أدرك المسيحيّون الأوّلون أن الروح القدس الذي نزل على التلاميذ يوم العنصرة فجعلهم ينطقون بقيامة المسيح ويعمّدون من آمن بيسوع المسيح ربّاً ومخلصاً، إنّما هو إله تام شارك في التدبير الخلاصي الذي أَعدَّه الآب وأتمّه السيّد المسيح على الصليب، لهذا نقل الرسول متّى في خاتمة إنجيله قول يسوع لتلاميذه: “إذهبوا الآن وتلمذوا كلّ الأمم معمّدين إيّاهم باسم الآب والابن والروح القدس” (28: 19). ذكر الآب والابن والروح القدس معاً في الآية تأكيد على ألوهة كلّ منهم.
تكاثرت الهرطقات والبدع التي أنكرت ألوهة الروح القدس، وبخاصة في القرن الرابع بعد القضاء بحرمان آريوس وأتباعه لقولهم بعدم ألوهة الابن. تصدّى الآباء لهؤلاء الهراطقة بتأكيدهم أنّه يليق بالإنسان أن يسجد للروح القدس وأن يعبدَه مع الآب والابن كما قال القديس باسيليوس الكبير (+379)، وهذا ما أخذ به المجمع المسكوني الثاني الذي عُقد في القسطنطينية (381). إقرار المجمع بضرورة السجود للروح القدس يتضمن إعلاناً غير مباشر بألوهة الروح القدس، ذلك أن السجود لا يليق إلاّ للّه وحده وإلاّ عُدّ ذلك إشراكاً به.
القديس غريغوريوس النزينزي (+391)، المعروف أيضاً باللاهوتيّ، هو أوّل من قال صراحة بأن الروح القدس إله، فيقول: “الروح إله؟ لا شك في ذلك. أيكون واحداً مع الآب والابن في الجوهر؟ أجل، لكونه إلهاً”. يستند القديس غريغوريوس في قوله هذا على الكتاب المقدس، فالروح القدس هو روح الله: “لا يَعْلَم أحدٌ ما في اللّه إلاّ روح اللّه” (كورنثوس الأولى 2: 11). وهذه الآية تذكّر بالآية التي تقول: “اللّه لم يَرَه أحد قطّ، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أَخبَرَ” (يوحنا1: 18). ويشير الكتاب المقدس أيضاً إلى أن الروح القدس يعرف كلّ شيء، “لأن الروح يفحص كلّ شيء حتّى أعماق اللّه” (كورنثوس الأولى 2: 10). لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن والروح القدس، وهذا ممّا لا تستطيعه المخلوقات، ذلك أنّ معرفة اللّه محصورة باللّه وحده، والإنسان يعرف فقط ما يكشفه الله عن نفسه.
إذاً، ينسب الكتاب المقدس أفعالاً الى الروح القدس لا يستطيع عملها إلاّ الله، فالروح القدس هو الذي يَهَبُ الحياة: “فإذا كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات حالاًّ فيكم، فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يحيي أيضاً أجسادكم الفانية بروحه الحالّ فيكم” (رومية 8: 11). واضح في هذه الآية أنّ الروح القدس هو المحيي كما هو وارد في دستور الإيمان. واللّه خلق العالم بالروح والكلمة، “ترسِلُ روحَكَ فيُخْلَقون وتُجدِّدُ وجهَ الأرض” (مزمور 103: 30). كما أن التجديف عليه هو وحده غير مغتفر: “من قال كلمةً على ابن البشر يُغفَر له، وأمّا مَن قال على الروح القدس فلا يُغفَر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي” (متى 12: 23)، وفي السياق نفسه نورد قصة حننيّا وسفيرة زوجته، في أعمال الرسل، اللذين ماتا للحال لأنهما “كذبا على الروح القدس” (5: 3و9).
ولا شكّ أن لقب “المعزّي” الذي ينفرد الإنجيلي يوحنّا بإطلاقه على الروح القدس يدلّ على ألوهته. وفي كتابات يوحنّا ثمّة معزيّان: الأوّل هو يسوع المسيح “المعزّي” (رسالة يوحنا الأولى 2: 1)، والثاني ليس سوى الروح القدس: “وأنا أسأل الآب فيعطيكم معزّياً آخر ليقيم معكم إلى الأبد” (يوحنّا 14: 16)، ويتابع يوحنّا مؤكداً أنّ المعزي الآخر هو الروح القدس (14: 16). ويقول القديس غريغوريوس اللاهوتي أن لقب المعزّي هو لقب إلهيّ.
الاستشهادات التي تشير في الكتاب المقدّس إلى ألوهة الروح القدس كثيرة، نكتفي بما قاله القدّيس غريغوريوس اللاهوتي ملخّصاً كلّ ما قيل عنه في الكتاب المقدس: “لنرتعدْ أمام عظمة الروح الذي هو أيضاً إله. فبالروح عَرَفْنا الله. إنّه إله بأجلى بيان، هو الذي يؤلهني، وكليّ القدرة وموزِّع المواهب الإلهية، يعطي الحياة للكائنات السماويّة والأرضية، هو الذي يحيا في الأعالي، وينبثق من الآب. إنّه القوّة الإلهية، ومع ذلك يعمل من تلقاء نفسه. ليس هو بالابن، لأنّ للآبِ السماويّ ابناً وحيداً مملوءاً من صلاحه، ولكنّه ليس بغريب عن الإله غير المنظور، بل يتمتع بمجد مماثل لمجده”.
Citato da: Il mio bollettino parrocchiale
لأحد في 8 حزيران 1997
العدد 23
عظة عن الروح القدس للقديس كيرلس الاورشليمي
لماذا تدعى نعمة الروح القدس ماء (في انجيل يوحنا 4: 14)؟ ذلك أن الماء يساهم في جوهر كل الأشياء. فالماء يسري في النبات والحيوان. إن ماء المطر تهطل من السماء، تأتينا واحدة في طبيعتها، لكنها تفعل بطرق شتى.
كانت عين ماء واحدة تسقي الفردوس (التكوين 2: 10)، وهكذا يهطل المطر الواحد عينه في العالم أجمع، واذا به يتحول ابيض في الزنبقة واحمر في الوردة… متنوعا مختلفا في مختلف انواع الأشياء. فهو في النخلة غيره في الكرمة، انه كل شيء في كل شيء، مع كونه واحدا في ذاته لا يصيبه في جوهره اي تغيّر. ان المطر اذ يهطل هكذا ويتخذ هذه الحالات المختلفة لا يغيّر حاله الخاصة، بل هو يلائم ذاته وفق كيان الأشياء التي تتقبّله، ويصير المطر ما يوافق كل شيء.
هكذا الروح القدس، وهو روح واحد وغير منقسم، يوزّع النعمة على كل واحد كما يشاء (1كورنثوس 12: 11). وكما ان الجذع اليابس اذا تشبّع ماء ينبت بذوراً، هكذا النفس الخاطئة، اذ تؤهلها التوبة لموهبة الروح القدس، تحمل أثمار البّر.
ان الروح القدس يظل هو ذاته ويثمر باسم المسيح شتى الفضائل حسبما يشاء الله تعالى. فهو يستعمل لسان هذا يوجهه شطر الحكمة، وينير عقل ذاك بموهبة النبوة، يهب لهذا سلطان تفسير الكتب الإلهية، يرسخ فضيلة الاعتدال في بعضهم، ويلقّن غيرهم ممارسة الإحسان او الصوم…، ويعد آخرين للاستشهاد: انه مختلف في كل واحد لكن دون أن يتغيّر في ذاته…
يأتي الروح القدس ليخلّص، ليشفي، ليعلّم، لينبِّه، ليقوّي، ليعزّي، لينير الذهن، يفعل كل هذا في من يقبله. كما أن من يشاهد الشمس فجأة بعد مكوثه في الظلام يستنير بصره فيميز بوضوح ما لم يكن يراه قبلا، كذلك من يتقبل الروح القدس تستنير نفسه، واذ يتعالى فوق حالته البشرية يرى ما لم يكن يُعرف…
ان الروح القدس لعظيم وقدير في مواهبه وعجيب. فكّروا كم انتم المجتمعون هنا وكم نفسا تعدّون. انه يعمل في كل واحد منكم، بطريقة خاصة فريدة. هو حاضر فيما بيننا، ويرى استعداد كل واحد، يعرف أفكاره وخفايا ضميره، يعرف ما نقوله وما نفكر به… كما أن النور إذ يرسل شعاعا واحدا ينير الأشياء كلها، هكذا الروح القدس ينير كل من له عينان. اما اذا رفض أحدهم أن يفتح عينيه فحُرم النعمة، فلا يلومنَّ الروح، بل فليلمْ عدم إيمانه…