يأسر المخلصين دائماً أنّ القدّيسين، وبخاصّة النسّاك، كانوا، في حياتهم، أقوى من أن تأسرهم حاجات أجسادهم. طبعاً، هذا لا يعني أنّهم كانوا يهملون صحّتهم أو يعذّبون أنفسهم (الكنيسة الارثوذكسيّة لم تقبل يوماً أن يعذّب أحد جسده)، ولو كان في بعض تصرّفاتهم بعض تذلّل. ولكن أنّهم كانوا يسعون إلى أن يتحكّموا بشهوات هذا الجسد، وخصوصاً بشهوة الطعام والشراب والملبس. كانوا يرضون بقوت قليل، ويكتفون، في أحيان كثيرة، بثوب واحد يقيهم برد الشتاء، وحرّ الصيف. وفي هذا تعبير صارخ عن توقهم إلى ما هو أبقى من هذه الحاجة أو تلك، إلى الله الذي كان قوّتهم في مسيرة جهادهم.
هذا الكلام يمكن أن يعلّق عليه بعض بقوله: إنّ القداسة لا يحصرها هذا النمط من الحياة. وهذا التعليق صحيح، إذا كان قائله لا يقصد التهرّب من الالتزام أو تبرير كسله. فالقداسة خُبرات. والله يريدنا، كلّ واحد حسب موهبته، أن نحذو حذو الذين كانت طاعتهم، رغم كلّ صعوبة، مذهلة. مذهلة.
غير أنّ ما لا يخفى أنّ معظم المؤمنين اليوم يعتبرون الحياة مأكلاً ومشرباً وملبساً. فهم ما عادوا واقعيّين. يظنّ الكثيرون أنّهم خالدون. يعيشون هرباً من الموت. تطربهم الدنيا وتهمّهم نشاطاتهم وما اليها. لا يستسيغون ما تتضمّنه القداسة من متطلّبات، ولا قدرة القدّيسين. القدّيسون عندهم أشخاص أقيموا لهذا الهدف رغماً منهم. التشبّه بهم لم يعد مطروحاً. فهم باتوا من الماضي البعيد، وحضورهم اليوم غير ظاهر. ولا يحتذي بالقدّيسين إلاّ الذين أدركوا أنّ دعوة الله، في كلّ زمان، هي واحدة. الذين يبتغون القداسة ويشتهونها هم أحبّاء الله الأخصّاء. وهؤلاء باتوا نادرين جداً.
كيف نقتدي بالقدّيسين؟ سؤال جوابه نجاتنا. وهذا نفهمه صحيحاً إن أدركنا أنّ الله القدّوس وزّع مواهبه على الكلّ بما يفيد الكلّ. القدّيسون فهموا عطاء الله وفعّلوا مواهبهم. والله ينتظر منّا أن ندرك نحن كرمه وأن نفعّل، في مواقعنا، ما وهبنا من نعم. ولذلك لا يجوز أن يبقى سائداً ما يردّده بعض الناس اليوم، وهو أنّ المسيحيّة حكر على بعض الرهبان، مثلاً. هل يعتقدون هذا الاعتقاد جهلاً، أم ليهربوا من طاعة تعليم يسوع الواحد الموجّه إلى كلّ الناس؟ الأمران جائزان. ولكنّ فكر الله لا يقبل تمييزاً بين إنسان وآخر. الرهبان أحبّاء الله في موقعهم. هم قرّروا أن يطيعوا دعوته على هذه الطريقة الشرعيّة. ولكن كيف نطيعه نحن في حياتنا في العالم؟ فهل تجوز المبالغة في التمييز؟ وهل يجوز حصر المسيحيّة بحيطان دير؟ لمّا جاء يسوع لم تكن أديار. وقال ما قال، وطلب ما طلب، وعاش المسيحيّون ثلاثة قرون في الدنيا يحاولون أن يطيعوا الله قبل أن تؤسّس الرهبنة. هذه جاءت نتيجة تكاسل المسيحيّين في العالم. بعض فرز نفسه عن الدنيا، لمّا رأى أنّ الدنيا يتأكّلها التقاعس والفرديّة والشرور. وهؤلاء كانوا في حياتهم وإلى اليوم يحيون ببركات تقليد الجماعة. خبروا، وكانت خبرتهم نوراً. وكان الناس يقصدونهم حتّى يتبرّكوا بصدقهم وخبرتهم. “قل لنا كلمة حياة”. كان الناس يعتقدون دائماً أنّ خبرة الطهر هي المثال المحتذى. صعقهم صدق الصادقين، الذين كانوا يحيون بقدرة الله. فهموا أنّ القدّاسة مطلب الله وصوته في كلّ جيل. ولا يجوز لأحد أن يصمّ أذنيه عنه، فيخسر ما يريد الله قوله، ويغرق في فراغ يظّن أنّه مشيئة الله.
أن نؤمن بقدرة القدّيسين هو أن نؤمن بالله الذي يقدّس العالم. وأن نحاول العيش وفق تقليد كنيستنا وما تسلّمناه من نور. وأن نفضّل المسيح على دنيانا، على المأكل والمشرب والملبس وكلّ شهوة مضرّة. فهذا موقف إن لم نلتزمه لن نتمكّن من أن نستعيد صحّة حياتنا في المسيح.
بات من الضروريّ أن نصالح الحقّ الذي خبره القدّيسون في حياتهم. فطلب الله واحد: “كونوا قدّيسين كما أنا قدّوس”. هذه وصيّته التي تضيء صفحات التاريخ ورجاله. وهي تحتاج إلى وقفة تأمّل. أي إلى مراجعة حياتنا وقبول تصحيحها. التبرير مرض. والهروب أيضاً مرض. الصحّة هي في موافقة الوصيّة. فحياتنا لا قيمة لها إن بقينا مصرّين على تجاهل الحقّ، وعلى التشكيك بقدرة القدّيسين، أو على جعل القداسة لا تخصّنا. فما يخصّنا دائماً أن نترك الله يحقّق فينا، في مواقعنا، ما حقّقه في المخلصين عبر التاريخ. إن عدنا إليه واستسلمنا إلى محبّته ورضوانه ندرك كم أنّ القداسة واقعيّة وممكنة. الله عندها يجعلنا نعرف قوّته. وأن نذوقها في هذا الدهر الصعب. ويعطينا أن نردّد، بثقة الغالبين، مع بولس: “كلّ شيء يحلّ لي، ولكن ليس كلّ شيء ينفع. كلّ شيء يحلّ لي، ولكنّي لن أدع شيئاً يتسلّط عليّ. الطعام للبطن والبطن للطعام، والله سيبيد هذا وذاك. أمّا الجسد فليس للزنى، بل هو للربّ والربّ للجسد. وإنّ الله الذي أقام الربّ سيقيمنا نحن أيضاً بقدرته” (1كورنثوس 6: 12-14).
Z biuletynu parafialnego z 2002 r