اشتهر الشرق بروحانيته والغرب بعقلانيته، ونحن نعرف أن الإنسان يجمع في كيانه بين الجسد والعقل والروح. في حديثنا التالي، لن نبحث في الروحانيات الشرقية المختلفة (الإسلام، الشرق الأقصى، …)، على الرغم من وجود بعض القواسم المشتركة، بل سنتكلم فقط على روحانية الكنيسة الأرثوذكسية.
القسم الأول:
الطابع الأول للكنيسة الشرقية هو طابع النسك، وفي الترجمة الحرفية عن اليونانية Ασκησις Ascese هذه الكلمة تعني تمرين أو ترويض (جسدي ونفسي وعقلي)
ذكر الرسول هذا الأمر عندما تكلم على الرياضيين الذين يتسابقون في الميدان، وذلك من أجل إكليل فانٍ وأما نحن فقد دعانا إلى أن نضبط أنفسنا في كل شيء، فنحصد إكليلاً لا يفنى.
“كل من يجاهد (في سبيل الملكوت) يضبط نفسه في كل شيء” (1كو 9: 24-25).
يصعب على الإنسان المعاصر أن يتقبل كثرة الصلوات والأصوام والأسهار التي ينطبع بها الروحانيون الشرقيون. ولكن كلام الرسول واضح “الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غلا 5 : 24).
إذاً، لابد من تهذيب هذا الجسد، ومن ضبط شهواتنا ، حتى نصل إلى انبعاث الروح.
“الروح مستعد وأما الجسد فضعيف” (مر 14 : 32) من شأن هذه الرياضة الروحية أن تُنشّط الروح، فتبرز ثمارها: “محبة فرح سلام طول آناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف، ضد أمثال هذه ليس ناموس” (غلاط 5 : 22-23).
مع الملاحظة المهمة أن على الإنسان، الذي يمارس هذه الرياضات، الحذر من أن يدخله روحٌ شرير؛ فالشيطان أيضاً يصوم، ولا يأكل، والروح الشرير يثمر كبرياء، وغضباً، وأذىً للآخرين.
يميز الآباء القدّيسون ثلاثة مستويات عند الإنسان:
- المستوى الجسدي
- المستوى العقلي
- المستوى الروحي
يجمع الإنسان بين هذه المستويات لأنه واحد، وقد يطغى أحدها على المستويين الآخرين. أما الكنيسة فتحبذ أن يكون المستوى الروحي هو الأقوى. لماذا؟ لأن في النهاية، الروح هو الذي يعطي الحياة، هذا من دون أن نهمل أهمية الجسد الذي قدّسه الله بتجسّده، واهمية العقل الذي ينير أفكاره الله.
ملاحظة أخرى تفسّر أولويةَ الروح.
يميز الآباء الشرقيون في الإنسان ما بين العقل والقلب والروح.
فالعقل (Brain Cerveau): يتمتع بإمكانيات هائلة، لا يستخدم منها إلا جزءاً بسيطاً. هذا العقل خلقه الله لكي يتدبر الإنسان أمور حياته (معيشة وتنظيم…)، وله طابع الحياد (neutre)، أي انه لا خير ولا شر.
والقلب: ورد ذكره عند الشرقيين الساميين (العهد القديم)، ويعرف عند الفلاسفة اليونانيين بالنوس. هذا الجهاز باستطاعته ان يمكّن الإنسان من الإتصال بالله، وهذا ما لا يتمتع به العقل.
الروح: وبخاصة روح الله الذي يعمل في نطاق العقل والقلب؛ فقلبنا الداخلي يكون إما نيراً نقياً، وإما مظلماً. وفاعلية الصلاة، إذا ما كانت حيّة، هي في توحيد العقل والقلب، وعندما يصبح الإنسان واحداً، ولا يعود لديه انفصام بين ما يفكر فيه وما يعيشه.
ونلاحظ ان الناس الذين يعتمدون فقط على عقولهم يعيشون أحياناً حياة لا أخلاقية، ذلك أنهم غير موحَّدين في شخصيتهم.
أعود وأكرر أن الكنيسة تُحبّذ سيادة الروح على الجسد والعقل، لأن الروح فيه الحياة وفيه خلاص الإنسان.
الخلاص، السعادة: هذا هو الهدف الذي لا يتحقق برفاهية الجسد. ليست الحياة في الصحة الجسدية فقط، وهذا شيء من المغالاة في عصرنا الحاضر الذي يسير نحو عبادة الجسد، وفي أحسن أحواله يركّز على صحة هذا الجسد. مع ذلك، علينا ان لا نُهملَ أجسادنا، ونحفظه من الزنى. يقول الرسول بولس في هذا الشأن: “أم لستم تعلمون ان جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وإنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن. فمجّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي الله” (1كور 6 : 19 – 20). وان ننمّي عقولنا . الشرقيون يهملون عقولهم. لكن اذا ما ضبط الإنسان جسده، يستنير عقله؛ فيقترب من الله الذي هو المثال، وعندها يتشبه المسيحي بالمسيح نفسه.
يقول القديس باسيليوس الكبير: “في هذا الجهاد الروحي يصبح الإنسان مسيحاً جديداً، بمعنى أن حواسه تُصبح حواس المسيح، ونظراته نظرات المسيح، وفكره فكر المسيح. يصير الإنسان بالنعمة إلى حالة التأله ويكون المسيح هو المقياس، هو المثال.
سنقيم الآن مقارنة تطبيقيّة مع البروتستانت، ومع الكنيسة الكاثوليكية الغربية.
البروتستانت:
يتم عندهم التركيز على الإنجيل، وهذا ما نفعله نحن أيضاً. لكنّه عند الأرثوذكس هو إنجيل معاش في شركة القديسين وفي الرّوح القدس الذي عمل بكثافة في تأليف الإنجيل وفي كتابة الرّسائل ولا يزال مستمرّاً في عمله في القديّسين، لذلك نحن لا نقتصر على الإنجيل فقط. ملامتنا الغرب أنّه، بشكل عام، أصبح ذا طابع عقلاني وهذا يعني ان المستوى العقلي طغى على المستوى الرّوحيّ إلى حدّ أنّه أطفأ الروح. لذلك الغرب بغالبه اليوم ملحدٌ وقد وضع الله جانباً. الحضارة المادّيّة والتكنولوجيا مفيدة، لكنها لا تفيد للخلاص، الإنسان سائرٌ فيها إلى طريق مسدود يدفعه إلى الانتحار، لأن لا حياة بدون الله.
الكاثوليك الغربيون:
نحن نعترف بمزاياهم العظيمة في نطاق الخدمة والعمل المؤسّساتيّ (مستشفيات، مدارس…) وهذا التنظيم لا بدّ منه في عصرنا. لكن، في كثير من الأحيان نحن نفتقر إلى الروح الذي لا يفعل بدون ضبط الأهواء. مَلامتنا إخوتنا الكاثوليك هي كيف الغي الصوم عندهم؟ لماذا هذا التساهل؟ قد يُراعي الإنسان الضعيف، ولكن هذا لا يبرر الإلغاء.
لماذا تمّ تقصير الصّلوات (إلغاء للسّحريّة،…)، وكيف للكنيسة ان تصبح دولة ومؤسّسة أرضيّة؟ نحن نريد ان تكون الكنيسة واحدة، لكن من الصعب علينا القول بعقيدة العصمة.
كلّ الطوائف الشرقية هي متفقة على ان الطابع المميز لها هو النسك. فلنسأل كل الطوائف من هم قديسوهم؟ أليسوا نساكاً مار شربل، رفقا، الحرديني، ألم يكونوا روحانيين شرقيين وهذا ما خوّلهم ان يتقدسوا؟ لذلك فالخلاف الأساسي يكمن بين الروحانية الشرقية والروحانية الغربية.
القسم الثاني:
الأبوة الروحية:
الكنيسة الأرثوذكسية في روحانيتها مرتبطة بالأبوة الروحية، وهي تعرف بكنيسة الآباء القديسين.
من هو الأب الروحي؟
إنه الشخص الذي يعكس أبّوة الله، وصورة الله تنعكس على شخصية الأب الروحيّ.
– يتمتع بفضيلة التمييز بين الخير والشر، بين ما هو لله وما هو للشيطان أو لغير الله. هذا الأمر ليس بالسهل. يقول يوحنا الرسول في رسالته الأولى: “أيها الأحباء لا تصدّقوا كلَّ روح بل امتحنوا الأرواح. هل هي من الله لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم. بهذا تعرفون روح الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله. وكل روح لا يعترف بيسوع (المسيح أنه قد جاء بالجسد) فليس من الله”. (1يو 4: 1-3).
– عند الروس الأب الروحي معروف بالستاريتس starets، وعند اليونان اليروندا أو الشيخ الروحاني.
عرفت الكنيسة كيف تحفظ هذا التوازن بين الحياة الليتورجية الجماعية والحياة الروحية في الأديار (هذه المؤسسة التي لم تنفصل عن الكنيسة ولكنها مستقلة تتخطى المؤسسة الكنسية) ونعرف أهمية الأديار وممارسة الأبوة الروحية فيها في كل العالم الأرثوذكسي.
– هناك فرق بين الأب الروحي (spirituel) وأب الأعتراف (confesseur)، فكل كاهن يستطيع أن يتقبل الاعترافات، وله سلطان حلّ الخطايا وربطها. لكن الأب الروحي باستطاعته ان يكون إنساناً علمانياً يدخل في علاقة شخصية مع الإبن الروحي، يتألم معه ويفرح معه، وهو غير المعلم والمرشد كما يوضح ذلك الرسول في قوله: “وإن كان لكم ربواتٌ من المعلّمين في المسيح لكن ليس آباءٌ كثيرون. لأنّي أنا الذي ولدتكم بالمسيح في الإنجيل” (1كور 4: 15) ويفسر لنا القديس يوحنا الذهبي الفم هذه الآية بقوله: “يكفي المعلم بإعطاء الدرس ويذهب، أما الأب فيتابع الأمر في حياته، يتعهده وبصلاته الحارة يحضن أبناءه الروحيين”
بالصلاة يمكن لأي إنسان ان ينقل طاقة روحية (energie)، هذه الطاقة تنتقل إلى أي شخص نصلّي من أجله حتى لو كان ميتاً أو بعيداً. بهذه الصلاة تنتقل نعمة الله إلى الآخر وتساعده، تعزيّه وحتى تشفيه، لذلك نطلب الصلاة من أجل بعضنا بعضاً.
يعترض البروتستانت على هذه الأبوة الروحية متذرعين بالآية التي تقول: “لا تدعوا لكم أباً على الأرض”. أما نحن فنجيب بأن “الأبونا” لا يأخذ مكان الأب الذي في السماء، بل هو يعكس أبوة الله، وحنانه ورأفته، ومحبته.
في أياّمنا هذه يعتمد الطب على الآلات الحديثة، وهذا ليس بشيء سيء. ولكن الخطر يكمن في ان تستبدل علاقة الطبيب بالمريض بعلاقة بين الآلة والمريض، بحيث لا يستطيع الطبيب ان يُعطيه من نفسه، ومن حضوره. كذلك الأمر بالنسبة إلى الأم التي بدخولها العمل أهملت ناحية أساسية وهي ان أولادها يفتقدون إلى عطفها، وروحها وحضورها وصلاتها.
في الغرب استبدلت الأبوة الروحية بالإرشاد (Counseler)، وهذا عملياً شيء مفيد ومساعد، أماّ عند الأطباء النفسانيين فإن إعطاء المرضى أدوية للأعصاب (وهي أكبر تجارة في العالم اليوم) هو أمر يساعد على تسكين الألم، لا إلى شفائه. الشافي الوحيد يبقى ربنا يسوع المسيح، وهو المخلص.
القسم الثالث
عرف التقليد الشرقي ما يسمى بروحانية القلب. القلب هو مركز الكيان، فيه يتم اللقاء الشخصي بين الإنسان والله، هو الذي يجمع بين القوة العقلية والجسدانية.
الإنسان الذي يركّز الصلاة في قلبه يجمع في نفسه العالم كله، الكون. وهذا ما يتحقق عن طريق “الصلاة القلبية”. “أيها الرب يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ”.
أن ترداد هذه الصلاة تمكّن الإنسان من استجماع قواه والإستنجاد بالله. هنا لا بدّ لنا ان نورد هذه الملاحظة عن الشباب المعاصر الذي يتعرض لحالات كثيرة من الإضطراب، والقلق، والحماس (العنف)، وإلى الحساسية الزائدة.فيلجأ إلى الدخان، النرجيلة، ثم إلى المخدرات والعلاقات الجنسية هذا كلّه يزيد من مرضه، يُعطيه لذة وقتية، لكنه يزيد من ضياعه، ويأخذ من طاقته، فيضيع ولا يعود يعرف ما العمل، لذا يعيش بعدم الاستقرار.
هذا المرض لا يقتلع بواسطة الأدوية. نحن نعرف ان الشباب يطلبون الحرية والحقيقة، وهذا مطلب شرعي وتوق مبارك، لكن هل يتم ذلك بوساطة السهر والرقص وارتياد الملاهي الليلية؟ أمام هذا الواقع الأليم تأتي الكنيسة فترفع هذه الصلاة: “أيُّها الملكُ السماوي، المعزِّي، روحُ الحقِّ، الحاضِرُ في كلِّ مكانٍ والمالئُ الكلَّ، كنزُ الصالحاتِ ورازقُ الحياة، هلمَّ واسكنْ فينا وطهِّرنا من كلِّ دنس، وخلِّصْ أيُّها الصالحُ نفوسَنا”. أو تصلّي مع القديس افرام السرياني: “أيها الرب وسيد حياتي أعتقني من روح البطالة والفضول وحب الرئاسة والكلام البطال. وأنعم عليّ انا عبدك الخاطئ بروح العفة واتضاع الفكر والصبر والمحبة. نعم يا ملكي وإلهي هب لي ان اعرف ذنوبي وعيوبي وان لا ادين اخوتي فانك مبارك إلى دهر الداهرين أمين”.
ان يكون الكاهن أباً روحياً، هو الذي يساعد الشباب والناس، ويقود الإنسان إلى الحقيقة وإلى الحرّية، وهذه وظيفته من هو الحق سوى يسوع المسيح الذي عندما سأله بيلاطس عن سبب مجيئه كان جوابه “لأشهد للحق”. وكان الأجدر ببيلاطس ان يسأله من هو الحق وليس ما هو الحق، عندها لكان عرف الاجابة التي سبق المسيح فأعلنها أنه هو الطريق والحق والحياة.
خلاصة:
تجمع الروحانية الأرثوذكسية بين الفرح والألم، فليس هناك من فرح من دون ألم؛ بين الموت والحياة متشبهّين بالمسيح الإله الذي تألم طوعاً ومات وغلب الموت. هذا هو سرّ المسيحية: الموت والقيامة. لقد حافظ هذا الشرق على هذا السر بحياة الجهاد الروحي، بالصلوات والأصوام والسهرانيات والحشمة الأدبية. وعلى الرغم من هذه الحضارة العالمية نحن نشكر الله اننا ما زلنا محافظين على هذه التقاليد في الكنيسة، وفي الوقت نفسه على بهجة القيامة؛ فعيد الفصح هو عيد الأعياد وموسم المواسم متذكرين كلمة الرب يسوع:
“ثقوا لقد غلبت العالم، ثقوا لقد غلبت الموت”.
الأرشمندريت -مطران طرابلس- أفرام كرياكوس
حديث أُعطي في كنيسة مار نقولا الأشرفية
31\3\200
[هكذا تاريخ السنة غير مكتمل في ملف word الموجود لدينا]
نقلاً عن: نشرة رقم 25
8 تشرين الثاني 2005
دير مار ميخائيل
بقعاتا – نهر بسكنتا