وصلنا في المرحلة السابقة إلى عتبة أرض الميعاد وننتقل الآن إلى مرحلة دخولها وقيام الملكية فيها. لقد مات موسى قبل دخوله أرض الميعاد وهذا لا يخلو من معنى: إن في كل الكتاب فشلاً ظاهراً (بل حقيقياً) لخدام الله. هؤلاء يقبلون وعد الله ويرتبطون به ويخدمونه دون تحفظ ويحتملون المحن والمشقات من الناس والله. ثم ينتهون إلى فشل ظاهر. إن ابراهيم لم يقم في أرض الميعاد الذي وعده الله بها ولم يقتن فيها إلا قبراً (1). ولكن اسحق ابنه هو الذي سيقيم فيها. وموسى الذي لبّىَ نداء الله وقاد شعبه واحتمل كل شيء، لم ينل المكافأة هو، بل غيره سيدخل أرض كنعان. موسى خادم الله لا يرى ثمرة أتعابه. كذلك الأنبياء. داود مثلاً لم يبن الهيكل بل ابنه سليمان. الأنبياء يرون بالإيمان ويعرفون ولكنهم لا يرون في الواقع. الرسل أنفسهم رأوا وسمعوا ولمسوا الكلمة الصائر جسداً ولكن الواحد يزرع وآخرون يحصدون، فمن الناحية البشرية الرسل فشلوا ظاهراً. قتلوا وسحقوا. وهم أحياناً يئنون ويصرخون. “أيها الغلاطيون الأغبياء من الذي سحركم حتى لا تطيعوا الحق” (غلا 3: 1).. سألت الرب ثلاث مرات أن تفارقني “شوكة في الجسد”.. (2كور12: 8) هناك إذاً تفاوت بين صعيد الإيمان وصعيد التحقيق.
عبيد الله لا مجال أمامهم سوى التضحية: إيمان وغربة ومحنة. وأيضاً بركة، ولكن البركة مخفاة عن نظر الناس. فبولس الذي رفع إلى السماء الثالثة اعتبر كنفاية عند الناس. هنا إذاً صعيدان: الصعيد المنظور: بركة. إن هذا كله رسم وتكرار مسبق لسر الصليب لقد فشل الرب في نهاية خدمته على الأرض، لم يرد أن ينزل عن الصليب ليقنع الناس، لكنه احترم حرية الإنسان، وبهذا الاحترام الذي أتاح شهادة المؤمنين وصليبهم الدائم واستشهادهم انقلب فشل الرب الظاهر إلى ظفر خفي، ظفر لا يرى في نظر العالم ولكنه بديهي في نظر المؤمنين. “ها نحن تركنا كل شيء وتبعناك.. الحق أقول لكم أنه ما من أحد ترك بيتاً أو إخوة… إلا يأخذ مئة ضعف… بيوتاً وأخوة… مع اضطهادات. أما في الدهر الآتي فحياة أبدية” (مر 10: 30). والآن نعود لبني إسرائيل وهم يدخلون أرض الميعاد بقيادة يشوع بعد وفاة موسى إننا نجد في هذه المرحلة أيضاً عدة أفكار أساسية:
1- أرض كنعان: أمانة الله وعدم أمانة البشر
أ- الاستيلاء على أرض كنعان تكملة للفصح الذي بدأ في مصر، وعون الله لشعبه يستمر. فالله يخاطب يشوع قائلاً: “إن موسى عبدي قد مات والآن قم فاعبر هذا الأردن أنت وجميع هؤلاء الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل. تشدد وتشجع، لا ترهب ولا تفشل لأن الرب إلهك معك حيثما توجهت”.. (يشوع 1: 1- 9)، فيصبح يشوع في كرامة موسى. ويبدأ يشوع الحرب ضد كنعان مؤمناً بأن الله هو الذي يعمل من أجل شعبه. ويعبر الشعب الأردن بصورة معجزة وهذا تكرار لعبور البحر الأحمر (أنظر يشوع 3: 15 وما بعده) مع الفرق بأن العبور الأول تم بواسطة عصا موسى مباشرة، أما الآن فليس بواسطة يشوع، بل تابوت العهد يحمل إلى وسط النهر فيوقف المياه. وبعد عبور الأردن يحتفل الشعب بالفصح (يشوع 5: 10)، إن الوجه الفصحي يستمر. ثم يتم حصار أريحا فيظهر الله أولاً ليشوع: “أنا رئيس جند الرب… إنني قد دفعت أريحا وملكها إلى يدك” (يشوع 5: 14 إلى 6: 2)، وبعد ذلك يطوف الكهنة بتابوت العهد حول المدينة خلال سبعة أيام فيسقط سورها.
إن الرب يحارب عن شعبه، وتاريخ إسرائيل يصبح أكثر فأكثر حرباً يقودها الله، يقودها ضد الرئاسات والسلطات وليس فقط ضد الأعداء الأرضيين وبالرغم من ذلك فإن إسرائيل يخطئ ويعبد آلهة غريبة وكأنه يظن أن الله خادم لإسرائيل وليس إسرائيل خادماً لله، وأن على الله أن يسحق أعداءه لكي يعطي إسرائيل الأرض ويريحهم من أعدائهم فيجمع يشوع الشعب في شكيم ويذكرهم بدعوة الله لإسرائيل واختياره لهم منذ البدء وما صنع معهم ويخيرهم بإتباعه أو عدم إتباعه، ذلك لأن الإيمان يبدأ دائماً باختيار حر.
ليس الإيمان إرثاً ينتقل إلينا من الآباء والأجداد بل نتبناه، “البار بالإيمان يحيا” فالإيمان إذاً إيمان حي ولا يتوارث بل يجب أن يمر بحريتي وإرادتي، “قال يشوع للشعب لا تستطيعون أن تعبدوا الرب لأنه إله قدوس إله غيور لا يصبر على ذنوبكم وخطاياكم”. فأجاب الشعب “كلا بل الرب نعبد” فقال يشوع “أنتم شهود على أنفسكم أنكم قد اخترتم لأنفسكم الرب لتعبدوه..” (يشوع 24: 19- 22).
إن الله يختارنا أولاً منذ الحشا فهذا هو الاختيار الأول، أما الاختيار الثاني فهو اختيارنا نحن لله في سن معينة بعد أن نكبر، ثم يأتي الاختيار الثالث وهو من الله أيضاً لأن خدمتنا الآن في حقل الرب لا نعرف أن نؤديها. إننا نؤديها كما نرى نحن وكما نعتقد ونفكر، في حين أن علينا أن نخدمه حسب إرادته هو.
ب- وبعد ذلك نشاهد مأساة كبيرة: أمانة الله تقابلها عدم أمانة الشعب في سلسلة طويلة متتابعة. لقد نال الشعب كل شيء من الله ولكنهم لا يطيعونه. الله يبقى في نظرهم، إله الأعياد والمواسم أي بمثابة أداة لخدمتهم، علاقتهم به علاقة سحرية وليست مبنية على الإيمان. وعندما يتخلى عنهم وينغلبون على أمرهم ويشقون يكون الله لهم بمثابة الملجأ الأخير.
إن هذا حسن. إنهم يصرخون إلى الله في النتيجة ورغم كل شيء. هذا مؤسف، هذا أمر بشري لأن الله هو “الأمين”. نحن نتغير أما هو فلا. “نحن نغير موقفنا فنقول أنه يغير هو موقفه). وعندما نشقى نصرخ إليه من الأعماق إليك صرخت يا رب فاستمعني…” فتأتي النعمة آنذاك حتماً. المهم أن نعرف أننا أشقياء، أن نحس به حقاً وفي الأعماق، أن نكون عاجزين، غير معتدين بأنفسنا أو مكتفين بذواتنا، فالله لا يغفر الاكتفاء الذاتي حتى نوفي الفلس الأخير. وعندما يصرخ الشعب من الأعماق تائبين عندئذ يوجد الله أبطالاً جبابرة يتسلمون زمام الأمور مدة معينة: هم القضاة. ليست مهمة القضاة وراثية طبيعية بل هي من الله مباشرة يختار من يحب. ثم يعود الشعب إلى زيغهم: “وفعل إسرائيل الشر في عيني الرب ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والعشتروت..” ذلك حتى ينتهي سفر القضاة قائلاً: “وكان كل إنسان منهم يعمل ما حسن في عينيه” (قضاة 21: 24- 25).
إنها الفوضى، الفوضى التي تدعو إلى اليأس. إن شعب الله يؤلف وحدة ولكنها ليست وحدة طبيعية إذ لا ترتبط بمكان وحدود بل هم غرباء في الأرض. فما هو عامل وحدتهم؟ ليس هو مشيئة بشرية بل إلهية. إنه كلام الله الذي خلق العالم وخلق أيضاً شعباً له. فعندما كانوا ينسون كلام الله كانوا يتشتتون وتنفصم وحدتهم. وكان الله يغيب عنهم في تلك الفترة: “كانت كلمة الرب عزيزة في تلك الأيام ولم تكن الرؤى تتواتر” (ملوك الأول 3: 1) ففي هذه الظروف وهذا الفراغ طلب الشعب أن يقام عليه ملك..
2- ملك داود أبدي
“الآن أقم علينا ملكاً يقضي بيننا كجميع الأمم” (ملوك الأول 8: 5). يطلب الشعب من صموئيل أن يقيم عليهم ملكاً كسائر الأمم، فيجيب الله: “لم يسأموك أنت وإنا سئموني أنا في توليّ عليهم” إن عندهم ملكاً ولكنهم يريدون ملكاً أرضياً، وهذا يعني الآن غياب الله عنهم. لقد كان الله معهم حتى الآن بشكل واقعي ملموس كان يصدر لهم مباشرة أوامر ملموسة. أما الآن فلا يعودون يتحسسون حضوره. هذا رفض لله، ولم يرض به صموئيل ولا الله.
ولكن الله رغم ذلك يقبل طلب الشعب. غير أنه سيعطي لهذه الملكية الأرضية معنى إلهياً يتجاوز البشر. إنه يقبل لأنه سيحول الأمر حسب مقاصده. وهذا ظاهر في مأساة شاول. فشاول ملك حسب رضا الشعب: إنه أطولهم وأهيبهم، وهم يحكمون حسب الظاهر. (وهكذا نحن أيضاً نقرر من هو القديس حسب أفكارنا وحسب الظواهر.) فيأتي الله ويخزي شاول. إن شاول يخطئ ويسيء إلى اختيار الله له (يقدم المحرقة لله منتحلاً صفة الكاهن) فيختار الله عوضه داود، راعي الغنم المجهول، ويأمر بمسحه ملكاً.. “اخترتك من المربض من وراء الغنم..”.. “ويكون بيتك وملكك ثابتين إلى الدهر.. وعرشك يكون راسخاً إلى الأبد” (2ملوك 7: 5- 16). فيجيب داود: “من أنا أيها الرب الإله وما بيتي حتى بلغت بي إلى ههنا” (ملوك 7: 18). هذا المعنى روحي.
إنها فكرة الملكية الروحية تظهر الآن، فبعد فئتي الكهنة والأنبياء يتبنى الله الآن الملكية ويحولها إلهية. هذا يدخلنا من بعيد إلى فكرة ماسيا الملك. “ماسيا” هو من “مسح” من الله، من يستريح عليه روح الله. المسحة علامة نزول الروح، والملك الحقيقي هو ملك الروح. فالروح قبلاً كان يعمل من الخارج، كان يسكب على مسحاء الرب إذا لم يكن يسوع بعد قد مجد. أما الآن فهو يسكن فينا كما في “مظلة” Okehosin أي في داخلنا.
لنذكر قول يسوع: “إن من القيام ههنا من لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكه” (متى16: 28)، وقد رأوا هذا الملك بعد ستة أيام، يوم التجلي (متى17)، رأوا المسيح على الجبل في بهائه الأخير الاسخاتولوجي. إن الملكوت السماوي هو بالتالي الروح القدس يسكن فينا. بعض النسخ القديمة للصلاة الربانية تقول: “ليأتِ روحك القدوس” عوض “ليأتِ ملكوتك”. إن المسيح يدعى في المزمور109 “كاهناً إلى الأبد على رتبة ملكيصادق”. هذه فكرة الشمول، إن كهنوته غير محصور في زمن. فكذلك في الملكية داود لا يقصد به ملكاً لشعبه فقط بل للجميع. إنه يرمز للملك الذي بحسب الروح، وللجميع، وإلى الأبد.
3- الهيكل
لا يبني داود الهيكل بل ابنه سليمان. إن الهيكل مرحلة أخرى نحو تأصل إسرائيل في أرض الميعاد. على منوال الملكية. كان تابوت العهد متنقلاً غير ثابت في مكان. أما الآن فيريدونه بيتاً لسكن الله ومجده. إن الله لا يستسيغ ذلك، غير أنه يقبل طلبهم وسيحوله إلى خدمة مقاصده، كما حول الملكية. فيبني البيت ولكن إسرائيل يتعلق بهذا البيت الأرضي، دون الله، كما ارتبط بالملك الأرضي أيضاً. إن البيت يبنى لاسم الرب: “هاأنذا قد نويت أن أبني بيتاً لاسم الرب إلهي” (1ملوك 5: 5).
إن الهيكل إذاً يحوي اسم الله، وهذا يعني حضرة الله في المفهوم اليهودي، ولكن المسيح يصلي إلى الله قبل الآلام قائلاً: “من أجل هذا أتيت إلى هذه الساعة. أيها الآب مجد اسمك فجاء صوت من السماء مجدت وسأمجد أيضاً”. ويسوع هو الذي سيمجد: يسوع هو اسم الله الباقي إلى الأبد، فيه يسكن الاسم. إنه اسم الله في حد ذاته وهو أيضاً الهيكل كما رأينا.. وهكذا بواسطة يسوع الممجد بالقيامة يتحول الهيكل ويبلغ إلى معناه الحقيقي الشامل، ويصير حضرة الله لا لليهود فقط بل للبشرية جمعاء (2). ويذكر الكتاب من ناحية ثانية أن “الغمام ملأ بيت الرب ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب الغمام لأن مجد الرب قد ملأ بيت الرب” (1ملوك 8: 10-11). فالرب إذاً، يسكن في الغمام أيضاً رغم سكناه في الهيكل. إنه يسكن في الظلام، والظلام يرمز إلى ما هو فوق كل فهم وإدراك. ولم يصبح موسى نيراً إلا بعد دخوله الظلام على الجبل (3).
(1) لقد سار مسيرة ثلاثة أيام ليصل إلى جبل موريا في أرض كنعان، حيث قدم ابنه اسحق ذبيحة.
(2) ليست صلاة اسم يسوع سوى صلاة حضرة الله فينا..
(3) “من أراد أن يكون صاعقة عليه أن يسكن طويلاً في الظلمات”. (نيتشه)