أ – ضيافة إبراهيم
لن يستطيع الإنسان معرفة الحقيقة الإلهية، أي انه لن يتمكن من معرفة جوهر الله، إنما يعرف فقط أفعال الله غير المخلوقة، أي آثاره. ولكن التقليد الكنسي والكتاب المقدس يتحدّثان عن ظهورات محدّدة لله، أهمها ظهوره لإبراهيم بشكل ثلاثة ملائكة، كما ترسمه الأيقونة البيزنطية الشهيرة (أيقونة لأندريه رومبليوف من القرن الخامس عشر). ويقول آباء الكنيسة أن هذا الحدث هو الظهور الأول للثالوث القدوس في العهد القديم: “وتجلّى له الرب في بلوط ممرا وهو جالس بباب الخباء عند احتداد النهار. فرفع طرفه ونظر فإذا ثلاثة رجال وقوف أمامه. فلمّا رآهم بادر للقائهم من باب الخباء وسجد إلى الأرض. وقال: يا سيّدي أن نلتُ حظوةً في عينيك فلا تَجُزْعن عبدك فيقدّم لكم قليل ماء فتغسلون أرجلكم وتتكئون تحت الشجرة” (تكوين 18: 1-4).
الملفت في هذا المقطع أن إبراهيم يتكلم بصيغة المفرد مخاطباً الثلاثة، ثم يلتفت [2] فيخاطبهم ثانية بصيغة الجمع. وثمة أمر أخر، فالمتكلم مع إبراهيم، بحسب الترجمة السبعينية التي تستعملها كنيستنا والتي استعملها الرسل أنفسهم أثناء تأليفهم العهد الجديد، هو “الرب”، أما النص العبراني فيستعمل كلمة “يهوه” أي الله: “ثم قام الرجال من هناك واستقبلوا جهة سدوم ومضى إبراهيم معهم ليشيعهم. فقال الرب أأكتم عن إبراهيم ما أنا صانعه؟ وإبراهيم سيكون أمة كبيرة ومقتدرة ويتبارك به جميع أمم الأرض؟ وقد علمت انه سيوصي بنيه وأهله من بعده بأن يحفظوا طريق الرب ليعملوا بالبرّ والعدل حتى ينجز الرب لإبراهيم ما وعده به. فقال الرب إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيئتهم قد عظمت جداً. أنزل وأرى هل فعلوا طِبْقَ صراخها البالغ إليَّ وإلا فاعلم. وانصرف الرجال من هناك ومضوا نحو سدوم وبقي إبراهيم واقفاً أمام الرب (يهوه). فتقدم إبراهيم من الرب وقال أتهلك البار مع الأثيم؟” (تك 18: 16-23).
ويتوالى الحوار.، ثم ينتهي بتأكيد الرب (يهوه) انه لن يقوِّض المدينة أن وجد فيها عشرة أبرار…(ومضى الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم، ورجع إبراهيم إلى موضعه) (تك18: 33).
يصف آباء الكنيسة ضيافة إبراهيم في بلوط ممرا بأنها الظهور الأول للثالوث الأقدس.
ب – الأقنوم الشخصي للابن والروح القدس
“كلمتك يا رب تثبت في السماء إلى الأبد” (مز 118: 89). “صرخوا إلى الرب في ضيقهم فخلّصهم من شدائدهم. أرسل كلمته فشفاهم ونجاهم من مهالكهم. فليعترفوا للرب لأجل رحمته ومعجزاته لبني البشر”. (مز 106: 19 21).
كلمة الرب “تثبت في السماء” إذن، وتُرْسَل إلى الذين “يصرخون” إلى الرب، فتشفيهم من سبب الهلاك. لذا، يفيض قلب الإنسان اعترافاً بالجميل، فيمجِّد الرب لأجل غنى مراحمه.
لكن يوحنا الدمشقي يذكر أن “الكلمة اللفظية لا تُرسل ولا تثبت إلى الأبد”. إلا أن كلمة الله ليست مثل كلماتنا الخالية من الأقنوم الشخصي والمتشتتة في الهواء. أن كلمة الله ذات أُقنوم شخصي، حيّ، كامل وأبدي (يو 1: 1)، وهذا الأقنوم متّحد به بلا انفصال، ويملك كل ما يملكه.
أمّا الروح القدس فيقال عنه: “بكلمة الرب صُنعت السموات، وبروح فمه كل جنودها” (مز 32: 6). “روح الله هو لذي صنعني ونسمة القدير أحيتني” (أيوب 33: 4). “تصرف وجهك فيضطربون تنزع أرواحهم فيفنون والى ترابهم يرجعون. ترسل روحك فيخلقون وتجدِّد وجه الأرض” (مز 103: 29- 30).
يرسل الله الروح القدس، فيخلق ويثبت ويحفظ ويجدِّد الخليقة كلها. وكما أن “فم الله” ليس شيئاً جسدياً، كذلك روحه. ويجب أن نفهم اللفظتين بالمعنى الروحي. “لا نعتبر روح الله الذي يرافق الكلمة ويظهر فعله نسمة بلا وجود شخصي، لأننا باعتقادنا هذا نحتقر عظمة الطبيعة الإلهية. والأحرى أن نعتبره قوة ذات كيان، يُعبَّر عنها من خلال وجود شخصي خاص” (يوحنا الدمشقي).
ج – ظهور الثالوث الأقدس في العهد الجديد
في اليوم الذي قبل فيه المسيح المعمودية من يوحنا في الأردن، ظهر ذاك الذي لا يقدر الإنسان أن يدركه بإمكاناته الخاصة، أعني الإله الواحد المثلث الأقانيم، فشهد الآب لألوهة الابن ودعاه ابنه الحبيب. وتعمَّد الابن في نهر الأردن منيراً العالم قاطبةً ومحرراً إياه، من رباط الشيطان وعبوديته. ونزل الروح القدس بهيئة حمامة ليؤكد شهادة الآب ويهب إيماننا أساساً غير متزعزع (متى 3: 13-17، مر 1: 9-11، لو 3: 21). ثم يثبت هذه الحقيقة العظيمة نشيد كنيستنا:
“باعتمادك يا رب في نهر الأردن ظهرت السجدة للثالوث،
لأن صوت الآب تقدَّم لك بالشهادة، مسمِّياً إياك ابناً محبوباً،
والروح بهيئة حمامة يؤّيد حقيقة الكلمة. فيا من ظهرت وأنرت العالم يا رب المجد لك”.
هذا الكشف الإلهي تؤيّده أيضاً شهادة يوحنا: “أنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمّد بالماء هو قال لي: إن الذي ترى الروح ينزل ويستقر عليه…..هو ابن الله (يو 1: 33-34). وقد كشف العهد الجديد مرة أخرى عن هذا السر الذي لا يوصف. إنها شهادة طور ثابور أي تجلي الرب المخلص (متى 17: 1-8، مر9: 2-8، لو9: 28-36).
وهناك رأى التلاميذ الثلاثة بهاء المحيّا الإلهي، فيما الروح القدس يخيّم عليهم بالسحابة المنيرة، والآب يؤكد مجدداً أن (هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا).
لا يرتكز إيماننا إذاً على المنطق البشري الناقص غير الثابت. إنه نتيجة الظهور الإلهي المؤكد بالنور الإلهي غير المخلوق الذي انبثق على طور ثابور، واليقين الذي يوصلنا إليه حضور الروح القدس الذي حلّ أيضاً يوم العنصرة بضجيج (كما من هبوب ريح عاصفة) ليملأ التلاميذ (اع 2: 2-4) ويبقى في الكنيسة قائداً شعب الله إلى الحقيقة (يو 16: 13 و14: 26).
أُسس إيماننا غير المتزعزعة، والتي تقدم ثباتاً ويقيناً يفوقان كل حقيقة، مستندة إلى براهين ومعطيات بشرية، هي شهادة الله الآب وظهور مجد الابن وحلول الروح القدس بشكل حمامة وألسنة نارية. ولهذا السبب كتب الرسول بطرس إلى المسيحيين. “وقد أطلعناكم على قدرة ربنا يسوع المسيح وعلى مجيئه، ,ولم يكن ذلك منّا إتباعاً لخرافات مصطنعة، بل لأننا عاينّا جلاله. فقد نال من الله أبيه إكراماً ومجداً، إذ جاءه من المجد-جلّ جلاله-صوت يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت. وذاك الصوت قد سمعناه آتياً من السماء، إذ كنّا معه على الجبل المقدس. فازداد كلام الأنبياء ثباتاً عندنا، وإنكم لتحسنون عملاً إذا نظرتم إليه كأنه مصباح يضيء في مكان مظلم، حتى يتنفس النهار ويشرق كوكب الصبح في قلوبكم. واعلموا قبل كل شيء انه ما من نبوءة في الكتاب تقبل تفسيراً يأتي به أحد من عنده، إذ لم تأتي نبوءة قط بإرادة بشر، ولكن الروح القدس حمل بعض الناس على أن يتكلوا من قبل الله” (2 بط 16-21).
ويضيف تلميذ آخر هو يوحنا الحبيب: (إذا كنا نقبل شهادة الناس، فشهادة الله أعظم. وقد شهد لابنه هذه الشهادة إذ قال: من آمن بابن الله كانت تلك الشهادة عنده، ومن لم يصدق الله جعله كاذباً، لأنه لم يؤمن بالشهادة التي شهدها الله لابنه) (1 يو 5: 9-10).
د – شهادات أخرى من الكتاب المقدس
“توجّهوا إليّ فستخلصون….. أنا الله وليس آخر. بذاتي أقسمت ومن فمي سيخرج البرُّ، وكلماتي ستتحقق.كل ركبة ستجثو لي وكل لسان سيمجد الله) (أش 45: 22-23).
تتعلق هذه النبوءة بالمسيح نفسه (رو 14: 9-11، فيليبي 2:10)، فهو الرب (وليس آخر) (أش 45: 18)، وهو كلمة الله المتأقنم، “خالق السموات، الله، جابل الأرض وصانعها” (أش45: 18، يو1: 1-3، كول 1: 15-16، رؤ 3: 14).
“فإنه هو إلهنا ونحن شعب مرعاه وغنم يده. إذا سمعتم صوته اليوم فلا تقسّوا قلوبكم كما عند الخصومة يوم الامتحان في البرّية، حيث امتحنني آباؤكم واختبروني وعاينوا أعمالي” (مز 94: 7-9). وقد وردت هذه الكلمات في الرسالة إلى العبرانيين بلسان الروح القدس (عب 3: 7-9). فالله الذي “جربه الآباء” هو الروح القدس صاحب الأقنوم الإلهي الخاص.
ويردِّد العهد القديم مرّات كثيرة لفظة (الرب-يهوه)، قاصداً بها الآب أو الابن المتأقنم أو الأقنوم الإلهي للروح القدس. وعلى سبيل المثال: “قال الرب لربّي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك….. أقسم الرب ولن يندم: إنك أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق. الرب يمينك يحطّم الملوك يوم غضبه” (مز109: 1 و4-5). وقد فسّر المسيح هذا المزمور ذاكراً أن الروح القدس ينفخ في داود الكلمة النبوية (مر 12: 35-36). و”الرب الجالس عن الميامن” و”الكاهن الذي على رتبة ملكيصادق” هو المسيح نفسه (عب 7: 14-28). أمّا الرب المتكلم فهو الآب (انظر أش 6: 1-9 وقارنها بيوحنا 12: 37-41 وأعمال 28: 25-26 وأشعيا 8: 5-6 وأش 48: 5-6، 16 وأش 59: 16-20، أش 61: 1).
وينهي بولس الرسول رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس بالدعاء الثالوثي التالي: (ولتكن نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس معكم جميعاً) (13:13، وانظر 2 كو 1: 2-22، و1 كو 12: 3، تيطس 3: 4-6). ولكن سائر هذه الشواهد الكتابية، وغيرها مما لم نذكره، لا تُفهم ولا تُقبل إلا بمثابة هبات من الله وثمار للروح القدس وأفعاله الإلهية في قلوب البشر (1 كو 2: 4-16، 1 يو 2: 20 و27).
هـ – الحاجة إلى (الصوت) الإلهي
إن أسس إيماننا بإله واحد مثلُّث الأقانيم غير متزعزعة، لأنها تستند إلى كلمة الله لا إلى المنطق البشري المتقلب. وعلى رغم ذلك فثمة أناس لم يهتدوا إلى حقيقة الثالوث، بل استمرّوا في الضلال والمعتقدات الهرطوقية، مع أنهم يزعمون مطالعة الكتاب المقدس.
هؤلاء يطالعون بقواهم الذاتية وحسب، فلا يطلبون إرشاداً أو مساعدة من الروح القدس الذي “يقود إلى الحقيقة” (يو 16: 13، 14: 26). ولكن “الروح القدس المعّزي، المنبثق من الآب والمستقر في الابن” (إحدى تسابيح الروح القدس) لا يفعل إلا باسم المسيح (يو 14: 26، 15: 26، 13-15) أي في الكنيسة التي هي جسده المقدس (كول 1: 18-24، أف 1: 23). ومن لا يكون مع المسيح يبقى في العهد القديم ويغطّي عينيه “بقناعٌ” يبعده عن فهم الكتاب المقدس، كما قال بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس: “فإن ذلك القناع لا يزال إلى اليوم غير مكشوف عند قراءة العهد القديم، ولا ينزعه إلاّ المسيح. أجل. إلى اليوم عند قراءة كتاب موسى لا يزال القناع على قلوبهم، ولا ينزع هذا القناع إلاّ بعد الاهتداء إلى الرب، لأن الرب هو الروح، وحيث يكون روح الرب، تكون الحرية، ونحن جميعاً نعكس صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة كأنها مرآة، فنتحوّل إلى تلك الصورة، وهي تزداد مجداً على مجد، وهذا من فضل الرب الذي هو روح” (2 كو 3: 14-18).
وهكذا أُلغِيّ القناع الذي يمنع الناس من فهم الكتاب المقدس، لا سيما العهد القديم، فهماً حقيقياً. لأن “الربُّ”، روح الحق، وهبهم الحرية الحقيقية وجعلهم قادرين على مواجهة بهاء الله وإشراقه. أمّا أولئك الذين ليسوا مع المسيح، أي البعيدون عن الكنيسة، فيبقى “قناعهم” ويحول بينهم وبين فهم الكتاب فهماً حقيقياً.
لا تكفي دراسة الكتاب المقدس إذن، للوصول إلى حقيقة الله الثالوثية، بل ينبغي أن نكون من رعية المسيح، أي أعضاء في كنيسته التي يفعل روح الله فيها، وعلينا أن نترجّى الصوت الإلهي، وعندئذ نحسُّب حضور الألسنة النارية ونتلقى الاستنارة الإلهية، كما حصل للرسل في اليوم الخمسين.
ومن دون هذه النفخة الإلهية يستحيل على المرء أن يعرف حقيقة الله الثالوثية العظمى، مهما درس الكتاب المقدس، وحتى لو توصل إلى استظهاره كله. أو كما قال إفاغريوس النبطي: (معرفة سر الثالوث الأقدس بصورة تامة، تعني أن نُقبل على اتحاد تام بالله، أي أن نتغلغل في الحياة الإلهية).
و – التحديات العقائدية في الكنيسة
يقول القديس ايلاريون أن علينا نحن الأرثوذكسيين “الاكتفاء بحفظ الإيمان كما أُعطي لنا، أي أن نعبد الآب ونكرم معه الابن ونمتلئ من الروح القدس”. ويلاحظ “إن فساد الهراطقة والمجدفين يضطرنا إلى الملاءمة بين كلامنا المتواضع وبين السر الذي يستحيل وصفه، وان نرتفع إلى قمة لا تُدرك ولا يوصل إليها، وان نتحدث عن أمور لا يُعبَّر عنها….. وان نصف، عفوياٌ وبلساننا البشري، الأسرار التي ينبغي أن نحجبها داخل إيمان نفوسنا”. وهذا ما دعى الكنيسة إلى الاعتناء بالتعبير عن الإيمان بالثالوث الأقدس تعبيراً مفصّلاً، والى حماية أعضائها من خطر البدع والمعتقدات الفاسدة المؤدية إلى الهلاك. أمّا البشر الذين يودون فهم كل الأمور بالمنطق، فيقول لهم باسيليوس الكبير: “ولكن كيف نكون مستحقين للتطويبات الخاصة بالمؤمنين بالأمور اللامنظورة، ونحن لا نقتنع إلا بما هو واضح للعقل؟ لماذا جنّ الأمميون وأُظلم عقلهم الغبي (رو 1: 21)؟ لأنهم تبعوا ما يؤكد العقل صحته، ورفضوا كرازة الروح. أفلا يرثي أشعياء هذا النوع من البشر فيصفهم كأنهم ضائعون، حين يقول: (ويل للذين هم حكماء في أعين أنفسهم، وعقلاء أمام وجوههم) (أش 5: 21)؟”.
ز – جوهر واحد في ثلاثة أقانيم
تعلِّم كنيستنا أن أقانيم الثالوث القدوس الثلاثة كاملون بلا حدود، ومتحدون برباط لا ينفصل، وأن الطبيعة الإلهية بسيطة وغير مركبة. ولذا، لا يوجد آلهة كثيرون، بل إله واحد في ثلاثة أقانيم إلهية.
ونحن نشدّد على هذه الحقيقة عندما نؤكد وجود وحدة بين الأقانيم الثلاثة في الجوهر والقوة والسلطان والإرادة والفعل. ففي الله المثلث الأقانيم ثمة جوهر واحد وثلاثة أقانيم يشاركون في الجوهر الإلهي الواحد الكامل والأزلي. ولذا يكون ثمة قوة واحدة وسلطان واحد وإرادة واحدة وفعل واحد.
فالمسألة تتعلق بثلاثة أقانيم ذوي كمال غير محدود. وهذه الأقانيم متداخلة، أي أن الواحد منها يوجد داخل الآخر دون اختلاط. فكل أقنوم كامل بذاته، ومتميّز بخصائصه الشخصية العائدة إلى طريقة “انتقال” الجوهر الإلهي من الله الآب إليه.
ثمة مبدأ واحد أوحد، وينبوع واحد أوحد في الثالوث القدوس، هو الآب الذي يُنعم [*] بطبيعته الإلهية الذاتية على الابن والروح القدس، أي على الطبيعة الإلهية الواحدة والوحيدة.
طبيعة الثالوث القدوس واحدة إذن، والمبدأ أو الينبوع الذي ينقل هذه الطبيعة المشتركة واحد أيضاً، وهو الآب. لكن طريقة انوِجاد الابن والروح القدس من هذا الينبوع الواحد، أي من الآب، مختلفة. فالابن مولود من الآب أمّا الروح القدس فمنبثق منه. وتالياً. فان انوِجاد الابن (ولادة) يختلف عن انوِجاد الروح القدس (انبثاق).
وهكذا ندرك أن ثمة اختلافاً بين الابن والروح القدس في طريقة العلاقة بالمصدر المشترك، أي بالآب، لكننا لا نستطيع إدراك ماهية هذا الاختلاف، ولا معرفة معنى الولادة والانبثاق معرفة حقيقية. والتعليم الأرثوذكسي عن الثالوث القدوس يتضمن، تحديداً، تأكيد وحدة الثالوث الكاملة (جوهر واحد). وتمييز الأقانيم الثلاثة، على أساس الطريقة الأزلية لانوِجاد الابن والروح القدس من الله الآب (الولادة والانبثاق).
وهذا المضمون يُظهر أن الإيمان الأرثوذكسي لا يعتبر أوّليّة الآب (يو 14: 28، 10-28) أوّليّة في الجوهر والكرامة والسلطة، بل أوّليّة في العلة. فكرامة الابن مثلاً، مماثلة لكرامة الآب، لأنه موجود (عن يمين عظمة الله) (عب 1: 3، مز 109: 1، انظر أعمال 7: 55، رو 8: 34). فاليمين لا يدل على مقام أدنى، بل هو علاقة تساوٍ ووحدة في الكرامة والقيمة. والابن ليس أدنى من الآب قوة وحكمة لأنه هو (حكمة الله وقوته) (1 كو 1 24) و(صورة الله الذي لا يُرى) (كول 1: 15) و(شعاع مجد الله وصورة جوهره) (عب 1: 3) و(هو الذي ثبّته الله بختمه) (يو 6: 27) وطبع فيه ذاته كلها (انظر يو 10: 30، 17: 10).
ح – انبثاق الروح القدس
إن الآب، حسب الإيمان الأرثوذكسي، هو المصدر الوحيد الذي منه يولد الابن وينبثق الروح القدس. لكن الكنيسة الغربية لم تحافظ على استقامة هذه الحقيقة، بل أضافت إلى دستور الإيمان معتقد انبثاق الروح القدس من الابن أيضاً، الأمر الذي يهدد وحدة الأقانيم الثلاثة في الثالوث القدوس، إذ يُدخل إليه سلطتين أو مبدأين (آب-ابن) ويجعل الاختلاف اختلافاً في الجوهر لا في طريقة نقل الجوهر الإلهي المشترك الواحد، ممّا يتسبب في محذور ثنائية الألوهة.
وهذا المحذور هو ما تتحاشاه الكنيسة الأرثوذكسية بإعلانها التمييز بين الأقانيم الثلاثة على أساس الطريقة التي ينقل بها الآب الجوهر الإلهي الواحد. وهكذا يحافظ التعليم الأرثوذكسي على التمييز بين الأشخاص الثلاثة إلى جانب وحدة جوهر الله الواحد.
هذا الإيمان الأرثوذكسي بسلطة الآب فيما يتعلق بنقل الجوهر الإلهي الأزلي إلى الابن (ولادة أزلية) والى الروح القدس (انبثاق أزلي) يجب ألاّ يختلط بـ “إرسال” الرب يسوع للروح القدس في زمن معيَّن لإنارة العالم وخلاصه. قال الرب بتمييز: “ومتى جاء المعزي الذي أُرسله إليكم من لدن أبي، روح الحق المنبثق من الآب، فهو يشهد لي” (يو 15: 26). وذكر في مكان آخر أن الآب “سيرسل المعزي، الروح القدس، باسمي” (يو 14: 26)، أي باسم المسيح. ونحن المؤمنين الأرثوذكسيين ننشد بقوة في عيد العنصرة هذه الترنيمة: “إن الروح القدس الصادر من الآب، قد استقر بالابن على التلاميذ الأميين”، و”أيها الروح الكليّ قدسه، يا من أتيت من الآب وحلَلْت بالابن على التلاميذ الأميين، خلِّصنا نحن الذين عرفناك إلهاً وقدِّسنا كلنا”. وتشهد كنيستنا للإيمان المستقيم بالثالوث القدوس في هذه الترنيمة الرائعة التي نرتلها في العنصرة: “هلمِ أيها الشعوب نسجد للاهوت ذي الثلاثة الأقانيم. ابن في الآب مع الروح القدس، لأن الآب قد ولد خلواً من زمن مساوياً له في الأزلية والعرش، والروح القدس كان في الآب ممجداً مع الابن: قوة واحدة، جوهر واحد، لاهوت واحد. فله نسجد جميعنا قائلين: قدوس الذي أبدع كل شيء بالابن بمؤازرة الروح القدس. قدوسٌ القويُّ الذي به عرفنا الآب، والروح القدس اقبل إلى العالم. قدوسٌ الذي لا يموت، الروح المعزّي المنبثق من الآب، المستقر في الابن، أيها الثالوث القدوس المجد لك”.
يكتمل عمل الله الخلاصي، أي التدبير الإلهي، في شخص الابن “بالروح القدس”، غير أن مبدأ الخلاص ومصدره يبقى الله الآب نفسه على الدوام. لذا يقول الرسول: “إن جميع مواعد الله” تتحقق في شخص المسيح، وإننا نقول لله “نعم” و”آمين” إكراماٌ لمجده، وإن الذي يثبتنا وإياكم للمسيح والذي مسحنا هو الله، وهو الذي ختمنا بخاتمه وجعل في قلوبنا عربون روحه” (2 كو 1: 20-22، انظر تيطس 3: 4-6).
ط – المحبة إظهار لحياة الله المثلث الأقانيم
يمكننا أن نخلص ممّا قلناه عن انبثاق الروح القدس من الآب وحده، إلى أن هذه العقيدة أساسية جداً لخلاصنا. وهذا ما يبرِّر الجهاد الذي قامت به الأرثوذكسية دفاعاً عنها.
نحن نعرف من الكتاب المقدس أن الله محبة (1 يو 4: 8 و16). وهذه المحبة ليست سوى إظهار لحياة الله. فالله محبة لأنه ليس واحداً، ولا اثنين ولا ثلاثة. لو أن الله واحد لما كانت المحبة تعبيراً عن جوهر الله. وإلاّ فكيف يكون الكائن الواحد محبة، ما دام يعيش في وحدة كاملة.
ولو أن الله اثنان، أي آب وابن مثلاً، فلن يكون ثمة وحدة ومحبة كاملتان، لوجود نوع من التضاد بين الآب والابن. لكن هذا التضاد ينهزم أزلياً في شخص الروح القدس. وهكذا ندرك لماذا لا توجد أيّة علاقة للثالوث القدوس بالأرقام الحسابية، ممّا يعني تعالياً على الأنانية وتعالياً على الانقسام. وهذا هو ملء الوحدة والانسجام والمحبة.
يقول نيقلاوس أسقف أُخريدا: “المميّز في المحبة أن الشخص المُحب يريدان يختفي في الشخص المحبوب. محبة الآب للابن، ومحبة الابن للروح القدس متأججتان إلى أقصى الحدود. وكذلك محبة الروح للآب والابن، فهي مشابهة للمحبتين الأولين”. ثم يتابع: “بهذه المحبة المفعمة بالتخلّي، أي المحبة التي لا تدع شيئاً لنفسها، يُفهم كلام الرب: “إن الآب أعظم مني” (يو 14: 28). وبهذه المحبة لا يختلط الثالوث القدوس ولا ينقسم، فهو شعلةُ الحياة والمحبة، الواحدة والمثلثة في آن. ومن شعلة محبة الله المثلث الأقانيم العجيبة نضيء نحن أيضاً مشاعل محبتنا الأرضية الصغيرة التي تنطفئ بسهولة. المحبة التي تبقى داخل الإنسان وفي ذاته ليست محبة، بل هي حب للذات وأنانية. والمحبة بين اثنين تبرد بسرعة، وتؤول إلى حزن، لذلك اعتبر العقم في العهد القديم لعنة. أمّا ملء المحبة فهو المحبة بين الثلاثة. وبالطريقة عينها توجد المحبة على الأرض، لأنها تكون وفق ما هو كائن في السماء”.
ي – الإله المثلَّث الأقانيم رجاء الإنسان الوحيد
يذكِّرنا كلام أسقف أُخريدا بتعليم كنيستنا الأساسي أن الله قد خلق الإنسان (على صورته) ووهبه (المثال الإلهي) غايةً وهدفاً لحياته. والإنسان يحقق هدف حياته وكمالها عندما يكون أيقونة الله الحيَّة، وتكون حياته صورة مصغَّرة عن حياة الله. ولذا ينبغي أن نعرف أن الله مثلث الأقانيم، أي انه يعيش حياة الوحدة التامة والمحبة التامة، ثالوثياً.
فإذا أدرك الإنسان أن هذا هو مثاله الأساسي، أي انه أيقونة الثالوث القدوس، يمكنه أن يؤمن بقدرته على عيش حياة الوحدة والمحبة، توصلاً إلى الخلاص.
قد يصعب فهم هذا الكلام إذا أخذنا بالاعتبار أن الإنسان عامة، والإنسان المعاصر خاصة، يعيش في تمزُّق داخلي وعزلة خارجية، ويحسُ بوحدته وعزلته بعمق كلّي، ويشعر انه مؤلَّف من عناصر عديدة، أي انه يملك جسداً وروحاً وإرادةً وشعوراً…. فمن المستحيل أن يستطيع الإنسان المنقسم داخلياً القول انه مخلَّص، وخاصة عندما يشعر بغربة وانفراد كليين. وهذا الإنسان لا يستطيع أن يجد التوازن الداخلي، مهما كان الجهد الذي يبذله في سبيل المحبة.
أمّا إذا أدرك الإنسان أن طبيعته الأصلية بعيدة عن التمزق الداخلي والعزلة الخارجية وقائمة على الوحدة، وأنه أيقونة الله المثلث الأقانيم الذي يعيش الوحدة والمحبة في كمالهما، فيؤمن إذّاك أنه يستطيع الوصول إليهما، لأنه مخلوق من أجل هذا الهدف، ومصيره النهائي يكمن في بلوغه.
حاشية مُرتبطة مع العنوان “إله الإعلان”:
راجع( مدخل الى العقيدة المسيحية ) و (الرؤية الأرثوذكسية لله والإنسان ) ، منشورات النور (الناشر ).
[2] الالتفات لغة هو الانتقال من صيغة إلى أخرى (الغائب إلى المخاطب أو المخاطب إلى الغائب )…. المعرب.
[*] [إن التعبير “يُنعم” إما أن يكون ترجمة غير دقيقة أو تعبير في الأصل لم يصب الهدف. مع العلم أن الكاتب قد وضح سابقاً، وسيوضح لاحقاً التعليم الأرثوذكسي حول الثالوث القدوس له المجد، ولكننا رأينا أنه من المفيد أن نقتبس من كتاب سألتني فأجتبك، ص 584-585، التالي:
(مصدر الوحدة في الثالوث:
اللاهوت الأرثوذكسي:
دائماً كان الأرثوذكس يؤكدون على أن مصدر الوحدة في الثالوث القدوس هو شخص الآب. فالآب، كمصدر لشخص الابن وشخص الروح القدس، هو بالوقت نفسه أيضاً مصدر العلاقات التي منها تتخذ الأقانيم وخصائصها المميِّزة. فهو يتسبب بصدور شخص الابن منه بالولادة وبصدور شخص الروح القدس منه بالانبثاق، مما يضع أساس علاقتهما الخاصة بصدورهما (الولادة والانبثاق) بالنسبة لأساس الألوهة الفريد. لهذا السبب كان الشرق دائماً يُعارض عقيدة “الانبثاق من الابن” والتي تبدو وأنها تُعيق أحدّية الأصل أي الآب (كون شخصه هو أساس وحدة الثالوث ومصدر شخصيّ الابن والروح القدس): فإما أن يضطر المرء لتقويض الوحدة وذلك باعترافه بوجود مصدرين للألوهة (الآب والابن)، وإما أن يعتبر الطبيعة المشتركة هي مصدر الوحدة مما يعتّم على أشخاص الثالوث ويحوّلهم إلى مجرد علاقات ضمن وحدة الجوهر. بالنسبة للغرب، العلاقات نوّعت (شكّلت) الوحدة الأساسية. بالنسبة للشرق، إن العلاقات تمثّل بالوقت نفسه التنوع والوحدة، لأنها تعود إلى الآب كمصدر لها والذي هو أساس الثالوث. النبرة الشخصانية سدى الأرثوذكسية ولحمتها.
إذاً، بالنسبة للشرق يوجد إله واحد لأنه يوجد آب واحد. أما الأقانيم والطبيعة المشتركة فهي مُعطاة في الوقت نفسه وبدون أسبقية أحدهما على الآخر [الفلسفة الغربية السكولاستيكية لا تقول بأن الجوهر موجود قبل الأقانيم. بالنسبة لله الجوهر والأقانيم سرمديون. أسبقية الجوهر على الوجود أو الوجود على الجوهر مطروحة بالنسبة للخلق. إنما اللاتين يضعون في أبحاثهم النبرة على الجوهر بدلاً من وضعها على الأقانيم… اسبيرو جبور]. فالآب مصدر كل اللاهوت في الثالوث يُصدر الابن والروح القدس. يمنحهما طبيعته الواحدة والتي تبقى فيهما طبيعة واحدة غير منقسمة وهي هي نفسها في الآب والابن والروح القدس. بالنسبة للأرثوذكس، إن الاعتراف بوحدة الطبيعة يعني الاعتراف بالآب كمصدر فردي للأشخاص التي تنال من الآب هذه الطبيعة نفسها. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: “برأيي، إن المرء يحرص على إله واحد فقط بإرجاع الابن والروح إلى مصدر وحيد، بدون تركيبهما أو خلطهما؛… بالنسبة لنا يوجد إله واحد، لأن الألوهة واحدة، وكل ما يصدر منه إنما يشير إلى الواحد، ولو أننا نؤمن بثلاثة أشخاص… إذاً، عندما ننظر إلى الألوهة، أو إلى العلة الأولى، أو إلى الأوحد، هذا الذي ندركه هو واحد؛ ولكن عندما ننظر إلى الأشخاص والتيس فيها تسكن الألوهة، وإلى تلك التي سرمداً وبمجد متساوٍ يكون كيانها من العلة الأولى، فإنه يوجد ثلاثة وهي ما نعبد”. لا توجد وحدة في الطبيعة الواحدة نفسها في الثالوث فقط ولكن توجد وحدة في الأقانيم الثلاثة ذات الطبيعة الواحدة نفسها. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: “كل واحد مُعتبر بحد ذاته الله الكلي، كما هو الآب هكذا الابن، كما هو الابن هكذا الروح القدس، لكن كل واحد يحتفظ بخصائصه؛ وإذا أُخذ الثلاثة معاً فإنهم الله؛ كل (مُعتبر بحد نفسه) إلهاً بسبب الجوهر الواحد المشترك، الثلاثة (مُعتبرون) الله بسبب الأحدّية Monad”. بحسب القديس مكسيموس إن الله هو: “أحديّة وثالوث”. هذا لا يعني أن مجرد 1=3 و3=1.)… انتهى الاقتباس
ونحيلكم أيضاً لقراءة تعليم القديس يوحنا الدمشقي.
في نهاية القول إن كلمة (يُنعم) قد يُساء فهمها وتُفهم فهماً آريوسياً، ولكن الكاتب في متابعته للشرح والتعليم يوضح حقيقة الإيمان الأرثوذكسي. فلا يجب اجتزاء الكلمة من سياقها التي يوضحها لاحقاً المؤلف. ويسمي الآب بأنه ينقل طبيعته في الابن والروح القدس. وأزلية الابن والروح القدس مع الآب. وقد قمنا بوضع هذه الحاشية تفادياً لأي فهم خاطئ مع العلم أن الكاتب وضح وسيوضح، كما أسلفنا، لاحقاً المعنى اللاهوتي الدقيق لما أراد أن يقوله في هذه الكلمة. ويبقى أننا مهما تحدثنا عن الولادة والانبثاق نبقى في حدود عدم الإدراك والمعرفة لهذا السر العظيم وتبقى كلماتنا عاجزة عن التعبير عن سر الثالوث القدوس له المجد.]… الشبكة.