Facebook
Twitter
Télégramme
WhatsApp
PDF
☦︎
☦︎

في اللاهوت، الأقنوم يمتلك الجوهر. الألوهة الواحدة موجودة برمتها في كل من أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس. النبرة لدى الآباء موضوعة على الوجود الشخصي للأقانيم.

غريغوريوس اللاهوتي قال في يسوع أنه: “شخص واحد في طبيعتين”، وقال في الإنسان: “منضد في شخص واحد الروح والجسد” (الخطبة 45: 7 و 9) واضعاً بصراحة النبرة على “الشخص” في أمر يسوع كما في أمرنا نحن البشر.

الآباء هم المؤسسون الحقيقيون للشخصانية. الشخص حرّ. بحريته يختار أن يكون إلهاً وبحريته أن يهوي إلى القاع. والحرية مفقودة في الفكر اليوناني. رئيس أساقفة كانتربري وليم تينبل كتب مرة أن “خلقيدونية أبرزت إفلاس الميتافريكا اليونانية” (1).

الأقانيم الثلاثة يملكون الجوهر الواحد بالتمام. هو ملك كل من الأقانيم ملكاً تاماً. هو غير منقسم بينهم. هو لا يتجزأ. هم ثلاثة أما هو فواحد.

وبفضل هذا كل من الأقانيم يقيم في الأقنومين الآخرين بدون امتزاج. يبقى كل أقنوم قائماً بنفسه بدون امتزاج بالأقنومين الآخرين مع أنه مقيم فيهما. كل منهما يسع الآخرين. وهذه الوحدة هي الغاية القصوى التي يسعى إلىها المسيحي. هو يسعى في الروح القدس ليكون واحداً مع الثالوث القدوس ومع أخوته البشر، لتكون محبته صورة عن محبة كل من الأقانيم للأقنومين الآخرين.

والأقنوم مفهوم منفتح خلافاً لمفهوم الطبيعة.

أقنوم يسوع ضمّ إليه طبيعة بشرية فصار مؤلفاً من طبيعتين احتفظت كل منهما بخاصاتها.

الطبيعة لا تقبل التأليف إن احتفظت الطبيعة الأخرى بخاصتها. في عالم الطبيعة التأليف مزج للطبيعتين.

أما الآن فإن يسوع -لأجلنا نحن البشر- فتح بالتأليف الباب على مصرعيه للطبيعة البشرية لأن تتحد أقنومياً بالطبيعة الإلهية اتحاداً عجيباً غريباً لا تدركه الملائكة. فسكن ملء اللاهوت في الناسوت وصار مسحة له. وبهذ شق يسوع الطريق أمام البشر لكي يتألهوا بحصولهم على نعمة الروح القدس. فقد قال أثناسيوس المنحول: “إن الله نفسه صار حاملاً للجسد لكي نصير نحن البشر حاملين الروح” (مين 26: 996).

هذا المنطق العقائدي يعني أن الإنسان أقنوم منفتح. لاهوتياً هو يستطيع أن يتأله عن طريق النعمة الإلهية، أن يكون مسكناً للثالوث القدوس. وبشرياً هو مدعو للانفتاح على الاقانيم البشرية الأخرى في عمق محبة لا تسبر أغواره. إذاً هو في موقف ثالوثي بين اللاهو والأخوة. وهو مدعو لأن يكون شريكاً ثالوثياً لله وللبشر كما ذكرنا. وقد برع مكسيموس المعترف جداً في دفع تفريق الكبادوكيين بين الأقنوم والجوهر إلى نهايته في آفاق منفتحة جداً يبدو فيها الإلحاح على الأقنوم قاطعاً. الأقنوم هو مرتكز الجوهر وحاويه وحامله. وهو كل لا يقبل التبعيض ولا التجزيء ولا التحليل الكيماوي أو البيولوجي أو الفيزيولوجي أو النفسي أو ما سواهما. ولا يعرف بالحواس أو بالنظزة بل بحدس داخلي غامض لأن سر الشخص يدخل في عالم المجهولية. فغريغوريوس النيصصي يعتبر صورة الله في الإنسان مجهولة كالله أصله. والشخص غير قابل للتحطيم ولا للذوبان ولا للاندماج ولا للانصهار، كأنة مادة كيماوية. ولدت من أبي وأمي. ولكن لكل منا شخصه التام وعالمه المستقل، والشخص موجود حاضر يشعرنا بحضوره بصورة لا تقبل الوصف الدقيق، لا يمكن وضع تعريف له. كلما توهمت أن أمسكت به يهرب مني. حتى حدسي به مشوب بالغموض الكبير. نحن أما سر اسمه سر الشخصي. يقول: “أنا”، و”أنت”، و”نحن”.

ولحضرته سحر خاص لا يوصف. لا يقبل الدراسة المجهرية. عالمه عالم الآفاق المفتوحة على المجهول اللامتناهي. يمتمع بالحرية والعقل والفهم والاستقلال والعفوية والابداع والتسيير الذاتي دون أن يستنفده وصف من أي نوع كان. إنه كل قائم بذاته متجه إلى الشخص المثالي أي الأقنوم الإلهي (الذي هو صورته الحية) للاتحاد به بالحد الذي يتحمله الإنسان من تدفق أنوار الله عليه، ليكون الأقنوم الأرضي، ليكون الإله المخلوق أي الإنسان على مثال الأقنوم الإلهي، على مثال الإله غير المخلوق (2). نعرف أننا أشخاص. ولكن هيهات لنا أن نسبر أغوارنا كأشخاص.

يوم اعتمد الرب يسوع حلّ عليه الروح القدس (3).

يوم نعتمد نلبس المسيح، نلد في المسيح، نصبح أعضاء في جسد المسيح (الكنيسة). ومع المعمودية ننال مسحة الميرون المقدس أن ننال الروح القدس. باسيليوس وسواه علمونا أن الروح القدس يطبع فينا يسوع الذي هو صورة الآب. وإذ نراه فينا نرى الأصل أي الآب (في الروح القدس 9: 23).

وغني عن الكلام أن الشخصانيات والوجوديات في الفلسفة المعاصرة -مع كونها استوحت المسيحية- لم ترتقِ بعد إلى هذا المستوى الرفيع. ذكر مونييه في كتابه “الشخصانية” أن آباء الكنيسة اليونان هم أول مؤسسيها. ولكن بقي نسبياً بعيداً عنهم لأنه مفكر لاهوتي. ومع هذا كان له ولصحبه فضل في طرح موضوع “الشخص” حتى دخل في برامج تدريس الفلسفة في البكالوريا.

ولم نطرح الموضوع من وجهة نظر النسكيات لأن ذلك يستغرق مجالاً واسعاً. وعدد الكتبة كبير. ولكن، لا بأس إن أتيت بخلاصة عاجلة.

بالنسك ينسلخ الناسك من الشهوات والأهواء عامة “وكل عبء وما يساورنا من الخطيئة” (عب 12: 1). كل طاقاته تنتقل على مراحل من التلف في الأهواء الشريرة إلى الازدهار المجيد في الروح القدس. تتخلص إراده من جميع العوائق الدنيوية لتصبح على أتم تعاون مع الإرادة الإلهية. فالجسدانيات والدنيويات مكرهة لدى الناسك. ويرتقي سلم الفضائل حتى يلتحم روحه بالله التحاماً يتقدس معه الجسد نفسه، وقد ماتت رغباته الممقوتة. إذاً: واضح أن الآداب النسكية تضع نبرة عالية جداً على القيم الصوفية، على نفاذ نور الله في روح الإنسان. وفي هذا كله من التعميق لقيمة الإنسان كشخص ما لا تستطيع أن تلحق به الفلسفة. فالروح هو الأصل. الجسد يتقدس لأن الروح قد تقدس. قداسة الروح تنعكس على الجسد فتقدسه. فلا غرابة إن كان الكاتب الروسي العالمي دوستيوفسكي قد قال أن “الرهبان سيخلصون العالم”. فالنسك الصحيح هو الأرض الطيبة التي يهطل عليها الروح القدس مدراراً ليؤله الإنسان (4). ولنا عودة إلى الموضوع يوماً، بعد انصرافنا (عقب وفاة البطريرك الياس) إلى النسكيات والصوفيات (5).


(1) ذكره فلوروفكسي في:

The Greek Orthodox Theological Review, vol 13, n2 p 191-2

(2) في كتابي “نصف إنسان” يقع المرء على نبرات شخصانية في طول الكتاب وعرضه وإن كان قد اتخذ قالب الحوار الروائي.

(3) راجع العدد 3 / 1979 من مجلة “النور” الغراء مقالي عن الظهور الإلهي (ص 75-82) وقد أنهيت في أيار 1980 كتاباً عن المعمودية سيظهر.

(4) في حواشينا السابقة مراجع تذكر شيئاً من هذا القبيل. وبخاصة حاشيتنا المطولة عن مكسيموس والفصل المنوّه به من كتاب دانييلو عن النيصصي. ونقوم الآن بإصدار كتاب “طريق النساك”.

(5) راجع 29 مراجع.

Facebook
Twitter
Télégramme
WhatsApp
PDF
fr_FRFrench
Retour en haut