يسوع يضحك: “إنجيل” يهوذا؟

الخميس في السادس من نيسان، نشرت National Geographic Society ترجمه انكليزية لإنجيل غنوصي قديم دعي “بشارة يهوذا”، ثم تلا هذا الأمر التقرير التلفزيوني الخاص الذي جرى بثه الأحد التاسع من ابريل الماضي.

تسويقٌ تميز بالتخطيط الدقيق، فانه بالتأكيد ليس من قبيل الصدفة أن الجمعية الجغرافية الوطنية اختارت أحد الشعانين عند المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت لبث برنامجها التلفزيوني الذي يقود إلى أحداث الجمعة الحزينة وعيد الفصح الذين هم أهم الأعياد عند المسيحيين. دعونا نسميها: تجارة الدين.

واعتمدت التغطية الإعلامية على الإثارة وحملت الصحف في جميع أنحاء البلاد على الصفحة الأولى قصصاً ذات عناوين؛ كهذا العنوان في بالتيمور صن “إنجيل يهوذا.. تتحدى الترجمة الحديثة للوثائق القديمة التعليم الأرثوذكسي عن يسوع والخائن”. أو مقالا في صحيفة الواشنطن بوست: “ترجمة إنجيل يهوذا القديم ضوءاً جديداً على المعتقدات”.

لماذا هذه العناوين؟ لان كاتب إنجيل يهوذا المجهول – بخلاف الأربعة القانونيين متى ومرقص ولوقا ويوحنا الموجودين في العهد الجديد – يقول أن يهوذا وحده بين الإثني عشر تلميذاً تسلّم التعليم الخاص وفهم المعني الحقيقي لرسالة يسوع. وان يسوع نفسه طلب من يهوذا تسليمه إلى الرومان، وأن يهوذا كان شخصاً متعاطفاً معه أكثر منه خائناً.

لكن ما هو إنجيل يهوذا؟

بشارة يهوذا هو جزء محفوظ بشكل سيء علي ورق البردي تم اكتشافه في عام 1970، في كهف بالقرب من المنيا في مصر. كما وجدت معه وثائق غنوصية أخرى عديدة رؤيا يعقوب ورسالة بطرس إلى فيلبس وما يدعوه الباحثين The Book of Allogenes، كلها مكتوبة بالقبطية وهي اللغة المصرية القديمة التي ما زالت تستخدم بين المسيحيين في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. واستنادا إلى دراسة دقيقة للوثائق أقر الباحثون بالإجماع على أن نص إنجيل يهوذا المقدم من الجمعية الجغرافية الوطنية يمكن أن يرجع تاريخ كتابته إلى القرن الرابع بين 300 و 340م، في نفس الوقت الذي شرّع فيه الإمبراطور قسطنطين الديانة المسيحية، وأنشأ مدينه القسطنطينية ودعا لعقد المجمع المسكوني الأول، ومنه فنحو 300 سنه تفصل بين لقاء المسيح مع يهوذا خلال العقد الثالث من القرن الأول. والواقع أن إنجيل يهوذا كتاب غنوصي غير تاريخي مشابه لبعض النصوص التي تم العثور عليها في نجع حمادي في مصر قبل حوالي ستين عاما.

لذلك لا بد أولاً من الإشارة الواضحة “إنجيل يهوذا” ليس من كتبه يهوذا الإسخريوطي نفسه. في مقابلة أجرتها أسوشيتد برس مع واحد من أبرز الخبراء في المخطوطات القبطية والغنوصية وهو البروفيسور جيمس روبنسون وهو أستاذ في جامعة كليرمونت، سئل إن كان هذا النص يعود “إلى يهوذا” فأجاب ببساطه “لا” وتابع روبنسون متوسعاً “هناك الكثير من الأناجيل التي تعود إلى القرون الثاني والثالث والرابع تنسب إلى الرسل، نحن نفترض أن أياً منها لا يعطينا أي معلومات حول القرن الأول”.

وفي مقابله مع بوسطن غلوب أكد روبنسون أن مقدمي هذا النص يريدون منه “سحب البساط من تحت الإيمان المسيحي كما نعرفه”. روبنسون بصراحة ردا علي هذا الاقتراح: “هذه سخافة “. وفي الحقيقة تكهن روبنسون بأن توقيت إطلاق إنجيل يهوذا يهدف إلى الاستفادة منه لصالح فيلم شيفرة دافنشي المزمع البدء بعرضه يوم التاسع عشر من أيار، وهو قصه خيالية عن رواية لدان براون التي تركزت علي النصوص الغنوصية القديمة وتآمر الكنيسة الكاثوليكية بالتستر على الزواج بين مريم المجدلية و يسوع.

ولأن جميع العلماء اتفقوا على أن إنجيل يهوذا ليس سوى وثيقة غنوصية، لعل السؤال الأهم الذي يتعين طرحه هو: ما هي الغنوصية؟

أصل الكلمة يوناني ويعني المعرفة. وهو المصطلح الذي يستخدمه الدارسون لوصف عدد من الحركات الدينية في العالم الروماني القديم، وكثير منها لا صله على الإطلاق بالمسيحية. لها مواضيع عده: إن أعضاء الجماعات الغنوصية يملكون مفتاح المعرفة الذي هو غير متاح للآخرين، يتميزون بالحقد علي العالم المادي الذي كثيرا ما يعتقدون انه ليس من خلق الله، بل من إله دونه ليحبس فيى أرواح البشر. في المفهوم الغنوصي أنّ البشر حرفيا هم محاصرين في أجسادهم ومعنى الخلاص هو أن ينطلقوا ويتحرروا منها “هذا يغلفني” كما يقول يسوع مخاطباً يهوذا في إنجيل يهوذا هذا. بالغنوصية بتنا نفهم ذلك.

ليس أيّ من هذه المعتقدات مسيحية:

كتب أحد معلمي المسيحية الأوائل وهو القديس الشهيد إرينايوس (+202 الميلاد)، أسقف مدينة لوغدونوم في ما هو اليوم ليون في فرنسا، سلسلة من الكتب أسماها ضد الهرطقات وفند التعاليم الغنوصية المختلفة و في واحد منها ورد ذكر إنجيل يهوذا. كتب إيريناوس حوالي العام 180 عن الغنوصيين الذين حاولوا “إعادة تسطير” عددا من قصص الكتاب المقدس عن قايين ( الذي قتل أخاه هابيل) والسدوميون (سكان مدينه سدوم التي اشتهرت بفواحشها الجنسية اللااخلاقية ، وعيسو (من باع بكوريته لشقيقه لقاء وجبه واحده) كوراه (الذي قاد الثورة ضد قياده موسى ) ويهوذا، ومحاولة تحويلهم إلى أبطال روحيين. ولكي يتم ذلك لهم ابتكروا ما يسميه القديس ايرينايوس “بالتاريخ الوهمي” الذي هو نفسه طابع إنجيل يهوذا.

ربما تسأل: ما هو موقع القديس إرينايوس في المسيحية؟ لماذا نولي اهتماماً إلى ما يقول؟ بحسب أوسابيوس القيصري في مؤلّفه تاريخ الكنيسة، والذي ربما كتب في 326م، أن القديس يرينايوس قد تدرب على وعظ وتعليم القديس بوليكاربوس أسقف سميرنا في تركيا الذي استشهد في 155م ؛ والقديس بوليكاربوس تعلم المسيحية كطفل وشاب من القديس الرسول يوحنا الإنجيلي الذي استقر في النهاية في مدينه افسس في آسيا الصغرى (تركيا حالياً).

ليس هناك طريقه أفضل لندرك أن إنجيل يهوذا ليس نصاً مسيحيا وليس حتى بإنجيل سوى قراءته وتحليل كل الضجيج الإعلامي الذي أحاط بإطلاقه. من مزايا الجمعية الجغرافية الوطنية بيعها لأقراص الفيديو الرقمية الخاصة فضلا عن الكتابين المتعلقين بالموضوع. لذا يمكنكم تحميل كامل إنجيل يهوذا بلغته القبطية مع سبع صفحات الترجمة الانكليزية. نعم، هذا صحيح: كامل بشارة يهوذا في ترجمته الانكليزية ليست سوي سبعه صفحات وهو بالتالي أقصر حتى من إنجيل مرقص الذي هو أصغر البشارات حجماً في العهد الجديد. وخلافاً للأناجيل القانونية الأربعة، فإنه ليس هناك تاريخ حقيقي في إنجيل يهوذا الذي لا يروي قصه الرب يسوع منذ ولادته بالجسد حتى الموت والقيامة.

بدلا من ذلك، يبدأ إنجيل يهوذا قبل عيد الفصح في أورشليم حيث تلاميذه يرفعون صلاة إلى الله على مائدة العشاء. يضحك يسوع عليهم وهو ينظرهم يفعلون ذلك. والمثير للاهتمام حقاً أن يسوع لم يضحك أبداً في باقي الأناجيل القانونية. أما في إنجيل يهوذا فكثيرا ما يضحك. يغضب تلاميذ المسيح منه لضحكه عليهم إلا يهوذا الذي يقول ليسوع: “أعرف من أنت ومن أين أتيت. أنت من عالم باربيلو الخالد”. وقد تسألون من هو باربيلو؟ في النصوص الغنوصية القديمة باربيلو هي الأم الإلهية للجميع. الفوضى؟ الأمور تزداد غموضا أكثر مع متابعة قراءة النص.

بسبب “معرفة” يهوذا أن يسوع أتى من “عالم باربيلو الخالد” وعد بالكشف عن “أسرار لم ينظرها شخص إلى الأبد”. هنا يوجد انقطاع، ثم الجزء الأخير من “إعلان” يسوع الغنوصي ليهوذا. تشير الأقواس إلى الفجوات في النص الأصلي.

هذه هي حقيقة إنجيل يهوذا. ولا عجب في أنّ ما من مسيحي يرى في إنجيل يهوذا هذا نصاً مسيحياً. بل من الواضح أنه نص غنوصي مكتوب بعد حوالي قرنين من إنجيل يوحنا، وهو رابع كتب العهد الجديد القانونية، وكما يبدو من قراءته ليس لديه أي نقطة مشتركة مع الأناجيل الأربعة سوي استخدامه اسم يسوع ويهوذا.
يشير الكاتب ادم غوبنيك إلى أهمية إنجيل يهوذا بالقول: “المسيحيون الأرثوذكسيون يرون حقاً انه ليس هناك من تهديد جديد للكنيسة في إنجيل يهوذا وما هو سوى بدعه قديمه”.

أو كما يرى المطران بيشوي الناطق باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية: “إنجيل يهوذا هو هذيان أناس غير مسيحيين يحاولون إيجاد مزيج خاطئ بين الميثولوجيا اليونانية وأديان الشرق الأقصى و المسيحية”. وهو “من تأليف مجموعه من الأشخاص الذين كانوا غريبين عن صُلب المسيحية الأولى”، وتلك “النصوص ليست دقيقه ولا يعوّل عليها”.

والغضب إزاء إنجيل يهوذا سيظل ساخناً لكون الجمعية الوطنية الجغرافية تعتزم بثّ تقريرها مرة أخري في 13 و22 نيسان وهذا التاريخ الأخير يصادف سبت النور عند المسيحيين الأرثوذكس في جميع أنحاء العالم. ولكن كما قال الأستاذ روبنسون في مقابله مع بوسطن غلوب عن إنجيل يهوذا، في نهاية المطاف، ” زوبعة في فنجان”.

المقالة باللغة الإنجليزية
Father Steven Tsichlis – Canada/Irvine

إنجيل يهوذا
page 3 of the Codex containing the Gospel of Judas

pl_PLPolish
Przewiń na górę