اقترب منا أحد طالباً فِلساً، فإننا نهينه، ونوجه له كلاماً قاسياً، وندعوه مُحتالاً. ألا تفزع أيها الإنسان وتخجل، إذ تدعوه محتالاً، لأنه طلب الخبز؟ لكن لو أن هذا الإنسان صار مُحتالاً، فإنه لهذا السبب تحديداً، يصير مستحقاً للرحمة، لأنه يعاني من الجوع إلى الحد الذي جعله يظهر في شكل المحتال. لكن هذا يُمثل إدانة لقسوتنا. لأننا لا نحتمل أن نعطي بسهولة، ونضطر أن نبتكر حيلاً عديدة. فلنعرف إذاً قساوتنا، ولنحول القساوة إلى ليونة. فضلاً عن ذلك، لو أنه طلب مالاً وذهباً، فإن شكوكك ستكون مُبررة، أما أنه قد إقترب منك يسألك الطعام الضروري، فلماذا تُفلسف الأمر باطلاً، وتفحص بتفصيل أموراً غير نافعة، متهماً إياه بالكسل واللامبالاة؟

          إذاً إن كان يجب أن نقول هذه الأمور، فينبغي أن نقولها لأنفسنا وليس لآخرين. لذا عندما تقترب من الله طالباً مغفرة الخطايا، عليك أن تتذكر هذا الكلام، وستدرك أنه أكثر عدلاً أن تسمع أنت هذه الأمور من الله، من أن يسمعها الفقير منك. لكن الله لم يقل لك هذا الكلام مطلقاً، أي لم يقل لك ارحل أو اذهب بعيداً. لأنك أنت أيضاً محتال، إذ أنك تدخل إلى الكنيسة باستمرار وتسمع وصاياي، لكن من جهة شراء الذهب، ومن جهة الصحبة وإشباع الشهوة، وكذلك كل الأمور بشكل عام، فإنك تفضّلها عن وصاياي. والآن كان عليك أن تصير متضعاً بعد صلاة الإيمان، إلاّ أنك صرت وقحاً، وقاسياً ومتوحشاً.

          هكذا فنحن نستحق أن نسمع هذا الكلام بل وأكثر منه، بيد أن الله لم يديننا مطلقاً عن هذا السلوك، فهو طويل الأناة، ويوفي بكل ما له، ويُعطي أكثر جداً مما نطلب.

          10  حسناً فلنفكر في كل هذا، ودعونا نحارب الفقر في هؤلاء المحتاجين حتى لو مازالوا يفعلون الضلال، وليتنا لا نفحص الأمر بالتفصيل. لأننا نحن أيضاً نحتاج لمثل هذا الخلاص والغفران، ومحبة البشر مع الرحمة كثيراً. لأنه حقاً من غير الممكن أن نخلص أبداً، لو فُحصت أمورنا بالتدقيق، بل يجب أن نُعاقَب وأن نهلك على أية حال. إذاً ينبغي ألا نصير قضاة قساة للآخرين، حتى لا تُطلب منا إلتزامات كبيرة، لأنه من المؤكد أننا نحمل خطايا تعلو فوق كل مغفرة. وبناء عليه فلنرحم بالأكثر أولئك الذين يرتكبوا خطايا لا تُغفر، لكي ندّخر لأنفسنا مسبقاً هذه الرأفة. وإن كان من المؤكد أنه مهماً كان السخاء الذي نُظهره فإننا لا نستطيع أن نُقدم محبة للبشر، تماثل تلك التي نحتاجها نحن من الله مُحب البشر؛ إذاً كيف لا يكون أمراً غريباً، أن نُدقق في حالة مَنْ هم في احتياج شديد والذين هم شركائنا في الإنسانية ونفعل كل شيء ضد منفعتنا؟ لأنك لا تنظر إلى ذاك على أنه غير مستحق لإحسانك، بقدر ما تجعل نفسك غير مستحق لمحبة الله. إذاً فذاك الذي يُدقق في فحص حالة شريكه في الإنسانية، بالأكثر جداً سيجد أن الله يصنع معه ذلك أيضاً فيما بعد.

          إذاً يجب ألا نتكلم ضد أنفسنا، بل علينا أن نعطي كل من يسألنا حتى لو كان هناك خمول أو لا مبالاة من جانب الذين يطلبون منا الإحسان. فضلاً عن أننا نحن أيضاً نصنع خطايا كثيرة بسبب اللامبالاة، أو من الأفضل أن نقول إن كل الخطايا هي بسبب اللامبالاة، ومع هذا فإن الله لا يعاقبنا على الفور، بل يعطينا مهلة للتوبة، طالما أنه يُطعمنا يومياً، ويُهذبنا، ويُعلّمنا، ويمنحنا كل العطايا، حتى ننال نحن أيضاً رأفته. لنمحو إذاً هذه القساوة، لنخرج التشدد من داخلنا، لأنه بعطائنا نُحسن لأنفسنا، أكثر من إحساننا للآخرين. لأننا نعطي الفقراء أو المحتاجين مالاً وخبزاً وملابس، لكننا ندّخر لأنفسنا مجداً عظيماً، لا يُعبّر عنه بالكلام. لأنه، بالرغم من أننا لبسنا أجساداً فانية، إلاّ أننا نتمجد ونملك مع المسيح. لكننا لن نعرف مدى عظمة ذلك، أو من الأفضل القول، إننا لن نعرف الآن بشكل كامل وبصورة جيدة. إلاّ أنني سأحاول على قدر الإمكان أن أعرض لهذا الذي قيل حتى ننجذب إلى الخيرات التي لنا ونتفهم المعنى البسيط.

          أخبرني، لو أنك وصلت إلى مرحلة الشيخوخة وتعيش في حالة فقر، وأتى شخص ووعدك بأن يجعلك شاباً قوياً جداً وأفضل من الجميع، وأن يُعطيك أن تملك على كل الأرض ألف سنة، وتحيا في ملكوت يحمل سلاماً عميقاً، فهل تتقاعس عن تحمل المعاناة من أجل تحقيق هذا الوعد؟ ها هو المسيح له المجد لا يَعد بهذه الأمور فقط، بل وأكبر بكثير منها. لأن الفرق بين الفساد وعدم الفساد، ليس بقدر الفرق بين الشيخوخة والشباب، ولا الفرق بين المجد الحاضر والمجد العتيد أن يُستعلن، بقدر الفرق بين الملك والفقير، لكن بقدر الفرق بين الأحلام والحقيقة. ومن الأفضل أن نقول إننا لم نقل بعد أي شيء، ومن المؤكد أنه لا يوجد كلام قادر على أن يُعبر عن مقدار الفروق التي ستصير من جهة الأمور الحاضرة. لأنه بسبب الزمن، من غير الممكن أن نُدرك بالكامل مقدار الفروق. إذ كيف يمكن للمرء أن يُقارن بين الحياة التي لا نهاية لها ، بالحياة الحاضرة؟ ومن جهة السلام في الدهر الآتي، فإن المسافة بينه وبين السلام في الزمن الحاضر، هي مسافة شاسعة، بقدر المسافة بين السلام والحرب. ومن جهة الخلود أو عدم الفساد، فهناك لا يوجد فساد وهو بالمقارنة بالحياة الحاضرة، أسمى بقدر نقاء اللؤلؤ مقارنة بقطعة من الفخار. ومن الأفضل القول بأنه مهما قيل فلن يستطيع المرء أن يقدم شيئاً. لأنه سواء قارنت جمال الأجساد، بنور أشعة الشمس، أو بالبرق المضئ، فلن أستطيع أن أقول بعد شيئاً يُقابل هذا البهاء الذي سيكون في الحياة الأبدية.

          إذاً كم هو مستحق أن نهجر المال والذات من أجل هؤلاء أو من الأفضل أن نقول كم هو غير مستحق أن نهجر الأنفس المحتاجة؟ لكن الآن لو أن شخصاً قادك إلى داخل القصر، وبينما كان هناك جمع من الحضور، إلاّ أنه جعل الملك يتحدث معك، وأجلسك معه على نفس المائدة، وجعلك تتناول نفس الطعام معه، فستقول إنك الأكثر سعادة من الجميع، بينما في هذه الحالة التي فيها ستصعد إلى السماء، وتقف بجوار ملك الجميع، وتُشرق أمام الملائكة وتتمتع بذلك المجد المحفوظ، فهل يُمكنك بعد ذلك أن تشك في أنه ينبغي عليك أن تتخلى عن المال، في الوقت المناسب (أي في هذه الحياة الحاضرة)، حتى وإن إحتاج الأمر بعد أن تحتقر هذه الحياة فلتفعل هذا، وهل يحق لك بعد ذلك أن تبتهج وتسعد وتقفز من الفرح لأجل الشهوة؟ فأنت تصنع ذلك لكي تربح السلطة التي تعطيك دوافع للسرقة، لأنني لا أستطيع أن أدعو الأمر المشابه ربحاً، إنك تستبعد الممتلكات الموجودة لديك، فبعدما تقترض من الآخرين، لا تتردد في أن ترهن زوجتك وأولادك أيضاً، بينما الآن حيث يوجد أمامك ملكوت الله، وتوجد السلطة التي ليس لها وارثاً، وحيث يأمر الله بأن تناله، وهو ليس مكان ناءٍ من الأرض بل هو كل السماء، فهل تتردد وترفض وتسلم نفسك لشهوة المال. أو لست تفهم أنه إذا كانت الأماكن الموجودة أمامنا تحت السماء جميلة ومُبهجة، فكم بالأحرى تكون الأماكن العلوية في السماء، وسماء السموات؟

          ولأنه من غير الممكن أن ترى هذه الأمور الآن بالعيون الجسدية، لذلك إرتفع بفكرك إلى فوق، وبعدما تقف فوق هذه السماء، تطلَّع إلى السماء التي فوق هذه السماء، إلى السمو غير المحدود، إلى النور المملوء رهبة، إلى جموع الملائكة، إلى التجمع الكثيف لرؤساء الملائكة الذين لا حصر لهم، وإلى القوات الأخرى غير الجسدانية. كذلك اهتم بالصورة التي تتصورها وأنت على الأرض، وارسم شكلاً يشمل تصميماً لكل ما يحيط بالملك ربنا، مثل الرجال الذين يرتدون ملابس مذهبة، وكم الخيل البيض المزينة بالذهب، والعربات المزينة بأحجار كريمة، وأوراق الزهور الموضوعة حول العربات، والحيات التي تُنقش على الملابس الحريرية، والدروع ذات الحلقات الذهبية، والأثواب والتيجان المرصعة بأحجار كريمة متعددة، والخيول المزينة بالذهب والألجمة الذهب. إلاّ أن كل ذلك يتوارى عن أنظارنا عندما نرى الملك ذاته. وعندئذٍ فإن ما يجذب إنتباهنا، هو ثوبه الأرجواني، تاجه وعرشه، وكذلك الرداء، وحذائه، ووجهه المثير والمشرق جداً.

          بعدما تُجمّع كل هذه الصور بالتدقيق، إنتقل بفكرك مرة أخرى إلى الأمور السمائية، إلى اليوم المخوف الذي فيه سيأتي المسيح. لأنه لن ترى في ذلك الحين الخيول، ولا العربات المذهبة، ولا حيات ودروعاً، لكن سترى تلك الأمور المملوءة رهبة والتي تُثير دهشة عظيمة حتى أن القوات غير الجسدانية ستُذهل، لأن الكتاب يقول:    ” وقوات السماء تتزعزع “ [35] . حينئذٍ تنفتح السماء كليةً، وأبواب النصرة تُفتح على مصراعيها، وينزل ابن الله، يُحيط به ليس مجرد عشرون أو مائة إنسان، بل آلاف وجموع من الملائكة ورؤساء الملائكة، الشاروبيم والسيرافيم والقوات الأخرى، الجميع سيكونون مملوئين خوفاً ورعدة والأرض ستنشق، وكل البشر الذين عاشوا منذ وقت آدم حتى هذا اليوم، سيصعدون من الأرض ويُختطَفون جميعاً إلى السماء، وسيظهر ابن الله بنور عظيم، حتى أن الشمس والقمر وكل نور آخر يختفي أمامه، لأنه يُضيئ بشكل أعظم كثيراً من هذه الأنوار العظيمة.

          أية كلمات يمكن أن تصف تلك الغبطة وهذا النور وهذا المجد؟ ويل لكِ يا نفسي. لديَّ رغبة أن أبكي وأن أتنهد كثيراً، الآن حيث أفكر في كثرة الخيرات التي قد فقدناها، وأي نهاية مجيدة قد حُرِمنا منها. لأنه بالحقيقة قد نُحرم، وأول الكل أنا نفسي، أقول قد نُحرم إن لم نصنع شيئاً عظيماً ومدهشاً. إذاً لا يقول لي أحد، أين جهنم وهي توجد هنا. لأن فقدان هذا المجد، لهو حالة أكثر رعباً وخوفاً من أي جهنم. وأن يُحرم تلك النهاية المجيدة، فهذا أسوأ من عذابات لا تُحصى. لكننا محصورون بعد في الأمور الحاضرة، ولا نفهم حيل الشيطان، الذي ينزع منا العطايا العظمى عن طريق هفواتنا الصغيرة. فهو يُعطي لنا طيناً، لكي يخطف منا الذهب، أو الأفضل أن نقول لكي يخطف السماء، ويظهِر المخاوف لكي يحرمنا الحقيقة. وفي الأحلام يضفي على الأمور الحاضرة خيالات ويصورها لنا على أنها غنى عظيم، ولكن عندما يأتي يوم الدينونة سيتضح لنا أننا أكثر فقراً من الجميع.

          11  إذاً طالما أننا نفكر في هذه الأمور، لنتجنب المكر، ولنتطلع نحو الدهر الآتي. لأن من غير الممكن أن نقول إننا نجهل أن الحياة الحاضرة هي حياة مؤقتة في الوقت الذي تُعلِن فيه الحياة اليومية بقوة تفوق صوت النفير، أن الحاضر لا شيء، بما فيه من أمور تستوجب السخرية، وأمور مخجلة وأخطار وهلاك. أي مبرر إذاً سنُقدم، عندما نسعى نحو الأخطار، ونحو الأمور المخجلة بحماس شديد، بل أننا نبتعد عن كل ما يوفر لنا الأمان، بل وعن كل ما يجعلنا ممجدين ومشرقين، ثم نُسلّم أنفسنا بالكامل لطغيان المال؟ لأن العبودية للمال هي أمر مفزع أكثر من أي طغيان آخر. ويعرف ذلك أولئك الذين استحقوا أن يتحرروا من هذا الطغيان. ولكي تختبروا أنتم أيضاً هذه الحرية الجميلة، اكسروا القيود، تجنبوا الفخ، ولا تكنزوا الأموال في بيوتكم، بل اكنزوا ما له قيمة تفوق كثيراً قيمة أموال لا حصر لها، أي الرحمة والرأفة. لأن هذه تعطينا دالة أمام الله، بينما المال يجلب علينا عاراً كثيراً، ويجعل الشيطان يجري مسرعاً نحونا.

          إذاً لماذا تُسلّح عدوك وتجعله أكثر قوة؟ يجب أن تسلح يدك ضده. ضع داخل نفسك كل جمال البيت السماوي، وكل الغنى أودعه في ذهنك. ليتنا نستثمر الأموال بدلاً من أن نكتنزها في الخزانة، بل نضعها في المنزل السماوى، ونستخدم كل ما لنا من أموال. لأن نفوسنا أفضل بكثير من البيوت، وأهم من الأرض. إذاً لماذا نترك أنفسنا، ونحصر كل إهتمامنا في تلك الأمور (التي نود أن نكتنزها) والتي من غير الممكن أن نأخذها معنا عندما نموت، بل إننا في مرات كثيرة لا نستطيع أن نحتفظ بالمال حتى في الحياة الحاضرة، بل إننا سنتمتع بغنى لا يُعبّر عنه في ملكوت الله، حين نقدم من الغنى الأرضي ما يسدد احتياجات الفقراء والمعتازين. لأن مَنْ يحمل داخل نفسه، الحقول والبيوت والأموال، حين ينتقل إلى السماء، فسيُعرض بنفس هذه الحالة أمام الله، حيث إن كل شيء ينبغي أن يعرض هناك كما هو. وكيف يمكن أن يحدث هذا؟ هذا أمر ممكن وبصورة أكثر سهولة. فلو أن هذه الأمور نقلتها إلى السماء بأيدي الفقراء، فستكون كلها داخل نفسك. وحتى ولو أتى الموت، فلن يستطيع أحد أن ينزعها منك، بل ستنتقل إلى هناك ومعك هذا الغنى. مثل هذا الكنز كان عند طابيثا. ولهذا لم تُذكر من خلال بيتها، أو من خلال الحوائط، والأحجار، والأعمدة، بل من خلال الأجساد التي ارتدت ملابس من يديها، والدموع التي انهمرت، والموت الذي هرب، والحياة التي عادت مرة أخرى [36] .

          ليتنا نصنع لأنفسنا مثل هذه المخازن، ومثل هذه البيوت لنبنيها لأنفسنا. وعندئذٍ سيكون الله عوناً لنا، وسنكون عاملين معه. لأن الله خلق الفقراء، بينما أنت بعدما أتى هؤلاء الفقراء إلى الوجود، لم تتركهم يهلكون من الجوع والمتاعب الأخرى، بل تعتني بهم وترعاهم، وتدعم هيكل الله في كل مكان، وماذا يمكن أن يكون مساوياً لهذا الأمر في القيمة، سواء من جهة المنفعة أو من جهة السيرة الطيبة؟

          لكن لو أنك لم تكن قد تعلمت جيداً بعد، مقدار الزينة التي زيّنك الله بها، عندما أمرك أن تغيّر حالة الفقر وتعتني بالفقراء، فذاك سيجعلك تنشغل به. بمعنى أنه لو أعطاك هذه السلطة الكبيرة، حتى تستطيع أن تحمل السماء (بسكناه فيك بالروح)، ألا تعتبر هذا الأمر كرامة تتجاوز بكثير الكرامة التي تستحقها؟ ها هو إذاً يُكرّمك الآن بأعظم كرامة. لأن ذلك الذي هو أهم من السموات عند الله، هذا يعيده لك لكي ترعاه. لأنه لا يوجد شيئاً من الأمور المرئية يساوي قيمة الإنسان عند الله. لأن السماء والأرض والبحر، خلقهما لأجل الإنسان، وهو يفرح بالأكثر عندما يسكن في الإنسان، من أن يسكن في السماء.

          لكن نحن على الرغم من أننا نعرف كل هذا، فإننا لا نهتم برعاية البشر الذين هم هياكل الله، لكننا نتركهم مُهملين، ونصنع لأنفسنا منازل جميلة وكبيرة. لهذا فنحن صرنا مجردين من كل النعم، وأكثر فقراً من الفقراء المعدمين، لأننا نُزين هذه البيوت التي لا يمكن أن نأخذها معنا عندما نموت، ونهمل ما يجب أن نأخذه إلى هناك. لأنه بالحقيقة سيقوم الفقراء بعد أن تتحلل أجسادهم، وبعدما يتسلّم الله نفوسهم. وسيمتدح الرب كل من اعتنى بهم، وسيذكرهم، لأنه حين كان هؤلاء الفقراء يتعرضون للإنهيار، سواء بالجوع، أو بالعري والبرد، فالذين اعتنوا بهم، قدموا لهم كل ما من شأنه أن يحفظهم في أمان وسلام.

          وبرغم كل هذا المديح الذي ينتظرنا، فلا نزال نتأخر، ونتردد في القيام بهذه الخدمة الصالحة. والمسيح ليس له مكان يبيت فيه، لكنه يجول غريباً وعرياناً وجوعاناً، بينما أنت تبني بيوتاً بالقرب من المدينة وحمامات وأماكن للتنزه ومباني كثيرة، دون داعي ولا طائل من ورائها. إنك لا تقدم للمسيح ولا حتى غرفة صغيرة، بينما أنت تُزين شرفات واسعة للطيور الجارحة والطيور الخاطفة.

          ماذا يمكن أن يوجد أسوأ من هذا الخبل؟ وما هو أكثر فزعاً من هذا الجنون؟ فكل ذلك يعتبر أسوأ أنواع الجنون. لكن على الرغم من أنه مرض مخيف إلاّ أنه من الممكن أن نعالجه إذا أردنا، وهذا ليس أمراً ممكناً فقط، لكنه سهل، وليس سهلاً فقط ، بل هو أكثر سهولة أن نتخلص من هذا المرض المهلك، من أن نتخلص من شهوات الجسد، وذلك يتوقف على مقدار مهارة الطبيب. لننجذب إذاً إلى هذا الطبيب، ولنترجاه أن يُعيننا، ولنُخضِع له كل إرادتنا ورغبتنا. لأنه لا يريد أي شيء آخر، سوى الرحمة والرأفة للفقراء، إن قدمنا هذه فقط، فهو سيُقدم لنا كل ما له. لنقدم إذاً كل ما لنا، لكي نتمتع في هذا الدهر بالصحة الجيدة، وننال خيرات الدهر الآتي، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لإلهنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.


[1]  1كو23:7.

[2]  2كو14:5ـ15.

[3]  1كو19:6.

[4]  رو14:13.

[5]  مز6:82.

[6]  إش2:1.

[7]  خر22:4.

[8]  رو4:9.

[9]  1كو3:10ـ4.

[10]  انظر عب1:1.

[11]  تث18:32.

[12]  ملا10:2.

[13]  غل6:4.

[14]  مت41:21.

[15]  مت11:8ـ12.

[16]  2كو16:4.

[17]  كو3:3.

[18]  مز25:102ـ26.

[19]  إش6:51.

[20]  في21:3.

[21]  1كو54:15.

[22]  1كو31:7.

[23]  1كو32:14.

[24]  يشير هنا إلى خدمة الشماس الدياكون في القداس الإلهي.

[25]  1كو11:12.

[26]  مز9:69.

[27]  خر10:32.

[28]  إر16:7.

[29]  إر17:7.

[30]  إر22:2.

[31]  دا39:3. (تتمة دانيال).

[32]  الكلام هنا هو لإشعياء (4:2).

[33]  إش11:6.

[34]  كو12:3.

[35]  مت29:24.

[36]  انظر أع36:9ـ42.

Facebook
Świergot
Telegram
WhatsApp
PDF

Informacje o stronie

Tytuły stron

Zawartość sekcji

Tagi

pl_PLPolish
Przewiń na górę