قال القديس أبيفانيوس أسقف قسطنطينة (قبرص): “كيف يضحي العهد القديم لا فائدة منه ولا يصدق على العهد الجديد؟… ومن هناك في أسافل الجحيم؟… هناك نجد آدم… هابيل… نوح… إبراهيم… يعقوب… يوسف… موسى… دانيال… يوحنا المعمدان العظيم… ” (1). التريودي يذكر أن لعازر أيضاً قضى الأيام الأربعة في الجحيم.
في مثل لعازر والغني، كان إبراهيم نفسه في الجحيم (2) ، إنما في نوع من الغبطة (الذهبي).
ولكن المسيح نزل بُعيد موته إلى الجحيم فلا خلاها من الأبرار.
إذاً: بدون صليب المسيح لا خلاص. أبرار العهد القديم بقوا في الجحيم حتى أخرجهم منها يسوع المصلوب. بدون دم المسيح لا طهارة ولا تطهير.
فما قيمة العهد القديم؟ إنها قيمة رمزية تنال معنى بدم المسيح. الرسالة إلى العبرانيين أجادت في تصوير العهد القديم فقالت في اليونانية انه “مثل” (3). وفي كل مثل مثل و “ممثول”. العهد القديم هو المثل ويسوع هو “الممثول”. لولاه لما كان عهد قديم ولا أنبياء ولا نبؤات. الجميع خطئوا وأعوزهم مجد الله (بولس). ما دام الناس جميعاً خاطئين فلا العهد القديم ولا سواه بمخلص. الخلاص بيسوع. العهد القديم تؤطئة. سبب وجوده هو العهد الجديد (4).
ولذلك أوافق اللاهوتي الكبير جورج فلورفسكي: الاهتمام المعاصر المفرط بالعهد القديم نكسة يهودية. العهد الجديد أولاً.
نهتم بالعهد القديم لارتباطه بعجلة العهد الجديد. ونفهمه على ضوء العهد الجديد. فالسيادة للعهد الجديد. وبولس اعتبر اليهود أعداء الإنجيل (5)، واعتبر المتهودين ساقطين من المسيح ومقطوعين عنه (6). وألفاظ “إسرائيل” و “أورشليم” و”صهيون” و “شعب الله” وما إليها لا تعني للمسيحي اليهود والقدس، بل المسيحيين إسرائيل الجديد والكنيسة. فالمسيحيون هم ما قاله بطرس: “… كونوا بيتاً روحياً كهنوتاً مقدساً… انتم جنس مختار وكهنوت ملوكي، امة مقدسة، شعب اقتناء… انتم شعب الله” (1بط 2: 5-10). وفي رؤيا يوحنا: يسوع “جعلنا مملكة، كهنة لله أبيه” (1: 6 عن اليوناني). نحن شعبه وهيكله وكهنته لا اليهود.
كان الله قد خص إسرائيل بهذه الامتيازات (خروج 19: 5- 6 وتثنية 32: 11 و 10: 14-15 واشعياء 46: 10 وتثنية 7: 6 و 14: 1 واشعياء 62: 10: وارميا 2: 3 وعاموس 3: 2)
علق الذهبي الفم على ذلك فقال إن المسيحيين هم الآن هؤلاء القديسون المختارون، بينما خرج اليهود (الموعظة 1: 1 على فيليبي). حل المسيحيون محل اليهود في كل الامتيازات الرمزية التي أعطاهم إياها العهد القديم، وطرحوا خارجاً حتى يتوبوا ويؤمنوا بالمسيح. ولذلك لا وزن البتة لاستناد المتهودين الذين يعودون إلى اليهودية، إلى العهد القديم، ولا للأغبياء الذين يجهلون إن تلك الامتيازات رمزية لليهود وحقيقية للمسيحيين. بحق قال بولس وفسر الذهبي فقال في مواضيع عديدة أن الروح القدس ضروري لفهم معطيات الوحي المسيحي (3: 1 على أفسس وو…) لا الشقشقات. الم يقل يسوع: “لا يقدر احد أن يقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب… لا يقدر احد أن يأتي إليّ إن لم يعط له ذلك من أبي” (يو 6: 44 و 65)؟ فمسائل الله تحت إمرة الله لا إمرة المشوهي العقول والأفهام والقلوب. عرف الفريسيون والشيوخ أن المسيح قام حقاً، فكابروا، ورشوا الحراس ليقولوا أن تلاميذه سرقوه ليلاً (متى 28). وتبرعوا بإقناع بيلاطس بهذه الكذبة. ملأ الشيطان قلوبهم كما ملأ قلب يهوذا. استقبال الحقيقة يحتاج إلى رواسب نبل في ضمير الإنسان. أما الضمير المفسود فيقول للحق باطلاً وللظلام نوراً وللخير شراً وللصدق كذباً والعكس (أش 5: 20). نجانا الله من ضلالهم.
قبل العنصرة، كان تلاميذ المسيح العائشون معه خارج المسيح. ولما تجلى أمامهم على الجبل أتاهم النور من الخارج (بالاماس). أما في يوم العنصرة فقد حل الروح القدس عليهم جالباً معه المسيح، فسكنا فيهم، وبهم صاروا مسكناً أيضاً للثالوث القدوس. بطرس ما قبل الصعود الإلهي والعنصرة هو غير بطرس العنصرة. يوم خميس العشاء السري أبدى استعداده بحماس للموت من أجل المسيح. خانه بعد سويعات. بعد العنصرة صارت غاية مرام الرسل أن يموتوا شهداء لأجل المسيح.
في 8/10/1995 قلتُ لأحبة من البقاع: “ما الأرخص من الورقة–المحرمة؟ تبخلون فيتعذر عليكم الاستغناء عنها لعلها تلزم في أوان الحاجة. أما رقابكم فتبذلونها للسيف من أجل الاعتراف بالمسيح. إذاً: الأرخص من الورقة رقابنا من أجل يسوع. نبذلها بغبطة فائقة لأننا بها سندخل السماء شهداء”.
فالعنصرة حولتنا إلى شهداء. صرنا جسد المسيح الجاهزين للموت من أجله.
فالعهد القديم رموز وتهيئات. الكنيسة هي غاية الدهور.
بالكنيسة عرف الملائكة سر تدبير المسيح (افس 3: 10). يرتل الأرثوذكس: “السر الخفي منذ الدهور والغير المعلوم عند الملائكة بك ظهر يا والدة الإله للذين على الأرض، إذ تجسد الإله…”
بولس الرسول كرر مراراً أن الكنيسة هي جسد المسيح وهو رأس الجسد الذي سكن فيه الروح القدس يوح التجسد الإلهي أي يوم البشارة. الذهبي يقول أن الروح القدس الساكن في رأسنا يسوع ينساب منه إلى كل الجسد أي إلينا. وفي إشارة إلى كلام الرب لبولس الرسول حين الرؤية على مداخل دمشق يعتبر الذهبي أن الكنيسة هي المسيح، وان من يشقها يشق الرب المسيح، وان من يضطهدها يضطهد المسيح (7). فالمسيحيون هم المسيح (8) بالمعمودية نلبس المسيح، نولد في المسيح، ينغرس فينا المسيح، نُصلب مع المسيح، نُدفن مع المسيح، نقوم مع المسيح، نحيا مع المسيح، نصعد إلى السماء مع المسيح، نجلس عن اليمين مع المسيح وفي المسيح. إنها عبارات من بولس الرسول. أجاد تفسيرها آباء الكنيسة وعلى الأخص أثناسيوس وغريغوريوس اللاهوتي والذهبي وكيرللس الإسكندري.
بولس استعمل جذراً يونانياً هو syn. في معجم مترادفات العهد الجديد الإنكليزي syn أقوى من “مع“. إنها تعني شركة حميمة في الصميم، تعني اندماجاً واختلاطاً. وفي أفسس 3: 6 استعمل بولس لفظة syssoma. تتألف من syn och soma جسد. فنحن في جسده.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد. في أفسس وكولوسي وفيلمون يبني بولس علاقات الزوجين، وعلاقات الآباء والأبناء، وعلاقات العبيد ولسادة، على العلاقة بالمسيح. أي الأخلاق الاجتماعية مؤسسة على المسيح. يعلمنا بولس أن نرى في الغير نفسنا. في إنجيل الدينونة (متى 25: 31-41) المنكوبون جميعاً هم المسيح. هو الكرمة ونحن الأغصان. هو الرأس ونحن الجسد. هو اقرب إلينا من قرب الرأس من الجسد (الذهبي) والصق بنا من التصاق النفس بالجسد (كاباسيلاس). الذهبي يقول أننا نمتزج به في القربان.
رجالات العهد القديم لم يستفيدوا من ذلك في حياتهم لأن الروح القدس لم يكن بعد قد أعطي (يو 7: 39).
منذ إيريناوس نقول أن الله صار إنساناً ليصير الإنسان إلهاً. الإنجيلي وبولس علمانا أننا بالمعمودية صرنا أبناء الله. نناديه “أبا”، “أبانا”. كيف؟
بالمعمودية نصير جسد المسيح. المسيح هو ابن الله جوهرياً في لاهوته. أما طبيعته البشرية فهي جزء من أقنومه الإلهي. الآب هو أبو الابن لاهوتياً جوهرياً، وأبو جسده، لأن الجسد المخلوق أنما ملتصق باللاهوت دون استحالة أو امتزاج. ونحن جسد المسيح صرنا في يسوع أبناء الله.
في مقال لي في النشرة البطريركية (1973) حللت عدداً كبيراً من ألفاظ بولس الرسول: “في يسوع، في المسيح، في الرب يسوع”. فحياة المسيحي تجري في يسوع حتى يصير شبيهاً به في الكمال. فليس المسيح في مكان والكنيسة في مكان آخر: الكنيسة هي المسيح ومسكن الروح القدس. حياتها قائمة في الثالوث القدوس. فيها يسكن ملء اللاهوت جسدياً (كو 2: 9).
هذه العروس العذراء الطاهرة ليسوع تحوي ملء كنوز الله ومواهبه الصالحة. فيها نعاين يسوع والثالوث. فيها نعرف الثالوث. لنا فيها “مسحة” تعلمنا كل شيء (9). فيها منذ الآن نرى الله في لغز، في مرآة (10)، ريثما نراه كما هو في الحياة الآتية (11).
ومتى ظهر النور اختفى الظلام. بعد ظهور المسيح صارت اليهودية في خبر كان. سقطت امتيازات اليهود قد صاروا أعداء الإنجيل وأعداء جميع الناس فنزل عليهم غضب الله (رو 11: 8 و1ت 2: 15- 16).
وما هو الشيء الجديد الذي أتانا به العهد الجديد فطمس به اليهودية؟ هو أولاً الإيمان بسر الثالوث القدوس. بدون الإيمان بالثالوث القدوس لا يكون المرء مسيحياً. ولذلك فالأريوسيون والمرتدون العقلانيون الألمان وشهود يهوه ليسوا أبداً مسيحيين. وهو ثانياً الإيمان أن يسوع أقنوم واحد في طبيعتيين إلهية وبشرية. وهو ثالثاً الإيمان بصلب المسيح وقيامته. وهو رابعاً المعمودية والميرون والقربان. بدون المعمودية لا يصير الإنسان مسيحياً (السلمي). ليست رمزاً بل ولادة بالروح القدس والماء واغتسالاً بدم المسيح.
كيف يصير الإنسان مسيحياً؟ يصير الإنسان مسيحياً بهذا الإيمان واقتبال المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس. منذ العنصرة حتى اليوم تتم المعمودية باسم الثالوث القدوس له المجد والإكرام والسجود.
هذه العقيدة هي العقيدة المسيحية منذ يوم العنصرة. وشجبت الكنيسة كل من رفضها منذ يوحنا الإنجيلي (رسالته الأولى) من بولس السمسياطي في القرن الثالث (286) حتى شهود يهوه آخر الأزمنة. إما أن تؤمن بالثالوث وتعتمد فتكون مسيحياً، وإما لا، فتكون غير مسيحي. لا مكابرة ولا مجادلة. المعمودية باسم الثالوث تصنع المرء مسيحياً. الإيمان بدون المعمودية لا يصنع المرء مسيحياً.
(1) نزول المسيح إلى الجحيم، ترجمة الأسقف يوحنا يازجي، النبذات 4 و16 و15، اللاذقية. في المعزي (ص 75) جاء انه قضى فيها 3 أيام. كاليستوس وير مشوّش هنا وفي مواضع أُخرى (معرفة الله 1: 18-20 و 18 و 4: 6 و 10 و 13 و…) لذا أراني مُكرهاً على التصريح: كتبي هي من أدقّ المراجع اللاهوتية. سواها ذو هفوات أو هرطقات أو كفر أو سطحية أو انتفاخ باطل وادّعاء فارغ، حتى صار السكوت جريمة. لماذا الطيش والخفة في أقداس الأمور؟
(2) لوقا 16: 19-31.
(3) عب 9: 9، انظر 8: 5 و10: 1 و…
(4) 1بط 1: 10-12 واف 3: 10: الكنيسة أهمّ بما لا يقاس من العهد القديم ورجاله. هؤلاء تنبأوا لصالحها (1بط 1: 10-12).
(5) رو 11: 28. ومجمعهم مجمع الشيطان (رؤ 2: 9و 3: 9).
(6) غلاطية.
(7) 9: 6 على أفسس.
(8) 3 على غلاطية ومواضيع عديدة في تفاسيره
(9) 1يو 2: 20 و 27 – 28
(10) 1كور 13: 12
(11) 1كور 13: 12 و 1يو 3: 1-2 (نص رائع).