رفض البروتستانت لمعاني المعمودية المسيحية (بأنها ولادة جديدة ويحلّ فيها الروح القدس وتغفر الخطايا، إلخ…) جعلهم يبتدعون طرقاً جديدة مبتكرة للولادة الجديدة أو الثانية أو الروحية.
“الولادة الثانية” أو “الولادة الجديدة” مذكورة ثلاث مرات في العهد الجديد. مرتان منهما في حديث الرب يسوع مع نيقوديموس: “الحق الحق أقول لك: إن كان أحدٌ لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله” (يو 3: 3). “الحق الحق أقول لك: إن كان أحدٌ لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح روح هو. لا تتعجّب أني قلتُ لك ينبغي أن تولدوا من فوق” (يو 3: 5-7). من هذا الحديث نرى أن الرب قد أظهر أن الولادة الثانية هي “ولادة من فوق”، وأنها “ولادة من الماء والروح”، فهي “روحية” وبالتالي هي ولادة ضرورية لأنه بدونها لا يرى الإنسان ملكوت الله. الولادة الوحيدة التي من “الماء والروح” في العهد الجديد هي المعمودية. هذا ما يردّده بولس الرسول ثانية في رسالته لتلميذه تيطس عندما يربط الغسل بتجديد الروح القدس: “غسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس” (تيطس 3: 5). يمكن للقارئ أن يراجع السؤال المتعلق بمعاني المعمودية (السؤال الأول في هذا الفصل). بولس الرسول شرح قول الرب عن المعمودية قائلاً: “أم تجهلون أننا كلَّ مَن اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفنّا معه بالمعمودية للموت حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدّ’ الحياة. لأنه إن كنّا قد صرنا متّحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته. عالمين أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطَل جسد الخطيّة كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطيّة” (رو 6: 3-6). إذاً: الولادة الثانية أو الجديدة أو الروحية هي الولادة الحاصلة بالمعمودية بحسب العهد الجديد.
من جهة أخرى يذكر بطرس الرسول الولادة الثانية مشيراً إلى عمل المسيح الخلاصي: “مولودين ثانية لا من زرعٍ يفنى بل مما لا يفنى، بكلمة الله الحيّة الباقية” (1بطر 1: 23). هنا يتحدث الرسول عن السيرة المسيحية التي على المسيحي أن يتحلّى بها، ويحضّ كل مسيحي أن يسلك في جدّة الحياة بما يليق بها من أخلاقٍ مسيحية لأنه ولد من زرعٍ لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية.
لهذا الولادة الثانية، الروحية، بالمفهوم الأرثوذكسي هي الولادة الحاصلة بالماء والروح أي بالمعمودية المسيحية كما يقول الكتاب. نحن ولدنا روحياً بالمعمودية، لكن هذه الولادة لا تضمن لنا خلاصاً سحرياً كما يفهمه البروتستانت وإلا لما كان العهد الجديد في كل صفحة من صفحاته يحوي حضّاً متواصلاً للمسيحيين على العيش بالبر والتقوى بوما يليق بنعمة الخلاص التي نالوها. فلو كانت الولادة الروحية ضمانة للخلاص لما احتاج المسيحي للتوبة بعدها ولا للجهاد “ضد الخطيئة حتى الدم” كما يقول بولس الرسول.
المعمودية تحدث مرة واحدة لأنها الولادة الروحية الواحدة، لكننا نحتاج إلى توبة يومية متواصلة لأننا نخطئ بصورة متواصلة. التوبة في الأرثوذكسية هي ولادة متواصلة في المسيح. ولادتنا الروحية مبنية على عمل المسيح الخلاصي: على تجسده، صلبه وموته وقيامته. لنا رجاء حي راسخ بأننا إذا بقينا أمناء للمسيح حتى اللحظة الأخيرة من حياتنا فالرب لن يتركنا نهلك. خلاصنا يبدأ بالمعمودية الولادة الروحية، الولادة الجديدة، لكنه لن يصل إلى الملء إلا يوم القيامة في ملكوت السموات. آنئذ سنحصل على ملء التبني بالمسيح ونصير أولاداً له. أما الآن فبالمعمودية نحصل على عربون التبني وعربون الخلاص الكامل. لهذا يصرخ بولس الرسول قائلاً: “فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخّض معاً إلى الآن. وليس هكذا فقط، بل نحن الذين لنا باكورة الروح، نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقّعين التبنّي فداء أجسادنا، لأننا بالرجاء خلصنا. ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء، لأن ما ينظره أحدٌ كيف يرجوه أيضاً؟ ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر. وكذلك الروح أيضاً يعين ضعفاتنا” (رومية 8: 22-26).
هذا النص قوي جداً: حتى بعد معموديتنا وولادتنا الثانية الروحية ما زلنا تحت التجربة وفي الجهاد ولنا ضعفات كثيرة. لهذا لا يمكن التباهي بأننا مولودون ثانية (على الطريقة البروتستانتية) وكأننا صرنا في الملكوت السماوي ونحن ما زلنا على الأرض نخطئ يومياً. على الأقل هكذا يفهم الرسول بولس الولادة الثانية الروحية وليس على الطريقة البروتستانتية!
من ناحية أخرى، لو كان المفهوم البروتستانتي للولادة الثانية صحيحاً (بمجرد القبول الشخصي للإيمان بيسوع المسيح) فهذا يعني أن المعمداني والانكليكاني وشهود يهوه والمورموني و.. و… كلهم قد ولدوا ثانية بالمسيح لأن كل واحد منهم قد قبل المسيح مخلِّصاً شخصياً على الطريقة البروتستانتية. لو كان المسيح قد وَلَدَ كلَّ واحد من هؤلاء لكان هؤلاء أخوة بالمسيح. والأخوة بالمسيح يؤمنون إيماناً واحداً. الواقع هو أن هؤلاء الفرق تؤمن إيماناً مختلفاً جداً، إحداها عن الأخرى، بصورة كبيرة.
لا نضلّ يا أخوة. الولادة الثانية الوحيدة المذكورة في العهد الجديد هي المعمودية المسيحية. بها نولد أطفالاً ننمو بنعمة الروح القدس ومحبة القديسين حتى نبلغ إلى قامة ملء المسيح. ونحن لم نبلغ هذه القامة بعد. يقول يوحنا: “وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من رجل بل من الله” (يو1: 12-13). إذاً، الذين قبلوا يسوع المسيح أعطاهم الله سلطاناً أي إمكانية أن يصيروا أولاد الله. هل هم أولاد الله؟ طالما نخطئ فلم نصير أولاد الله بصورة كاملة لأن أولاد الله لا يرتكبون الخطيئة. نحن إن صحّ التعبير أطفال الله لأن الطفل يُخطئ. لكن المسيح يريدنا أن ننمو فيه حتى نصير رجالاً بالروح. آنذاك، عندما نبلغ النهاية يوم الدينونة وإن بقينا أمناء له، عندئذ نصير أولاد الله بالكامل ولا نعد نخطئ (كما أن الملائمة لا تخطئ الآن). عندئذ، لا نستطيع القول آنئذ إننا بالرجاء خلصنا، لأننا قد بلغنا ملء الخلاص فينتهي الرجاء (01).
عن كتاب سألتني فأجبتك
س 110
د. عدنان طرابلسي
(01) راجع السؤال 161 المتعلق بالخلاص ومفهومه بين الشرق والغرب.