” وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق ” (28:1).
1ـ ولكي لا يظهر أنه يشير إلى ما يفعله هؤلاء فقط، مُركّزاً حديثه على العلاقات الشاذة فيما بينهم، فإنه يأتي فيما بعد على ذكر أنواع أخرى من الخطايا. يفعلها قوم آخرون. ولأن الرسول قد تعوَّد دائماً أن يُحدّث المؤمنين عن الخطايا، وأنه ينبغي عليهم تجنبها، فإنه يُشير إلى الأمم كمثال ” لا في هوى شهوة كالأمم الذين لا يعرفون الله “ [1] . وأيضاً ” لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم “ [2] . وهنا يشير لخطايا هؤلاء الأمم، ولأجل ذلك يرى أن هؤلاء قد حرموا أنفسهم من كل صفح. ويقول إن هذه الخطايا، ليست نتيجة جهل، لكنهم يفعلونها في إصرار. ولهذا تحديداً لم يقل، لأنهم لم يعرفوا الله لكن “وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم ” مؤكداً كيف أن هذه الخطية تأتي من رؤية فاسدة، مظهراً أن هذه الخطايا لا تأتي من الأعضاء الجسدية كما يدعى بعض الهراطقة، لكن من الذهن والرغبة الخبيثة، وأن مصدر الشرور هو الذهن. وحيث أن الذهن قد صار فاسداً بلا نفع، فقد بطل كل شيء طالما أن مصدر التوجيه (الذهن) قد فسد وصار بلا قيمة.
” مملؤين من كل اثم وزنا وشر وطمع ” (29:1).
لاحظ كيف يُشدد على كل ما يقوله. لأنه يقول كيف أنهم ” مملؤين من كل” وبعدما تكلم عن الشر بشكل عام، أتى إلى تفاصيله قائلاً: ” مشحونين حسداً وقتلاً” لأن القتل يأتي من الحسد، كما ظهر في حالة هابيل وقصة يوسف. ثم بعد ذلك يقول ” مملؤين خصاماً ومكراً وسؤاً. نمامين مفترين مبغضين لله” ثم يضع هذه الخطايا في ترتيب، تلك التي تبدو للبعض بلا أهمية، ثم يتصاعد بالإدانة حتى وصل إلى تحديد أقصى درجات الشرور قائلاً: ” ثالبين متعظمين” لأنه من بين الخطايا الأكثر رعباً أن يكون المرء متعظماً وهو مخطئ. ولهذا أدان أهل كورنثوس قائلاً: ” أفأنتم منتفخون” [3] . إذاً فإن كان الشخص الذي يفتخر بإنجازاته، يفقد كل شيء عند موته، فكم سيكون عقابه شديداً ذلك الذي يفتخر بالخطية؟ لأن هذا الإنسان لن يستطيع أن يقدم توبة فيما بعد.
ثم يقول:
” مبتدعين مدعين شروراً ” (30:1).
هنا يُظهر أنهم لم يكتفوا بالخطايا التي يقترفونها، بل إنهم ابتدعوا خطايا أخرى. إن هذا الأمر يكشف أيضاً عن أن هؤلاء الناس يعرفون ماذا يفعلون، وليسوا مجرد أناس قد تأثروا بالآخرين وانجذبوا إلى الخطية. وإذ قد استعرض الخطايا والشرور التي إرتكبوها، عندما أظهر كيف ثاروا ضد الوضع الطبيعي في إطاعة الوالدين، حين قال ” غير طائعين للوالدين”. نجده بعد ذلك يتقدم نحو بيان جذور هذه البلايا الكثيرة، داعياً هؤلاء أنهم “بلا عهد ولا حنو”، أي ليس لديهم محبة حانية. وهذه الخطية قد قال عنها المسيح بأنها سبب للشر بقوله ” ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين” [4] . هذا بالضبط ما أعلنه الرسول بولس هنا، داعياً هؤلاء:
” بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة ” (31:1)
مظهراً أنهم بهذا قد خانوا هذه العطية التي وُهبت للطبيعة الإنسانية. لأننا نملك عاطفة حسب طبيعتنا، وهي أيضاً تملكها حتى الحيوانات المتوحشة فيما بينها، فيقول: ” كل حيوان يحب شبيهه وكل إنسان يحب قريبه” [5] . لكن هؤلاء قد صاروا بما فعلوا أكثر وحشية من الحيوانات.
لقد عرض لنا القديس بولس من خلال كل هذه الأمور، المرض الذي تفشى في المسكونة نتيجة الإنحرافات الشنيعة، وأظهر بكل وضوح بأن كل مرض هو ناتج عن ما يبديه البشر من اللامبالاة والتهاون. ثم بعد ذلك يُظهر كيف أن هؤلاء قد حرموا من المسامحة. ولهذا قال:
” الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت لا يفعلونها فقط بل أيضاً يسرون بالذين يعملون ” (32:1).
ومع أن القديس بولس يشير هنا إلى أمرين متباينين، إلاّ أنه قد نقض هذا التباين في الحال، إذ يطرح التساؤل الآتي: هل تجهل ما ينبغي عليك أن تفعله؟ وحتى لو أنك لا تعرف، فأنت نفسك السبب، لأنك ابتعدت عن الله، الذي هو مصدر معرفتك بكل هذه الأمور. لكن الآن قد ظهر ببراهين كثيرة أنك تعرف (حكم الله بشأن مَن يفعل الخطية)، وأنك تخطئ بكامل إرادتك، بل وتنجذب من الشهوة، لأنك تفعل هذا مع آخرين وتُسّر بهم أيضاً، لأنه يقول ” لا يفعلونها فقط بل أيضاً يسرون بالذين يعملون”.
إذاً فقد ذكر القديس بولس أولاً الخطية البشعة (لأن ذاك الذي يُسر بالخطية هو أكثر بشاعة من ذاك الذي يُخطئ) والتي لا يُصفح عنها، بهدف أن يمتنع الناس عن فعلها.
تتمة العظة السادسة تتبع في الإصحاح الثاني
[1] 1تس5:4.
[2] 1تس13:4.
[3] 1كو2:5.
[4] مت12:24.
[5] حكمة سيراخ 15:13.