السائح: لم نستطع، صديقي التقي الأستاذ وأنا، أن نقاوم رغبة البدء في رحلتنا، والقيام قبلها بزيارة قصيرة لك لنودعك ونطلب منك أن تصلي من أجلنا.
الأستاذ: نعم، كان في الاجتماع إليك خير كبير لنا، وكذلك كان قي الأحاديث الروحية التي أفدنا منها عندك بصحبة أصدقائك. سنحفظ في قلبنا ذكرى هذا كله كعربون صداقة ومحبة مسيحية في ذلك البلد البعيد الذي نحث الخطى نحوه.
الستارتس: أشكركما لتفكيركما في. وما أنسب وقت وصولكما! إن عندي مسافرين، راهباً مولدافياً وناسكاً عاش في الصمت خمس وعشرين سنة في قلب الغابة. وهما يريدان رؤيتكما. سأناديهما حالاً. ها هما آتيان.
السائح: آه! إن الحياة في العزلة لبركة حقاً! وما أنسبها للسير بالنفس إلى الاتحاد الدائم بالله! إن الغابة الصامتة شبيهة بجنة عدن تنمو فيها شجرة الحياة في قلب المتوحد. أعتقد أنه لو كان ذلك في وسعي لما ردني شيء عن ممارسة الحياة النسكية!
الأستاذ: كل شيء، إذا ما نظرنا إليه من بعيد، يبدو لنا شهياً. لكننا نتعلم بالخبرة أن لكل حال، على حسناتها، مساوئ أيضاً. لا شك في أن حياة التوحد، لمن كان سوداوي المزاج، وميالاً إلى الصمت هي تعزية، ولكن ما أكثر المخاطر على هذه الطريق! وتاريخ حياة الزهد يعطينا الأمثلة الكثيرة التي تبين أن متوحدين ونساكاً عديدين، قد نبذوا كلياً صحبة الناس، كانوا ضحايا الأوهام والمغريات الخطيرة.
الناسك: يدهشني أن يسمع في روسيا، سواء في الأديرة أو بين العلمانيين خائفي الله، أن الكثيرين ممن يرغبون في حياة النسك أو في ممارسة الصلاة الداخلية يصرفهم الوهم عن هذا الميل خشية المغريات. وهذا، في رأيي متأت عن سببين: إما عدم فهم المهمة الواجب إنجازها، ونقص في الثقافة الروحية، وإما لا مبالاتنا الخاصة للإنجاز التأملي والخوف الغيور من أن يتقدم علينا آخرون، نعتبرهم دوننا مستوى، في هذه المعرفة السامية. ومن المؤسف جداً أن الذين لديهم هذه القناعة لا يدرسون تعليم الآباء القديسين في هذا الموضوع. فإن الآباء، في الواقع، يعلمون ملحين أن على المرء ألا يخاف ولا يشك عندما يدعو الله. ولئن كان البعض حقاً ضحايا أوهام، فالسبب في هذا كان التكبر أو عدم وجود أب روحي، أو أخذ المظاهر والخيال مأخذ الحقيقة. ويقول الآباء بدقة إنه إذا ما حلت فترة امتحان كهذه فيجب أن تقود إلى اختبار أشد وعياً وإلى إكليل المجد، إذ إن الله يسرع في النجدة عندما يسمح بمثل هذا.
كونوا شجعاناً، يقول يسوع المسيح: (أنا معكم فلا تخافوا أبداً). ولذا كان من الباطل أن نخشى ونتخوف على الصلاة الداخلية بذريعة أن هناك خطر التوهم. إذ إن وعياً متواضعاً للخطايا، وصدق الروح إزاء الأب الروحي وغياب التصورات من الصلاة، كل هذه تشكل دفاعاً قوياً حصيناً ضد هذه الأوهام التي يخافها الكثيرون خوفاً شديداً حتى أنهم لا يتجرأون على خوض غمار النشاط الروحي. ومن جهة ثانية، فإن هؤلاء الناس معرضون للتجربة، كما تبينه هذه الكلمات الحكيمة التي قالها فيلوثاوس السينائي: (هنالك رهبان كثيرون لا يفهمون توهمهم العقلي الخاص ويحتملون كونهم في أيدي الشياطين – أي إنهم يكرسون النفس جادين لشكل واحد من أشكال النشاط: أعمال البر الخارجية – أما النشاط الروحي، أي التأمل الداخلي، فهم لا يعنون به قط، لأنهم في هذا الموضوع غير مثقفين وجهالاً). ويقول أيضاً القديس غريغوريوس السينائي: (فحتى لو سمعوا آخرين يقلون إن النعمة تحولهم داخلياً، لا يرون في هذا – حسداً – إلا وهماً).
الأستاذ: اسمح لي أن أطرح عليك سؤالاً: إن وعي الخطايا – لا شك – يحصل لكل من كان منتبهاً إلى ذاته. ولكن ما العمل عندما لا يكون لنا أب روحي قادر على الإرشاد، حسب خبرته الخاصة في سبيل الحياة الداخلية، عندما نفتح له قلبنا، وعلى تلقيننا معرفة صحيحة جديرة بالثقة حول الحياة الروحية؟ في هذه الحال، لا شك أنه يكون من الأفضل عدم المباشرة في التأمل بدل الشروع في تجربته بوسائلنا الخاصة، من غير دليل؟ أضف أنه، فيما يخصني، لا أفهم بسهولة كيف يمكن، إن صار الإنسان في حضرة الله، أن يحافظ على غياب تام للتخيلات. ليس هذا طبيعياً، إذ إن نفسنا أو عاقلتنا لا يمكنها تصور شيء يكون بلا شكل، في فراغ مطلق. ولماذا حقاً، لا يتوجب علينا، حين تكون النفس مستغرقة في الله، أن نتصور يسوع المسيح أو الثالوث القدوس وهلم جرا؟
الناسك: إن نصائح أب روحي أو ستارتس مجرب في الأمور الروحية، يمكن للمرء أن يفتح له القلب كل يوم بلا تحفظ، بثقة ومنفعة، وأن يبوح بأفكاره وكل ما لاقاه على درب التثقف الداخلي، هو الشرط الأولي لممارسة صلاة القلب عندما يكون المرء قد شرع في سلوك طريق الصمت. غير أنه، في الأحوال حيث يستحيل وجدان مرشد، يرى الآباء الذين رسموا هذه الطريقة حالة استثنائية. يعطي نبكفورس الراهب بهذا الصدد إرشادات دقيقة، هكذا: (أثناء ممارسة نشاط القلب الداخلي، لا بد من وجود أب روحي أصيل وجرب. وإن كنت لا تعرف أباً هذه صفته فينبغي لك البحث عنه بجد. ولكنك إن لم تجده، فتوسل بانسحاق قلب عون الله وانهل التعاليم والنصائح في وصايا الآباء الأبرار، وتثبت منها بمقارنتها بكلام الله الوارد في الكتاب المقدس).
يجب أيضاً أن يؤخذ بعين الاعتبار هذا الأمر: إن الباحث الحسن النية والمفعم غيرة يمكنه الحصول على معلومات مفيدة من قبل أناس عاديين. إذ إن الآباء الأبرار يؤكدون لنا أنه إذا استعلمنا، حتى لدى كافر، بإيمان، وبقصد شريف، فقد يقول لنا كلاماً فيه فائدة. وبالمقابل، إن نحن طلبنا النصح من نبي ولكن بلا إيمان وبلا قصد شريف، فلن يكون في وسع النبي ذاته أن يجيبنا على طلبنا. ولنا مثال عن هذا في قصة مكاريوس الكبير المصري، الذي أعطاه، ذات يوم، فلاح بسيط تفسيراً وضع حداً ليأسه.
أما فيما يتصل بغياب الصور – أي عدم استعمال المخيلة وعدم قبول رؤيا أثناء التأمل سواء كانت نوراً أو ملاكاً أو المسيح أو أياً من القديسين، والانصراف عن كل بحران في أحلام اليقظة – فإن هذا، طبعاً، أوصى به الآباء المجربون للسبب الآتي: إن للمخيلة القدرة على أن تجسد بسهولة، أو قل تعطي الحياة للتصورات الذهنية، بحيث أن قليلي الخبرة من الناس قد تجتذبهم هذه التخيلات بسهولة، ويحسبونها رؤيا النعمة. فيقعون بذا في الوهم، من غير اعتبار لتحذيرات الكتاب المقدس الذي يقول إن إبليس ذاته يمكنه أن يتخذ شكل ملاك نور. إن يستطيع العقل بالطبع وبسهولة أن يكون في حالة انعدام الصور وأن يبقى في هذه الحالة، أمر نراه جيداً ما دامت قوة المخيلة قادرة على تصوير شيء بصورة محسوسة في هذا الفراغ، فتعطي هذا التصور قواماً ظاهراً. كمثل تصوير النفس أو الهواء أو الحرارة أو البرودة. عندما تكون بردان، يمكنك أن تكوِّن ذهنياً فكرة حية عن الحرارة، بالرغم من أنه ليس للحرارة حد، وأنها لا يمكن أن تكون موضوع رؤية وأنها لا تقاس بالإحساس المادي المعرض للبرد. وكذلك أيضاً الحضور الروحي، والذي يستعصي فهمه، لله: يمكن أن يعرفه العقل ويتحقق القلب من هويته في فراغ من الأشكال مطلق.
السائح: خلال الأسفار، التقيت أناساً أتقياء يسعون إلى الخلاص قالوا لي إنهم يخشون الحياة الداخلية، التي وصفوها كوهم محض. قرأت لكثيرين منهم، مما كان فيه بعض الفائدة، تعليم القديس غريغوريوس السينائي في الفيلوكاليا. قال إن (عمل القلب لا يمكن أن يكون وهماً (على نقيض عمل العقل)، إذ لو أراد الشرير تحويل حرارة القلب إلى ناره المتأججة، أو تبديل فرح القلب بالمتع الخابية للقلب، فإن الزمن والتجربة والشعور ذاته، كلها ستكشف قناع حيلته ومخادعته، حتى للذين لم يصبوا علماً كثيراً). وقد اتفق لي أن التقيت آخرين كانوا، للأسف الشديد، بعد أن عرفوا طريق الصمت وصلاة القلب، قد اصطدموا بعقبة ما، أو بضعف ذميم فاستسلموا للتخاذل وتخلوا عن العمل الداخلي للقلب، وقد كانوا عرفوه.
الأستاذ: نعم، وهذا أمر طبيعي جداً. فلقد شعرت شخصياً، في بعض الأحيان، بالشيء عينه في إحدى المناسبات حينما فقدت توازني الداخلي أو ارتكبت هفوة ما. إذ إن الصلاة الداخلية ما دامت شيئاً مقدساً، اتحاداً بالله، أو ليس انتهاكاً لحرمة، أو ليس تجرؤاً يجب تحاشيه، أن نأتي بشيء مقدس لنضعه في قلب لوثته الخطيئة، من غير أن يسبق لنا تطهيره بندامة وانسحاق قلب صامت أو من غير استعداد مناسب للعودة إلى الله؟ الأفضل أن نكون صامتين بين يدي الله من أن نرفع إليه تعالى كلمات مهملة تصدر من قلب غارق في الظلمات والهيجان.
Mnich: من المؤسف جداً أن تفكر هكذا. إنه تثبيط للعزائم، أي أسوأ الخطايا، والسلاح الرئيسي في يد عالم الظلمات ضدنا. وتعليم الآباء المجربين، بهذا الصدد، مخالف جداً. يقول نيسيتاس ستيثاتوس إنك حتى لو سقطت وغرقت في أعماق الشر الشيطانية، حتى عندئذ يجب ألا تيأس، بل أن تتجه بسرعة نحو الله، وهو تعالى ينهض قلبك سريعاً من عثاره ويعطيك من القوة أكثر مما كان لك من ذي قبل. يجب، بعد كل سقطة وكل جرح قلب بالخطيئة، أن يضع الإنسان حالاً قلبه في حضرة الله لكيما يشفيه ويطهره. تماماً كالأشياء العفنة، إن نحن عرضناها بعض الوقت لقوة أشعة الشمس، فقدت حدة التعفن. كتاب دينيون كثيرون يبدون رأيهم بصورة قاطعة حول هذا النزاع الداخلي ضد أعداء الخلاص الذين هم أهوائنا. فحتى لو جرحت ألف مرة، لا ينبغي لك بأية صورة أن تتخلى عن النشاط المعطي الحياة، والذي هو ذكر يسوع المسيح الحاضر في القلب. وخطايانا، ليس أنها يجب ألا تصرفنا عن السير في حضرة الله والقيام بالصلاة الداخلية وحسب، إذ لن يكون وقتها فينا سوى القلق والخيبة والحزن، بل يجب، بالضد، أن تسوقنا إلى الالتفات حالاً نحو الله. كالطفل تقوده أمه، عندما يبدأ بالمشي، يلتفت سريعاً نحوها ويتشبث بها حين يشرف على الوقوع.
الناسك: أنا، من جهتي، اعتبر أن ضعف العزيمة والأفكار المقلقة والشكوك يوقظها بسهولة كبرى شرود الذهن والعجز عن صيانة صمت كياننا الداخلي. إن الآباء القدامى، في حكمتهم الإلهية، قد انتصروا على عزيمة تخور وتلقوا الاستنارة والقوة برجاء بالله لا يتزعزع، بالصمت الهادئ والوحدة، وأعطونا هذه النصيحة السديدة الثمينة: (أقعد بصمت في قلايتك وستعلمك كل شيء).
الأستاذ: إن ثقتي بك كبيرة بحيث يسعدني جداً أن استمع إلى نقدك لآرائي حول الصمت، الذي تمتدحه مدحاً كثيراً، وحول محاسن حياة التوحد التي يقدرها الناسك تقديراً. ولكن إليك ما أفكر: ما دام كل الناس، بحكم ناموس الطبيعة التي أعطاها الباري تعالى، في وضع التعلق الضروري بعضهم ببعض، وعليهم، منذئذ، أن يتعاونوا في الحياة، أن يعمل بعضهم لبعض ويتبادلوا الخدمات، فإن هذه الروح الاجتماعية تساهم في هناء الجنس البشري وتبرز حب القريب. لكن الناسك الصامت الذي اعتزل المجتمع الإنساني، كيف يمكنه، في عدم نشاطه، أن يخدم القريب؟ وما حظه من المساهمة في تحقيق رفاه المجتمع الإنساني؟ إنه يهدم كلياً في ذاته ناموس الخالق هذا الذي يقتضي اتحاد البشرية في المحبة والعمل الخير من أجل أخوّة كلية.
الناسك: لديك فكرة خاطئة عن الصمت، والنتائج التي تنتهي إليها ليست صائبة. فلنر ذلك تفصيلاً:
1- إن الإنسان الذي يعيش في صمت الوحدة، ليس أنه لا يحيا بلا عمل وفي خمول وحسب، بل هو نشيط إلى أعلى درجة، حتى أكثر ممن ينخرط في حياة المجتمع. هو يعمل بلا ملل حسب أعلى درجات ذكائه. إنه يسهر، إنه يتأمل، إنه يركز انتباهه على حالة روحه وتقدمها، وهذا هو الهدف الحق للصمت. وبمقدار ما يؤاتي هذا الوضع سيره الخاص نحو الكمال، فهو يفيد الذين لا يستطيعون ممارسة التركيز الداخلي لتطور حياتهم الروحية. إذ إن الذي يسهر بصمت ويبلغ اختباراته الداخلية إما كلاما (في حالات استثنائية) وإما بتدوينها كتابة، يساعد لما فيه خير إخوته الروحي وخلاصهم. هو يفعل أكثر، وعلى مستوى أعلى من المحسن العادي، إذ إن الإحسان العاطفي البسيط، في العالم، محدود، يحده العدد القليل من الإحسانات الممنوحة. أما الذي يهب إحسانات باختباره داخلياً وسائل مقنعة للنجاز الروحي فهو يصبح المحسن إلى شعوب بأسرها. وينتقل تعليمه وخبرته من جيل إلى جيل. كما نرى بأنفسنا، وقد أفدنا من تعاليم وخبرة ترقى من الأزمنة الماضية حتى يومنا الحاضر. وهذا لا يختلف بشيء عن المحبة المسيحية، بل يفوقها من حيث النتائج.
2- إن الأثر الثمين الخير يؤثره الإنسان المعاني الصمت في قريبه لا يتجلى بتبليغه ملاحظاته عن الحياة الداخلية وحسب، بل بالمثل الصالح أيضاً وإشعاع حياته الذي قد يوقظ الدنيويين على معرفة ذاتهم فيولد فيهم شعوراً بالاحترام. إن الإنسان الذي يعيش في العالم والذي يسمع حديثاً عن متوحد ورع، أو يمر أمام باب منسكه، يحس بنداء إلى الحياة الروحية، ويتذكر ما يمكن أن يكون الإنسان على الأرض، وأن باستطاعته الرجوع إلى تلك الحالة التأملية الأصيلة التي خرج فيها من يدي الباري تعالى. إن الصامت يعلِّم حتى بصمته. وبحياته الخاصة يصنع الخير ويهدي ويقنع بالسعي إلى الله.
يتغنى القديس اسحق السرياني بأهمية الصمت قائلاً: (إن وضعنا في كفة أعمال الحياة الأرضية، وفي الكفة الثانية الصمت، لوجدنا أن هذه الكفة هي الراجحة. لا تعتبروا متساوين الذين يجترحون المعجزات والعجائب في العالم والذين يصمتون بملء إرادتهم. أحبوا الصمت أكثر من شبع الجائعين إلى هذا العالم. لأن تتحرروا من قيود الخطيئة أفضل لكم من أن تعتقوا عبيداً من عبوديتهم). ولقد اعترف بقيمة الصمت حتى الحكماء غير المسيحيين. جعلت مدرسة الأفلاطونيين المحدثين، التي ضمت أتباعاً كثيرين كان أفلوطين معلمهم، جعلت لتطور الحياة التأملية مقاماً رفيعاً، ويوصل إليها بصورة أخص عن طريق الصمت. قال أحد الكتاب الدينيين إن الدولة، لو بلغت أعلى الدرجات في كمال الأخلاق والتربية، فلا تزال ثمة حاجة إلى وجدان أناس للتأمل، بغض النظر عن نشاطات المواطنين الاعتيادية، وذلك لكي يصان روح الحق، ولكي ننقله إلى الأجيال الآتية وقد تلقيناه من القرون الماضية. هؤلاء الناس، في الكنيسة، هم النساك والمتوحدون والزهاد.
السائح: أظن أنه لم يمتدح أحد فضيلة الصمت بمثل الأصالة التي امتدحها بها القديس يوحنا السلمي. قال: (إن الصمت أم الصلاة، عودة من الخطيئة، والتقدم الخفي في طريق الفضيلة، وصعود مستمر نحو السماء). أجل! ويسوع ذاته، حتى يرينا فضل الانزواء في الصمت، وضرورته كثيراً ما ترك تبشيره العام وذهب إلى أماكن منعزلة كي يصلي فيها ويستريح. إن الذين يتأملون صامتين يشبهون الأعمدة التي تدعم الكنيسة بصلاتهم الصامتة والمتواصلة. منذ الماضي السحيق الغابر ونحن نرى أن كثيرين من العلمانيين الورعين، وحتى من الملوك ورجال حاشيتهم، يزورون نساكاً ورجالاً يعيشون بصمت لكيما يطلبوا منهم صلواتهم حتى يتقووا ويخلصوا. وهكذا يمكن للمتوحد الصامت أن يخدم قريبه ويعمل لما فيه خير الجماعة وسعادتها بالصلاة في العزلة.
الأستاذ: هذه أيضاً فكرة يصعب علي فهمها. أنها عادة منتشرة بصورة عامة لدى المسيحيين جميعاً إن يطلب واحدنا من الآخر أن يصلي لأجله. أن أريد أن يصلي غيري من أجلي وأن يكون لنا ثقة خاصة بأحد أعضاء الكنيسة، أليس هذا مجرد طلب يطلبه المرء حباً بذاته؟ أوليس الأمر أيضاً أننا قد تعودنا أن نقول ما سمعنا غيرنا يقوله؟ أليس هذا كنزوة لا تقوم على أي أساس رصين؟ هل يحتاج الله إلى شفاعة البشر مادام تعالى يتدارك كل شيء ويتصرف وفق عنايته الفائقة القداسة لا وفق رغبتنا، عالماً بكل شيء، يقرره من قبل أن نطلبه، كما يقول الإنجيل المقدس؟ أمن الممكن أن تكون صلاة كثيرين أقوى، لترجح قراراته تعالى، من صلاة شخص واحد ؟ في هذه الحالة يكون الله محابياً للوجوه. هل يمكن لصلوات إنسان غيري أن تخلصني حقاً في حين أن كل إنسان يمدح أو يلام تبعاً لأعماله الشخصية؟ لهذا كان طلب الصلوات من شخص آخر، في رأيي، مجرد تعبير عن التأدب الروحي، وهو يشمل مظاهر التواضع والرغبة في نيل الرضى بطلب الصلاة المتبادل ليس إلا.
Mnich: إن نحن لم نأخذ بعين الاعتبار إلا المظاهر الخارجية، وكانت فلسفتنا بدائية فقد يجوز أن نرى الأمر هكذا. لكن الرشاد الروحي، الذي قدسه نور الوحي وعمقته اختبارات الحياة الروحية يرى ما هو أبعد، ويميز بصورة أعمق ويبين سرياً شيئاً يختلف جداً عما عرضت. ولكي نتمكن من فهم الأمر بصورة أسرع وأوضح، فلنأخذ مثالاً، ولنتحقق بعدئذ من صحته بعرضه على محك كلام الله. فلنفرض أن تلميذاً أتى إلى معلم مدرسة ليتعلم. تحول إمكانياته الضعيفة، ويحول – أكثر – كسله وعدم تركيزه دون نجاحه في دروسه، مما جعل تصنيفه في فئة الكسالى، فئة الذين لا يحرزون أي تقدم، لا يدري هذا التلميذ ما ينبغي عمله، وقد تأثر شديداً بفشله المتكرر، ولا كيف يحارب نواقصه. عندئذ يلتقي تلميذاً ثانياً، أحد رفاق صفه، وهو أذكى منه وأكثر اجتهاداً، ناجحاً في دراسته أكثر، ويعرض له متاعبه. فيهتم هذا له ويعرض عليه العمل معه قائلاً (فلنعمل معاً، سيكون اجتهادنا أكبر، وفرحنا أشد، وسنحصل على نتائج أفضل). فيأخذان في الدراسة معاً وكل منهما يطلع الآخر على ما يفهمه. وعملهما واحد. ماذا يحدث بعد حين؟ أصبح اللامبالي مجتهداً. وأخذ يحب عمله، وتبدل إهماله اندفاعاً، وتفتح ذهنه، مما كان له أفضل الأثر في إرادته وسلوكه. أما الذي كان أذكى، فقد بات هو الآخر أقدر وأشد اجتهاداً. بهذا التأثير المتبادل أحرز فوائد مشتركة.
وهذا أمر جد طبيعي، فإن الإنسان وُلد اجتماعياً. وهو إنما ينمي ذكاءه ويحسن أخلاقه وثقافته وإرادته بواسطة الآخرين. وبكلام موجز، إنه يتلقى كل شيء من تواصله بالآخرين. فما دامت حياة الناس تقوم على صلات وثيقة جداً وعلى تأثيرات قوية جداً للبعض في بعض، فإن الذي يعايش فئة من الناس يشترك في عاداتهم وتصرفهم وأخلاقهم. فيصبح الفائزون ذوي حمية، ويحتد ذكاء الأغبياء، وينساق الخاملون إلى النشاط بفعل الاهتمام البالغ الذين يولونه محيطهم. إن بإمكان الروح أن يبذل للروح، أن تفعل إيجابياً في روح ثانية، أن تجتذبها إلى الصلاة والتيقظ. يمكن لها أن تقويها إذا ما تخاذلت، وأن تصرفها عن الرذيلة، وأن تفتح عينيها على القداسة. وهكذا يصبح الناس بالتعاضد أشد ورعاً وأنشط روحياً وأكثر تواضعاً. هذا هو سر الصلاة من أجل الآخرين. وهو يفسر عادة المسيحيين الصالحة للصلاة بعضهم من أجل بعض وطلب الإنسان صلوات إخوته.
إن هذا يسمح لنا بأن نرى لا أنها ترضي الله كما ترضي الالتماسات والوساطات الكثيرة ذوي السلطان العالمي، بل إن الصلاة، بجوهرها وقدرتها، تطهر روح الذي قدمت من أجله وتسمو بها، وتهيئها للاتحاد بالله. وإن كانت الصلاة المتبادلة، يرفعها الذين يعيشون على الأرض، شديدة النفع إلى هذا الحد، فيمكننا أن نستنتج من هذا قياساً أن الصلاة من أجل المتوفين ذات نفع متبادل أيضاً، بحكم الروابط الوثيقة جداً التي تجمع ما بين عالمنا وعالم السماء. وهكذا يمكن لأعضاء الكنيسة الأرضية أن يتحدوا بأعضاء الكنيسة السماوية، أو – والأمران واحد – يمكن للأحياء أن يتحدوا بالموتى في وحدة الكنيسة.
إن كل ما قلته برهنة سيكولوجية، ولكن حسبنا أن نفتح الكتاب المقدس حتى نتحقق من صوابه:
1- يقول يسوع المسيح إلى بطرس الرسول: (صليت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك). ترى هنا أن صلاة السيد المسيح، بما لها من قدرة، تشدد روح القديس بطرس وعزمه وتشجعه حينما يتعرض إيمانه للامتحان.
2- عندما كان بطرس الرسول في السجن، (كانت الكنيسة تصير منها صلاة بلجاجة إلى الله من أجله) (أعمال 5:12). يوضح لنا هذا مدى العون الذي تسديه الصلاة الأخوية في الشدائد والضيقات.
3- لكن أوضح وصية في الصلاة من أجل الآخرين يعطيها القديس يعقوب الرسول: (اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات وصلوا بعضكم لأجل بعض لكي تشفوا. طلبة البار تقدر كثيراً في فعلها). (يعقوب16:5). هذا هو الإثبات الواضح للحجج السيكولوجية التي سبق عرضها. وماذا نقول في مثال القديس بولس الرسول؟ يلاحظ أحد الكتاب أن مثله يجب أن يعلمنا ما أشد الحاجة إلى الصلوات المتبادلة، ما دام أحد بهذه القداسة وهذه القوة يعترف بنفسه أنه بحاجة إلى هذا العون الروحي. إليك كيف يصوغ طلبه في الرسالة إلى العبرانيين: (صلوا من أجلنا فإن لنا ثقة بأن ضميرنا صالح، وإنا نرغب أن نحسن التصرف في كل شيء) (عبر18:13).
إذا ما اعتبرنا هذا، فما أشد ما يبدو لنا من غير المعقول أن نعتمد على صلواتنا وحدها، في حين أن إنساناً بهذه القداسة، قد حظي بالنعمة هكذا، يطلب في تواضعه، أن تقترن صلوات القريب – وهو هنا العبرانيون – بصلواته. ولهذا كان علينا – من قبيل التواضع وشركة المحبة – ألا نرفض أو نستهين بالصلوات التي تأتي حتى من أضعف الناس إيماناً، في حين أن الرسول بولس المستنير لم يبد أي تردد بهذا الصدد. إنه يطلب صلوات الجميع على وجه العموم، عالماً أن قوة الله بالضعف تكمل، وتكمل بالمحبة. وقد تجد كمالها – أحياناً – لدى الذين يبدون غير قادرين إلا على الصلاة بضعف. وإذا استوعبنا قوة هذا المثال نلاحظ أيضاً أن الصلاة المتبادلة تشدد وحدة المحبة المسيحية تلك التي يأمر بها الله، وأنها تشهد بالتواضع الروحي للذي يقدم الطلب، وأنها تسوق – إن جاز القول – الذي يصلي. هذا ما يشجع الشفاعة المتبادلة.
الأستاذ: تحليلك وبراهينك رائعة وصحيحة، لكنه يكون من الشيق لو أطلعتنا على طريق الصلاة من أجل الآخرين وعلى شكلها. إن كان خصب هذه الصلاة نتيجة اهتمامنا الحثيث بقريبنا ونتيجة التأثير المستمر بنفس الذي يصلي في نفس الذي طلب الصلاة، أفلا يخشى أن تكون هذه الحلة النفسية سبباً في إلهاء الذهن عن حضور الله اللامنقطع وعن بوح النفس بخلجاتها بين يديه تعالى؟ إذا فكرنا في قريبنا مرة أو مرتين في اليوم برحمة، طالبين له معونة الله، أفلا يكون هذا كافياً للتأثير في روحه وتقويتها؟ بودي – باختصار – لو أعرف بالضبط كيف أصلي من أجل الآخرين.
Mnich: إن الصلاة نرفعها لله لأي سبب كان لا ينبغي لها، ولا يمكن لها أن تبعدنا عن حضرة الله، إذ إنها حين ترفع لله، يجب أن يكون هذا – بداهة – في حضرته تعالى. أما بالنسبة للطريقة، فعلينا أن نلاحظ أن ما لهذه الصلاة من قدرة يكمن في عطف المسيحي الحق على قريبه، وأنها لا تؤثر في نفسه إلا في حدود هذا العطف وحسب. ولذا، فإن اتفق لنا أن نتذكر قريبنا، أو في الوقت المحدد لهذا التذكر، يكون من المناسب أن نستدعي حضوره إلى حضرة الله، وأن نرفع الصلاة بهذه العبارات: (أيها الإله الرحيم، فلتكن مشيئتك التي تريد أن يخلص الناس أجمعون وأن يبلغوا معرفة الحق، خلص وارحم عبدك (فلان) . اعتبر اللهم هذه الرغبة التي أعبر عنها نداء حب أمَرتَ به).
في الأحوال العادية، عليك بتكرار هذه الصلاة كلما شعرت نفسك بالرغبة فيها، أو يمكنك تلاوتها على سبحتك. علمتني التجربة أنها جزيلة الفائدة للذين ترفع من أجلهم.
الأستاذ: إن آراءك وحججك والحديث الهادئ والأفكار التي يستثيرها، هذه كلها على قيمة تجعلني أشعر بضرورة حفظها في الذاكرة كذخر ثمين، وبواجب التعبير لك عن جزيل الاحترام وشكر القلب العارف بجميل فضلك.
السائح والأستاذ: آن أوان الرحيل. من صميم القلب نطلب صلواتك من أجل رحلتنا وصداقتنا.
الستارتس: فليجعل إله السلام، الذي أعاد من بين الأموات راعي الخراف العظيم بدم العهد الأبدي ربنا يسوع المسيح، ليجعلكما قادرين على كل عمل صالح حتى تعملا بمشيئته ما حسن لديه بيسوع المسيح الذي له المجد إلى دهر الداهرين. آمين. (عبر20:13- 21).