الحكم في ما قبل الاضطهاد: بعد قتل أوريليانوس في حملته على الساسان سنة 275، توالى على العرش عدة أباطرة قتلوا بعضهم البعض إلى أن استلم ديوقليتيانوس في سنة 284 بعد أن دعمه الجيش. وقد قام بعد استلمه الحكم جعل في رومة إمبراطورين، مكسيميانوس في الغرب وهو في الشرق، وجعل لكل إمبراطور قيصر يساعده في إدارته ويستلم عنه في حال وفاة الإمبراطور، وأعطي أيضاً للقيصر إدارة مناطق بحيث يصبح عليها المتسلط الأول، وفي سنة 291 جعلا من قسطنديوس كلوروس -والد قسطنطين- قيصراً معاوناً لمكسيميانوس، وغاليريوس في الشرق. واستطاع ديوقليتيانوس أن يعيد هيبة رومة فشنّ حروباً كثيرة وأعاد إعمارها.
أسباب الاضطهاد: وكانت المسيحية في القرن الثالث في أوج انتشارها، ومن الشواهد على ذلك، قيام كنيسة في نيقوميذية على التلّة المقابلة لقصر ديوقليتيانوس، ورفضوا تقديس مقدسات الدولة ولم يفتروا عن مصارحة الوثنيين بإيمانهم وبالرب يسوع المسيح. مما جعل الأوساط الرومانية المحافظة الرسمية وغير الرسمية تضج، وعلا صوت الفلاسفة الوثنيين ورجال البيان والخطابة مطالبين بدرء هذا الخطر المداهم. وكان ديوقليتيانوس نفسه معادياً للمسيحية، لأنه لم يجد في أبناءها استعداداً لدرء الأخطار المداهمة. إلا انه لم يكن بطبعه يحب سفك الدماء، ويكره العنف، وبالإضافة إلى الأوضاع الخارجية جعلته يؤجل اضطهاده. وكان القيصر غاليريوس قد ورث عن أمه تعلقاً شديداً بالآلهة، ورغب أن يظهر مظهر المدافع عن عقيدة أكثرية الشعب وأن يطهر الجيش من كل عنصر مشاغب. واعتمد على قائد جيشه فيتوريوس. وبالإضافة إلى بورفيرويوس ورسائله التي أثارت حفيظة ديوقليتيانوس ودفعه للإضطهاد.
وأطلّ خريف سنة 302 وكان ديوقليتيانوس في أنطاكية يضحي لآلته وطلب إلى طاغس رئيس العرافين أن يتفحص أحشاء الضحية وينبئه بالمقدّر. ففعل ولكنه لم يفلح، فادعى أن المسيحيين الموجودين حوله أفسدوا عمله برسمهم إشارة الصليب. فاضطرب الإمبراطور واغتاظ فأمر جميع رجال البلاط بأن يضحوا للآلهة. وأمر قادة جيوش الشرق بأن يصارحوا جميع الضباط والأفراد في أمر احترام الآلهة وتكريمها وتسريح من يمتنع عن ذلك.
وعاد ديوقليتيانوس إلى نيقوميذية عاصمته، وتشاور فيها مع قيصره في أمر المسيحية، فالح هذا الأخير بوجوب اللجوء إلى العنف للتخلص من المسيحية وأبناءها. لكن الإمبراطور كان يكره سفك الدماء، فدعى كبار البلاط والقادة للتباحث في نقطة الاختلاف بينه وبين غاليريوس. وكان من بين المدعوين هيروكليس الفيلسوف، فخص على القمع بالقوة فوافقه المجتمعون. فتريث ديوقليتيانوس وأمر بوجوب استلهام أبولون. ففعل العرّاف واثبت رأي هيروكليس وزملائه.
بدء الاضطهاد: لكن الإمبراطور تريّث واكتفى بإصدار قرار -في 23.02.303- يأمر بتهديم الكنائس وسائر محلات عبادة المسيحيين وإتلاف الكتب المقدسة وكتب الصلوات ومنع إقامة الصلوات الجماعية. وحرم المسيحيين الإشراف على التمتع بامتيازات الطبقات التي انتموا إليه، واعتبر المسيحيين خارجين على القانون فحرمهم حق الدفاع عن حقوقهم أمام المحاكم.
وفي عشية الثالث والعشرين من شباط/فبراير، وقبل إعلان الإرادة الإمبراطورية، هجمت الشرطة على الكنيسة المقابلة للقصر الإمبراطوري وخربوها وأحرقوا ما وجدوا فيها من الكتب. وفي صباح الرابع والعشرين، ألصقت نصوص الإرادة على جدران شوارع نيقوميذية. فنزع مسيحي واحدة منها ومزقها فأُلقي القبض عليه وأُحرق.
وشبت بعد ذلك النار في أحد أجنحة البلاط فأتهم غاليريوس المسيحيين، ثم نشبت ناراً ثانية فخرج غاليريوس من نيقوميذية معلناً أنه لا يرغب في أن يُحرق حياً. فعرف كيف يوقد النار في صدر الإمبراطور. فاعتبر هذا الأخير أن المسيحيين هم أعداءه. وحل غضبه عليهم.
ونُفذَ أمر الإمبراطور في جميع أنحاء الامبراطورية، ماعدا غالية وبريطانية مقاطعة قسطنديوس زوج هيلانة، وكان في هذا الوقت في ملاطية وسورية قد ناد الجنود بأفجينيوس امبراطوراً، فنُسب هذا التمرد إلى المسيحيين، فأصدر الأمبراطور أمرين، قضى الأول بحبس رجال الأكليروس والثاني بإطلاق سراح من يكرم الآلهة وتشديد العذاب على من يرفض ذلك.
وكان ديوقليتيانوس قد أُصيب بمرضٍ في سنة 304 وحلّ محلّه قيصره غاليريوس وأصدر أمراً في ربيع 304 باضطهاد المسيحيين وإكراههم على الخضوع لآلهة رومة.
أنطاكية وأبرشيتها: وصل التيار الجارف إلى أنطاكية في نهاية شهره الأول، أواخر آذار سنة 303 وحوالي عيد الفصح في السابع عشر من نيسان. فأُلقي القبض على أسقفها كيرلس ونقل إلى بانونية للعمل في مناجمها. فخلفه تيرانوس. وكان شماس قيصرية فلسطين رومانوس مقيماً في أنطاكية آنذاك، فهبّ يقوي النفوس ويحذر من السجود للأصنام، فقطع لسانه وزجّ في السجن، وهيئت نار لإحراقه فأخمدها الله بسحاب جاد به فشنق بعد ذلك في السجن في الثامن عشر من تشرين الثاني سنة 303. وقُبض على تيرانيوس أسقف صور وعلى زينوبيوس كاهن صيدا وعُرضا على الوحوش الضارية في مدرج أنطاكية فأعرضت عنهما فحُزّ رأسهما حزّاً.
واستشهد في هذه الفترة الضابطين سرجيوس وباخوس، ولعل غاليريوس بدأ اضطهاد جنوده المسيحيين قبل إعلان الاضطهاد رسمي، وبينهم الضابطين، اللذان نالا أكليل الشهادة في مقاطعة الفرات حيث شيّد فيما بعد هيكلاً لتكريمهما.
ومن الذين استشهدوا في هذه الحقبة أيضاً القديس جاورجيوس والقديسة بربارة، من المرجح أن يكون هذا إما في اللد للقديس جاورجيوس وبعلبك للقديسة بربارة ولعلهما استشهدا في آسية الصغرى.
وكان فلافيانوس حاكم فلسطين قد نشط لتنفيذ الأوامر الأمبراطورية فأكره المؤمنين على الحضور إلى هياكل الوثنيين وأجبرهم على الركوع والخشوع، فأعلن بعضهم رجوعه عن المسيحية، وكان أول شهداء فلسطين في سنة 303 بروكوبيوس القارئ. وبعد ذلك ببضعة أشهر فاز بإكليل الشهادة في قيصرية أيضاً كل من زكى شماس كنيسة جدر وألفيوس فارئ كنيسة قيصرية.
وفي سنة 304 كما ذكر أعلاه قد أوجب الأمبراطور على جميع المسيحيين أن يقدموا الذبائح للأوثان. وحل في نفس السنة اوريانوس محل فلافيانوس فانهال على أهل غزة بالهوان والضرب على تيموثاوس فنال إكليل المجد. واستشهد معه أغابيوس وتقلا بين أنياب الوحوش الضارية. وفي قيصرية فلسطين بهرت شجاعة الشبان الثمانية، وأشهرهم ديونيسيوس الطرابلسي الفينيقي وروميولوس ابوذياكون اللد والكسندروس الغزاوي.
غاليريوس ومكسيمينوس: (305-310) استقال الامبراطورين فخلفهما كل من قسطنديوس في الغرب وغاليريوس في الشرق. وأول أيار سنة 305 أعلن فلافيانوس سويروس قيصراً في الغرب ومكسيمينوس دايا قيصراً في الشرق. وكان هذا الأخير سكيراً قاسياً، فراح أعوانه يضيقون الخناق على المسيحيين ويضطهدونهم فاستشهد أبيفيانوس في 306 من قيصرية فلسطين. وفي صور زُجّ اولبيانوس في جلد ثور مع كلب وأُلقي في البحر. وفي أنطاكية بسط الشيخ برلاها يده إلى لهيب النار حتى فُنيت ونُكّل به تنكيلاً فظيعاً. وفي أنطاكية باغت الجند بلاجية الفتاة منفردة في بيتها، فاستأذنتهم لترتدي أجمل ما لديها، فصعدت إلى السطح ورمت نفسها إلى أسفل. وكان لذومينية الأنطاكية ابنتان جميلتان يرتيقية وبروسذوكي، كانوا قد هربوا جميعاً إلى الرها، ولما علم الجنود مكانهن، قبضوا عليهن وأعادوهن إلى أنطاكية، وفيما هم في الطريق غافلن الجنود وألقين أنفسهن في الفرات. وفي هذه السنة أيضاً نالت ثيودوسية الصورية إكليل المجد في قيصرية فلسطين، وأيضاً عذّب لوكيوس الحاكم الطبيبين قوزما ودميانوس وضرب عنقيهما بالسيف.
وفي السنة 307 بدأ سلوانس كاهن غزة ورفاقه أعمالهم الشاقة في وادي عربة وطُرح ذومنينوس في النار ودخل بمفيلوس السجن بعد عذاب أليم. وفي السنة 308 استشهد بولس الغزاوي طالباً الغفران لليهود والسامريين والجلاد الذي أشرف على تعذيبه. وفيها أيضاً استشهد في النار الشبان الثلاثة أنطونيوس وزبينا وجرمانوس والفتاة البيسانية أوناثة وغيرهم. وفي السنة 309 عُقد لبمفيلوس إكليل الشهادة مع أحد عشر شهيداً بينهم فالنسيوس الشيخ شماس أيلية الذي اشتهر بتضلعه في علوم الكتاب المقدس وبورفيريوس الخطاط.