من بين الأزهار الفوّاحة التي أينعت في حديقة العذراء كان الأب ايسخيوس المزيَّن بالفضائل. ولد في قرية صغيرة في ميسينيا MISSINIA عام 1905، من عائلة ورث منها الأموال الطائلة، كما أخذ عنها التقوى وحب الله والقريب. توفي والده وهو لم يزل بعد في الحشا الوالدي. أعطي في المعمودية اسم ديموستيني DIMOSTINI، وهو اسم كان معروفاً في قريته وليس تيمناً باسم أي قديس. عرف بوقاره وحشمته ورصانته. كان ذكياً جداً، تفوق على زملائه في المدرسة لدرجة أنه تمكن خلال عام واحد أن ينهي عامين دراسيين. ما أن كبر قليلاً، حتى اضطر للعمل لدى خياط لمدة أربع سنوات لمساعدة أمه الأرملة. كانت نفسه متعلقة بحب الله، متلهفة أبداً للإرتواء من مائه الحي. استيقظت في نفسه مبكراً رغبة جامحة لممارسة حياة روحية أسمى، حياة أكثر هدوءاً من صخب العالم الذي بات يتبعه نفسياً. وها هو يقول في مذكراته التي تركها لنا:
“عندما بلغت الخامسة عشرة من العمر، أرسلتني أمي لأتعلم مهنة الخياطة. وقبل رحيلي عن القرية، التقيت بمسيحي فاضل أسدى إلي نصائحه قائلاً: عند نزوحك يا ولدي عن القرية، سوف تتعرض لتجارب ومغريات كثيرة، فانتبه لها. لا تبتعد عن الكنيسة، ولا تهمل الصلاة أبداً.
وذات مساء، اشتد بي الشوق إلى حياة الهدوء والصلاة، وتمنيت لو كان لي جناحان كالحمامة حتى أطير إلى البرية وأستريح. فأخذت أتوسل إلى العذراء كي تهديني إلى طريق الخلاص. فرأيت أثناء نومي شاباً ذا طلعة وسيمة ومهيبة، يرتدي لباساً عسكرياً مزيناً، قال لي: إذهب إلى المخزن الفلاني، وهناك سوف تصادف شخصاً، فاسأله عن اسم أخيه الراهب وكيف يعيش في جبل آثوس. ثم توجه بعد ذلك إلى إسقيط القديسة حنة أم والدة الإله، حيث ينتظرك الرهبان. ثم أراني صور كل المناطق التي ينبغي لي أن أجتازها، كما أراني أيضاً صور رهبان الإسقيط.
أرسلني معلمي ذات يوم لأحضر له زوجته على الحمار من قريتها التي كانت تبعد حوالي 2 كلم. أرادت أن تأتي معها نسيبتها الشابة، التي راحت تحيك لي أثناء الطريق فخاخاً شيطانية لإغرائي. أمسكت بمقود الحمار ورسمت إشارة الصليب قائلاً: أيتها العذراء القديسة أتوسل إليك أن تسرعي إلى نجدتي. وعندما تكررت المحاولات قلت للصبية بغضب: سوف أقتلك بهذه الحجارة التي في يدي إن أبديت أية محاولة أخرى. ثم صرخت أيتها العذراء نجني من هذا الخطر المحيق بي. وفجأة ظهرت أمامي العذراء بنور باهر وقالت لي: ارمِ الحجر من يدك ولا تخشَ شيئاً فأنا إلى جانبك. فامتلأت نفسي من الفرح والشجاعة معاً. وأما المرأتان فقد أخذهما الخوف أبلغ مأخذ إذ كانتا تسمعان الصوت ولا تريا أحداً. وهكذا تمكنت من الوصول دون أدنى انزعاج. فتذكرت حينئذ تحذير ذلك المسيحي المؤمن.
وذات مساء، ظهر لي مرة أخرى الجندي قائلاً: لقد حان الوقت لتباشر سفرك. انطلق غداً، واحترس من التجارب التي سوف تعترضك. لا تخَف، تسلَّح بإشارة الصليب وادعِ العذراء وهي سوف تجيبك.
وفي الغد انطلقت، وأثناء مسيري التقيت بزمرة من الأشرار يرقصون ويضحكون بشكل قبيح في وسط الطريق. وما أن رأوني، حتى تقدم كبيرهم مني مريداً امساكي قائلاً لزملائه وهو يقهقه عالياً: هيا لنمسكه ونقتله إنه عدونا. وللوقت تذكرت ما قاله لي الجندي القديس، فرسمت إشارة الصليب مستجيراً بالعذراء. فإذا بهم يختفون للحال عن ناظري. فأدركت أنهم كانوا جماعة من الشياطين أرادوا عرقلتي عن المسير.
وعندما وصلت إلى مدينة سالونيك، قادني احد معارفي إلى أماكن التسلية والمجون بغية الترفيه عن نفسي. فرأيت على باب إحداها شيطاناً واقفاً يدعو الناس إلى الدخول والتمتع في الداخل. ثم رأيته يصفق فرحاً جذلاً كلما استجاب لدعوته أحدهم. وبينما كنت أتأمل هذا مفكراً كيف يهلك البشر دون أن يشعروا، إذا بالجندي يظهر لي قائلاً: متِّع ناظرك ما شئت من مغريات هذا العالم الفانية. إنها المرة الأخيرة التي ترى فيها أشياء كهذه، ثم اختفى.
تابعت مسيري في اليوم التالي متوجهاً إلى الجبل. وعندما أردت الذهاب إلى الإسقيط، رأيت راهباً جالساً على الطريق فقلت له: باركني يا أبي، لأني أود أن أكون راهباً مثلك. فقال لي: وإلى أين تقصد؟ أجبت: إلى إسقيط القديسة حنة. فقال: ليس حسناً ما اخترت، إذ إن الرهبان هناك أشرار، كما أنهم لا يفقهون شيئاً لا من تعاليم الرهبنة ولا من نظامها. تعالى إلي وسوف أعلمك الكثير. قلت: لست بمحتاج إلى تعاليمك، سأذهب إلى هناك لأنها إرادة الله. وما إن قلت هذا حتى أصبح ذلك الراهب دخاناً واختفى عن ناظري تاركاً وراءه رائحة كريهة. وطبعاً أدركت ساعتئذ انه كان شيطاناً”.
وهكذا وبنعمة الله ومعونة العذراء انتصر الشاب ديمو DIMO – كما كانوا يدعونه – على تجارب العالم والشيطان، وصار مبتدئاً لدى الأب ليونيدوس LEONIDOS في إسقيط القديسة حنة، الذي كان يضمّ خمسة إخوة ممؤولين من الفضائل، مثابرين على الصلوات، حافظين للإمساك، أمينين لوعودهم الرهبانية التي أبرزوها أمام الملائكة أثناء توشحهم بالإسكيم الرهباني.
لقد كان الأب ليونيدوس أب الإسقيط، رجلاً ذا خبرة روحية واسعة، وطبيباً حاذقاً للنفوس، يتراكض اليه الكثيرون للإعتراف ولسماع كلمات إرشاد مفعمة محبة وحكمة إلهية. كان يعرف الماضي دونما شرح، ويرى بوضوح حوادث المستقبل. كان مرآة تعكس بجلاء إرادة الله للآخرين، ذا ذهن ثاقب مستنير، يستطيع كشف خفايا القلوب بما له من البصيرة الروحية. ولقد أخبر عنه الأب إيسيخيوس قائلا: “نزل مرة الأب ليونيدوس إلى ميسينيا، ومرّ هناك قرب مطعم، وما أن رآه زواره، حتى أخذوا يشتمونه ويلعنونه منتقدين الرهبان وأعمالهم. فاقترب منهم الشيخ وراح يحدثهم بوداعة ولين، ويكشف لكل واحد منهم حوادث جرت له، وللبعض الآخر خطاياه ومآثمه. فأخذ الرجال يرتعدون وتأثروا من لطف الأب ومحبته وحنوه. فاعتذروا عما بدر منهم وطلبوا إليه أن يسمع إعترافهم معلنين توبتهم ومنذهلين من استنارة نفس الأب وقداسته”.
ثم أردف الأب إيسيخيوس: “لقد تنبأ لي عن مستقبل حياتي قائلاً: ستصل إلى شيخوخة متناهية، وسوف تموت بسلام، لكن الأحزان الكثيرة لن تفارق حياتك. فاذكر دوماً قول الرب: من يصبر إلى المنتهى يخلص”.
في عام 1927 أصبح الأب إيسيخيوس وهو في سن الثانية والعشرين عضواً في شركة الإخوة، مجاهداً كل يوم على تقديس نفسه، وغرس أسمى الفضائل فيها، وخاصة الوداعة والتواضع مماثلاً سيده القائل: “تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب”. كان يخدم في الكنيسة، ويؤمّن للآباء حاجياتهم بكل فرح وصبر. وبما انه تعلم مهنة الخياطة، فقد راح يزاولها وهو في الإسقيط. وبعد سنة أي عام 1928 توشح بالإسكيم الرهباني الكبير واعطي إسم إيسيخيوس. وبعد عامين أي سنة 1930 سيم شماساً ثم عام 1932 نال نعمة الكهنوت. وفي العام 1954 أصبح أباً روحياً للإسقيط.
وهكذا بدأت مسيرة الأب إيسيخيوس الروحية. وما هو إلا زمن قليل، حتى تزينت نفسه وتكمّلت بالفضائل الرهبانية، مماثلاً القديس أنطونيوس الكبير بجهاده وتمييزه وقيادته الحكيمة للنفوس. كان يعمل بكل صمت، ويجمع عسل الفضائل من سيرة الآباء بتواضع وهدوء. يرشد النفوس بكل حنان، ويؤدب بعصا الوداعة واللين. فكنت ترى في وجهه حلاوة الناصري يسوع ووداعته حتى أثناء تأديبه. وهكذا وبحق دعي “قانوناً للإمساك وصورة للوداعة”. لم يكن مرشداً للرهبان فقط بل أيضاً كان للعلمانيين القسط الوافر من ذلك، لأن صيته تعدى حدود الجبل المقدس. إن صيت القداسة لا بد له من أن ينتشر، ولا يمكن لعبير الفضيلة إلا أن يضوع. ألم يقل الرب “إن المكيال يوضع على المنارة”.
ولقد قال عنه أحد الرهبان: كان الأب إيسيخيوس ناسكاً قديساً ومجاهداً صنديداً، قاسياً على نفسه في ممارسة نسكه، شفوقاً رؤوفاً على الآخرين. لم يفتأ أبداً مردداً في كل مناسبة نصائحه وإرشاداته لرهبانه قائلاً : “حافظوا ما استطعتم، وبحرارة اجتهاد على تتميم قانونكم الرهباني وعلى حضور الخدم الكنسية. احرصوا على سلامكم الداخلي وعلى رباط المحبة بين بعضكم البعض، وليس بينكم فقط بل ومع الجميع. تمموا خدمكم الديرية بأمانة كما للرب. أكرموا الغرباء وخاصة الفقراء منهم مقدمين لهم الإحسان قدر الإمكان، لأنكم بعملكم هذا تستضيفون كنيسة المسيح نفسه، الذي سوف يعوض عليكم مئة ضعف، أحبوا القديسة حنة واتقوها مقديمين لها الإكرام اللائق بها، لأنها هي شفيعة الإسقيط وطبيبه. ضعوا أيقونتها في قلاليككم وقبلوها عند خروجكم من القلاية وعند عودتكم إليها، وهي سوف تحميكم وتشفع من أجل خلاصكم.
كان للأب ايسيخيوس مودة خاصة يكنها للقديسة حنة. وكان يحمل دوماً بعضاً من ذخائرها أينما حلّ وحيثما توجه. كان يزور من وقت لآخر قرى ونواحٍ متعددة متفقداً معرّفاً. كان يحب أن يتحدث عن عجائب القديسة، لذا أحبها الجميع واعتبروها الشفيعة الخاصة بهم. وكانت هي بدورها تسرع لشفاء مرضاهم وسقمائهم، وتبعد الأخطار عنهم وتحل عقر نسائهم. وبالإختصار أضحت الملجأ الأمين لكل من يسرع إليها.
وهاك ما حدث مع الأب ايسيخيوس شخصياً إذ قال: “في اليوم السابق لاندلاع الحرب العالمية الثانية، كنت مضطراً إلى ترك الإسقيط والتوجه إلى القرية التي يقيم فيها بعض أقربائي. فتوجهت إلى الكنيسة، حيث توجد ذخائر القديسة حنة صانعاً لها مطانية وقائلاً: يا قديسة الله ساعديني واعفيني من الجندية، وسوف أخدمك بقية حياتي. ثم قصدت القرية بعد أن طلبت صلاة الإخوة من أجلي. وفي الطريق صادفت جندياً طلب مني ورقة الإعفاء من الجندية. وبما أني لم اكن أملكها، اجبته بجفاء: أتجسر أن تطلب مني ورقة إعفاء. إني راهب والرهبان لا يذهبون إلى الجندية. فأصر الجندي على طلبه قائلاً: إن لم أطلبها أنا يا أبي، سوف يطلبها غيري. وأما أنا فلم ارد له جواباً وتابعت مسيري.
أمضيت في القرية عشرة أيام، وعند عودتي التقيت نفس الجندي. ففوجئت بلطفه ورقته في المعاملة وقال: لقد جائتني يا أبتي في الليلة التي صادفتك فيها للمرة الأولى سيدة عجوز أثناء نومي وحذرتني قائلة بلهجة قاسية: الرهبان لا يذهبون إلى الجندية. لقد كررت هذا القول ثلاث مرات ثم قالت بلهجة الأمر: عندما يأتيك في المرة القادمة، اعطه ورقة إعفاء من الجندية. فخذ إذاً يا أبي هذه الورقة وأخبرني من تكون العجوز. فضحكت وقلت: إنها القديسة حنة شفيعة الإسقيط. فقال: توسّل إليها علّها تسامحني. ثم علمت بعد عودتي إلى الإسقيط، أنه في الساعة التي ظهرت فيها القديسة للجندي، كان الإخوة يرتلون خدمة البراكليسي الخاص بها كي تؤازرني وتساعدني على العودة سالماً.
وذهبت مرة أخرى إلى القرية، ومعي داخل حقيبتي بعض من ذخائر القديسة. واضطررت أن أبيت لدى كاهن القرية. وعند وصولي طلبت من ابنه أن يضع لي الحقيبة في غرفتي. ثم صرفت اليوم كله مهتماً بأهالي القرية. وعند المساء ذهبت للنوم، وبما إني كنت متعباً جداً لم أتفقد الحقيبة التي كان ابن الكاهن قد نسيها قرب الباب الخارجي. وعند انتصاف الليل، إذا بالقديسة حنة تصفعني على وجهي قائلة لماذا تركتني بعيدة في الخارج؟ ومن قوة الصفعة استيقظت مفتشاً على الحقيبة حتى وجدتها فحملتها عائداً إلى الغرفة، وصانعاً للقديسة مطانيات كثيرة طالباً من القديسة الغفران على إهمالي.
وفي حزيران من عام 1981 تعرض الأب لمرض أقعده طريح الفراش عدة سنوات. تحمل آلاماً مبرحة، حتى إن القيح كان يجري من أسفل قدميه بغزارة ومع ذلك لم تكن تسمعه متأوهاً أو متضجراً. بل شاكراً وقائلاً: لا تتذمروا يا إخوتي أثناء المرض، لأنكم سوف تنالون أجر تحملكم الذي أبديتموه محبة لإسمه القدوس.
وقبل عشرة أيام من نهاية مسيرته، قال لأحد الإخوة: سوف أرحل عنكم في عيد القديس خرالمبوس. وفعلاً في غروب العيد قال له الأخ بندليمون: هيا بنا يا أبي لنرتل خدمة غروب القديس. فأجابه الأب: اذهبوا أنتم وأما أنا أهيء نفسي للحياة الأخرى وملاقاة الرب. وكانت هذه كلماته الأخيرة. وهكذا لم يكد يحل مساء ذلك اليوم، حتى أودع نفسه بين يدي بارئه. بقي جسده يومين كاملين دون دفن ريثما يحضر بقية رهبان الجبل لإتمام مراسيم الجناز. ومع ذلك لم ينتن ذلك الجسد ولا برزت منه أية رائحة فاسدة.
ولقد أخبر عنه أحد الإخوة قائلا: إنه قبل عام من رحيله، مرض مرضاً شارف فيه على الموت. وإذا به يصرخ ذات يوم قائلاً لي: من هم هؤلاء السود الوجوه يا بني الذين جاؤوا إلى هنا وماذا يبغون؟ ثم قال بعد قليل: من هو هذا الشاب اللامع الهيئة الواقف قرب النافذة؟ لقد قال لي تهيأ يا إيسيخيوس، فسوف أمرّ عليك العام القادم لآخذك معي. لقد كان ملاك الرب الذي تمم قوله فعلاً بعد عام.
إعداد راهبات دير مار يعقوب