الحروب الصليبية
1098-1204
وبينما كان بودوان يوطد فتحه في الرها وما جاورها كانت الحملة الرئيسة تتجه نحو أنطاكية أمنع مدن سورية الشمالية وأعرقها شرفاً بالمسيحية. وكان سليمان ابن قطلمش قد استولى عليها خلسة في أوائل السنة 1085. فلما انتحر في السنة 1086 استولى عليها ملكشاه واقطعها أحد أمرائه ياغي سيان. وتهافت المسلمون إلى سكناها ولكنهم ظلوا أقلية ضئيلة بالنسبة إلى اليونان والأرمن والعرب المسيحيين. ولما شاعت أخبار الصليبيين وتواردت أنباء انتصاراتهم في آسية الصغرى تحصن ياغي سيان واذخر كثيراً من المؤونة والسلاح ودخل المدينة كثيرون من القرى المجاورة.
وانطلق الصليبيون من مرعش في السادس عشر من تشرين الأول سنة 1079 فاستولوا على عزاز ومعرتا وأرتاح. وفي العشرين من الشهر نفسه وصلوا إلى جسر الجديد فوجدوه محصناً مشحوناً بالرجال فاستولوا على برجيه عنوة بقيادة الأسقف اديمار نفسه وغنموا “خيلاً وجمالاً وبغالاً وحميراً محملة حنطة”. وكانت قد أُرسلت من حلب لتموين ياغي سيان في أنطاكية وفي الحادي والعشرين من تشرين الأولى دنا الصليبيون من أنطاكية ونصبوا خيامهم أمام الأسوار. وتشاور الأمراء والقادة فأوجبوا المحاصرة نظراً لمناعة الأسوار وتعدد الأبراج ونقص العتاد. فتفرق القواد بجيوشهم حول الأسوار ولا سيما المداخل وأخذوا بالاهبة للقتال. أما ياغي فإنه لم يبد حركة ولم يظهر من رجاله ولا مقاتل فوق الأسوار. وخشي أن يخونه المسيحيون وكانوا قد عاونوا الصليبيين في معرتا وأرتاح وغيرهما “فأخرج المسلمين من أهل أنطاكية ليس معهم غيرهم وأمرهم بحفر الخندق. ثم أخرج من الغد المسيحيين ليس معهم مسلم فعملوا في الخندق إلى العصر. لما أرادوا دخول البلد منعهم وقال لهم أنطاكية لكم تهبوها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج. فقالوا له من يحفظ أبناءنا ونساءنا. فقال أنا أخلفكم فيهم. فأمسكوا وأقاموا في عسكر الفرنج”. وجاء في بعض المراجع الغربية أن الأرمن والسوريين تظاهروا بالفرار من وجه ياغي وأبقوا نساءهم وأولادهم في المدينة ثم واصلوا ياغي بأخبار المحاصرين. وكان ياغي قد أمر بالبطريرك الأنطاكي يوحنا السابع فسجنه وكان قد حول كتدرائيته إلى اسطبل لخيله. فلما بدأ الحصار أمر ياغي بوضع البطريرك الجليل في قفص من حديد وبعرضه على المحاصرين من الأسرار. وحل الشتاء وقلت المؤونة واشتد الحال جداً ففترت همة بعض الصليبيين وأدبروا ومن غريب الأمور أن بطرس الناسك نفسه ولىّ مدبراً. فأدركه تنكريد الصقلي فعاد فاقسم بدوام مرافقة الذين قادهم للحرب. ونهض بوهيموند وروبير على رأس عشرين ألف مقاتل للتفتيش عن القوت الضروري في قرى وادي العاصي. فاتجها جنوباً. ولدى وصولهما إلى حماه التقيا بتقاق وطغتكين وشمس ابن ياغي آتين لنجدة أنطاكية. فكانت موقعة عند قرية البارة أسفرت عن هزيمة المدد الإسلامي. وعلم ياغي بخروج بوهيموند وروبير ورجالهما فانقض على ريمون عند الجسر ولكنه عاد منكسراً مذعوراً.
وغنم بوهيموند وروربير برؤوس أعدائهما ولكنهما عادا فارغي اليدين دون الزاد المطلوب. واشتد الجوع في صفوف الصليبيين وفتك بهم. وقد رهبان الأمانوس والمسيحيون في القرى المجاورة جميع ما لديهم ولكنه لم يكفِ. فكتب أديمار الأسقف إلى بطريرك أورشليم، وكان لا يزال في قبرص، فأمده بالقوت والخمر ولكن الجزيرة لم تتمكن من إشباع ألوف المحاربين. وتعاون الأسقف اللاتيني أديمار ممثل البابا في الشرق والبطريرك الأورشليمي سمعان تعاوناً وثيقاً فحررا رسالتين غلى الغرب يحضان فيها المؤمنين على القيام بالواجب. وتكلم سمعان في إحداهما بصفته زعيم أساقفة الشرق اليونانيين والاتينيين وهدد كل من يتوانى عن تنفيذ النذر الصليبي بالحرم.
وبينما كان أديمان يؤلف القلوب ويجمع الكمة باسم سيده الكبير أوربانوس كان بوهيموند يبث نمائمه ويزرع الأحقاد بين الروم واللاتين. ففي شباط السنة 1098 اتصل بتتيكيوس ممثل اليكسيوس في معسكر الصليبيين ونمّ على رفاقه في السلاح وادعى أنهم يضمرون السؤ لتتيكيوس لأنهم يعتقدون أن اليكسيوس يشجع الأتراك على محاربتهم. ونصح بوهيموند إلى تتيكيوس أن ينجو بحياته. فقبل تتيكيوس النصيحة ونزل إلى مرفأ السويدية وأبحر إلى قبرص. وما أن توارى تتيكيوس عن الأنظار حتى دبّت عقارب بوهيموند مرة ثانية فقال رجاله وعماله أن تتيكيوس فرّ خائناً. وكان بوهيموند يطمع في إمارة أنطاكية فرأى من المصلحة أن يتجنّى على اليكسيوس ويتقول على ممثله ليفجر في يمين الطاعة والولاء ويتحرر من العقد الذي قضى بإعادة أنطاكية إلى سيدها الشرعي أليكسيوس. ثم عاد فلجأ إلى المراوغة والمداورة فادعى أمام رفاقه في السلاح أن ابتعاده عن ممتلكاته في إيطاليا سيفلتها من يده وأن مصلحته تقضي بالعودة إلى إيطالية. فإذا كان لا بد من بقائه في صفوف المحاربين المجاهدين فعلى هؤلاء أن يعوضوه أنطاكية. فتشاغل أقرانه عن سماعه ولكن الجنود مالوا إليه بالسمع ورأوا في ذلك رأيه.
واستجار ياغي جاره رضوان صاحب حلب من الصليبيين واعترف بسلطته فأغاثه رضوان وجاءه على رأس قوة كبيرة يعاونه فيها صاحب ديار بكر وأمير حماه. وقطع الفرسان الصليبيون العاصي وكمنوا للخصم عند جسد الحديد. وفي التاسع من شباط سنة 1098 ناوش الصليبيون المسلمين عند الجسر. ثم استدرجوهم إلى ميدان ضيق بين العاصي وبحيرة أنطاكية فانقضوا عليهم وشتتوا شملهم. وكان ياغي قد خرج للقتال في الوقت نفسه وكاد ينتصر. فلما أبصر الفرسان عائدين منتصرين تراجع فدخل المدينة مدبراً.
وفي الرابع من آذار وصل أسطول إنكليزي حاملاً حجاجاً إيطاليين وعتاداً رومياً من القسطنطينية. فأنشأ الصليبيون عند مداخل أنطاكية وضيقوا الحصار. وكان اليكسيوس قد أوصى الزعماء الصليبيين بوجوب التفاهم مع الفاطميين أعداء الأتراك. فلما بدأت أسهم الصليبيين ترتفع بعث المستعلي بالله العلوي وفداً من مصر يعرض الصلح والمسألة وأنه يرجع إليهم الكنائس ويحامي عنهم ويفتح أبواب أورشليم للزوار على أن يدخلوها بلا سلاح وألا يقيم الواحد فيها أكثر من شهر. فرحب الصليبيون بالوفد العلوي وقدموا الهدايا ولكنهم لم يبتوا في شيء.
وطال أمد الحصار. وترامي للصليبيين أن كربوغا صاحب الموصل جيَّش جيوشاً ونهض بها لإغاثة ياغي سيان. فاندفع بوهيموند يعجل الاستيلاء على أنطاكية تعجيلاً. ففاوض فيروز الزرَّاد أحد أمراء الأبراج في أنطاكية وبذل له مالاً واقطاعاً. وكان فيروز أرمنياً فأسلم وتقرّب من ياغي فأصبح أميراً على ثلاثة من الأبراج الكبيرة. وكان على جانب عظيم من التقلب وحب الرفعة والمال. فعقد مع بوهيموند شروط التسليم بالخيانة. ثم تواترت الأخبار بقدوم صاحب الموصل بألوف من الرجال لنجدة المدينة. فخاف الصليبيون فخطب بوهيموند بوجوب الخيانة لامتلاك المدينة. فأذعن الرفاق فاجتمع بوهيموند بفيروز واتفقا على وقت وظرف. وفي اليوم الثاني جمع الإفرنج خيامهم وأغراضهم وانسحبوا عن ساحتهم وأعلنوا السير نحو أورشليم. وما زالوا سائرين نحو أورشليم حتى تواروا عن العيون. ثم انعطفوا راجعين في الليل. وقبيل الفجر أنفذ قوة صغيرة غلى برج الأختين الذي كان يحرسه فيروز. وصعدوا السلالم إلى هذا البرج وانطلقوا منه إلى غيره. وقتلوا الحراس وهيجوا المسيحيين وكسروا الأبواب وامتلكوا المدينة في الثالث من حزيران سنة 1089 وفتكوا بالأهلين فتكاً ذريعاً. وفر ياغي سيان فقتله الأرمن وجاءوا برأسه إلى أنطاكية. أما القلعة فإنها بقيت بيد شمس الدولة بن ياغي.
وفي السابع من حزيران وصل كربوغا صاحب الموصل بجنود كثيرة من الترك والعرب. فاضطرب الإفرنج وأخذ الضيق منهم كل مأخذ. ولم يعد عندهم زاد كاف ولم يكن لهم يد لاستجلاب المدن لأن القرى المجاورة كانت قد أمست مدمرة أو مهجورة. واتصل شمس الدولة بكربوغا ورجاه الاحتفاظ بقيادة القلعة إلى أن يتم النصر فأبى كربوغا وأرسل أحمد بن مروان فاحتلها باسمه. وفي العاشر من حزيران طوق كربوغا أنطاكية وشدد الحصار. وتضايق الصليبيون ونفذ قوتهم وخارت قواهم وضعفت وفرّ بعضهم طلباً للنجاة وفي العاشر من هذا الشهر نفسه أيضاً دخل فلاح فرنسي اسمه بطرس برتلماوس إلى خيمة بوهيموند وطلب مقابلة الأسقف أديمار ممثل البابا وزعيم الحملة الأكبرو. وأذن له بذلك فقال أن القديس أندرواس ظهر له ثلاث مرات وبين له المكان الذي دفنت فيه الحربة التي طعن بها السيد وقت الصلب. فلم يكترث الأسقف لسبين أولهما أن بطرس هذا لم يكن من ذوي السيرة الحسنة والثاني أن الأسقف نفسه كان قد شاهد الحربة في القصر المقدس في القسطنطينية في أثناء وجوده فيها. وبعد هذا بقليل دخل قس اسمه اسطفانوس على الأمراء القادة وقال أن السيد والعذراء ظهرا له في أثناء الليل في كنيسة السيدة. وأن السيد له المجد أمره أن يقول للأسقف أديمار أن جموع المحاربين المجاهدين وقعوا في الخطيئة وأنهم إن تابوا أرسل لهم في ظرف خمسة أيام المعونة الكافية لحمايتهم. فاتعظ أديمار وطلب إلى الأمراء أن يقسموا بأنهم لن يتخلوا عن أنطاكية إلا بإجماع الرأي ففعلوا. وفي الرابع عشر من حزيران شاهد الصليبيون نيزكاً يتساقط على معسكر الأتراك. فهبوا في الغد يفتشون عن الحربة في كنيسة القديس بطرس ومعهم الفلاح بطرس برثلماوس. “وحفروا عليها في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر الفلاح. فقال لهم ابشروا بالظفر. فقويت عزيمتهم وخرجوا في اليوم التالي من باب المدينة متفرقين من خمسة وستة. فقال المسلمون لكربوغا ينبغي أن تقف على الباب فتقتل كل من خرج. فقال لا تفعلوا لكن أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم. فلما تكاملوا ضربوا مصافاً عظيماً فولى المسلمون منهزمين” وغنم الصليبيون غنائم لا تحصى وجمعوا مالاً غزيراً وعادوا إلى أنطاكية بثروة عظيمة. وكان ذلك في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من حزيران سنة 1098.
وشاهد أحمد بن مروان هذا النصر من أبراج القلعة فأرسل من يعلن استعداده للتسليم. ودخل رسوله خيمة ريموند. فأرسل هذا الأمير من يرفع أعلامه على القلعة. فلما علم أحمد أن الأعلام ليست أعلام بوهيموند امتنع عن رفعها ولم يفتح الأبواب قبل وصول بوهيموند نفسه ودخل بوهيموند القلعة واستولى عليها وأذن بخروج الحامية سالمة فدخل بعض زعمائها في المسيحية وعلى رأسهم أحمد بن مروان. وتوفي الأسقف أديمار ودفن في كنيسة القدبيس بطرس فخلا الجو لبوهيموند فحنث يمين الطاعة والولاء للفسيلفس ولم يبر في ما وعد فنشأت مشادة بينه وبين الروم كان لها أسوأ الأثر في علاقة كنيسة أنطاكية بكنيسة روما.