أ- سرّ التقوى
“إن سرّ التقوى عظيم: لقد أُظهر بشراً، وتبرر في الروح، وتراءى للملائكة، وبُشّر به عند الوثنيين، وأُمن به في العالم، ورُفع في المجد” (1 تيم3: 16). يربط بولس الرسول سرّ التقوى بحقيقة التجسّد. وهو أمر غير مُستغرّب، لأن تجسّد المسيح قد جلب الخلاص والمجد للطبيعة الإنسانية (1 يو4: 9-10، 4: 14، غلا4: 4-5). فالتقوى لا تشير إلى سعي الإنسان بل إلى سرّ محبة الله المثلَّث الأقانيم الذي يحقق الخلاص عبر تجسد الابن.
طبيعة الإنسان الحقيقية وحياته الحقيقية لا تنبعثان من المعطيات الأرضية، بل من الله المثلَّث الأقانيم نفسه، لأن الإنسان هو صورة الله. وإذا أردنا البحث عن حياة الإنسان الحقيقية يجب أن نقترب من الله ونتذوق حياته. فالحياة قرب الله هي وحدها الحياة “الطبيعية”، أي المتجاوبة مع طبيعة الإنسان الحقيقية. أمّا الابتعاد عن الله فهو الحياة “غير الطبيعية”. ولا بدّ أن نذكّر هنا إلى ما يصفه البشر عادة بالحياة المنسجمة مع “الطبيعة”، لا يشير إلى طبيعة الإنسان الحقيقية، بل إلى الطبيعة الواقعة تحت سلطة الخطيئة والفساد والموت. وهذا الكلام لا يتضمن أيّة مبالغة، لأنه نتيجة مباشرة لكون طبيعة الإنسان الحقيقية صورة للطبيعة الإلهية، وكون حياة الإنسان الحقيقية صورة لحياة الله المثلَّث الأقانيم. فشخص المسيح الإله المتأنس هو صورة الله غير المنظور (كول1: 15)، وقد أُظهر للإنسان بتجسّده، صورة الله الحقيقية، وكشف له بحياته، صورة حياة الله المثلَّث الأقانيم.
في شخص الربّ يسوع اتّحدت الطبيعة الإلهية بالطبيعة الإنسانية (بلا اختلاط ولا استحالة ولا انقسام ولا انفصال) “المجمع المسكوني الرابع”، ولم يعد المسيح مشتركاً في الطبيعة الإلهية وحدها، بل بالطبيعة الإنسانية أيضاً، فصار الإله المتأنس الحقيقي (يو1: 1-14). وعندما “يلبس الإنسان المسيح” في المعمودية المقدّسة (غلا 3: 26) وفي سرّ الشكر الإلهي، يصبح جسداً واحداً ودماً واحداً معه (1 كو10: 16-17، 11: 24-25، متى26: 26-28، مر14: 22-24، لو22: 19-20، يو6: 51-58)، ويستعيد الشركة والوحدة مع الله المثلّث الأقانيم، فيتحقّق الخلاص الذي من أجله صلّى الربّ: “فليكونوا بأجمعهم واحداً: وكما أنت فيّ أيها الآب، وأنا فيك، كذلك فليكونوا فينا واحداً، ليؤمن العالم بأنك أنت الذي أرسلني. المجد الذي أوليتني، أوليتهم إياه، ليكونوا واحداً كما نحن واحد” (يو17: 21-23). وهكذا يتمكن الإنسان من الاشتراك في الحياة الإلهية، فينال الخلاص. أمّا الإنسان الذي لا يؤمن بسرّ التقوى العظيم (1 تيم3: 16)، أي بألوهة المسيح، فلن يخلص، لأنه لو كان الابن مخلوقاً، كما يدّعي ويجدِّف المضلِّلون، لما استطاع أن يُخلَّص الإنسان، فالخليقة لا تستطيع أن تخلِّص خليقة أخرى (أنظر مز48: 8). ولكن الكتاب المقدّس يعلمنا أن الربّ ليس مخلوقاً بل “بداءة خليقة الله” (رؤ3: 14).، أي علّة جميع الكائنات. “ففيه خُلق كل شيء ممّا في السموات وممّا في الأرض، ما يُرى وما لا يُرى” (كول1: 16، أنظر يو1: 3-4). وهو الذي “مع أنه في صورة الله، لم يعد مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته متّخذاً صورة العبد، وصار على مثال البشر” (فيل2: 6). فتجسّد الابن، كلمة الله، هو الذي أعاد ولادة الإنسان “في المسيح”، وجدّد فيه صورة الله المثلّث الأقانيم، حتى تغدو حياته صورة لحياة الله نفسها.
الإنسان الذي يعيش حياة روحيّة حقيقية يبرز صورة الله المثلّث الأقانيم التي كانت مخفيّة في داخله (رو14: 8، 2 كو5: 15، غلا2: 20، فيل1: 21)، أي الصورة المتجدّدة التي أعاد اكتشافها بفضل اتحاده مع المسيح، وتختفي الصورة التي أفسدتها الخطيئة. ولهذا السبب يصف بولس الرسول التقوى بأنها “سرّ عظيم” ويوحدها مع سرّ تجسّد المسيح، وتمجيد الإنسان في المسيح الإله المتأنس الذي بصعوده بمجد رفع معه الطبيعة الإنسانية إلى عرش الله وأجلسها معه عن يمين الآب، فالربّ قد أشرك الإنسان في صعوده المجيد و”شاركه المجد” (1) وألبسه جسده غير الفاسد (أنظر1 كو15: 40 و53، 10: 16، 12: 12-13، 12: 27)، فصار “إنساناً جديداً” متصالحاً مع الله “في جسد واحد بواسطة الصليب” (أف2: 11-22، 1: 18-23).
ويجب التنبّه إلى هذا الأمر، لأن ثمة مضلِّلين يكرزون بـ “إنجيل آخر” ويطلقون عليه بوقاحة اسم “البشارة السارة”، ولكننا نعلم أن رجاء خلاصنا يستند إلى حقيقة تجسُّد المسيح الإله، والى إنجيل “المصالحة بيسوع المسيح” (2 كو5: 18-19، رو5: 11). وهو الإنجيل الذي تسلّمناه من الرسل “خدّام المصالحة” (2كو 5: 18) والمبشرين بالسلام (رو10: 15، أنظر أيضاً1 كو1: 18-23، رو10: 8-9، 1 يو5: 11 _ 13، 1 كو15: 3، أع20: 21، غلا1: 8). الإنجيل الذي بشَّر به المسيح نفسه (أف2: 17، أنظر يو17: 21-23). ومن يكرز “بإنجيل آخر” يسقط تحت لعنة الكتاب المقدّس (غلا1: 8). ومن يستوعب هذه الحقيقة يستطيع أن يفهم أقوال الكتاب: “ذاك الذي كان منذ البدء وسمعناه ورأيناه بأعيننا وتأملناه، ذاك الذي لمسته يدانا من كلمة الحياة. لأن الحياة تجلّت فرأيناها ونشهد لها ونبشّركم بتلك الحياة الأبديّة التي كانت عند الآب فتراءت لنا. ذاك الذي رأيناه وسمعناه نبشِّركم به لتشاركونا أنتم أيضاً، كما شاركنا الآب وأبنه يسوع المسيح. نكتب إليكم بذلك ليكون فرحنا تاماً” (1 يو1: 1-4).
هذه هي البشارة السارّة، أي إنجيل يسوع المسيح الذي فيه يكمن سرّ تقوانا وسرّ المناقب الأرثوذكسية. والمسيحي يتأصّل في الحياة الروحيّة ويصبح ذا كيان روحي، على أساس مساهمته الشخصية في سرّ المسيح الإله المتأنّس.
ب – الإيمان الثابت
يقول الرسول بولس: “فقد صرنا شركاء في المسيح، إذا كنّا نتمسّك إلى المنتهى باتِّكالنا الذي كنّا عليه في البدء، فلا ندعه يتزعزع” (عب3: 14)، أي أننا سنكون شركاء في المسيح إذا ثبتنا إلى النهاية في الإيمان الذي به حصلنا على شخصيتنا الحقيقيّة ووُلدنا مجدَّداً في المسيح، فـ “بغير الإيمان لا يرضى الله عن أحد” (عب11: 6، أنظر رو3: 22-23، 5: 1، 10: 8-9). والمقصود هنا هو الإيمان القويم بكلمة الله، أي بالمسيح الذي هو الحق الذي يحرّر الإنسان (يو8: 32) ويقدِّسه (يو17: 17) ويفتح أمامه طريق الحياة (يو 14: 6).
يقول القديس كيرلّلس الإسكندري: :”يجب أن يكون كل إنسان مؤمناً، ولكن يجب أن يكون إيمانه قويماً”، الإيمان واجب، ولكنه يجب أن يكون إيماناً صحيحاً. وليس المقصود هنا الإيمان بحقائق نظريّة، بل الإيمان بشخص المسيح ذاته (يو14: 6، 1: 17، عب1: 1).
يتحدَّث القديس مكسيموس المعترف عن “الإيمان الثابت، أي كلمة الله الذي يتجسّد في داخلنا إذا جسّدنا وصاياه في كامل حياتنا”. ويعبِّر الرسول بولس عن الفكرة نفسها في قوله: “ما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ” (غلا2: 20، رو14: 8، 2 كو5: 15، فيل 1: 21).
ولكن كيف يتجسَّد المسيح الإله المتأنّس في داخلنا، حتى تستعيد حياتنا صورة الله المثلَّث الأقانيم؟
“من يشرب من هذا الماء فلا بدّ له أن يظمأ، وأمّا الذي يشرب من الماء الذي أعطيه إياه، فلن يظمأ أبداً. فالماء الذي أعطيه إياه يصير فيه عين ماء يتفجّر حياة أبديّة” (يو4: 13-14). فما هو هذا الماء؟
ما من شك في أن المقصود هنا ليس تعليم المسيح منفصلاً عن شخصه، بل الحقيقة المتجسِّدة، كلمة الله المتجسِّد، الإيمان الثابت، أي بشخص المسيح الساكن فينا. لذا يكتب الرسول بولس بألم إلى أهل غلاطية: “يا أبنائي، أنتم الذين أتمخّض بهم مرّة أخرى، حتى يصوّر المسيح فيهم” (4: 19).
ج – المحبة
“إذا أحبني أحد، حفظ كلامي فأحبه أبي، ونجيء إليه ونجعل لنا عنده مقاماً” (يو14: 23). يؤكِّد الربّ في كلامه أن الذي يحبّه سيحفظ كلامه، وأن نتيجة هذه المحبة هي وحدة الإنسان مع محبة الله المثلَّث الأقانيم واشتراكه في حياة الثالوث القدوس، وعندها يحبه الآب ويأتي إليه مع المسيح ويجعلان لهما عنده مقاماً.
الله محبة، وبالمحبة تظهر الحياة الإلهية. فإذا صارت حياة الإنسان حياة محبة، تغدو صورة حياة الله، فيشترك مَن يحياها في حياة الثالوث القدوس، ويصير مسكناً لله المثلَّث الأقانيم. “الله محبة، فمن ثبت في المحبة ثبت في الله وثبت الله فيه” (1 يو4: 16). فإذا كان سرّ التقوى وفحوى المناقب الأرثوذكسية يتجسّدان بحياة المحبة التي هي اشتراك في حياة الثالوث القدوس، فلا بدّ أن نعرف إذاً كيف يستطيع الإنسان أن “يصبح محبة”.
يقول الرسول بولس أن المحبة، وكامل الحياة الروحيّة، لا يمكن أن تُكتسب بالإرادة الإنسانية والجهد الإنساني وحدهما، لأنها موهبة من الله، وثمرة من ثمار الروح القدس الذي يحلّ على كل إنسان ويلبسه “قوة من العلا” (لو 24: 49)، ويلده من جديد روحياً (أع2: 17).
“أمّا ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف ودماثة الأخلاق والأمانة والوداعة والعفاف. وما من شريعة تنهي عن هذه الأشياء. أن الذين هم خاصة المسيح قد صلبوا جسدهم وما فيه من أهواء وشهوات” (غلا 5: 22–24). أي إنهم صُلبوا وماتوا مع المسيح وقاموا إلى حياة جديدة، “أحياء لله في يسوع المسيح” (رو 6: 4-11).
العيش في المحبة يتطلّب تغلّباً على جميع الأهواء والرغبات الجسديّة، أي موتاً مع المسيح وقيامة إلى حياة جديدة “في المسيح”. وحينئذ تصير القلوب مسكناً للروح القدس الذي يهبّ داخل جسد المسيح فيُحيي الكل ويمنحهم موهبة الإشتراك في الحياة الإلهية.
ثمّة أناس سيّئو المعتقد، يحصرون أعمال المحبة المسيحيّة بالتبشير بـ “إنجيل جديد”، الأمر الذي يقودهم إلى الهلاك (غلا1: 8). ولا يكتفون بذلك، بل يقصرون أعمالهم الصالحة على “الإخوان”، أي على من يشاطرهم معتقدهم. ولكن المحبة لا تكون من ثمار الروح القدس (غلا5: 22) إلاّ إذا كانت صورة لمحبة الله المثلَّث الأقانيم الذي “ينعم على الكفار والأشرار” (لو6: 35-36، متى5: 45)، وبهذا وحده تكون المحبة ثمراً للحياة “في المسيح” الذي “مضى من مكان إلى آخر يعمل الخير ويبرئ الجميع” (أع10: 38، يع3: 14-26، متى25: 34-40، لو10: 25-37، أش58: 7-10).
د – التوبة
الوصول إلى كمال المحبة يستدعي انتصاراً على الإنسان القديم فينا، أي الإنسان الذي سقط في تجربة الشيطان وأوقف مسيرته نحو الله. يجب أن يموت هذا الإنسان في داخلنا ليحلّ محله جسد المسيح الإله المتأنس. والتوبة هي الشرط الأساسي لاستعادة حياة المحبة، أي الحياة الحقيقيّة التي تتجاوب مع طبيعة الإنسان باعتبارها صورة لله. ولا يستطيع الإنسان أن يصل إلى الكمال، أي إلى المحبة التي تجسّد شخص المسيح (رو13: 10، متى5: 17)، إلاّ إذا تجاوز مصلحته الشخصيّة وكل ما يرضي ذاته ويدفعه إلى الزهو والغرور اللذين أوقعه فيهما الشيطان. ويجب أن يشعر بعمق أنه مهما حاول التجاوب بأعماله مع محبة الله غير المحدودة، فستبقى محاولاته غير كافية ولن تجعله مستحقاً للمحبة الإلهية. وهذا الشعور يجب أن يتملّك كل مسيحي حتى يصير إنسان التوبة الحقيقية. وهكذا فعل قدّيسو كنيستنا الذين شعروا دائماً بعدم مقدرتهم على استحقاق محبة الله، فوضعوا التوبة المتواصلة أساساً لحياتهم كلها. والقصة التالية من كتاب “أقوال الآباء الشيوخ” توضح ذلك:
“قالوا عن الأب سيسوى إنه لمّا أوشك أن يغادر العالم صار وجهه كالشمس، بينما الآباء حوله. فقال لهم: “ها قد جاء الأب أنطونيوس”. وبعد قليل تمتم قائلاً: “ها قد جاء رهط الأنبياء”. ثم تألقّ وجهه أكثر فقال: “ها قد وصل مصفّ الرسل الأطهار). ثم ازداد وجهه تألقاً وبدا كأنه يكلّم أحداً، فسأله الشيوخ: “من هو المتحدث إليك يا أبانا؟” فقال: “ها إني أرى الملائكة تقترب لتحملني، ولكنني أستعطفهم أن يمهلوني قليلاً حتى أتوب”. فقال له الشيوخ: “لست بحاجة إلى التوبة يا أبانا”. فقال لهم في الحقيقة لا أظن أني قد بدأت”. فأيقن الجميع أنه في قامة رفيعة جدّاً من القداسة والكمال. وفجأة أضاء وجهه كالشمس، فخاف الحاضرون. أمّا هو فقال: “انظروا، ها أن الربّ قد جاء وهو يقول: احضروا إليّ إناء البرّية”. وللحال أسلم الروح، فصار في المكان برق، وامتلأ البيت شذاً عطراً”.
في هذه الحادثة تعليم عظيم. فهي تبيّن أن قديساً استحق محيّاه أن يشع بالنور غير المخلوق، ومع ذلك يعتقد أنه لم يلج بعد حياة التوبة. وهذا التواضع العميق الذي نلمسه في حياة القدّيسين هو، في عرف آباء كنيستنا بداية الحياة الروحيّة (أنظر حز33: 10-15، 1 كو10: 12، فيل2: 12، 3: 8-12).
هـ – تواضع القلب والمحبة الإلهية الغامرة
من يطلب أن يتبرَّر بأعماله الصالحة أو حفظه الوصايا أو أي نشاط آخر، يكون قد انفصل عن المسيح وسقط من النعمة، ولن يستطيع أن يرجو الخلاص (رو3: 20، غلا5: 4، . .الخ). أمّا الذي يعترف بخطاياه ويتطلّع إلى المسيح بثقة مطلقة فيخلص. وقد قال المسيح إن “العشّارين والزواني” سيدخلون ملكوت الله قبل الذين يثقون كثيراً ببرّهم الذاتي ويعتمدون عليه (متى21: 31، لو7: 36-50، 18: 9-14). و”إن خطاياها الكثيرة (المرأة الزانية) مغفورة لها، لأنها أحبت كثيراً” (2) (لو7: 47). فالمحبة هي الأساس لأنها تحوّل الحب الجسدي الأناني إلى عشق إلهي.
وهذا ما تعبّر عنه كنيستنا في طروبارية الثلاثاء العظيم المقدّس:
“ويحي، لقد حصل لي شغف الفجور وعشق الخطيئة ليلاً قاتماً فاقد الضياء. فاقبل ينابيع دموعي… وانعطف لزفرات قلبي… فأقبّل قدميك الطاهرتين وأنشفهما بجدائل شعري… فمن يفحص كثرة خطاياي، ومن يستقصي عمق أحكامك، يا مخلِّصي المنقذ نفسي…”.
إن تحوّل الإنسان الناتج عن تواضع قلبه، بسبب إدراكه الدائم بأنه على شفير الهاوية، وعن شعوره بمحبة الله لغامرة، هو مبدأ أساسي في المفهوم الأرثوذكسي. وتنقل هذه الحقيقة وتؤكّدها طروباريات القانون الكبير الذي يتلى في صلاة النوم الكبرى في الأسبوع من الصوم الكبير (قانون أندراوس الأقريطشي):
“لقد أخطأت، وكالزانية أصرخ إليك: إليك وحدك أخطأت يا مخلِّصي، فاقبل دموعي كالطيب”.
“إليك أصرخ كالعشّار: أيها المخلِّص اغفر لي. فليس منذ آدم من أخطأ إليك مثلي”.
“ليس لديّ دموع ولا توبة ولا خشوع. فأنت أيها الإله المخلِّص، أعطني هذا كلّه”.
ويقول القديس يوحنا السلّمي: “ليتشجّع الناس المتواضعين. فلو وقعوا في جميع الآبار، وتزحلقوا في جميع الفخاخ واستولت عليهم جميع الأمراض، فإنهم بعد البرء والشفاء سيغدون للجميع أطباء ومعلّمين ومصابيح وحكاماً. وسيعلمون صفة المرض ويخلصون بتجربتهم أولئك المهدَّدين بالسقوط”.
ويقول القديس نفسه في مكان آخر: رأيت نفوساً دنسة قد استحوذ عليها عشق جسدي لا يرتوي، لكنها استفادت من تجربة العشق هذه، فحوّلته إلى الربّ، وجعلت محبته التي لا تنضب مركزاً لها. لذلك لم يقل الربّ لتلك الزانية الحكيمة إنها قد خافت، بل إنها قد أحبت كثيراً، فاستطاعت بسهولة تامة أن تصدّ بالعشق الإلهي حبّها لجسدي”.
وهنا بالذات نستطيع أن نفهم لماذا يقول القديس اسحق السرياني: “إن من يشعر بخطاياه أعظم ممن يقيم الموتى” والحقيقة أن هذه الأقوال تُعطي أملاً وثقة لكل نفس خاطئة، وتشجّعها على هجر الخطيئة والامتلاء بالعشق الإلهي: “أنهض وأطوف في المدينة، في الشوارع والساحات، ألتمس من تحبه نفسي. إني التمسته فما وجدته. صادفني الحرّاس الطائفون في المدينة. أرأيتم من تحبه نفسي؟ فلما تجاوزتهم قليلاً وجدت من تحبه نفسي فأمسكته، ولست أطلقه حتى أُدخله بيت أمي وخدر من حبلت بي” (نشيد الأنشاد 3: 2-4).
و – كيف يصير الإنسان (مسيحياً)
يكتمل العشق الإلهي، أي اتحاد الإنسان بالإله المتأنّس، داخل جسد المسيح نفسه: الكنيسة (أف1: 22، كول1: 18-24). فحلول الروح القدس أثناء القداس الإلهي يحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، فيصير جسد الإله المتأنّس ودمه مأكلاً ومشرباً لجماعة المؤمنين، فيتجاوزون كونهم جماعة بشرية ويؤلّفون كنيسة.
الكنيسة ليست مؤسّسة بشريّة بل مؤسّسة إلهيّة-إنسانيّة (يجمعها) ويوحّدها داخلياً الروح القدس على حدّ تعبير إحدى الترانيم الكنسيّة، فيصير كل إنسان “مسيحاً”، ويغدو مع جميع إخوته “واحداً”، لأنهم يؤلّفون جميعاً جسد المسيح الإله المتأنّس (غلا2: 28، 1كو12: 13، كول3: 11). وبالتالي فإن محور وحدة المسيحيّين ليس هدفاً عاماً أو مطلباً مشتركاً، بل الله المثلَّث الأقانيم نفسه، الذي تشكِّل صورته طبيعة الإنسان الحقيقيّة. وهكذا يصل الإنسان إلى هدفه، ويحقّق خلاصه الذي من أجله سفك المسيح دمه. ويجتمع شمل أبناء الله الذين تشتّتوا بعد السقوط ويصيرون “واحداً” (يو11: 52) ويجدون المعنى الحقيقي لحياتهم، ألاّ وهو اشتراك الإنسان في حياة الثالوث القدوس: “فنحن جسد واحد لأنه ليس هناك إلاّ خبز واحد، ونحن على كثرتنا جسد واحد لأننا نشترك في هذا الخبز الواحد” (1 كو10: 17).
إن التقوى، أي سرّ الخلاص والخلقيّة الأرثوذكسية، ليست موضوعاً ذاتياً، بل هي عمل ليتورجي يتناسب مع مدى اشتراك المؤمن شخصيّاً بجسد المسيح، وانضمامه العضويّ الوجداني إلى جسد الكنيسة. وخلاصنا يعتمد على هذه الحقيقة: وهي أن الإشتراك بحياة المسيح هو الذي يجعل الإنسان يستعيد شركته في حياة الله المثلَّث الأقانيم.
ز – الصراع ضد الشيطان
عندما نؤكِّد أن الخلقيّة الأرثوذكسية خلقيّة ليتورجيّة، وأنها ترتكز على الإشتراك في جسد المسيح، لا نعني حالة سلبيّة أو انكماشاً، بل دخول الإنسان إلى حلبة روحيّة “ليكافح أصحاب الرئاسة والسلطان وولاة هذا العالم، عالم الظلمات والأرواح الخبيثة في الجو” (أف6: 12).
الشيطان هو “مهلك الناس” و”كذاب وأبو الكذب” (يو8: 44)، “كالأسد الزائر يرود في طلب فريسة له) (1 بط5: 8). وهذه أمور يجب ألاّ ينساها المسيحي لحظة واحدة. فالعنصر الشيطاني عنصر حقيقي، والمؤمن مدعو إلى أن يبقى على الدوام ساهراً ويقظاً: “اسهروا! تيقظوا!” (1 بط5: 7)، “تقوّوا في الربّ وفي قدرته العزيزة. تسلّحوا بسلاح الله” (أف6: 10)، “كونوا راسخين في الإيمان، واعلموا أن إخوتكم المنتشرين في العالم يعانون الآلام نفسها: (1بط5: 9)، :أيها الإخوة، فليكن شغلكم الشاغل كل ما هو حق وشريف وعادل وخالص ومستحبّ وطيّب الذكر وما كان فضيلة وأهلاً للمدح. واعلموا بما تعلمتموه مني وأخذتموه عنيّ وسمعتموه منيّ وعاينتموه فيّ، وإله السلام يكون معكم: (فيل4: 8–9).
يستخدم الشيطان حواسنا ويحاول إيقاظ أهوائنا حتى يلج إلى داخلنا ويسود علينا. ولذا فإن كل مسيحي مدعو إلى أن يبعد الخصم باعتماده الكلّي على الله وخضوعه له. وحياة التواضع والتوبة والنسك تقود المسيحي إلى نكران مشيئته الخاصة والعمل بحسب مشيئة الله، وإلى إماتة ذاته والحياة “في المسيح”. وقد قال الربّ بوضوح: “من أهلك نفسه من أجلي يجدها” (متى 16: 25، 10: 39، مر8: 35، لو9: 24، 17: 33، يو12: 25).
ح – النسك
“هذا الجنس لا يُخرج إلاّ بالصلاة والصوم” (متى17: 21، مر9: 29). بهذه الأقوال رسم لنا الربّ يسوع الطريق إلى الانتصار في مواجهة الشيطان، ووضع أسس الحياة النسكيّة.
لقد عصى الإنسان الله، فنقل محور حياته من الإله المثلَّث الأقانيم إلى ذاته. وهذه هي تجربة الحيّة التي انقاد إليها الإنسان فأسقطته تحت سيادة الشيطان (تك3: 1-7). أمّا النسك فهو عكس ذلك تماماً. فالمسيحي الأرثوذكسي لا يجعل ذاته محوراً لحياته ولا يعمل وفقاً لمشيئته الخاصة، بل يسعى إلى أن يتجاوز مصالحه الشخصية، ويستسلم للمسيح استسلاماً كليّاً، بجسده ونفسه وبغير شروط. فهو مدعو إلى أن يصير “مسيحاً” داخل الكنيسة حتى يحقق أقوال القديس سمعان اللاهوتي الحديث: “لقد أصبحنا أعضاء المسيح، وها نحن الآن أعضاء المسيح. أنا الكلّي الشقاء يد المسيح ورجل المسيح. أنا الشقي أحرّك يدي، والمسيح في يدي كلها. فأفهم أن الألوهة لا تنقسم”.
صيرورة الإنسان مسيحاً تملأ قلب القديس سمعان بالإعجاب، بل بالاحترام المطلق للجسد الإنساني وتحثّه على اليقظة لكي يغدو مستحقاً هذا الشرف العظيم. لذلك يخاطب السيّد: “لقد صرت مندهشاً وأنا أفكر في نفسي. فمن أي جنس أصبحت؟ يا للعجب! أشعر أمام نفسي بوقار واحترام وخوف، كما أشعر أمامك. ولا أعرف ماذا أفعل، إذ صرت خجلاً بكلّيتي. فأين أجلس؟ ومّمن أقترب؟ وأين أضع الأعضاء التي هي أعضاؤك؟ وبأيّة أعمال وأيّة أفعال أستخدم هذه الأعضاء الإلهية الرهيبة؟”.
تمّ ببركة ونعمة الثالوث القدوس
الإله الواحد. آمين
(1) يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “بالحقيقة إنه لأمر عظيم وعجيب أن جسدنا يجلس في السماء ويتقبل سجوداً من الملائكة ورؤساء الملائكة والشيروبيم والسيرافيم”. عن كتاب “العقائد واللاهوت المقارن”، الأب الدكتور جورج عطية، منشورات البلمند… (الشبكة).
(2) يقول الأب متى المسكين في كتاب “شرح إنجيل القديس لوقا” عن هذه الحادثة: … فالقصة التي أمامنا بصريح العبارة لزانية محترفة ضيَّعت عمرها في اللهو الحرام، امرأة فاجرة معروفة في المدينة، يعرفها الفرِّيسي وقد تعرَّف عليها من أول وهلة، فهي عَلَمٌ في المدينة لأنها كانت امرأة الكل. تابت ولا نعرف ظروف توبتها ولكنها كانت تعرف المسيح وتابعت حركاته. إذن فهي تتلمذت بالنية وأكملت توبتها عند قدميه وقدَّمت إيمانها مع طيبها فاشتمَّه المسيح وجميع الحاضرين. وهكذا نضحت سيرتها بالبهجة بعد حزن مقيم وفرَّحت قلب الله والمسيح ونالت وسام الاستحقاق للخلاص من الطبقة الممتازة لأنه غُفر لها كثيرٌ. لقد تزاملت مع اللص اليمين ونالت معه الخلاص بكلمة.
انظروا يا إخوة فليس أكثر من هذا خطية وليس أكثر من هذا غفران، والمحبة هي التي قلبت الموازين، والمسيح هو هو وقوله قائم كما هو » والذي يحبني يحبُّه أبي وأنا أحبّه «(يو 21:14). فبيعوا حياتكم واشتروا محبة، ولا تسوِّفوا العمر باطلاً. فاليوم يوم خلاص والساعة ساعة مقبولة… (الشبكة)